logo

عمل المرأة مأذون نكاح


بتاريخ : السبت ، 1 ذو القعدة ، 1439 الموافق 14 يوليو 2018
عمل المرأة مأذون نكاح

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فمما لا يختلف عليه عاقلان أن الله جل جلاله قد خلق الذكر والأنثى، وجعل بينهما تفاوتًا في مجالاتٍ عدة، وقدّر اختلافهما في بعض الأحكام الشرعية، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} [آل عمران:36].

فهناك فوارقُ واضحةٌ في الخِلقَة الطبيعية، وكذلك هناك فوارق في الأحكام الشرعية من صلاة وصيام وحج ونفقات وديات وولاية حكم وغيره.

وهذا التفريقُ بين الذكر والأنثى مقررٌ ليس في شريعتنا فحسب؛ بل وفي الشرائع السابقة؛ بل وحتى في الأنظمة الوضعية.

وعلى ذلك فإن الدعوة إلى مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء كذبٌ وافتراء على دين الإسلام، قال الله تعالى: {وَلَا تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [النساء:32].

ومما يثار في هذا العصر مسألة عمل المرأة كمأذون أنكحة، والذي يبدو أن الهدف الحقيقي من هذه الدعوة (تولية المرأة وظيفة مأذونٍ شرعي) إنما هو التساوق مع الدعوات التغريبية، وإخراج المرأة من بيتها باسم الدين.

ومن الجدير بالذكر أن هذا العمل ومقتضياته؛ إذ يطلق على من يكتب عقود الزواج (المأذون)، ومأذون الأنكحة، ومملِّك، وعاقد النكاح، وهو من يُجري عقد النكاح على الترتيب الشرعي من حيث الأركان والشروط والواجبات، ويوثقه في وثيقة تسمى عقد النكاح.

ومن أعماله: التأكد من رضا المخطوبة وموافقتها على النّكاح، باستئمار المرأة الثّيّب واستئذان البكر، ومعرفة شروط الطرفين، والتأكد من عدم وجود موانع للزواج.

ومن أعماله: التأكد من الولي إن كان موافقًا للشرع أم لا، والتأكد من هوية الشهود وتوثيق شهادتهم.

ومن أعماله: توثيق تسمية الصداق ومعرفة مقداره، وهل استلمته الزوجة أو وليها أم لا، وهل بقي منه شيء مؤجل أم كله قد عُجِّل، وهكذا.

ولما كانت هذه المسألة (عمل المرأة كمأذون أنكحة) متفرعة عند بعض القائلين بها على مسألة تولي المرأة القضاء، وعند آخرين منهم على زعم المساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات؛ فإن أدلتهم بل شبهاتهم على دعاواهم تكاد تتفق.

وفي هذا المقام نعرض لأهم وأشهر هذه الشبهات ونرد عليها، سائلين الله العون والتوفيق(1).

الشبهة الأولى: ليس في القرآن ولا في السنة ما يمنع المرأة من تولي نحو هذه الولايات، والحديث الذي استدل به المانعون «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» ينصرف إلى الامامة العظمى، أو يؤول بأنه خاص بمن قيل فيهم.

الجواب من وجوه:

الأول: قولكم بعدم وجود دليل على المنع، نقول: بلى يوجد، وهو ما رواه بريدة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأمـا الذي في الجنة فرجلٌ عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار».

فهذا الحديث يدل صراحة على اشتراط كون القاضي رجلًا، وعدم جواز كونه امرأة؛ لقوله فيـه: «ورجـل... ورجل...» الذي يدل بمفهومه على خروج المرأة، ويقاس على ذلك عدم جواز توليتها هذه الولاية (مأذون الأنكحة) بجامع أن كليهما له تعلق بالجماهير والعامة، أو لأنه عمل يتفرع عن عمل القاضي.

