logo

آداب التعارف والتآلف


بتاريخ : الأحد ، 14 صفر ، 1441 الموافق 13 أكتوبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
آداب التعارف والتآلف

إن الشريعة الإسلامية انطلاقًا من شموليتها واستيعابها لكل الأمور؛ قد عالجت في طياتها قضايا الفرد والمجتمع دون تفريط ولا إفراط، وسبقت بذلك النظريات العلمية المعاصرة؛ التي اهتمت بدراسة الاجتماع البشري وظواهره، والمشاكل التي تواجه المجتمعات وسبل معالجتها.

لقد كانت المقاصد الاجتماعية حاضرة في توجيهات الوحي وكلياته العامة، بالرغم من أن علماء المسلمين قد تعاملوا مع النصوص من حيث كونها موجهة للأفراد، ونادرًا ما خوطبت جماعة المسلمين بتكليف عام.

والتعارف والتآلف والتعاون والتكاتف من الفرائض المجتمعية التي يقتضيها التكافل بين المسلمين وجوبًا، ومسئولية تطبيق هذه الفرائض تقع على الأمراء والعلماء في إلزام الشعوب الإسلامية بالتآخي والاتحاد، وتحكيم كتاب الله فيهم.

فمن عجائب المعجزات في القرآن الكريم نظمًا وحكمًا وترتيبًا أن المتدبر بوعي وحكمة يفقه الحلول لكل القضايا من القرآن؛ خاصة في وجوه التناسب بين موضوعات القرآن في استخدام المصطلحات؛ مثل وجه التناسب بين التقوى والإصلاح، في قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال:1]، تساءل الصحابة الذين شاركوا في غزوة بدر عن تقسيم الغنائم في قضية الحقوق المالية وهو جانب من مجالات الاقتصاد عمومًا.

عن أبي أمامة الباهلي قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى الرسول، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بواء، يقول: على السواء، فكان ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وصلاح ذات البين (1)، أي كيف يُقسَّم، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فلو أن المسلمين اتقوا الله وأصلحوا ذات بينهم لفتحت عليهم البركات من السماء والأرض، ولكن تنازعوا واختلفوا ولم يتعارفوا ولم يتآلفوا.

وانظر وتدبر وجه التناسب بين التقوى والتعارف في آية الحجرات: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وقَبَائِلَ لِتَعَارَفوا إِنَّ أَكْرَمَكمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، لو كان المؤمنون متقين لتعارفوا، ولو تعارفوا لكانوا مُكَرَّمين في الدنيا والآخرة.

مفهوم التعارف:

في قوله تعالى: {لِتَعارَفُوا} لِيَعْرِف بَعْضكُمْ بَعْضًا على منطق الإنسانية وعلى فهم تاريخي كلكم لآدم، وعلى فهم جغرافي أين تسكن على أرض الله كسائر الناس، فتعارفوا على أنكم من نفس واحدة وأنتم إذن إخوة أشقاء من أب وأم، فلم تتنازعون وتتفرقون وتتقاتلون؟ فالله خلقكم من ذكر وأنثى لتتعارفوا على نسبكم الأصلي أنتم من آدم، لا على نسبكم القريب منكم، كيف تمسكتم بالفرع ونسيتم الأصل.

فالله لم يخلقكم من ذكر وأنثى لتتفاخروا بنسبكم القريب منكم، وبجهتكم من الأرض على جهة أخرى.

فكلمة الناس تشمل كل بني الإنسان، وما في مضمون النداء من إنذار وتبشير وبيان للحقائق الوجودية والكونية، والأدلة والبراهين أمور عامة لَا تختص بقبيل دون قبيل، ولا بقوم دون قوم.

فالقرآن يثبت أن الذكر والأنثى من طبيعة واحدة، ويثبت في مضمونه الصلة الرحيمة التي تربط الناس جميعًا، وما ينبني عليها من تعاطف وتواد وتراحم، والنص الآخر يبين وجوب التعارف الذي هو الطريق للتراحم والتواد، فهنا بيان الغاية، وهنالك بيان طريقها.

قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].

