logo

البعد التربوي في مجال العمل الجهادي


بتاريخ : الأربعاء ، 28 جمادى الآخر ، 1445 الموافق 10 يناير 2024
بقلم : تيار الاصلاح
البعد التربوي في مجال العمل الجهادي

مما لا شك فيه أن الجهاد في سبيل الله تعالى ضرب مهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ إذ لا بد منه للأمة التي تدعو إلى الله عز وجل وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ وذلك في مرحلة من مراحلها؛ وذلك إما بجهاد الدفع عندما تبتلى الأمة بمن يفتنها في دينها أو دمائها أو أعراضها فيفرض عليها المدافعة فرضًا حسب الإمكان وإلا الفناء والهلاك.

أو بجهاد الطلب ونشر دين الله تعالى عندما تكون قادرة على ذلك؛ إذ إن من سنن الله تعالى أن يجد الدعاة أنفسهم وهم يتقدمون بالدعوة إلى الناس أن الطواغيت يحولون بينهم وبين وصول الحق إلى الناس وأن يكون الدين كله لله، فيشرع حينئذ جهاد المفسدين الصادين عن سبيل الله تعالى حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله تعالى، وهذا فرع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي تقوم من أجله الدعوة وتبذل فيه التضحيات في سبيل الله تعالى.

وإن الأمة الإسلامية اليوم تمر بظروف عصيبة تكالب فيها الأعداء وتنادوا من كل صوب، وتداعوا على حرب الإسلام وأهله الصادقين؛ وذلك في حملة شرسة وحقد دفين يريدون من ورائه مسخ الإسلام في قلوب أهله، وجر المسلمين إلى التبعية للغرب الكافر، وساعدهم في ذلك المنافقون من بني جلدتنا؛ فجاءت الحرب شاملة من خارج الأمة ومن داخلها: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].

إن جدية النصوص القرآنية الواردة في الجهاد وجدية الأحاديث النبوية التي تحض عليه وجدية الوقائع الجهادية في صدر الإسلام، وعلى مدى طويل من تاريخه.. إن هذه الجدية الواضحة تمنع أن يجول في النفس ذلك التفسير الذي يحاوله المهزومون أمام ضغط الواقع الحاضر وأمام الهجوم الاستشراقي الماكر على الجهاد الإسلامي.

ومن ذا الذي يسمع قول الله سبحانه في هذا الشأن وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ويتابع وقائع الجهاد الإسلامي ثم يظنه شأنًا عارضًا مقيدًا بملابسات تذهب وتجيء ويقف عند حدود الدفاع لتأمين الحدود؟!

لقد بين الله للمؤمنين في أول ما نزل من الآيات التي أذن لهم فيها بالقتال أن الشأن الدائم الأصيل في طبيعة هذه الحياة الدنيا أن يدفع الناس بعضهم ببعض، لدفع الفساد عن الأرض: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا} [الحج: 39- 40]، وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة، الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض، وأنه متى قام الإسلام بإعلانه العام لإقامة ربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية للعباد، رماه المغتصبون لسلطان الله في الأرض ولم يسالموه قط وانطلق هو كذلك يدمر عليهم ليخرج الناس من سلطانهم ويدفع عن «الإنسان» في «الأرض» ذلك السلطان الغاصب، حال دائمة لا يكف معها الانطلاق الجهادي التحريري حتى يكون الدين كله لله.                      

إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة، كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة.

والذي بعث الجماعة المسلمة في المدينة بعد الفترة الأولى للانطلاق لم يكن مجرد تأمين المدينة، هذا هدف أولي لا بد منه، ولكنه ليس الهدف الأخير، إنه هدف يضمن وسيلة الانطلاق ويؤمن قاعدة الانطلاق.

الانطلاق لتحرير «الإنسان»، ولإزالة العقبات التي تمنع «الإنسان» ذاته من الانطلاق، وكف أيدي المسلمين في مكة عن الجهاد بالسيف مفهوم، لأنه كان مكفولًا للدعوة في مكة حرية البلاغ.

