علاقة الداعية بالأحداث
الدعوة الدينية تعاليم إلهية منزلة، معقولة المعنى، تحتاج إلى شخص يتحرك بها ويوصلها للناس في إطار خطة سليمة، بوسائل قادرة على الوصول للمدعوِّين، وبأساليب تبين، وتحاول، وتؤثر، وتقنع، وبعد ذلك يكون الناس أحرارًا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.
إن شعوب الأمة الإسلامية تعاني من بعد عن معالم الإسلام الصافية، وضعف في تطبيقه، مع انقلاب في فهم كثير من معانيه العلمية والعملية في جميع نواحي الحياة، مع هزيمة نفسية وتبعية لأعداء الإسلام، صاحب ذلك الرضى بحياة الذل والهوان وخوف من التغيير، مع شُقَّة كبيرة بين الشعوب وعلمائها ودعاتها.
الاستفادة من الأحداث:
يزداد إرهاف الحس، وتأجج المشاعر، ويقظة العقل عندما تحدث أمام المرء أحداث غير مألوفة، ويصبح على درجة عالية من الاستعداد للتلقي؛ لذلك نجد القرآن الكريم بعد الأحداث الكبيرة التي مرت بالصحابة رضوان الله عليهم ينزل ليعلمهم ويوجههم ويربيهم؛ حتى يستفيدوا من هذه الأحداث في مزيد من الاستقامة لله عز وجل، وبخاصة أن النفوس تظل مدة من الزمن متعلقة بتلك الأحداث، وتكون فيها على استعداد لتلقي التوجيهات المتعلقة بها.
ومثال ذلك: تعقيب القرآن الطويل على حادثة الإفك، وكيف يستفيدون منها بعد ذلك: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، {يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17]، وتعقيبه على ما فعله حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه في محاولته، غير الناجحة، لإخبار أهل مكة بعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على السير إليهم ودخول مكة فاتحًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1].
وكذلك التعقيب القرآني بعد غزوة بدر، وأحد، وبني النضير، والأحزاب، وما فيها من دروس وعبر وتوجيهات نحو مزيد من الاستقامة.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مع الصحابة رضوان الله عليهم، ويربط دومًا بين الحدث والمعاني الإيمانية الدالة عليه.
ففي يوم من الأيام، وبينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم بين صحابته إذ جاءه سَبْي، وفي هذا السبي امرأة تسعى ملهوفة مضطربة، قد ضاع منها رضيعها، واستمرت على هذا الحال الشديد حتى وجدته، فأخذته وضمته إلي صدرها بشدة ثم أرضعته.
هذا المنظر شاهده الصحابة فأثر فيهم غاية التأثير، فلم يتركه صلى الله عليه وسلم يذهب سُدى؛ بل وجهه توجيهًا إيمانيًا، فقال لهم: «أترون هذه طارحة ولدها في النار؟!» قالوا: لا والله، قال: «الله أرحم بعباده من هذه على ولدها»(1).
إذن علينا أن نستفيد من الأحداث التي تمر بنا في توجيه أنفسنا والآخرين نحو مزيد من الاستقامة لله عز وجل.
تحليل الأحداث:
لا ينبغي للداعية؛ بل لا يحق له أن يتناول أي حدث من الأحداث التي تمر به بعيدًا عن الشريعة وموقفها من هذا الحدث؛ لأنه مبلغ عن الله تعالى، فكيف يتسنى له تجاهل ثوابت الدين ومقاصد التشريع في تناول الأحداث، إن المرء لتأخذه الدهشة عندما يعترض بعض المثقفين من الحديث عن أمر من الأمور، فتربط هذا الأمر بالناحية الدينية، وكأن الدين ليس له دخل بواقع الحياة، إنما للمساجد فقط، والأخطر من ذلك والأشد عجبًا أن يردد هذا الكلام من يحسب على المتدينين من الدعاة الجدد، أو من دعاة السلطة، عباد الكراسي والمناصب.