نادى الله سبحانه وتعالى الإنسانية، ذلك النداء الخالد، ونبههم سبحانه وتعالى إلى الوحدة في أمرين:

أولهما: وحدة الربوبية، فإن ربكم واحد، إذ قال سبحانه وتعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُم} الذي هو رب الجميع، رب الأبيض والأسود والعربي والأعجمي، والعالم والجاهل، فصلة الجميع به واحدة، وهي صلة الربوبية، وإن هذه الصلة توجب أن يشعر الجميع بأنه لَا فضل لجنس على جنس، ولا للون على لون إلا بمقدار الاتصال الروحي بخالق الخلق، وذلك بالتقوى، فهذه الصلة مقوية للأمر بالتقوى، وأنها مناط التفضيل، وهي سبيل قوة الصلة الرابطة.

والثاني: وحدة التكوين والإنسان، فالكل ينتهي إلى نفس واحدة هي الجنس العام الجامع، مهما يَعْلُ ابن آدم أو ينخفض فإلى هذه النفس ينتمي، وبهذه الأخوة العامة يرتبط.

وما أجود ما قاله الزمخشري في هذا المقام، فقد قال جار الله رضي الله عنه: أراد بالتقوى تقوى خاصة، وهي أن يتقوه فيما يتصل بحفظ الحقوق بينهم، فلا يقطعوا ما يجب عليهم وصله، فقيل اتقوا ربكم الذي وصل بينكم، حيث جعلكم صنوانًا مفرغة من أرومة واحدة فيما يجب على بعضكم لبعض، فحافظوا عليه ولا تغفلوا عنه، وهذا المعنى مطابق لمعاني السورة.

والنفس الواحدة هي آدم أبو الأناسي في هذا الوجود، والمعنى على هذا الكلام يتطابق مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم لآدم وآدم من تراب»، وهذا نظر الأكثرين من المتقدمين، وهو الذي يتلاقى مع قوله بعد ذلك: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} (2).

قال شيخ زاده: والمعنى إن الحكمة التي من أجلها جعلكم على شعوب وقبائل هي أن يعرف بعضكم نسب بعض ولا ينسبه إلى غير آبائه، لا أن نتفاخر بالآباء والأجداد، والنسبُ وِإن كان يُعتبر عرفًا وشرعًا حتى لا تُزوج الشريفة بالنبطيّ؛ إلا أنه لا عبرة به عند ظهور ما هو أعظم قدرًا منه وأعز، وهو الإيمان والتقوى، كما لا تظهر الكواكب عند طلوع الشمس {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} أي إنما يتفاضل الناس بالتقوى لا بالأحساب والأنساب، فمن أراد شرفًا في الدنيا ومنزلةٌ في الآخرة فليتق الله (3).

فعلى هذا يجب أن تكون كلمة المسلمين واحدة، فجمع الله شملهم، ووحد كلمتهم، وقضى على الفرقة التي كانت بينهم، وأصبحوا إخوة متحابين، ورجالًا مؤمنين؛ كلمتهم واحدة، ووجهتهم واحدة، تحت راية الإسلام القوية التي لا تفضل أحدًا على أحد إلا بتقوى الله عز وجل، فقد رفع الإسلام أقوامًا كانوا في ذلة ومهانة، ووضع أقوامًا كانوا في أعلى قمة المجد ومنتهى السؤدد، فلما لم يؤمنوا بالإسلام وضعهم الله، فكانوا في أسفل سافلين، ورحم الله القائل:

لقد رفع الإسلام سلمان فارس      كما وضع الشرك الشقي أبا لهب

فإذا اتحدت قلوب الأمة على الحق، وتألفت نفوسها على الخير، وطهرت مجتمعها من الرذيلة، وتعاون أفرادها وجماعاتها على البر والتقوى؛ نالوا الخير العظيم والسعادة الأبدية، وفازوا بالرقي المحمود، وشيدوا بناء مستقبلهم على أساس من الدين ونور من رب العالمين، أما إذا سادت دعوة القومية والعصبية والشعوبية والعنصرية، وحصل الشقاق ووجد التفرقة والتناحر؛ كانت المصيبة العظمى والطامة الكبرى التي تهدم بنيان الأمم المشيد، وتقضي على حضارتها، وتحكم على مستقبلها بالذل والتقهقر، وتنذرها بوخامة العاقبة وسوء المصير، فمن أجل ذلك نهى الله الأمة الإسلامية عن التناحر والاختلاف، وحذرها من التفرقة والانحراف، وتوعدها بالفشل والإتلاف، فقال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] (4).