الثاني: قولكم إن الحديث المذكور خاص بمن قيل فيهم، أو أنه لا يفيد العموم، وإنما ينصرف إلى الإمامة العظمى ليس بمُسَلَّم؛ إذ إن جماهير الفقهاء، القدماء منهم والمعاصرين، قد فهموا من هذا الحديث منع المرأة من نحو هذه الولايات.

وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه، فإن (لن) تفيد الاستقبال، وكلمتا (قوم) و(امرأة) نكرتـان، والنكرة في سياق النفي تعم، فالنهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر أن تتولى شيئًا من الأمور العامة، وهذا ما فهمه الصحابة رضوان الله عليهم، ومعظم أئمـة المـذاهب رحمهـم الله تعالى، فلم يستثنوا امرأة ولا قومًا ولا شأنًا عامًا(2).

الثالث: على التسليم بعدم وجود دليل صريح في المسألة، فإن قواعد الشريعة العامة تشهد للقول بالمنع من تولية المرأة نحو هذه الولايات؛ لما في ذلك من المفاسد والأضرار المترتبة على خروجها من بيتها، وبروزها في المحافل العامة، واختلاطها بالرجال، وهي أضرار عامة لا تختص بالمرأة وحدها؛ بل تمتد حتى تعم الأمة المسلمة كلها(3).

الشبهة الثانية: عدم تولي المرأة هذه الأعمال في العصور السابقة، ومنها عملها كمأذون أنكحة، ليس دليلًا على التحريم والمنع، والعادة وإن جرت على أن الذي يقوم بعمل المأذون هو الرجل، لكن هذا لا يمنع من وجود نساء في هذه الوظيفة.

الجواب:

نقول: بل هو دليل عليه؛ إذ إن للعرف اعتبارًا في الأحكام، وقد جرى العرف على اختصاص عمل المأذون بالرجال، وأنه لا يتناسب مع طبيعة المرأة وحيائها.

وعليه؛ فيجب العمل به، خاصة أنه يتوافق مع الأصل المذكور آنفًا، ويتماشى مع القواعد التي بينتها الشريعة في الكتاب والسنة، فيما يختص بقرار المرأة، وقيامها بدورها الرئيس في بناء الأجيال، وتربية الأبناء، والتبعل للأزواج.

وقد قال الفقهاء والأصوليون:

والعرف في الشرع له اعتبار       لذا عليه الحكم قد يُدار

وإنما جرى عمل المسلمين على هذا العرف؛ للمحاذير الكثيرة التي علموها، والموجودة في تولي المرأة لهذه الوظيفة، كمأذون أنكحة، وهو ما ذكره المنصفون من الدعاة والثقات من العلماء.

يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس، رئيس قسم الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر، والخبير بمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة ما خلاصته: إن عمل المأذون لا بد فيه من الاختلاط وحضور مجالس الرجال، وهذا لا يجوز شرعًا في حق المرأة؛ لأنه قد يفضي إلى ما حرم الله تعالى، فضلًا عن أن الإسلام عندما يضع المرأة في هذا الوضع الشريف فإنه يكرمها، ويرفع من شأنها، ويجعلها مصونة بعيدة عن أية شبهة.

وإذا أفضى الفعل إلى محرم كان محرمًا، ومن ثم فإن عمل المرأة مأذونًا شرعيًا يفضي إلى محرم، وأنه بالتالي يكون محرمًا ومحظورًا شرعًا.

وإن الناس قد اعتادوا إبرام عقود الزواج بالمساجد اقتداءً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولن يقبل المجتمع الإسلامي، بكل ما لديه من أعراف وتقاليد راسخة، أن توجَد امرأة تقوم بإبرام عقود الزواج أو الطلاق؛ مما يجعل الأمر أيضًا شبه مستحيل من الناحية الواقعية(4).

