logo

الداعية والتواصل مع الأقران


بتاريخ : الأربعاء ، 27 جمادى الأول ، 1441 الموافق 22 يناير 2020
بقلم : تيار الاصلاح
الداعية والتواصل مع الأقران

قال الذهبي: كلام الأقران بعضهم في بعض لا يعبأ به، لا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد، ما ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمت أن عصرًا من الأعصار سلم أهله من ذلك، سوى الأنبياء والصديقين، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم (1).

إن ما يصدر من كلام بين اﻷقران من بعضهم في حق بعض فإنه لا يقتدى بهم فيه، ولا يروى بل يطوى، وقد قعّد السلف في هذا الصدد قاعدة عظيمة وهي: كلام الأقران يطوى ولا يروى.

وقد ورد معناها عن الصحابة -رضوان الله عليهم- فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم على بعض، فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة (2).

الداعية له أقران، ومن قبلهم أشياخ، ومن بعدُ له تلاميذ، فهو في ركب الدعاة سائر يأخذ من علوم السابقين، ويفيد ويناقش ويقلب المسائل مع الأقران، ويصل اللاحقين بالماضين عن طريق توريث ما علم، فمن لا شيخ له يضلّ، ومن لا وارث لعلمه يقلّ، ومن لا أقران له تضعف منافسته ويضمحلّ.

فعلى الداعية أن يحقق هذه الثلاثيّة العلميّة مهما كبر سنه وعلا كعبه في العلم، ويهمّنا في هذه الإضاءة التأكيد على أهميّة التواصل مع الأقران، وأريد بالتواصل مع الأقران وجود علاقة مِهنيّة مع إخوانك الخطباء والدعاة، تتبادل من خلالها الخبرات الدعويّة بجوانبها المختلفة، وهذه العلاقة هي قبل كل شيء علاقة أخوّة وجهاد، علاقة خالية من التحاسد والتنافر والتنافس المذموم، فقد شهد التاريخ نوعًا من المنافسة المذمومة بين الأقران كما وقع بين مالك ومحمد بن إسحاق، وكما وقع بين السخاوي والسيوطي، وبين ابن حجر والعيني، وغيرهم.

وأتصور أن خطيب المسجد له علاقة خاصة بينه وبين إخوانه الدعاة، تغذيها الزيارة، وتنميها الهديّة، ويقوّيها قضاء المصالح والمشاركة في الأفراح والأتراح، ليشعر الدعاة فيما بينهم بالأخوة التي يطالِبون بها الناس، وحبّذا لو كانت اجتماعاتهم متنوّعة الشكل كالتالي:

1- اجتماعات علمية بحتة، تتم فيها قراءات في كتب التراث العظيم؛ ككتب التفسير والسنن وشروحها والفقه والأصول، وغير ذلك من العلوم المختلفة، في صورة منهج علمي يرفع المستوى العلمي ويرقيه.

2- اجتماعات نقاشية حول القضايا المختلفة، سواء كانت قضايا شخصية تخصّ أحد الدعاة، مالية كانت أو صحية أو أسرية، أو كانت قضايا دعوية محلّية بالقطر الذي يسكنون فيه، أو أكثَر محلّيةً بأن كانت خاصة بالحي الذي فيه المسجد، أو قضايا عالمية تخصّ الأمة والعالم الإسلامي خصوصًا والعالم عمومًا، سياسية أو اقتصادية أو غيرها، ويتمّ النقاش فيها بصورة علمية مركّزة، تتكون من خلالها رؤية صحيحة مبنية على التحليل الجيد والأسس السليمة، ويحسن الاستعانة في مثل هذه بمتخصّصين في القضايا التي تحتاج إلى تخصص.

3- اجتماعات مهنية، يتم التعرض من خلالها إلى فن المهنة والجديد فيه، ولعل أقرب شيء في ذلك الوقوف على جديد الإصدارات والمؤلفات، والجديد من تساؤلات الجمهور وفتاواهم، والجديد من مشروعات كل داعية في مسجده سواء كانت علمية أو دعوية أو اجتماعية أو خدمية أو غير ذلك؛ ليتبادله الدعاة في مساجدهم.