الهدف من التعارف:

1- الاستئناس؛ فعندما يلتقي المؤمن أو المؤمنة بمن يعرفه حق المعرفة بأنه مؤمن يبادله المودة والرحمة والأخوة الإيمانية؛ فإنه يستأنس به ويأوي إلى جواره، آمنًا مطمئنًا، وإذا كان لا يعرف ولو أنه مؤمن يظل في ريب منه خاصة في أزمنة الفتن والحروب وفي حالات السفر والغربة.

2- الثقة؛ وما يدريك ما قيمة الثقة في بناء العلاقات، ثم ما أجل هذه القيمة أيضا!! وتفتقد الثقة بين المؤمنين عندما يجهل بعضهم بعضًا.

3- سهولة التواصل، عندما يتعارف المسلمون على الإيمان وتمتد بينهم روابط الاتصال يقوى اتحادهم وتتحسن عشرتهم وتتحصن أخوتهم.

4- التكافل الاجتماعي، والتعاون بكل أنواعه أخلاقيًا ودفاعيًا واقتصاديًا وعلميًا وسياسيًا.

5- التراحم، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71]، وضد كل امرئ ما كان يجهله.. والجاهلون لأهل العلم أعداء.

6- التعارف بين المؤمنين يغلق مداخل الشيطان، فلا يتسلل الشيطان إلى صفوف المسلمين ويشتت شملهم إلا عندما تفتر روابط التعارف بينهم، وتضعف لقاءاتهم، ويجهل بعضهم بعضًا، حينها ينتشر سوء الظن بينهم، والحسد والغيرة، ويتحول إلى حقد ثم إلى حرب بينهم، ومدير كل هذه العمليات (ظن السوء، والسخرية، والحسد، والغيرة، والعجب، والاستكبار) من تسيير الشيطان لعنه الله.

ومن التعارف ما يتعارف عليه الناس من آداب وعادات وتقارب في السلوكات، وكلما تعارفوا تقاربوا، وكلما تقاربوا تحابوا وتناسبوا؛ خصوصًا نحن معشر المؤمنين، إن إلهنا واحد، وإن أبانا واحد، وأمَّنا واحدة، ليس هناك فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لهندي على صيني، ولا لأوروبي على إفريقي، ولا لشرقي على غربي، ولا لشمالي على جنوبي إلا بالتقوى، والإنسان ينسب لدينه ويعرف بسعيه، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.

لا تقل أصْلي وفصلي أبدًا       إنما أصل الفتى ما قد حصل

إن الإيمان أزال الفوارق العنصرية والعرقية، والأفكار العصبية الجاهلية، أزالها من نفوس العاقلين من العجم والعرب والهند وغيرهم، وجعل الجميع يرجع إلى مبدأ أساس يجمع كل الناس؛ وهما الأب آدم والأم حواء، فردهم إلى الأصل الذي هو النسب الحقيقي، فَحَرُم الكبر والاستهزاء والسخرية كما جاء في السورة الحجرات.

فالناس من جهة التمثيل أكفاء    أبوهم آدم والأم حواء

فإن يكن لهم من أصلهم نسب    يفاخرون به فالطين والماء.

إن الهوان الذي يعانيه المسلمون سببه التباعد والتناكر والتجافي عن بعضهم، وما يزالون يزدادون شقاقًا وفراقًا (5).

التعارف في الإسلام من المقاصد الكلية الجامعة التي دعا لها القرآن الكريم وحثت عليها السنة النبوية؛ لما لها من أثر في تقوية النسيج المجتمعي، وزيادة الألفة بين أفراد المجتمع، واختلال هذا المقصد أو غيابه يؤدي بالضرورة إلى الفرقة والتناكر والتباغض، وبذلك إلى التناحر والتقاتل.