كان صاحبها صلى الله عليه وسلم يملك بحماية سيوف بني هاشم، أن يصدع بالدعوة ويخاطب بها الآذان والعقول والقلوب ويواجه بها الأفراد، لم تكن هناك سلطة سياسية منظمة تمنعه من إبلاغ الدعوة، أو تمنع الأفراد من سماعه، فلا ضرورة- في هذه المرحلة- لاستخدام القوة، وذلك إلى أسباب أخرى لعلها كانت قائمة في هذه المرحلة (1).

وفي بيعة العقبة عن جابر بن عبد الله قال: فقمنا نبايعه، فأخذ بيده أسعد بن زرارة وهو أصغر السبعين إلا أنا، قال: رويدًا يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد المطي إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون عليها إذا مستكم، وعلى قتل خياركم ومفارقة العرب كافة، فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة، فذروه، فهو أعذر عند الله، قالوا: يا أسعد، أمط عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلها، قال: فقمنا إليه رجل رجل، فأخذ علينا شريطة العباس، وضمن على ذلك الجنة (2).

إنّ روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع، وتمشّت في كلّ كلمة قيلت، وبدا أنّ العواطف الفائرة ليست وحدها التي توجّه الحديث، أو تملي العهود، كلا، فإنّ حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقعة نظر إليها قبل المغانم الموهومة.

مغانم؟! أين موضوع المغانم في هذه البيعة؟! لقد قام الأمر كلّه على التجرّد المحض، والبذل الخالص (3).

ولقد ظل الأنصار على بيعتهم يدافعون عن الإسلام، ويحمون حوزته، يكثرون عند الفزع ويقلون عند الطمع، واستمروا في كفالة إخوانهم المهاجرين؛ بل وإيثارهم على أنفسهم، كل ذلك طمعًا في الشرط الذي بايعوه عليه؛ الجنة.

أما اليوم فإنك تجد أن كثيرًا من المسلمين، ممن ولدوا في الإسلام ونشئوا وتربوا، وقد يكون الواحد منهم ابن سبعين أو ثمانين سنة وهو لا يفقه من أمر الإسلام إلا القليل، ولا يملك من الاستعداد للتضحية في سبيل الإسلام إلا اليسير، وهنا ندرك الفرق الكبير بين الجيل الأول الذي ذاق مرارة الجاهلية وقاساها، ثم دخل في الإسلام عن طواعية واختيار وإصرار، وبين أجيال من ذراري المسلمين أخذت الإسلام بالوراثة، ولم تفقه من أمره شيئًا؛ ولذلك لم يكن لديها استعداد للتضحية في سبيل هذا الدين.

ربّوا النفوس على الجهاد فإنما          عزّت به أمم ودانت أربع

لن يُرجع الوطنَ السليبَ لأهله         إلا السـيوفُ المُشرعات القُطّع

إن جيلًا يفهم مبادئ الجهاد، ويعرف منْ يقاتل، ويدري كيف يقاتل، ويخلص لمن يقاتل في سبيله لهو جيل خليق بالنصر والعزة والتمكين {كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].

روى مسلم عن أنس أن فتى من أسلم قال: يا رسول الله، إني أريد الغزو وليس معي ما أتجهّز به، قال صلى الله عليه وسلم: «ائت فلانًا فإنه قد كان تجهز فمرض»، فأتاه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقرئك السلام ويقول لك: أعطني الذي تجهزّت به، فقال الرجل لزوجته يا فلانة: أعطيه الذي تجهزت به ولا تحبسي منه شيئًا، فو الله لا تحبسينه شيئًا فيبارَك لنا فيه (4).

عن عبد الرحمن بن عوف قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرت عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار -حديثة أسنانهما، تمنيت أن أكون بين أضلع منهما- فغمزني أحدهما فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مثلها، فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني، فابتدراه بسيفيهما، فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبراه فقال: «أيكما قتله؟»، قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال: «كلاكما قتله، سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح»، وكانا معاذ ابن عفراء، ومعاذ بن عمرو بن الجموح (5).

جيل بصره معلق بالسماء، يسعى دومًا لرضا الله والفوز بجنته، يتمثل في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: ١١١].