الشبهة الثالثة: عمل المرأة المنَظَّم، ومنه مأذونة أنكحة، لا يمنعها مـن أن تكـون الزوجـة الوفية والأم الراعية لأطفالها، الحنونة عليهم، المدبرة لشئونهم، كما أن في المجتمع من النساء من هن قليلات الأعباء، مثل المرأة غير ذات الزوج، أو المتزوجة العاقر، أو المتوفى عنهـا زوجهـا غير ذات الولد، أو المطلقة غير المسئولة عن حق زوج أو ولد.

ومن ثم لن يؤدي عملها إلـى الإضـرار بالفرد أو الجماعة؛ بل على العكس، فإنه يعود عليها وعلى أسرتها ومجتمعها بالخير والسعادة، فما الذي يمنع هؤلاء النسوة من العمل لتكون كل واحدة منهن عنصرًا منتجـًا فعالًا، له يد في تقدم المجتمع وازدهاره؟ والإسلام دين يدعو إلى التقدم والازدهار.

الجواب:

هذا المظنون من عدم حصول التعارض بين خروج المرأة لهذه الميادين، وعملها المختلط بالرجال، وبين قيامها بحق زوجها وأبنائها، ورعاية منزلها، وحسن تبعلها لزوجها وهْمٌ يكذبه الواقع؛ فالذي يحصل من المرأة العاملة في هذه الميادين، في الأعم الغالب، هو التقصير والإهمال، وأما النادر، من كون أمورها وشئون بيتها تستقر، فلا اعتبار له.

ولو سلمنا، ولو اعتبرناها قليلة الأعباء أو لا زوج ولا ولد لها؛ فيبقى أن المرأة بتعاطيها هذه الأعمال وعملها كمأذون أنكحة تقع في محظور شرعي آخر، وتعرض نفسها وغيرها للفتنة؛ ذلك أن دخول المرأة في هذه المجالس يعني اختلاطها بالرجال والجلوس معهم، وربما لساعات طويلة، والتحدث معهم، وأن تنظر إليهم وينظروا إليها، وهذا كله مما حرمه الله عز وجل في كتابه، ورسوله صلى الله عليه وسلم في سنته.

قال عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}، فأمر أمهات المؤمنين وجميع المسلمات بالقرار في البيوت لما في ذلك من الحفظ والصيانة لهن، وابتعادهن عن وسائل الفساد؛ لأن الخروج لغير حاجة قد يفضي إلى التبرج كما قد يفضي إلى شرور أخرى.

كما قال صلى الله عليه وسلم: «المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان»؛ أي هي موصوفة بهذه الصفة، ومن هذه صفته فحقه أن يستر، والمعنى أنه يستقبح ظهورها للرجل(5).

«فإذا خرجت استشرفها الشيطان»(6)، قال الطيبي: «أنها ما دامت في خدرها لم يطمع الشيطان فيها وفي إغواء الناس، فإذا خرجت طمع وأطمع، لأنها حبائله وأعظم فخوخه»(7).

وقال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}، وهذان الأمران المطلوبان، وهما غض البصر وحفظ الفرج، يستحيل تحققهما إذا اختلطت المرأة بالرجال أو برزت في محافلهم، وعملت كمأذون أنكحة(8).

الشبهة الرابعة: قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...} الخ الآية.

وجه الاستدلال: قالوا: الآية قررت ما يسمى بالولاية المتبادلة بين الرجل والمرأة في سائر شئون الحياة، وأصلت للتكامل بين الجنسين في تسيير مصالح البشر(9).

كما أن عموم الآيات والأحاديث تُرغب كلا النوعين، من الرجال والنساء، في العمل الصالح البنّاء الذي تعود فائدته ونفعه على العامل وأسرته ومجتمعه، سواء أكان عملًا وظيفيًا ذا منصب عالٍ أو غيره(10).

الجواب:

الآية ليست في محل النزاع، ولا وجه للاستدلال بها في هذا المقام، وإنما استدل بها الشبيبية من الخوارج، ولا يكاد أحد من أهل السنة يذكرها كدليل في هذا المقام مقام ولاية المرأة.