ونجد أن الله حدد مقصد الخلق في التعارف، قال تعالى: {يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13].

قال سيد قطب: يا أيها الناس، والذي يناديكم هذا النداء هو الذي خلقكم من ذكر وأنثى، وهو يطلعكم على الغاية من جعلكم شعوبًا وقبائل، إنها ليست التناحر والخصام؛ إنما هي التعارف والوئام، فأما اختلاف الألسنة والألوان، واختلاف الطباع والأخلاق، واختلاف المواهب والاستعدادات، فتنوع لا يقتضي النزاع والشقاق، بل يقتضي التعاون للنهوض بجميع التكاليف والوفاء بجميع الحاجات، وليس للون والجنس واللغة والوطن وسائر هذه المعاني من حساب في ميزان الله، إنما هنالك ميزان واحد تتحدد به القيم، ويعرف به فضل الناس: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ} (6).

وفي الحديث الشريف: «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (7)، بل وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبرنا أن من علامات الساعة فشو التناكر بين الناس، والتناكر: التجاهل وهو عكس التعارف، فقد سأل النبي صل الله عليه وسلم عن الساعة فذكر من أشراطها: «ويُلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد أن يعرف أحدًا» (8).

من آداب التعارف:

التعاون: قال الله تعالى: {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ} [المائدة: 2]، وإن كل جماعة نظمها الإسلام تقوم على أساس من التعاون، فالتعاون في الأسرة هو قوامها، فالمرأة هي السكن: وهو الحمى، والآباء والأبناء يتعاونون في شدائد الحياة، ويشتركون في سرائها.

وإذا تجاوزنا الأسرة إلى المجتمع الصغير المكون من الجيران وأهل الحي وأهل القرية؛ وجدنا التعاون قوام الترابط بينهم، وقد أوصى صلى الله تعالى عليه وسلم بالجيران، وأمر القرآن الكريم بالإحسان إلى الجار ذي القربى، والجار الجنب، والجار في العمل، والجار في السفر.

وإذا تجاوزنا المجتمع الصغير من الجيران وأهل الحي أو القرية واتجهنا إلى مجتمع الأمة أو الشعب، وجدنا التعاون دعامة بنيانه، تتعاون كل طوائفها في جهودها المختلفة في رفع شأنها، وكأن تلك الجهود أنهار مختلفة تلتقي عند مصب واحد، لا يذهب فيه الماء هدرا، بل ينتج الخصب وأطيب الثمار.

فكل طائفة قوة في ذاتها، فمهرة الصناع قوة، ومهرة الزراع قوة متعاونة، والعلماء يمدون الجميع بالمعارف، فتعمل كل القوى متعاونة متضافرة (9).

العدالة: التي قررها الإسلام في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 135]، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8]، فهذا المبدأ مبدأ شرعي عظيم، به تتحقق مصالح الخلق وتنتظم الحياة، وتنفيذ هذا المبدأ واجب، ولكن طرائق تنظيمات الجهات التي تقوم على تحقيق العدل قد تختلف من زمان إلى آخر، ومن مكان إلى غيره، وفي ذلك متسع، وعلى المجتهدين أن يبذلوا ما في وسعهم للوصول إلى تحقيق العدل بين الناس وفق شريعة الله وعلى هديه.

- المساواة: وهي مبدأ من المبادئ الإسلامية التي قررها الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة، وكانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصدق تطبيق لهذا المبدأ العظيم، فإن الحاكم هو الله في كل شأن من شئون الحياة، والخلق كله أمام حكم الله سواء، لا فرق بين كبير وصغير ولا بين رئيس ومرءوس، ولا بين قريب أو بعيد، فالكل أمام الشريعة سواء، الحكم في كل شأن من شئونهم لله وحده، والعلماء ورثة الأنبياء وهم أولى الناس بالخشية من الله وإنفاذ حكمه على الوجه الذي يرضيه ومجالات هذه المساواة وطريقة تحقيقها، وإن اختلف الناس فيها فإنه مبدأ صالح لكل زمان ومكان ويتسع لكل تطور وتقدم ويواجه به كل الظروف وتحقيقه هدف من أهداف الشريعة.