إن أي حدث إذا تناولناه بعيدًا عن منهج الله تعالى فلن نصل إلى تفسير صحيح أو تحليل دقيق.
»إنه قلب واحد، فلا بد له من منهج واحد يسير عليه، ولا بد له من تصور كلي واحد للحياة وللوجود يستمد منه، ولا بد له من ميزان واحد يزن به القيم، ويقوّم به الأحداث والأشياء، وإلا تمزق وتفرق ونافق والتوى، ولم يستقم على اتجاه.
ولا يملك الإنسان أن يستمد آدابه وأخلاقه من مَعِين، ويستمد شرائعه وقوانينه من معين آخر، ويستمد أوضاعه الاجتماعية أو الاقتصادية من معين ثالث، ويستمد فنونه وتصوراته من معين رابع...، فهذا الخليط لا يكوّن إنسانًا له قلب، إنما يكون مزقًا وأشلاء ليس لها قوام! وصاحب العقيدة لا يملك أن تكون له عقيدة حقًا، ثم يتجرد من مقتضياتها وقيمها الخاصة في موقف واحد من مواقف حياته كلها، صغيرًا كان هذا الموقف أم كبيرًا، لا يملك أن يقول كلمة، أو يتحرك حركة، أو ينوي نية، أو يتصور تصورًا، غير محكوم في هذا كله بعقيدته، إن كانت هذه العقيدة حقيقة واقعة في كيانه؛ لأن الله لم يجعل له سوى قلب واحد، يخضع لناموس واحد، ويستمد من تصور واحد، ويزن بميزان واحد.
لا يملك صاحب العقيدة أن يقول عن فعل فعله: فعلت كذا بصفتي الشخصية، وفعلت كذا بصفتي الإسلامية! كما يقول رجال السياسة أو رجال الشركات، أو رجال الجمعيات الاجتماعية أو العلمية وما إليها في هذه الأيام، إنه شخص واحد، له قلب واحد، تعمره عقيدة واحدة، وله تصور واحد للحياة، وميزان واحد للقيم.
وتصوره المستمد من عقيدته متلبس بكل ما يصدر عنه، في كل حالة من حالاته على السواء.
وبهذا القلب الواحد يعيش فردًا، ويعيش في الأسرة، ويعيش في الجماعة، ويعيش في الدولة، ويعيش في العالم، ويعيش سرًا وعلانية، ويعيش عاملًا وصاحب عمل، ويعيش حاكمًا ومحكومًا، ويعيش في السراء والضراء، فلا تتبدل موازينه، ولا تتبدل قيمه، ولا تتبدل تصوراته {ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4]»(2).
الدعاة المغيبون:
أعني بهم هؤلاء الدعاة الذين غابوا عن واقع أمتهم، وما يحدث فيه من أحداث عظام، وهم في سكرة من هذا الأمر، ساهون في أبواب الطهارة والاستطابة والحيض والنفاس؛ وإن كنا لا نقلل من أهمية معرفة هذه الأمور، ولكن أن تكون هي محور الدعوة إلى الله تعالى، وهي شغل الداعية الشاغل، فكلما فرغ منها عاد ليتناولها من مصنف آخر حتى ينتهي به العمر ولم يخرج من الخلاء.
إن الداعية في مسجده، في حيه، في عمله، لا بد أن يعيش هموم مجتمعه؛ يتألم لآلامهم ويفرح لفرحهم، ويتناول كل ما يستجد من أحداث، ويكون له سبق القدم في معرفة حكم النازلة وتداعياتها؛ بل يجب عليه أن يعرف أهدافها وأغراضها، وما تنطوي عليه، ويعرف كذلك مَن وراءها، ومتى يتكلم، ومتى يكون التغافل أفضل من الكلام، فكما أن الكلام له زمانه كذلك الصمت له زمانه.