واستدلالكم بهذه الآية على ما ذهبتم إليه يعني أن عمل المرأة كمأذون أنكحة من صور تحقيق التكامل بين الجنسين، وهذ كلام غريب، ومذهب عجيب!!

وهل احتاج الرجال العاملون في هذا المجال إلى عون النساء، وهل احتاج المجتمع إلى سد نقص أو إصلاح خلل عند القائمين بهذا الأمر منهم، حتى يكمل لهم ما نقص، أو يعالج لهم ما وقع من خلل، أو يسد حاجة محتاج؟!

وبالمقابل فإن الأدلة التي يستدل بها الجمهور واضحة الدلالة على المنع، متفقة مع القواعد الشرعية، والأصول المرعية، والأعراف المعمول بها عند المسلمين على مدى العصور، وأن من خالفها قد شذ شذوذًا بينًا، و لم يأت بقول سديد، ولا برأي معتبر.

الشبهة الخامسة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما النساء شقائق الرجال»(11).

 وجه الاستدلال:

قرر صلى الله عليه وسلم أن لا فرق بين الرجل والمرأة، فكما أن للرجل أن يتولى الأعمال الوظيفية ويـشغل الأعمال المهنية، ويعمل كمأذون أنكحة؛ فكذلك للمرأة أن تتولى الأعمال الوظيفية، وتشغل الأعمال المهنيـة، تحقيقـًا لمبـدأ المساواة وعدم التمييز بينهما.

الجواب:

أولا: الحديث المذكور ذهب بعض أهل الحديث إلى أنه حديث ضعيف، ولا يصلح للاستدلال به.

ثانيا: على فرض صحته، وهو الأرجح، فالحديث إنما جاء ليبين أن النساء نظائر وشقائق الرجال من حيث وجوب الغُسل على كليهما بخروج المني في الاحتلام، لا من حيث تولي الأعمـال أو عـدم توليهـا، ويؤكد هذا أن أبا داود والترمذي قد عنونا الباب الذي ذُكر فيه الحديث بقولهم: «باب: ما جاء فـي المرأة ترى في المنام مثل ما يرى الرجل».

وبعبارة أخرى يمكن أن يقال: إن هذا الحديث يوضح لنا أن الرجل والمرأة من أصل واحد، وأنهما متساويان في طبيعتهما البشرية، وأنـه لـيس لأحـدهما مـن مقومات الإنسانية أكثر مما للآخر، فهو لا يصلح دليلًا لما ذهبوا إليه(12).

الشبهة السادسة: عمل المرأة مأذونًا شرعيًا وظيفة مثل أي وظيفة أخرى، تتساوى فيها النساء مع الرجال، وليس من الولايات العامة، وليس متفرعًا عن عمل القاضي؛ لأن كل ما يقوم به المأذون هو كتابة العقد وتوثيقه.

الجواب:

الأول: سواء قلنا إن هذا العمل يعد من الولايات العامة أو ليس منها، وبقطع النظر عن تكييف عملها، وهل هو مجرد توثيق وكتابة للعقد أو غير ذلك؛ فإنه لا يجوز للمرأة تولي هذا المنصب، وذلك لسببين:

السبب الأول: أن تقاليد المجتمع وأعرافه لا تقبل أن تكون المرأة مأذونة، وللعرف اعتبار في الأحكام كما سبق؛ وذلك لما يواكب العقد من مراسم وطقوس بداية من دخول المسجد أو الكتابة فيه، ثم مَسْك المأذون بيد العريس وولي العروس، وما يليه من إلقاء خطبة حول آداب الزفاف والتخفيف في المهور وقواعد اختيار الزوج لزوجته والعكس، وكل هذه الأمور ليس متاحًا للمرأة أن تؤديها، ويتعارض مع حياء وعفاف المرأة في الإسلام، كما لا يخلو من غضاضة وانتقاص من حق ومكانة الرجال، ولا يتقبل المجتمع المسلم ذلك(13).