ولما كان جهاد أعداءِ الله في الخارج فرعًا على جهادِ العبد نفسه في ذات الله؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه» (6)، كان جهاد النفس مُقدَّمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلًا له؛ فإنه ما لم يجاهد نفسه أولًا لتفعل ما أمرت به، وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله، لم يمكنه جهاد عدوه في الخارج، فكيف يمكنه جهاد عدوه والانتصاف منه، وعدوه الذي بين جنبيه قاهر له، متسلط عليه، لم يجاهده، ولم يحاربه في الله، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوه، حتى يجاهد نفسه على الخروج.

فالجهاد أربع مراتب: جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.

فجهاد النفس أربع مراتب:

إحداها: أن يجاهدها على تعلم الهدى، ودين الحق الذي لا فلاح لها، ولا سعادة في معاشها ومعادها إلا به، ومتى فاتها عِمه، شقيت في الدَّارين.

الثانية: أن يُجاهدها على العمل به بعد علمه، وإلا فمجرد العلم بلا عمل إن لم يَضُرَّها لم ينفعْها·

الثالثة: أن يُجاهدها على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزل الله من الهُدى والبينات، ولا ينفعه علمُهُ، ولا يُنجِيه من عذاب الله.

الرابعة: أن يُجاهدها على الصبر على مشاقِّ الدعوة إلى الله، وأذى الخلق، ويتحمَّل ذلك كله لله· فإذا استكمل هذه المراتب الأربع، صار من الرَّبَّانِيينَ؛ فإن السلف مجمِعُونَ على أن العَالِمَ لا يستحقُّ أن يُسمى ربانيًا حتى يعرف الحقَّ، ويعمل به، ويُعَلِّمَه، فمن علم وعَمِلَ وعلَّمَ فذاك يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات.

أقسام الجهاد في سبيل الله:

ينقسم الجهاد في سبيل الله إلى قسمين: جهـاد الدفـع، وجهاد الطلب:

1- جهاد الدفع: وهو جهاد الصائل والمعتدي -سواءً كان فردًا أو طائفة- ومنعه من فتنة المسلمين في دينهم والاعتداء على الأنفس والأعراض أو الاستيلاء على بلاد المسلمين.

وهذا القسم من الجهاد فرض عين على كل مسلم مكلف قادر؛ وذلك عندما يهاجم الكفار المسلمين في عقر دارهم أو يحصل الاعتداء من الصائل على مال المسلم أو عرضه، أو نفسه، وقد يكون الصائل كافرًا أو محاربًا مسلمًا، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله، أو دون دمه، أو دون دينه فهو شهيد» (7).

وعن مدافعة الصائل يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وهذا الذي تسميه الفقهاء "الصائل" وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن، فإذا لم يندفع إلا بالقتال قوتل، وإن ترك القتال وأعطاهم شيئًا من المال جاز، وأما إذا كان مطلوبه الحرمة -مثل أن يطلب الزنا بمحارم الإنسان أو يطلب من المرأة، أو الصبي المملوك أو غيره الفجور به- فإنه يجب عليه أن يدفع عن نفسه بما يمكن، ولو بالقتال، ولا يجوز التمكين منه بحال؛ بخلاف المال فإنه يجوز التمكين منه؛ لأن بذل المال جائز، وبذل الفجور بالنفس أو بالحرمة غير جائز، وأما إذا كان مقصوده قتل الإنسان، جاز له الدفع عن نفسه.

وهل يجب عليه؟ على قولين للعلماء في مذهب أحمد وغيره، وهذا إذا كان للناس سلطان، فأما إذا كان -والعياذ بالله- فتنة، مثل أن يختلف سلطانان للمسلمين، ويقتتلان على الملك، فهل يجوز للإنسان، إذا دخل أحدهما بلد الآخر، وجرى السيف، أن يدفع عن نفسه في الفتنة، أو يستسلم فلا يقاتل فيها؟ على قولين لأهل العلم، في مذهب أحمد وغيره (8).

وقد عد شيخ الإسلام مدافعة الصائلين ومقاتلة المحاربين من المسلمين من أنواع الجهاد في سبيل الله عز وجل وذلك بقوله: لا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلًا على طلب المحاربين وإقامة الحد، وارتجاع أموال الناس منهم، ولا على طلب السارقين لا لنفسه ولا للجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله فيخرج فيه جند المسلمين كما يخرج في غيره من الغزوات التي تسمى (البيكار) وينفق على المجاهدين في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزوات (9).