»من القضايا التي تبرز الآن على ساحة الدعوة وتفرض نفسها بقوة، غياب بعض الدعاة عن واقع الناس وقضاياهم الحياتية والمعيشية، بشكل يضعهم على هامش الأحداث إلى حد بعيد؛ مما يسبب أزمة في جهتين:
الجهة الأولى: انصراف الناس عن الدعاة إلى مَن قد يدخل إليهم عبر قضاياهم ومشكلاتهم، ويشكل لديهم وعيًا مغايرًا للحقيقة، ولما يجب أن يكون عليه المسلم إزاء ما يتعرض له ويواجهه.
ومن الجهة الأخرى تغييب دور المسلم وفعله الإيجابي، وحصره في أدوار هامشية يغلب عليها الانفعال لا الفاعلية.
وليت الأمر توقف عند حد المنابر الخشبية والحجرية في المساجد؛ بل مما ساعد على إبراز هذه القضية بشكل يضعها ظاهرة تلك المنابر الفضائية عبر القنوات المختلفة، متعددة الجنسيات والخلفيات والتوجهات، التي يعمل بعضها؛ بسبب محتواه وطريقة تناوله للأحداث أو تجاهلها، مخدرًا يغيب وعي الجماهير المسلمة، ويكرس سلبيتها، ويدعم عزلها عن مواقع التأثير، ويضعها دائمًا في خانة المنتظِر المفعول به.
وحتى لا يكون هذا الحديث معممًا أؤكد أن هناك من الدعاة، أفرادًا وجماعات ومؤسسات، من يعي خطورة هذا الأمر، ويقوم بدوره في تبصير الجماهير، ويقف مع الأحداث أولًا فأولًا، محللًا الأسباب ومحددًا الأدوار، وقائدًا للحركة الإيجابية التي تعود بمردود فاعل على الأمة»(3).
صور من تغيب الدعاة عن واقع الأحداث:
1- عدم مراعاة الداعية للظروف الحياتية والاجتماعية للمدعوين، فتجده، مثلًا، يحذر من متاع الدنيا وغرورها، ويتحدث عن واجبات الأغنياء وفضل الصدقات في بيئة فقيرة، تعيش أصلًا على صدقات الناس، ولا يعرف متاع الدنيا وغرورها سبيلًا إليها!! أو يتحدث عن مشكلات فئة معينة من الناس، وغالبية من يستمع له ينتمي إلى فئة أخرى ليس لها علاقة بما يتحدث عنه الداعية.
2- تجاهل الداعية للأحداث والقضايا المؤثرة على الأمة بشكل مباشر، وإهمالها وعدم تناولها بالبيان والتحليل، وتحديد أدوار المسلمين إزاءها، على اختلاف تخصصاتهم ومواقعهم، مكتفيًا بالحديث عن أمور يمكن تأجيلها وتأخيرها وتناولها في أي وقت لحساب الأحداث الطارئة والملحة.
3- الكلام المطلق والحديث غير الموثق والمشوش من قبل الداعية عن القضايا المختلفة، وترديد شتات ما تتلقاه أذنه من هنا وهناك دون تبين.
أسباب تغيب الداعية عن واقع الأحداث:
تتعدد الأسباب التي أدت بدورها إلى تغيب الدعاة عن واقع أمتهم، ولعل من أهمها:
1- ضعف ثقافة الواقع لدى الداعية:
حيث يظن بعض الدعاة أنه يكفيه تحصيل بعض العلوم الشرعية، والخوض في مراجع الأدب واللغة والتاريخ، والأخذ بحظ وافر من بعض العلوم الإنسانية، وهو مع ذلك كله لا يعرف شيئًا عن عالمه الذي يعيش فيه ويتوجه إليه بالدعوة، لا يعرف ما يقوم عليه هذا العالم من نُظُم، وما يسوده من مذاهب، وما يحركه من عوامل، وما يصطرع فيه من قُوَى، وما يجري فيه من تيارات، وما يعاني أهله من متاعب ومشكلات، لا يشعر بآلام وآمال بيئته، ولا يعيش أفراحها ومآسيها، ولا يدرك مصادر القوة وعوامل الضعف فيها، وهذا بالطبع ينعكس على خطابه الدعوي، وما يقدمه لجمهور الدعوة، حيث يصير خطابه نظريًا جامدًا، خاليًا من الحياة، مفتقدًا للروح، وإن جَمَّله بالتراكيب اللغوية والمحسنات البديعية.
