على حساب الدعوة
لقد ابتلي الإسلام اليوم بدعاة يدعون الناس إلى تنظيماتهم بدل أن يدعوهم إلى الإسلام، ويبينون لهم محاسن تنظيماتهم ومزاياها بدل أن يبينوا محاسن الإسلام ومزاياه، وهذا ما جعل ارتباط الفرد بالدعوة ارتباطًا حزبيًا وليس ارتباطًا عقائديًا؛ بل وجعله، في بعض الأحيان، ارتباطًا شخصيًا وليس مبدئيًا، وهذا بالتالي جعل ميدان الدعوة الإسلامية غاصًا بالتنظيمات والأحزاب والفرق والحركات.
إن معظم ذلك مرده إلى جهل بحقيقة هذا الدين؛ وبالتالي إلى عدم الالتزام بأحكامه وقواعده.
والنتيجة كما نرى وكما أخبر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا»(1).
لقد مرت الدعوة بمراحل عديدة وأزمات كثيرة، صعد فيها من صعد ليحقق مصالحه ومآربه على حساب الدعوة، واشتهر فيها من اشتهر على حساب الدعوة، قد لا أكون مبالغًا إذا قلت أن هناك من استغل الدعوة في الثراء وجمع المال، فلم يحملوا همَّ الدعوة؛ بل لقد تحملت الدعوة من همومهم الكثير، واتهمت الدعوة من قِبل هؤلاء الأدعياء وليسوا دعاة.
أحدهم، ممن ينتسب للعمل الدعوي، من يقوم بجمع المال ويصرفه في أغراضه ومصالحه، وآخر يتصدر للقيادة ويصور نفسه بالمعتدل المنصف؛ مع أن حقيقة أمره لا تعدو عن ساكت عن باطل أو مُخَذِّل، وثالث يوجه الشباب على رأيه وهواه، ويجعله هو الحق وما خالفه شدة وتهور، ويتفنن في إبراز ونشر الأقوال الشاذة والمردودة المخالفة للدليل.
ومنهم من يتبنى التعصب المذموم، والتشرذم الممقوت الذي هو أحد عوامل الضعف، وعدم الوصول إلى هدف، فكثيرًا ما أساءوا إلى مبادئ الدعوة نفسها، بتصرفاتهم التي لا تتفق البتة مع أهداف الدعوة ومبادئها، ومع أن هؤلاء قلة إلا أن أعداء الدعوة استغلوا تطرفهم على حساب الدعوة وأفكارها.
ومنهم من جعل همه هو العمل السياسي، مغفلًا جانب التربية والتزكية، ومنهم من يهتم بالعمل والتجارة على حساب الدعوة، ومنهم من يغفل الدعوة إلى التوحيد والتحذير من الشرك.
ومنهم مندسين، ونفعيين، ومتاجرين، يعبدون الله على حرف، يرون مصلحتهم في التخفي، فيمتطي أحدهم الدعوة ليحقق لنفسه الشهرة والجاه والمال، فإذا ما بلغ غايته، ونال مرامه، مرق من الدعوة كما يمرق السهم من الرمية.
كل هذا والمتهم الأول والأخير هو الدعوة، رغم أنها الضحية لبعض الأدعياء، الذي نسبوا أنفسهم إليها زورًا وبهتانًا، ولم يقدموا لها إلا كل ما يهدم بنيانها، ويقيض أركانها، ويدنس شرفها.
وبهذا تتراجع الدعوة إلى الحضيض، وأمثال هؤلاء من المتعالمين هم السبب اليوم في نفور الناس من الدعوة، وتعرضها لهجوم الحاقدين الذين وجدوا منافذ لهذا الهجوم.
إن الدعوة الإسلامية حين تبتلى بأشخاص من هذا الشكل تصبح معرضة للبوار، أناس فيها يبنون وآخرون يهدمون، وأناس يجمعون وآخرون يفرقون، وآخرون يحببون وغيرهم ينفرون.
من هنا وجب على الدعوة أن تنقي صفوفها من مرضى الانفصام، كائنًا ما كانت مراكزهم ومراتبهم، وكائنًا ما كانت قدراتهم التنظيمية والإدارية والفكرية؛ لأن ضررهم سيكون أكبر من نفعهم، ويكفي أنها لن تكون بهم على هدى من الله وتوفيق، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].
عن أبي موسى الأشعري رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا؛ فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به؛ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به»(2).
في الحديث تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث، ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع، وكذلك الناس؛ فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر، فيحيا بعد أن كان ميتًا، ويُنْبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه، ويعمل به ويُعَلِّمه غيره فينتفع وينفع، والنوع الثاني من الأرض ما لا يقبل الانتفاع في نفسها؛ لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها، فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة، ولا رسوخ لهم في العلم يستنبطون به المعاني والأحكام، وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم، أهل للنفع والانتفاع، فيأخذه منهم فينتفع به، فهؤلاء نفعوا بما بلغهم، والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها، فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع به غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية، فإذا سمعوا العلم فلا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم(3).