ويفصل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أقسام الجهاد فيقول: فمن المعلوم أن المجاهد قد يقصد دفع العدو إذا كان المجاهد مطلوبًا والعدو طالبًا، وقد يقصد الظفر بالعدو ابتداء إذا كان طالباً والعدو مطلوبًا، وقد يقصد كلا الأمرين، والأقسام ثلاثة يؤمر المؤمن فيها بالجهاد.

وجهاد الدَّفع أصعب من جهاد الطلب؛ فإن جهاد الدفع يشبه باب دفع الصائل، ولهذا أُبيح للمظلوم أن يدفع عن نفسه، كما قال الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من قُتِل دون ماله؛ فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه؛ فهو شهيد» (10)؛ لأن دفع الصائل على الدين جهاد وقربة، ودفع الصائل على المال والنفس مباحٌ ورخصة؛ فإن قتل فيه فهو شهيد.

فقتال الدفع أوسع من قتال الطلب وأعمُّ وجوبًا، ولهذا يتعيَّن على كل أحد أن يقوم ويجاهد فيه: العبد بإذن سيده وبدون إذنه، والولد بدون إذن أبويه، والغريم بغير إذن غريمه؛ وهذا كجهاد المسلمين يوم أحد والخندق.

ولا يشترط في هذا النوع من الجهاد أن يكون العدو ضعفي المسلمين فما دون؛ فإنهم كانوا يوم أحد والخندق أضعاف المسلمين، فكان الجهاد واجبًا عليهم؛ لأنه حينئذ جهاد ضرورة ودفع، لا جهاد اختيار، ولهذا تُباح فيه صلاة الخوف بحسب الحال في هذا النوع، وهل تُباح في جهاد الطلب إذا خاف فوت العدو ولم يخف كرَّته؟ فيه قولان للعلماء هما روايتان عن الإمام أحمد.

ومعلوم أن الجهاد الذي يكون فيه الإنسان طالبًا مطلوبًا أوجب من هذا الجهاد الذي هو فيه طالب لا مطلوب، والنفوس فيه أرغب من الوجهين.

وأما جهاد الطلب الخالص؛ فلا يرغب فيه إلا أحد رَجُلين: إما عظيم الإيمان يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كلُّه لله، وإما راغبٌ في المغنم والسبي.

فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلًا، وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين، وأما الجهاد الذي يكون فيه طالبًا مطلوبًا؛ فهذا يقصده خيار الناس؛ لإعلاء كلمة الله ودينه، ويقصده أوساطهم للدفع ولمحبة الظَّفَر (11).

وقد جعل أهل العلم جهاد الدفع فرض عين على كل مسلم ذكر مكلف حتى يندفع العدو عن ديار المسلمين.

الغاية من الجهاد في الدنيا:

فهي نشر التوحيد وتعبيد الناس لربهم سبحانه، ورفع الفتنة والشرك عنهم؛ وذلك لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وحده.

عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر، أو أمير جائر» (12).

وجهاد الكفار والمنافقين بالحجة والبيان، وبالسيف والسنان واجب أيضًا، وهو فرض كفاية على جماعة المسلمين، يجزي فيه قيام بعضهم إذا تحقق المقصود، وطرد العدو، وتم دفعه عن بقية المسلمين وأموالهم وأعراضهم وبلادهم، فإن لم يتحقق ذلك كان فرض عين على كل واحد من القادرين على القتال (13).

الغاية من الجهاد في الآخرة:

فهي الفوز بمرضاة الله عز وجل وجنته، والنجاة من سخطه وعذابه.

والغاية من الجهاد في الدنيا إن هي في الحقيقة إلا وسيلة عظيمة لتحقيق الغاية العظمى في الآخرة؛ فعاد الأمر إلى غاية الغايات وهي رضوان الله وجنته.

ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مقصود الجهاد وغايته فيقول: والجهاد مقصوده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله؛ فمقصوده إقامة دين الله لا استيفاء الرجل حظَّه، ولهذا كان ما يصاب به المجاهد في نفسه وماله أجره فيه على الله؛ فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة (14).