2- مناهج التربية التي يخضع لها الدعاة:
إن نظرة عابرة على بعض مناهج التربية والتثقيف المعتمدة داخل الجماعات والمؤسسات الدعوية، الرسمية وغير الرسمية، تعطينا انطباعًا بأنه لا فارق كبيرًا بينها وبين المناهج التي تدرس في المدارس الرسمية في معظم البلاد العربية والإسلامية؛ إذ يغلب عليها أسلوب التلقين النظري الأصم، والروح العاطفية التعبوية، بعيدًا عن الواقع العملي، وبعيدًا كذلك عن غرس روح التأمل والنقد والاستكشاف والاستشراف؛ ذلك لأن هذه المناهج تحصر نفسها داخل أدبيات المنتمين لهذه الجماعة أو ذاك الفصيل دون أن تنفتح على كتابات الآخرين، ودون أن تستفيد من أفكار وإبداعات مفكري الأمة، ومدارس الرأي المختلفة، بصرف النظر عن انتماءاتها التنظيمية.
ولا يكاد يُلحَظ أو يُعرَف، غالبًا، أن داعية خرج عن هذا الخط في التحصيل والتلقي إلا حاصرته التحذيرات والتخويفات، لتفرض وصاية فكرية على العقول، بدعوى خوف التأثر وفساد الأفكار!! وهذا بلا شك له تأثير على الداعية وعلى الحركة: على الداعية في تكوينه الثقافي والعقلي، وعلى الحركة في ركودها وعدم تطورها، وفي هجرة من يصر على الخروج من هذا الطوق لها، فتفقد الحركة بذلك عقولًا واعية يصعب تعويضها.
3- الرغبة في تجنب المشكلات:
فقد يؤثِر الداعية أحيانًا جانب السلامة، ويبتعد عن تناول بعض القضايا والأحداث، خوفًا من أن يتعرض للمساءلة، أو يصنف على تيار من التيارات، مما قد يضعه في مواجهات ومشكلات يرى أنه في غنى عنها!، وقد يسوق مبررًا لذلك أراه أبشع من مسألة تجنب الحديث في هذه الأمور، وهو أن هذه الأمور لن تفيد الناس، ولا تقع في نطاق اهتمامهم، ولا يحبون سماعها، وكأن الداعية تحول إلى مطرب يستجدي رضا الناس وتصفيقهم بتقديم ما يستهوي أسماعهم فقط، دون النظر إلى ما يرقى بفهمهم، ويُعلي من تفكيرهم، ويزيد من ثقافتهم، ويدفعهم للعمل الإيجابي.
4- الحياء المذموم:
وهو من الأسباب التي تحول بين الدعاة وتناول بعض القضايا الحياتية للناس، حيث يقف البعض منهم حائرًا مترددًا في تناول بعض القضايا الحساسة، وينتهي الحال بكثيرين منهم إلى إيثار الصمت حيال هذه المسائل؛ مما يعطي الفرصة لغيرهم، ممن ليسوا مُؤهلين، لتناول هذه القضايا، أو ممن يبطنون النوايا السيئة، ليخوضوا غمار هذه المسائل، مستغلين فرصة سكوت علماء الدين والدعاة عنها.
