خطورة الإرجاف
إن الإرجاف ممنوع شرعًا، رخيص طبعًا، ولا يمارسه إلا أناس مفلسون من القيم الحيَّة والمبادئ الربانيَّة {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4].
وأصل الإرجاف: التحريك، من الرجفة التي هي الزلزلة، وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها في نفسها متزلزلة غير ثابتة، أو لتزلزل قلوب سامعيها واضطرابها منها.
فالإرجاف:هو إشاعة الكذب والباطل بقصد التماس الفتنة، وتهييج الخواطر، وتثبيط الهمم، وشل العزائم.
وهو من الألفاظ اللغوية التي تدل على الحرب النفسية؛ قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب:60].
فالمرجفون: هم قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم.
والمرجِفُ: الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يُشيع من بهتان وأباطيل.
قال المراغي: المرجفون: هم اليهود الذين كانوا يلفقون أخبار السوء وينشرونها عن سرايا المسلمين وجندهم، وهو من الإرجاف، وهو الزلزلة، وصفت بها الأخبار الكاذبة لكونها مزلزلة غير ثابتة.
وقال: وأهل الإرجاف في المدينة الذين ينشرون الأخبار الملفّقة الكاذبة التي فيها إظهار عورات المؤمنين، وإبراز ما استكنّ من خفاياهم؛ كضعف جنودهم، وقلة سلاحهم وكراعهم، ونحو ذلك مما في إظهاره مصلحة للعدو وخضد لشوكة المسلمين(1).
فالمرجفون هم قومٌ لا هَمَّ لهم إلا بث الإشاعات في المؤمنين بالكذب والباطل؛ كما كان حالهم في المدينة، {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83].
قال الرازي: اعلم أنه تعالى حكى عن المنافقين في هذه الآية نوعًا آخر من الأعمال الفاسدة، وهو أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور، سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف، أذاعوه وأفشوه، وكان ذلك سبب الضرر من وجوه:
الأول:أن هذه الإرجافات لا تنفك عن الكذب الكثير.
والثاني: أنه إن كان ذلك الخبر في جانب الأمن زادوا فيه زيادات كثيرة، فإذا لم توجد تلك الزيادات أورث ذلك شبهة للضعفاء في صدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المنافقين كانوا يرْوُون تلك الإرجافات عن الرسول، وإن كان ذلك في جانب الخوف، تشوش الأمر بسببه على ضعفاء المسلمين، ووقعوا عنده في الحيرة والاضطراب، فكانت تلك الإرجافات سببًا للفتنة من هذا الوجه.
والثالث: أن الإرجاف سبب لتوفير الدواعي على البحث الشديد والاستقصاء التام؛ وذلك سبب لظهور الأسرار، وذلك مما لا يوافق مصلحة المدينة.
والرابع: أن العداوة الشديدة كانت قائمة بين المسلمين والكفار، فكل ما كان أمنًا لأحد الفريقين كان خوفًا للفريق الثاني، فإن وقع خبر الأمن للمسلمين وحصول العسكر وآلات الحرب لهم، أرجف المنافقون بذلك، فوصل الخبر في أسرع مدة إلى الكفار؛ فأخذوا في التحصن من المسلمين، وفي الاحتراز عن استيلائهم عليهم، وإن وقع خبر الخوف للمسلمين بالغوا في ذلك وزادوا فيه، وألقوا الرعب في قلوب الضعفة والمساكين.
فظهر من هذا أن ذلك الإرجاف كان منشئًا للفتن والآفات من كل الوجوه، ولما كان الأمر كذلك ذم الله تعالى تلك الإذاعة وذلك التشهير، ومنعهم منه(2).