- منع الضرر: في جميع أشكاله وصوره عن الناس، وهذا الضرر يتصور وجوده في كل باب من أبواب المعاملات والتعامل بين الناس، وهي قاعدة عظيمة النفع وكبيرة الفائدة، فلا يجوز للإنسان أن يلحق الضرر بنفسه ولا بغيره، كما لا يجوز أن يقابل الضرر بفعل ما يضر بغيره، وقد جاء منع الضرر في أبواب متعددة من الدين؛ فجاء في باب الرضاعة كقوله تعالى: {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَهُ} [البقرة: 233]، وجاء قوله تعالى بعد ذكر الأنصباء في المواريث {غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء: 12]، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» (10)، وقد رتب الفقهاء على هذه القاعدة مسائل متعددة وأحكامًا كثيرة.

وهذه الأحكام إن هي إلا أمثلة موجزة للأحكام الشرعية التي جاءت على شكل قواعد ومبادئ عامة، أوردناها للدلالة على نوع الأحكام العامة كما أوردنا مثلها من الأحكام الخاصة، ولا أعتقد أن منصفًا يعرف الشريعة الإسلامية ومراميها وأحكامها ثم يبيح لنفسه أن يقول بعدم صلاحيتها لكل زمان ومكان، أو أن يصيخ لسماع أقوال المستشرقين الحاقدين الذين يريدون عزل هذا الدين عن الحياة، وفصل هذه الأمة عن تاريخها وعقيدتها ومعقد عزها ومصدر أمنها وسعادتها (11).

ثم إن للتعارف ثمرات عظيمة منها:

التآلف والتحاب:

فالتآلف والتحاب ثمرتين مباشرتين من ثمار التعارف ففي الحديث المذكور آنفا عن أبي هريرة رضي الله عن قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» (12)، وفي حديث آخر عن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صل عليه وسلم: «المؤمن مألفة ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» (13).

التعاون والتكامل:

مما يروم مقصد التعارف تحقيق التعاون والتكامل، فبعد التعارف يتكامل الناس ويتعاونون من أجل تحقيق أهدافهم المشتركة إن على مستوى الأفراد كآحاد أو على مستوى الدولة والمجتمع تحقيقًا للمصلحة العامة.

والشريعة الإسلامية لأجل تحقيق مقصد التعارف وتفعيله داخل النسيج المجتمعي قد وضعت عدة آليات منها:

إفشاء السلام:

التحية باب التعارف ومدخله الأمثل، ولا تحية أروع من السلام، وقد حث الإسلام على إفشاء السلام وإشاعته بين الناس.

فقد كان أول دعوة أشاعها النبي صل الله عليه وسلم بعد هجرته إلى المدينة هي إفشاء السلام فعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: لما قدم رسول الله صل الله عليه وسلم المدينة استشرفه الناس فقالو: قدم رسول الله، قال: فخرجت فيمن خرج فلما رأيت وجهه عرفت أنّ وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما سمعته يقول: «أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام» (14).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (15).

صلة الأرحام والقرابة:

إن ذوي القربى والرحم هم أولى الناس بتعزيز روابط التعارف بهم، فإنهم أولى الناس وأقربهم والتعرف إليهم والتزلف لهم من آكد الواجبات خاصة الوالدين لما لهم من حقوق حتى ولو كان على غير دين الإسلام، قال الله عز وجل: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

ففي الحديث عن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: «تعلّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، منسأة في الأثر» (16).

حسن الجوار:

من الوسائل المساعدة على تفعيل مقصد التعارف بين أفراد المجتمع حسن الجوار، فقد حرص الإسلام أشد الحرص على تعظيم شأن الجار وتوقير، فنظرًا لكثرة الاحتكاك مع الجيران والتعامل معهم أوصى الله تعالى خيرًا بجميع أنواع الجيران، ذوي القربى منهم والغريب القريب والبعيد، المسلم وغير المسلم، قال تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36].

وفي الحديث: «المؤمن من أمنه الناس، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هاجر السوء، والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبد لا يأمن جاره بوائقه» (17).