وسواء كان الجهاد جهاد دفع أو جهاد طلب فإن المقصود من الجهادين واحد؛ فهو في جهاد الدفع لرفع الفتنة عن المسلمين المعتدى عليهم في ديارهم؛ لأن في استيلاء الكفار على ديار المسلمين تعريضًا للمسلمين للفتنة في دينهم وأعراضهم وأموالهم، وفيه علو لكلمة الكفر على كلمة التوحيد، إذًا فجهاد الدفع شرع حتى لا تكون فتنة على المسلمين فيكفروا بتسلط الكفار عليهم، وحتى لا تعلو شعائر الكفر في بلد كان يرفع فيه شعار التوحيد.

وأما جهاد الطلب فالأمر فيه واضح وجلي؛ حيث إن مقصود المسلمين في طلبهم للكفار وفتح ديارهم إنما هو لرفع الفتنة -وهي الشرك- عن الناس في بلدانهم وليكون الدين فيها لله عز وجل وليس للكافرين والمشركين والطواغيت الذين يستعبدون الناس ويظلمونهم ويدعونهم إلى عذاب النار.

2- جهاد الطلب: وهو طلب العدو الكافر والظفر به وبأرضه حتى تخضع البلاد والعباد للإسلام، ويقضى على الشرك، ويكون الدين كله لله وتكون كلمة الله هي العليا.

وهو الذي قال عنه ابن القيم: وجهاد الطلب الخالص لله يقصده سادات المؤمنين.

بينما قال عن جهاد الدفع: فجهاد الدفع يقصده كل أحد، ولا يرغب عنه إلا الجبان المذموم شرعًا وعقلًا.

إن الجهاد بمعناه العام لا يسقط عن المسلم المكلف؛ فكما مر بنا في مراتب الجهاد أن جهاد النفس والشيطان ضرب من ضروب الجهاد -وهو الممهد لجهاد الكفار- والجهاد بهذا المفهوم لا يسقط عن أي مسلم.

بل إن جنس جهاد الكفار فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد والسنان -وذلك حسب القدرة والاستطاعة- وما وراء الجهاد القلبي ذرة إيمان· والجهاد القلبي يعني البراءة من الكفار، وبغضهم، والتربص بهم، وتحديث النفس بغزوهم، والإعداد لذلك؛ يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب، وإما باللسان، وإما بالمال، وإما باليد، فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع (15).

أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية، وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان، والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء؛ كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41]، وعلق النجاة من النار به، ومغفرة الذنب، ودخول الجنة؛ فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} [الصف: 10- 12].

أي: ولكم خصلة أخرى تُحبُّونها في الجهاد، وهي: {نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} (16).

وجهاد النفس والشيطان هما الأصلان لجهاد الكفار، والانتصار على الكفار في ساحات القتال هو نتيجة للانتصار على النفس والشيطان قبل ذلك؛ بل إن جهاد النفس والشيطان يستغرق العمر كله؛ إذ لا بد منه قبل منازلة الكفار، وأثناءها، وبعدها.

وعن أهمية هذا النوع من الجهاد يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، علق سبحانه الهداية بالجهاد؛ فأكمل الناس هداية أعظمهم جهادًا، وأفرض الجهاد: جهاد النفس، وجهاد الهوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدنيا؛ فمن جاهد هذه الأربعة في الله هداه الله سبل رضاه الموصلة إلى جنته، ومن ترك الجهاد فاته من الهدى بحسب ما عطل من الجهاد؛ قال الجنيد: والذين جاهدوا أهواءهم فينا بالتوبة لنهدينهم سبل الإخلاص، ولا يتمكن من جهاد عدوه في الظاهر إلا من جاهد هذه الأعداء باطنًا فمن نُصِرَ عليها نُصِرَ على عدوه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِرَ عليه عدوه (17).

الإعداد الإيماني:

إن القول بضرورة الإعداد الإيماني قبل جهاد الكفار لا يعني ترك جهاد الكفار وقتالهم في جهاد الدفع حتى يكتمل الإعداد الإيماني، إن هذا لا يقول به عاقل؛ بل إنه يصادم مقاصد الشريعة في حفظ الضرورات الخمس.