ولذلك حذر الله سبحانه وتعالى من الإنصات لهذا الإرجاف؛ لأن الإرجاف والتعويق والتثبيط له أثر خطير على المسلمين، يقول تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
فلا يستصحب أمير الجيش معه مخذلًا، ولا مرجفًا، ولا جاسوسًا، ولا من يوِقع العداوة بين المسلمين، ويسعى بالفساد، لقوله تعالى: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ...} [التوبة:46-47]، وإن خرج هؤلاء فلا يسهم لهم ولا يرضخ، وإِن أظهروا عون المسلمين(3).
أشكال الإرجاف:
كما أن للسرطان أشكالًا، كذلك للإرجاف أشكال، ويتشكل الإرجاف على ثلاثة أشكال، وهي:
1- الأخبار الكاذبة التي لا أساس لها من الصحة، والتي يفتريها أعداء الإسلام ومروِّجو الإشاعات والأكاذيب، افتراءً على الإسلام وأهله.
2-الأخبار المشكِّكة، التي أصلها صحيح وفروعها لا أساس لها من الصحة، وهي عناوين صحيحة فقط، والمضامين كاذبة، وكالعادة فالناس يحفظُون العناوين، وينسَوْن المضامين.
3- الأخبار السيئة التي أصلها وفرعها صحيح؛ كالأخبار والعيوب التي يجب أن تستر، فيفشيها ويضخمها أعداء الدين ومشعلو نار الفتنة، ومنها أخبار الفتن والشر.
أسباب الإرجاف ودواعيه:
أولًا: اتباع الهوى:
والمقصود بالهوى هوى النفس الأَمَّارة بالسوء، إلا ما رحم ربي، فصاحب الهوى يعمل على نشر ما يوافق هَوَى نفسِه، ولو كان على حساب إلحاق الضرر بغيره، فهو لا يهمه إلا مصلحة نفسه فقط، وإشباع غريزته السيئة، ولا يهمه ما يحصل بعد ذلك من خطر على البشر، ولهذا أنكر الله جل وعلا على مَن هذا صنيعه، فقال تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، وقال جل وعلا: {وَلَا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللهِ} [ص:26].
فمَن يعمل على نشر الشائعة دون النظر في العواقب إنما يعمل ذلك لموافقة هوى نفسه، ولا يخفى علينا خبر هوى النفس الأَمَّارة بالسوء.
ثانيًا: الجهل:
ونعني الجهل بعواقب الأمور، فمن أراد أن يقدم على عمل لا بد أن يكون عنده بُعْدُ نظرٍ؛ ليعلم ما يمكن أن يُؤدِّي إليه هذا العمل من المفاسد؛ إذ لا يليق به أن يقتصر على فهمه القاصر، فقد يظن الإنسان أن ما ينشره من الأكاذيب والأقاويل حقائق مُسَلَّمة لا تقبل الجدل، لكن في الحقيقة هي أكاذيب مُلَفَّقة.
إن أولئك الذين يطلقون الشائعات، على سبيل المزاح والدعابة، لا تلبس شائعاتهم أن تتلقفها الآذان الصاغية، المحبة للفساد والإفساد بين الناس، ثم سرعان ما تنتشر انتشار النار في الهشيم، تسابق الريح من هنا وهناك حتى تعم الآفاق، ومَن كانت هذه حاله، وهذه مهنته، ولا يتمعر وجهه من الخوض في الباطل يكون من الذين خلعوا ربقة الحياء من أعناقهم؛ لأن كل همه إثارة المشاكل، وخلق القلاقل بين الناس.
ثالثًا: النفاق:
إن النفاق سبب من أسباب الإرجاف، قال جل وعلا في الآية: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلًا} [الأحزاب:60].
والنفاق مرض القلب، وهو سبب الويلات والنكبات، فما من فتنة إلا وكان للمنافقين يد فيها، وما حادثة الإفك من ذلك ببعيد، وهي خير شاهد على ذلك، وقد وصف الله المنافقين بالعداوة للمؤمنين، ومن يرد إلحاق الأذى ونشر الفوضى فهو عدو لله ولرسوله وللمؤمنين، كما قال جل وعلا عن حالهم: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]، فهم أهل إرجاف وكذب وبهتان، يُخْفُون ما لا يُبْدُون، والحقيقة أن هذه الشائعات المغرضة إنما تصدر ممن لا خلاق له.