إن السبب الذي أدى إلى نشوء تلك العُقدة لدينا هو سيطرة بعض التقاليد والمفاهيم الدخيلة، التي تضفي هالة من التعتيم على بعض المسائل، بدعوى (العيب)، ويعتنق الآباء والأمهات والمربون ذلك، بل الدعاة، ناسين أو متناسين أن هناك مصادر أخرى للمعرفة، يستطيع الشاب أو الفتاة، أو حتى الطفل، أن يعرف منها ما يريد، من جماعة الرفاق ووسائل إعلام وغيرها، ولكنها، في معظمها، مصادر غير مأمونة، فيتولد عند الشباب خليط من الأفكار والمعلومات والأحكام المشوشة، وغير الدقيقة، فيقعون فريسة لأصحاب النوايا السيئة ومُدعي العلم، والذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
ونحن نرى، للأسف، وبسبب إعراض الدعاة عن هذه المسائل، أن هناك من العابثين من يتعرض لها بوسائل مختلفة، ويسير دفة الحوار والنقاش في اتجاه لا يُبين وجه الحقيقة، ولا يقدم النفع، بقدر ما يشجع على الانحلال والتسيب، بما يخدم أهدافهم، مستخدمين أدواتهم بمنتهى الابتذال والإسفاف، لاعبين على الوتر الحساس لدى الشباب، ولا يجد الشباب متنفسًا أمامه إلا أمثال هؤلاء ليأخذ عنهم، ويعتقد ما يقولونه(4).
العلاج المقترح:
إن علاج أية مشكلة يتمثل، ببساطة، في تلافي أسبابها، وتوفير الوسائل التي تساعد على تخطي العقبات في طريق الحل، ومن أبرز الحلول التي أقترحها لهذه المشكلة:
1- إدراك الواقع وفهمه ومعايشته:
ما أحوج الداعية لمعرفة واقعه وفهمه ومعايشته؛ فالداعية لا ينجح في دعوته ما لم يعرف مَن يدعوهم، ويعرف كيف يدعوهم، وماذا يقدم معهم وماذا يؤخر، ولهذا حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن قال له: «إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى، فإذا عرفوا ذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا، فأخبرهم أن الله افترض عليهم زكاة في أموالهم، تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم، فإذا أقروا بذلك فخذ منهم، وتوق كرائم أموال الناس»(5).
نلاحظ أنه صلى الله عليه وسلم أخبر معاذًا بطبيعة القوم الذين سيذهب لدعوتهم، وأنهم أهل كتاب؛ إذ لو كانوا مجوسًا أو ملاحدة، على سبيل المثال، لكان عليه أن يدعوهم بطريقة أخرى.
لهذا من الضروري أن يدرس الداعيةُ البيئةَ التي يعيش فيها قبل أن يتوجه إليها بالدعوة، عليه أن يعرف أوضاعها وتقاليدها، ويتعمق في فهم مشكلاتها ونفسيات أهلها وما يؤثر فيها.
والداعية ذو العقل اليقظ يستطيع أن يأخذ مددًا جديدًا من كل ما حوله من وقائع الحياة اليومية، ويمكنه أن يعد لذلك سِجلًا أو أرشيفًا، يُدون فيه ما يهمه من مشاهداته وما يسمعه من وقائع وأخبار، ويصنفها ويضعها عند الحاجة في مكانها.
وها نحن نراه صلى الله عليه وسلم يوجه المستضعفين من صحابته بالهجرة إلى الحبشة، وهذا برهان ساطع على معرفته صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله، وأحوال الأمم المعاصرة له.
فلماذا لم يرسل الصحابة إلى فارس أو الروم أو غيرهم؟ ولماذا اختار الحبشة؟ يبين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: »إن فيها ملكًا لا يظلم عنده أحد»(6)، وفي السيرة النبوية أمثلة كثيرة تبين اهتمام النبي صلي الله عليه وسلم بالواقع المحيط به صلي الله عليه وسلم.