السبب الثاني: أن الأمر لا ينظر له هذه النظرة السطحية الساذجة؛ بل ينظر له في إطار الجو المشحون بالهجمة على تعاليم الإسلام، ومحاولات الغزو الفكري للمجتمع المسلم، ونشر الغرب الكافر، من يهود ونصارى، لمنهجهم التغريبي في أوساط المسلمين، والذي يركزون فيه بصورة واضحة على إخراج المرأة المسلمة من بيتها، وجعلها أداة غواية، وشغلها عن أداء رسالتها السامية، المتمثلة في رعاية بيتها وتربية أولادها والقيام بحق زوجها.

الشبهة السابعة: على فرض أن عملها هذا من الولايات العامة، فإن هذه المناصب العامة في عصرنا الحديث انتقلت من طور الولاية الفردية إلى ولاية المؤسسة.

الجواب:

قولكم: إن هذه المناصب العامة في عصرنا الحديث انتقلت من طور الولاية الفردية إلى ولاية المؤسسة، هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئًا؛ وذلك أن المجتمع في كلا الحالتين يعتبر أن في قيام المرأة بهذه الوظيفة غضاضة وانتقاصًا من شأن الرجال، وحطًا من أقدارهم.

كما أن الشرع، في الحالين، يعتبر أن في ذلك تضييعًا للمرأة ولرسالتها، وذهابًا لحيائها وعفافها.

وعلى ذلك فإن المفاسد المترتبة على قيام المرأة بهذا العمل واحدة.

الشبهة الثامنة: عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة زوجت حفصة بنت عبد الرحمن من المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن كان بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: «ومثلي يصنع هذا به، ويفتات عليه؟»، فكلمت عائشة المنذر بن الزبير، فقال المنذر: «فإن ذلك بيد عبد الرحمن»، فقال عبد الرحمن: «ما كنت لأرد أمرًا قضيتِه»، فقرت حفصةَ عند المنذر، ولم يكن ذلك طلاقًا(14).

وجه الاستدلال:

قالوا: فدل ذلك على أن للمرأة أن تتولى الأعمال الممهدة للنكاح، وهو ما قامت به أم المؤمنين، وهو ما يقوم به مأذون النكاح، يستوي في ذلك الرجال والنساء.

الجواب:

قد أجاب أهل العلم على ذلك، وبينوا ضعف هذه الشبهة قديمًا وحديثًا؛ فقال الشيخ حسام الدين عفانة: «وقد ورد عن عائشة ما يوهم جواز تولي المرأة عقد الزواج، وقد استدل به الحنفية على عدم اشتراط الولي في النكاح»، ثم ذكر هذا الأثر عن عائشة، ثم قال: «وما فهموه من الأثر خطأ، ومعنى الأثر موافق لما ذكرناه عن عائشة رضي الله عنها من قبل».

وذكر عن ابن جريج قال: «كانت عائشة إذا أرادت نكاح امرأة من نسائها دعت رهطًا من أهلها، فتشهدت، حتى إذا لم يبق إلا النكاح قالت: «يا فلان، أنكح فإن النساء لا يُنْكِحن».

وعن عائشة أيضًا قالت: «كان الفتى من بني أختها إذا هويَ الفتاة من بني أخيها ضربت بينهما سترًا وتكلمت، فإذا لم يبق إلا النكاح قالت: (يا فلان، أنكِح فإن النساء لا ينكحن)».

ثم نقل الشيخ عن الإمام أبي الوليد الباجي رحمه الله في شرحه لما ورد عن عائشة، أنه قال: «قوله: (إن عائشة زوَّجت حفصة...) يحتمل أمرين:

أحدهما: أنها باشرت عقدة النكاح، ورواه ابن مُزَيَّنٍ عن عيسى بن دينار قال: «وليس عليه العمل» يريد عمل أهل المدينة حين كان بها عيسى; لأن مالكًا وفقهاء المدينة لا يجوزون نكاحًا عقدته امرأة، ويفسخ قبل البناء وبعده على كل حال.