إن جهاد الدفع يجب أن يهب المسلمون له بالحالة التي هم عليها سواء كانوا في ضعف من الإيمان وتفريط في طاعة الله عز وجل أو كانوا في ضعف مادي؛ فإذا لم يندفع العدو عن الديار والحرمة والدين إلا بقتاله وجب ذلك على المسلمين بما تيسر من القوة دون اشتراط للقدرة، والقوة الإيمانية، إذ لا بد من التفريق بين جهاد الطلب الذي يشترط فيه الإعداد المادي والمعنوي وبين جهاد الدفع الذي لا يشترط فيه ذلك.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين، فواجب إجماعًا؛ فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء: أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده (18).

ولا يعني عدم اشتراط العدة الإيمانية أو المادية في جهاد الدفع التفريط فيها، بل يجب الدفع بما تيسر منهما مع الاهتمام بهما أثناء القتال والسعي لتقويتهما قدر المستطاع؛ فقد يستمر الدفاع شهورًا أو سنوات، فحينئذ يجب السعي أثناء القتال لتوفير القدرة المادية وإعداد المقاتلين إيمانيًا بوضع البرامج العلمية والعملية لتقوية هذا الجانب؛ لأثره العظيم في الثبات والصبر ونزول نصر الله عز وجل، وهزيمة الكفار ودفعهم عن ديار المسلمين وحرماتهم، وإن الحاجة لتشتد في مثل الظروف الراهنة التي يهدد فيها الكفار بالهجوم على ما تبقى من ديار المسلمين.

ومما ينبغي التنبيه إليه أن أجواء الجهاد في سبيل الله عز وجل من أفضل البيئات التي يعد فيها المجاهدون إيمانيًا وتربية وزهدًا وتضحية، وهذا شيء مشاهد؛ فما حصل عليه بعض المجاهدين من التضحية وتزكية أعمال القلوب والزهد والإخلاص في سنة من سنوات الجهاد لم يحصل عليه غيرهم إلا في عدة سنوات.

قال الله تعالى عن جهاد الطلب: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39].

وعند القدرة على جهاد الطلب فإنه يكون على الكفاية إلا إذا استنفر الإمام جميع المسلمين للجهاد فلا يسوغ لأحد أن يتخلف، بل يصبح الجهاد عينًا على كل مسلم.

ولا يعني كون جهاد الطلب كفائيًا أن يزهد المسلم فيه ويفرط في أن يكون من أهله؛ فإنه من شأن أولياء الله المتقين، ويكفي في فضل أهله وعلو منزلتهم على القاعدين قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] (19).

إنها سذاجة أن يتصور الإنسان دعوة تعلن تحرير "الإنسان" نوع الإنسان في "الأرض" كل الأرض، ثم تقف أمام العقبات تجاهدها باللسان والبيان، إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلى بينها وبين الأفراد؛ تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات فهنا: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولًا بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال (20).

التربية الجهادية من لوازم الحركة، فالنفوس الرخوة التي لا تقدر على تكاليف الجهاد لا تصلح لحمل الدعوة، ولا للتحرك في وسط الأشواك، وفي مواجهة الوحوش الضارية التي تفتح أفواهها وتمد مخالبها لتنهش من تطوله من جنود الدعوة، وتفتك به بعد أن تذيقه العذاب الأليم (21).

------------

(1) في ظلال القرآن (3/ 1437).

(2) أخرجه ابن حبان (7012).

(3) فقه السيرة للغزالي (ص: 161).

(4) أخرجه مسلم (1894).

(5) أخرجه البخاري (3141).

(6) أخرجه الترمذي (1621).

(7) أخرجه أبو داود (4772).

(8) مجموع الفتاوى (28/ 320).

(9) مجموع الفتاوى (28/ 321).

(10) سبق تخريجه.

(11) الفروسية لابن القيم (ص: 187- 189).

(12) أخرجه أبو داود (4344).

(13) التفسير المنير للزحيلي (17/ 292).

(14) مجموع الفتاوى (15/ 170).

(15) زاد المعاد في هدي خير العباد (3/ 64).

(16) زاد المعاد (3/ 72).

(17) الفوائد (ص: 59).

(18) الاختيارات الفقهية (ص: 309- 310).

(19) التربية الجهادية/ عبد العزيز ناصر الجليل/ موقع طريق النجاة.

(20) في ظلال القرآن (3/ 1436).

(21) كيف ندعو الناس (ص: 166).