2- تطوير مناهج تكوين الدعاة:
إن السعي إلى تطوير المناهج الرسمية أو الحركية ليس عيبًا أو خطأً؛ بل العيب كل العيب والخطأ كل الخطأ الاستمرار على مناهج قاصرة بدعوى الاستقرار، لكن هذا التغيير لا بد أن يصدر عن دراسة متأنية وتفكير وتأمل من أهل الخبرة والدراية، وإلا فقد يصير مشكلة بل كارثة إذا تم بغير ذلك، أو كرد فعل عشوائي متسرع لدعاوى التطوير.
نريد مناهج تخرج دعاة واعين بما يدور حولهم، ويؤثرون في واقعهم، لا مجرد نُسَخ لكتب وصحائف عفا عليها الزمن، نريد مناهج تغير الصورة الساذجة للداعية عند الناس، وتعيد إليهم الثقة به مرجعًا لهم في شتى القضايا والأحداث، يستلهمون منه الرأي والعمل.
3- تصحيح مفهوم الحياء:
يجب علينا أن نتحرر من العقدة التي تنتابنا عند مناقشة مختلف القضايا الموجودة بشكل جدي في واقعنا، وألا نسكت عنها بدعوى الخجل والحياء، فالحياء في ديننا له أسس ومفاهيم تحكمه.
إن هذه العقدة تنحل بمعرفة الضوابط التي ينبغي أن نتمسك بها عند التعرض لأمثال هذه القضايا الحرجة، والحدود التي ينبغي الوقوف عندها.
إن الحياء خُلق أصيل في الإسلام؛ بل هو الخُلُق الأول فيه، وإن الإسلام يبغض الفُحْش والتفَحش في القول وينكره، ولكن مع ذلك كله فإن الحياء لا يكون مانعًا للمسلم أبدًا من أن يتعلم أمور دينه ودنياه، فعن أم سليم جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: »إذا رأت الماء»(7)، فنرى أن أم سليم قد علمت أن دينها يفرِض عليها العِلم؛ لذا لم تستح من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عما دعت الحاجة إليه، مما تستحيي النساء في العادة من السؤال عنه وذِكْره بحضرة الرجال، وقدمت لسؤالها بقولها: إن الله لا يستحيي من الحق؛ حتى تقطع الطريق على من قد يسمع سؤالها، فيتبادر إلى ذهنه أن سؤالها هذا ينافي الحياء.
من هنا نعلم أنه يجب مناقشة جميع المسائل الحياتية، وألا نمتنع عنها حياءً من ذِكْرها، فإن ذلك ليس حياءً حقيقيًا؛ لأن الحياء خير كله، والحياء لا يأتي إلا بخير، والإمساك عن تناولها في هذه الحال ليس بخير؛ بل هو شر؛ لأن فيه الإقامة على الجهل وتعطيل واجبات الدين، فكيف يكون حياءً؟.
ولكن مع ذلك، يجب أن يختار الداعية الكلمات والتعبيرات المناسبة، دون استطراد لا لزوم له، أو ابتذال خارج عن حدود السؤال، كما عودنا أسلوب القرآن، وأسلوب السنة المطهرة، ولقد مدحت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار، هل تعلم لماذا؟ فلنسمعها وهي تقول: »نِعْمَ النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين»(8).
فهلا كان المخلصون من الدعاة والعلماء، ممن هم أهل لتناول هذه القضايا بما يملكون من علم، هم السابقين لها ولعلاجها وتناولها، قبل غيرهم ممن يضمر سوءًا بشبابنا وبأمتنا، ولا يملك في جعبته إلا الضلال والإفساد؟.
4- ترك الاستعجال:
في معالجتك لأي حدث من الأحداث لا تستعجل، ولِمَ الاستعجال قبل أن ترى الحدث كله وأبعاده وما وراءه، قبل أن تلقى أو تسأل من هو أعرف منك، وأبصر منك بهذا الأمر؟! لا تستعجل في الحكم، ولا تتسرع.