والوجه الثاني: أنها قدَّرت المهر وأحوال النكاح, وتولَّى العقدَ أحدٌ من عصَبتها، ونسب العقد إلى عائشة لما كان تقريره إليها, وقد روي عن عائشة أنها كانت تقرر أمر النكاح ثم تقول: «اعقدوا؛ فإن النساء لا يعقدن النكاح»، وهذا هو المعروف من أقوال الصحابة أن المرأة لا يصح أن تعقد نكاحًا لنفسها ولا لامرأة غيرها(15).

وقال ابن عبد البر رحمه الله: «قوله في حديث هذا الباب أن عائشة زوجت حفصة بنت عبد الرحمن أخيها من المنذر بن الزبير ليس على ظاهره، ولم يرد بقوله: (زوجت حفصة)، والله أعلم، إلا الخطبة والكناية في الصداق والرضا ونحو ذلك دون العقد، بدليل الحديث المأثور عنها أنها كانت إذا حكمت أمر الخطبة والصداق والرضا قالت: (أنكحوا واعقدوا؛ فإن النساء لا يعقدن)».

قال: «قد احتج الكوفيون بحديث مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة المذكور في هذا الباب في جواز عقد المرأة للنكاح! ولا حجة فيه لما ذكرنا من حديث ابن جريج؛ ولأن عائشة آخر الذين رووا عن النبي عليه السلام: (لا نكاح إلا بولي)، والولي المطلق يقتضي العصبة لا النساء»(16).

والخلاصة: أنه يجوز للمرأة أن تمهِّد لعقد الزواج، ولا يجوز لها أن تباشر التزويج بنفسها؛ لأن هذا من فعل القاضي ومن ينوب عنه، ومن شروطهما الذكورة.

وإذا تمَّ العقد الشرعي برضا الطرفين وموافقة الولي، وتولت المرأة توثيق عقد النكاح؛ كأن تكون موظفة في محكمة، أو دائرة شرعية، أو ما يشبه ذلك، من أعمال المأذونية، فلا يظهر المنع؛ لأن العقد قد تمَّ وليس لها إلا توثيق ذلك على الورق.

أما أن تكون هي شاهدةً على عقد النكاح، أو يكون المرجع في تقويم الشهود إليها، أو أن تكون هي التي تلي عقد النكاح، دون الولي، فلا يجوز(17).

وهذا هو ما نراه راجحًا، مع التأكيد على أنه يدخل فيما ذكر من عدم الجواز الصورة محل البحث، وهي: عمل المرأة كمأذون أنكحة، والله أعلى وأعلم.

_____________________

(1) ويرى البعض أن هذا العمل يتفرع عن عمل القاضي، فيقول الشيخ حسام الدين عفانة: «وتعدُّ (المأذونية) فرعًا من فروع القضاء؛ بل هو نائب عن القاضي الشرعي، ولذا لزم أن يكون المأذون الشرعي متصفًا في شخصه ببعض الصفات المشترطة في القاضي, ومن أعظمها أن يكون مسلمًا ذكرًا بالغًا عاقلًا رشيدًا»، ويخالفه آخرون. انظر فتوى له بعنوان: رؤية شرعية في عمل المرأة مأذونًا شرعيًا.

(2) وقد ورد في فتاوى اللجنة الدائمة سؤال جاء فيه: هل يجوز لجماعة من المسلمات، اللائي هن أكثر ثقافة من الرجال، أن يصبحن قادة...، ما هي الموانع من تولي المرأة للمناصب أو الزعامة، ولماذا؟ ومما ورد في الجواب: «دلت السنة ومقاصد الشريعة والإجماع والواقع على أن المرأة لا تتولى منصب الإمارة ولا منصب القضاء؛ لعموم حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن فارسًا ولوا أمرهم امرأة قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، فإن كلًا من كلمة (قوم) وكلمة (امرأة) نكرة وقعت في سياق النفي فتعم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما هو معروف في الأصول.