كرست نصوص الشريعة الإسلامية لبناء الإنسان، بناء يتسامى به إلى بلوغ أرقى صنوف الفضيلة، فنهاه الله عن تعاطي جميع أوبئة الرذيلة التي بلغت السخافات بالمتحللين من القيم الدينية إلى ربطها بحقوق الإنسان، الذي لا يرقى إلى ما يريده له الخالق، إلا إذا تحكمت فيه تعاليم الدين، وطهرته من الخبائث التي تنحط به إلى مقاسمة الحيوانات الغرائز التي ميزه الله ليتجنبها بنور العقل، فيهتدي به إلى سواء السبيل، إلى الإسلام الذي يهذب نفسه، فيستقيم تفكيره، ثم يحسن نطقه ويسير على المحجة البيضاء، العدل شعاره، والدين دثاره، والتسامح ميزته، والتقوى محجته، لا يقرب الظلم ولا الغش ولا الغدر ولا الخداع.

فيحب للآخرين ما يحب لنفسه، لا يملكه عجب عن تطبيق أحكام الله على ذاته، ولا يقعسه ضعف عن القيام بواجبه، فلا يستعبد الناس لأنهم ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، كما قال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، فالإنسان جعله الله حاملًا لرسالة الهداية، فلا بد أن يتحلى بتعاليمها، فكما سوت الأقدار بين الأفراد في الخلقة، يبقى المبدأ في الإسلام هو مساواتهم في الحقوق والواجبات، ولا يكون التفاضل بينهم إلا بخصال خارجة عن تكوينهم الجسمي، بل يتفاضلون في المؤهلات، وتحصيل العلم وتدبير شؤون الحياة، والإخلاص لتعاليم الخالق جل جلاله.

ولهذا فإن المبادئ العامة الإسلامية أتت مستشرفة كل التطلعات التي يمكن أن يتصورها أو يصل إليها الإنسان المهذب، المتحلي بأخلاق الدين، ومن هنا ينبغي القول بأن نظريات الإسلام لا يمكن أن يحكم عليها من خلال ضعف المسلمين عن العمل بها وتقديم إيجابياتها لغيرهم من أبناء البشرية، ولا يمكنهم أن يرقوا إلى بلوغ أهدافها وما تؤسسه من قيم مثلى، ما داموا يتحسسون شرائع غير المسلمين ليستنبطوا منها نصوصًا تطبق عليهم.

ولعل هذا من أكبر الأسباب التي أدت إلى ضعفهم، وغياب فكرهم عن ساحة الخلق والإبداع، ولو أنهم ملكوا الشجاعة التي تمكنهم من استخراج الأحكام على كل المستجدات من صلب نظريات الشريعة، لكانت اليوم جميع المبادئ والأعراف والعادات التي تعتبر من أساسيات حقوق الإنسان، استخرجت كلها من توجيهات الشريعة الإسلامية، التي لن تجد الإنسانية أعدل ولا أرحم منها، يجسد ذلك قول الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:90 - 91] (18).

***

___________

(1) تفسير القرطبي (7/ 361).

(2) زهرة التفاسير (3/ 1575).

(3) صفوة التفاسير (3/ 219).

(4) توجيهات إسلامية (ص: 11)، بترقيم الشاملة آليًا).

(5) فريضــــة الـتـعــــارف بيـن الـمؤمـنـيـن/ موقع البصائر.

(6) في ظلال القرآن (6/ 3348).

(7) أخرجه مسلم (2638).

(8) أخرجه أحمد (23306).

(9) خاتم النبيين صلى الله عليه وآله وسلم (2/ 484).

(10) أخرجه ابن ماجه (2340).

(11) مجلة البحوث الإسلامية (9/ 278).

(12) تقدم تخريجه.

(13) أخرجه أحمد (22840).

(14) أخرجه الترمذي (1855).

(15) أخرجه مسلم (54).

(16) أخرجه الترمذي (1979).

(17) أخرجه ابن حبان (510).

(18) مجلة مجمع الفقه الإسلامي (13/ 198)، بترقيم الشاملة آليًا.