وفي مثل هذه الاجتماعات ينبغي أن يتعرف الخطباء على عناوين خطب بعضهم البعض، ويحسن أن تكون عناصر الخطبة مكتوبة مع أبرز أدلتها وأفكارها، فإذا تصوّرنا أن اجتماعًا للدعاة شهريًّا يضمّ خمسة خطباء مثلًا، وأحضر كل منهم في الاجتماع أربع خطب مكتوبة العنوان والعناصر والاستدلالات الهامة؛ لحصلنا في هذا الاجتماع ثروة هائلة هي نتاج عمل شهر في خمسة مساجد مجموعها عشرون خطبة، في يد كل خطيب، وحبذا لو تمت حول ذلك مناقشات وتعليقات، تبرز من خلالها جودة الفكرة من عدمها، وملاءمة الموضوعات للواقع من عدمه، إلى غير ذلك.

ولو تجمع كل ذلك في أرشيف يتبادل بين دائرة أوسع من الدعاة لكان أفضل.

وأفضل من هذا كله لو تم التنسيق بين مجموعات الدعاة، وجمعت هذه المجموعات المكتوبة ومحصت ونقيت، وطبعت في كتاب يستفيد منه عامة الدعاة وطلاب العلم.

4- اجتماعات عامة فيها تعارف وتداخل ومعايشة؛ ليكون الدعاة لهم مجتمع خاص يتفاهمون فيه، ويفضل القيام ببعض الممارسات كتريّضٍ أو رحلات عائلية أو شخصية أو غيرها (3).

كونوا كالمرآة تُصلحوا:

يقول صلى الله عليه وسلم: «المؤمن مرآة أخيه» (4).

تشبيه بليغ من النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يريدنا كالمرآة، فماذا فيها لنكون مثلها.

يقول الحسن رحمه الله: المؤمن مرآة أخيه؛ إن رأى فيه ما لا يعجبه سدده وقومه وحاطه وحفظه في السر والعلانية، فثقوا بالأصحاب والإخوان والمجالس (5).

وبالنظر والتدقيق تجد فيها الكثير فهي :

1- لا تكذب ولكنها تظهر الحقيقة فلا خداع ولا مراوغة.

2- المرآة عندما تريد الإصلاح يكون ذلك بلطف لا شدة فيه.

3- هي لا تذهب بعد كشف العيب؛ ولكنها تبقى معك تساعدك على إزالته.

4 -نعرض أنفسنا على المرآة مع كل طارئ من نوم وخروج …إلخ، وهكذا يجب أن نعرض أنفسنا على المصلحين من حين لحين .

5- هي لا تحفظ لك ماضيًا؛ بل تنساه ولا تذكرك به فكن كذلك.

6- هي لا تنقل عيبك للآخرين ولا تفشي سرك لمن يأتي بعدك.

7- هي لا تعرفك ولا تظهرك على حقيقتك إلا إذا كانت قريبة منك؛ وكذلك الأخوة.

8- المرآة لا تملك إلا وجهًا واحدًا، ولو كان لها وجهان ما أدت وظيفتها.

9- المرآة إذا كسرت لا يمكن أن تعود لطبيعتها؛ بل ربما تصبح مصدر أذى وليس مصدر إصلاح.

10- المرآة كائن مستقيم فإن فقدت استقامتها فقدت عملها.

أهم الأسباب الداعية إلى كلام الأقران بعضهم في بعض .

أولًا: الحسد والغيرة والمنافسة:

الحسد هو أن تكره النعمة التي أنعم الله بها على غيرك وتحب زوالها عنه (6).

وهو على أربعة مراتب :

المرتبة الأولى: أن تحب زوال النعمة عن أخيك وإن لم تصل إليك، وهذا غاية الخبث .

الثانية: أن تحب زوال النعمة عن أخيك لتحصل أنت عليها .

الثالثة: أن تحب أن تحصل على النعمة التي حصل أخوك عليها، فإن عجزت عن الحصول عليها أحببت زوالها عنه لئلا يظهر التفاوت بينكما .

الرابعة: أن تحب الحصول على مثل هذه النعمة، فإن عجزت عن الحصول عليها فلا تحب أن تزول عنه، وهذه تسمى غِبطة، وقد تُسمَّى منافسة.