رابعًا: الفراغ:
إنَّ الفراغ القاتل يؤدي، بلا شك، إلى ترويج الشائعات بطرق ووسائل مختلفة، ويكون ذلك بغرض التسلية والتهكم، ولا شك أن هذا سوء استخدام للفراغ الذي هو نعمة من الله جل وعلا، ومِنَّة مَنَّ اللهُ بها على الإنسان، وكما جاء في الحديث الشريف، الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ»(4).
ولا يخفى علينا أن تجريح الآخرين ونشر معايبهم من الغيبة المحرمة؛ لأن الغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره، فمن ينقل هذه الأقاويل الملفقة عن طريق تلك الوسائل، ويذكر معايب أخيه فهذا من الغيبة المحرمة، والله جل وعلا يقول: {وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا} [الحجرات:12]، ويزداد خطرها وإثمها إذا تحولت هذه الغيبة إلى شائعة، وانتشرت بين الناس على وجه التشهير والفضيحة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
خامسًا: الرغبة في حب الظهور:
إن حب الظهور مرض نفسي، وهو من الحيل العقلية التي يلجأ إليها ضعاف النفوس؛ من أجل إبراز أنفسهم على حساب الآخرين، يعني يعمل الواحد منهم على إبراز نفسه بنشر هذه الشائعات، وإن كان فيها ضرر على غيره، نتيجة لِمَا يعانيه من الفشل في حياته العامة، مُعْتَقِدًا أن ذلك يُعوِّض ما يشعر به من نقص، ولا شك أن هذا اعتقاد غير صحيح، ومسلك باطل، فرحم الله امْرَءًا عرَف قَدْر نفسه.
سادسًا: الشعور بالكراهية للآخرين:
إن الشعور بالكراهية للآخرين، وخاصة مَن لهم نفوذ ومكانة في المجتمع، سبب في زرع الشائعات، فيعمل مُرَوِّج الشائعة على نشرها، من باب الكراهية والبغضاء لذلك الإنسان ذي النفوذ؛ حتى يسيء إلى سمعته بين الناس، وذلك لِمَا يَرَى عليه من نِعَم الله، من المكانة والمنزلة، وهذا يعد من باب الحسد على هذه النعمة، فيأخذ في ترويج الشائعات الكاذبات عنه؛ حتى يسيء إلى سمعته، ويكون هذا أحيانًا من باب الانتقام لنفسه بإلحاق الضرر بأخيه.
سابعًا: الكذب:
وفي الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بئس مطية الرجل زعموا»(5) فـ(زعموا، وقالوا، وقيل) كل هذه أمور لا تصلح أن تكون مصدرًا لخبر، ولهذا توقف العلماء في بعض الأحاديث التي جاء فيها: يُروى ويُذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع»(6)، فلعله إذا حدث ببعض الأمور أنها حدثت أن يكون كذبًا؛ فينسب الكذب إليه وهو لم يكذب، لكن المصادر التي نقل عنها ليست مصادر صدق وإتقان.
فالمرجفون في الأمة هم الذين لا يرتاحون إلا بنشر خبر سيئ يقولونه، أو أنباء سيئة يشيعونها، وينشرونها، ويذيعونها، ويبدءون فيها ويعيدون رجاء أن يضعف كيان الأمة، فالمنافقون في عهد رسول الله أخذوا من قضية الإفك راحة لنفوسهم، وجعلوا يتحدثون بها في مجالسهم لينفسوا بها عما في نفوسهم من حقد، ولكن الله جل وعلا أكذب ظنهم، وأنزل آيات بينات في براءة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قال الله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]، وقال تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ} [النور:15].