وذلك أن الشأن في النساء نقص عقولهن، وضعف فكرهن، وقوة عاطفتهن، فتطغى على تفكيرهن، ولأن الشأن في الإمارة أن يتفقد متوليها أحوال الرعية، ويتولى شئونها العامة اللازمة لإصلاحها، فيضطر إلى الأسفار في الولايات، والاختلاط بأفراد الأمة وجماعاتها...، ويشهد لذلك أيضًا إجماع الأمة في عصر الخلفاء الراشدين، وأئمة القرون الثلاثة المشهود لها بالخير، إجماعًا عمليًا على عدم إسناد الإمارة والقضاء إلى امرأة، وقد كان منهن المثقفات في علوم الدين اللائي يرجع إليهن في علوم القرآن والحديث والأحكام؛ بل لم تتطلع النساء في تلك القرون إلى تولي الإمارة وما يتصل بها من المناصب والزعامات العامة. [انظر: فتاوى اللجنة الدائمة- 1 (17/ 13)].

وجاء في فتوى أخرى: «وعلى ذلك ترى اللجنة أنه لا يجوز توليتها إمارة الحج شرعًا، وأن الإمارة لا تتفق مع طبيعتها واستعدادها الذي خصها الله به». [فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (23/ 403)].

(3) يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: «فالإسلام حريص جدًا على جلب المصالح ودرء المفاسد، وغلق الأبواب المؤدية إليها، ولاختلاط المرأة مع الرجل في ميدان العمل تأثير كبير في انحطاط الأمة وفساد مجتمعها كما سبق؛ لأن المعروف تاريخيًا عن الحضارات القديمة، الرومانية واليونانية ونحوهما، أن من أعظم أسباب الانحطاط والانهيار الواقع بها هو خروج المرأة من ميدانها الخاص إلى ميدان الرجال ومزاحمتهم؛ مما أدى إلى فساد أخلاق الرجال، وتركهم لما يدفع بأمتهم إلى الرقي المادي والمعنوي، وانشغال المرأة خارج البيت يؤدي إلى بطالة الرجل وخسران الأمة، وعدم انسجام الأسرة وانهيار صرحها، وفساد أخلاق الأولاد، ويؤدي إلى الوقوع في مخالفة ما أخبر الله به في كتابه من قوامة الرجل على المرأة.

وقد حرص الإسلام أن يبعد المرأة عن جميع ما يخالف طبيعتها؛ فمنعها من تولي الولاية العامة؛ كرئاسة الدولة والقضاء وجميع ما فيه مسئوليات عامة، لقوله صلى الله عليه وسلم: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة»، ففَتْحُ الباب لها بأن تنزل إلى ميدان الرجال يعتبر مخالفًا لما يريده الإسلام من سعادتها واستقرارها؛ فالإسلام يمنع تجنيد المرأة في غير ميدانها الأصيل، وقد ثبت من التجارب المختلفة، وخاصة في المجتمع المختلط، أن الرجل والمرأة لا يتساويان فطريًا ولا طبيعيًا، فضلًا عما ورد في الكتاب والسنة واضحًا جليًا في اختلاف الطبيعتين والواجبين، والذين ينادون بمساواة الجنس اللطيف، المُنَشَّأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين، بالرجال يجهلون أو يتجاهلون الفوارق الأساسية بينهما». [مجموع فتاوى ابن باز (1/ 424)].

(4) انظر: مقال بعنوان: جدل حول عمل المرأة مأذونًا شرعيًا، موقع: المؤتمر نت.

(5) قال في مختار الصحاح (ص221): «سوءة الإنسان وكل ما يستحيا منه».

(6) رواه الترمذي (1173).

(7) فيض القدير (6/ 266).