هناك خصلتان يحبهما الله سبحانه وتعالى، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أشج عبد القيس، الحلم والأناة، فقال: »إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»(9)، الأناة: الروية، لا يندم الإنسان عليها أبدًا، فإذا دعوت إلى الله سبحانه وتعالى فكن حليمًا ولا تستعجل.
رُبَّ مجرم ينقلب خيرًا للدعوة، وهذا ما وقع والله، وينقلب سيفًا بتارًا على أعداء الله سبحانه وتعالى، وعلى دعاة الشر والفساد، لكن بعد صبر من الدعاة عليه، حتى يفقه الحق، وحتى يستجيب له، وحتى يعرف أنه لم يُدع إلا إلى خير الدنيا والآخرة، فلا بد من الأناة.
أما الاستعجال في القرارات الفردية الشخصية، بأن يستعجل الإنسان في قرار ما، ثم يندم عليه، وكذلك الاستعجال في قرارات الدعوة، فيريد أن يرى الإجابة فورًا، ويريد الاستقامة حالًا، أو الاستعجال في سنن الله التي لم تتغير أبدًا.
لقد وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالنصر: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51]، لكن الإنسان يقول: لماذا لم يأت النصر؟!! يريده الآن!
فهذا الاستعجال آفة يبتلى بها الناس، ولا ينبغي للدعاة بالذات، ولكل من يقرأ كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقع فيها، وإنما الواجب من الجميع أن يتأملوا سنن الله سبحانه وتعالى في تغيير الأنفس، وفي تغيير المجتمعات(10).
5- تعلم الصمت:
كل الناس يجيد الكلام؛ ولكن ليس كل الناس يجيد الصمت، والداعية أحرص الناس على علاج غيره، فلا بد له من علاج نفسه؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، فكما أن الكلام واجب في موطنه كذلك الصمت واجب ولازم في موطنه.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
وقال الشافعي:
قالـوا سكـت وقد خوصـمت قلـت لهم إن الجـواب لـبـاب الـشــر مـفـتـاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف وفيه أيضًا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأُسْد تُخـشى وهي صامتة والكلـب يـخـسى لـعمري وهو نباح
فقد يتكلم الداعية في حادثة نزلت دون علم أو تثبت؛ فيكون فيها سقوطه ودماره، وقد يقع في شخص دون تريث فتكون الهلكة، والداعية ليس كغيره؛ فهو قائد وموجه ومُرَبٍ ومعلم؛ فالسقطة منه يطيرها عنه كُلُّ مُطَيِّرٍ، ولَأن يخطئ في الصمت خير له من أن يخطئ في كلمة خرجت من فيه ولن تعود.
وقد تكون الفتنة نائمة والعين عنها غافلة، والقلوب عنها مشغولة؛ حتى يتصدى لها قليل البضاعة ضعيف الصناعة؛ فتشتعل نيرانها، ويتصاعد لهيبها، ويرتفع دخانها، ويكون هو أول من يكتوي بها؛ لذا كان الصمت أوجب من الكلام في بعض الأحيان.
_____________
(1) صحيح البخاري (كتاب: الأدب، باب: رحمة الولد وتقبيله ومعانقته).
(2) في ظلال القرآن، سيد قطب (الأحزاب:4).
(3) الدعاة المغيبون.. المشكلة والحل، أ. فتحي عبد الستار.
(4) المصدر السابق.
(5) صحيح البخاري (كتاب: التوحيد، باب: ما جاء في دعاء النبي أمته إلى توحيد الله تبارك وتعالى).
(6) السلسلة الصحيحة (3190).
(7) صحيح البخاري (كتاب: العلم، باب: الحياء في العلم)، وصحيح مسلم (كتاب: الحيض، باب: وجوب الغسل على المرأة بخروج المني منها).
(8) صحيح مسلم (كتاب: الحيض، باب: استحباب استعمال المغتسلة من الحيض فرصة من مسك في موضع الدم).
(9) صحيح مسلم (كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله ورسوله، وشرائع الدين).
(10) الدعاة المغيبون.. المشكلة والحل.