إني لأعجب كثيرًا من أناس في زماننا هذا تصدوا للدعوة إلى الله، وبذلوا جهودهم وأوقاتهم لها، يقفون من أمور العقيدة ومسائلها مواقف مخذولة؛ فيميعون مسائلها، ويهونون من شأن المخالفة فيها، طالما أنهم يستفيدون من ذلك.
والحق أن هؤلاء مَكَر الشيطان بهم بخفاء، ودبر أمرهم بدهاء، فأوقعهم في الإساءة من حيث أرادوا الإحسان.
ثم إنه نتيجة لحكمة هؤلاء المزعومة، أطلَّ أهل الأهواء برءوسهم، وشمخوا بأنوفهم، وصاروا يمكرون بالسنة وأهلها علنًا وجهرًا، من بعد ما كانوا يكيدون لها في السر والخفاء، مع الخوف والوجل، فكل هذا وغيره إنما حصل بسبب مثل هذه المواقف المخذولة، والآراء المهزوزة، والله وحده المستعان(4).
في غزوة بدر، في الأحداث التي سبقتها، أراد مشرك أن يلحق بجيش المسلمين, وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم الموافقة على قبوله معهم، والاشتراك فيما هم ذاهبون إليه, فقال صلى الله عليه وسلم: «ارجع, فلن أستعين بمشرك»(5).
فالحديث يبين أن القاعدة والأصل عدم الاستعانة بغير المسلم في الأمور العامة، ولهذه القاعدة استثناء، وهو جواز الاستعانة بغير المسلم بشروط معينة، وهي: تحقق المصلحة، أو رجحانها بهذه الاستعانة، وألا يكون ذلك على حساب الدعوة ومعانيها، وأن يتحقق الوثوق الكافي بمن يستعان به، وأن يكون تابعًا للقيادة الإسلامية، لا متبوعًا، ومقودًا فيها لا قائدًا لها، وألا تكون هذه الاستعانة مثار شبهة لأفراد المسلمين، وأن تكون هناك حاجة حقيقية لهذه الاستعانة وبمن يستعان به، فإذا تحققت هذه الشروط جازت الاستعانة على وجه الاستثناء، وإذا لم تتحقق لم تجز الاستعانة.
وفي ضوء هذا الأصل رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتراك المشرك مع المسلمين, في مسيرهم إلى عير قريش؛ إذ لا حاجة به أصلًا, وفي ضوء الاستثناء وتحقق شروطه استعان النبي صلى الله عليه وسلم بالمشرك، عبد الله بن أريقط، الذي استأجره النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في هجرتهما إلى المدينة؛ ليدلهما على الطريق إليها...، وهكذا على هذا الاستثناء وتحقق شروطه قَبِل صلى الله عليه وسلم حماية عمه أبي طالب له، كما قبل جوار أو إجارة المطعم بن عدي له عند رجوعه عليه الصلاة والسلام من الطائف، وكذلك قبول الصحابة الكرام جوار من أجارهم من المشركين ليدفع هؤلاء الأذى عمن أجاروهم(6).
والمداهنة والمجاملة والمداراة على حساب الدين أمر وقع فيه كثير من المسلمين اليوم، وهذه نتيجة طبيعية للانهزام الداخلي في نفوسهم، حيث رأوا أن أعداء الله تفوقوا في القوة المادية فانبهروا بهم، ولأمر ما رسخ وترسب في أذهان المخدوعين أن هؤلاء الأعداء هم رمز القوة ورمز القدوة، فأخذوا ينسلخون من تعاليم دينهم مجاملة للكفار, ولئلا يصمهم أولئك الكفرة بأنهم متعصبون! وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول في مثل هؤلاء: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا، وذراعًا ذراعًا، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»(7).
إن المجاملة على حساب الدين والخلق والكرامة ممنوعة، لا يقرها دين ولا عقل سليم، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وَكَلَه الله إلى الناس»(8).
إن الداعية بحق هو الذي يعيش لغيره لا لنفسه، وتهمه سعادة غيره ولو على حساب سعادته هو، ويتجرع الغيظ في ذلك وهو على يقين بأنه سيتحول في جوفه إيمانًا، وسيكون له ذخرًا عند الله يوم الحساب.
إنَّ نَقْل إنسان من الضلال إلى الهدى، والأخذ بيد إنسان من الظلمات إلى النور، ليس له هذا الأجر الجزيل عند الله والمثوبة العظمى يوم القيامة، كما جاءت به أحاديث كثيرة، لولا أن هذه العملية تحتاج من الداعية إلى صبر طويل وتحمل واحتمال(9).
__________________
(1) رواه البخاري (100)، ومسلم (2673).
(2) رواه البخاري (79)، ومسلم (2282).
(3) شرح النووي على مسلم (15/26).
(4) زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه، للشيخ الدكتور عبد الرزاق البدر، ص452.
(5) رواه الترمذي (1558).
(6) المستفاد من قصص القرآن للدعوة والدعاة، د. عبد الكريم زيدان (2/144-145).
(7) رواه البخاري (7320).
(8) رواه الترمذي (2414).
(9) الاستيعاب في حياة الدعوة والداعية، للدكتور فتحي يكن، ص28-29.