(8) وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء» [متفق عليه] من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الدنيا واتقوا النساء، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء» [رواه مسلم]، وإذا كان النبي قد نهى النساء عن اتباع الجنائز خشية الاختلاط مع الرجـال، فكيف يقول قائل من أصحاب هذا الرأي بعد ذلك بجواز خروج المرأة وتوليها الأعمال الوظيفيـة ذات المناصـب القيادية، أو التي تقتضي البروز في المحافل وتوجيه غيرها من رجال ونساء.

والغرض أن استقرار المرأة في بيتها وقيامها بما يجب عليها فيه، من تدبيره وإدارة شئونه والقيام بحق زوجها وأولادها بعد قيامها بحق الله تعالى، هو الذي فيه صلاح مجتمعها وأمتها، وإن كان عندها فضل وقت فيمكنها أن تعمل في الميادين النسائية؛ كتعليم النساء والتطبيب والتمريض وما أشبه ذلك، وهي بذلك تسد ثغرة في المجتمع، وفقنا الله جميعًا لما يحب ويرضى.

(9) قالوا: فمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، يشمل ضروب الإصـلاح في نواحي الحياة كلها، والتي منها الاشتغال بالأعمال الوظيفية، فهذه الآية تشير إلى أن الرجـال والنساء شركاء في سياسة المجتمع، وأن الأعمال السياسية والتشريعية والقـضائية والتنفيذيـة ليست إلا أوامر ونواهي عن المنكر أحيانًا بالتشريع والاجتهاد في معرفة الأحكام، وأحيانًا بالفصل في الخصومات، وثالثة بالتنفيذ والإلزام، فليس في الإسلام أن تُلقى المسئولية على الرجل وحده، فالحياة لا تستقيم إلا بتكليف النوعين فيما ينهض بأمتهما.

(10) وذكروا من ذلك حديث: «والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها»، فقالوا: هذا الحديث يمكن أن يكـون دلـيلًا قويًا على جواز تولي المرأة الأعمال الوظيفية؛ لأن من يتولى جانبًا من الأسرة، التي هي مجتمع إسلامي مصغر، يستطيع أن يتولى جانبًا من الأمور في المجتمع الإسلامي الكبير!! وكذلك تولية النبي صلى الله عليه وسلم الصحابية المعمرة سمراء بنت نهيك ولاية الحسبة على السوق، وكذلك توليـة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشفاء العدوية تلك الولاية، وولاية الحسبة تـدخل فـي مجال الأعمال الوظيفية!!

(11) رواه أحمد (26195)، وأبو داود (236)، والترمذي (113)، من حديث عائشة، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1983).

(12) وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله عن صحة هذا الحديث فقال: «نعم هذا حديث صحيح، والمعنى، والله أعلم، أنهن مثيلات الرجال إلا ما استثناه الشارع؛ كالإرث والشهادة وغيرهما مما جاءت به الأدلة»، موقع الإمام ابن باز.

(13) تقول د. سعاد صالح: «وكل ما يتطلبه القيام بعمل المأذونة هو الأمانة ومعرفة الصيغة الشرعية لعقد الزواج، ويمكن أن تكتب العقد في مكان مستقل في المسجد أو في مكتب خاص بها، ويتولى الإشهار أحد العلماء بالنيابة عنها إذا تم الإشهار في الصحن العام للمسجد، ثم تسجّله في المحكمة»، انظر مقالًا بعنوان: (بسبب المأذونة: الزواج باطل والأولاد غير شرعيين!)، على موقع لها.

ونقول: إذا كان الأمر كذلك، من أن الرجل في الأخير هو الذي يتولى إنهاء الأمور، فما الداعي أصلًا إلى إقحام النساء فيما ليس لهن؟! أم هو اتباع المنهج التغريبي، وقَفْو أثر اليهود والنصارى حذو القذة بالقذة؟!!

(14) رواه مالك (1/ 603).

(15) المنتقى شرح الموطأ (4/ 24).

(16) الاستذكار (6/ 32) باختصار.

(17) انظر: فتوى على موقع: الاسلام سؤال وجواب، بعنوان: (هل يجوز للمرأة أن تكتب عقود الزواج؟).