والمراتب الثلاثة الأولى مذمومة، والرابعة معفوٌ عنها إن كانت المنافسة في أمرٍ من أمور الدنيا، ومندوبٌ إليها إن كانت المنافسة في أمرٍ من أمور الدين .

وقد تُسمَّى المنافسة في الحصول على الشيء حسدًا، وقد يوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا مشاحة في الاصطلاح، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني، وعليه يفهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالًا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» (7) .

والحسد خلقٌ ذميمٌ لا يكاد يسلم منه أحد، ولذلك وردت آثارٌ كثيرة تذم الحسد وتُحذِّر منه.

والفرق بين المنافسة والحسد:

أن المنافسة: هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده في غيرك لتنافسه فيه لتلحقه أو تجاوزه، فهو من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر، والحسد خلق نفسٍ ذميمةٍ وضعيفةٍ ليس فيها حرص على الخير

الثاني: العداوة والبغضاء:

ربما يختلف القرينان في المذهب أو في فروع الاعتقاد أو في غير ذلك، فتنشأ عن ذلك عداوة بينهما، وكل واحدٍ منهما يظن صاحبه مخطئًا فيقول فيه، والعداوة إذا وقعت بين اثنين مؤمنين متفقين في المذهب والاعتقاد لم يُقبل كلام أحدهما في الآخر فكيف إذا كانت العداوة بسبب العقائد التي كان من جرّاء الاختلاف فيها: هتك المحارم، وارتكاب العظائم، وسفك الدماء؟ نسأل الله السلامة .

والحب يتولَّد عنه رضا يجعل الإنسان لا يرى إلا الحسنات، ويغفل عن السيئات، فلا يرى إلا كل خير ويتأول لما يراه من خطأ أو تقصير، والبغض يجعله لا يرى إلا السيئات، ويغفل عن الحسنات ويقلل من قدرها، ويعظم قدر السيئات، فيرى القذاة جذعًا والفأر جبلًا.

الثالث: الغضب وسوء الرأي:

الغضب جمرةٌ من النار وضعت في قلب ابن آدم، فإذا ثارت أحرقت ضياء العقل، وإذا اشتعلت أفسدت حكمة القلب ونوره، فإن تمادت بصاحبها أورثت حقدًا وحسدًا .

والغضب كالحب يعمي ويصم، وعندما يغضب الإنسان لا يرى إلا كل سيئ، ولا تطلع عينه إلا على كل قبيح .

والعلماء بشرٌ يرضون فيرون الحسن ويذكرونه، وقد يغضب أحدهم فلا يرى إلا القبيح، وقد يستفزهم الغضب فيحملون الأمر على ظاهره السيئ ويسيئون الرأي في فاعله، وقد يكون له مخرجٌ حسن وتأويلٌ مقبول، وهذا ينافى الكذب الذي هو مخالفة الحقيقة عمدًا.

وقال السخاوي: ربما حصل غضبٌ لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة، فحبك الشيء يعمي ويصم، لا أنهم مع جلالتهم ووفور ديانتهم تعمدوا القدح بما يعلمون بطلانه، حاشاهم وكل تقي من ذلك (8) .

الرابع: الجهل بقدر العلماء:

وذلك بسبب عدم اللقاء بهم، أو المجالسة لهم، أو المذاكرة معهم، والحكم على الشيء هو فرع عن تصوره، ونقد الراوي يجب أن يُبنى على معرفته، أو نقل كلام الثقات المصنفين الذين يعرفونه .

ولكن المعاصرة حجاب، فقد يخفى قدر المعاصر وشرفه على معاصريه فيتكلم فيه بعضهم، خاصةً إذا لم يجالسوه ويدارسوه، أو سمعوا عنه من حاسديه ومبغضيه فقط، وهذه أمثلة وشواهد تؤكد هذا المعنى.

الخامس: طبيعة البشر وأن أحدًا لم يسلم من الطعن فيه:

لأن لكل إنسان أحبابًا وأعداءً، وموافقين ومخالفين، ومحبين ومبغضين، وقد جُبِل الإنسان على الكلام في أعدائه ومخالفيه ومبغضيه – إلا من رحم الله- وقلَّما يسلم من ذلك أحد، ولذلك لم يسلم أحدٌ من الكلام والطعن فيه حتى رب العزة عز وجل لم يسلم من الكلام فيه ونسبة ما لا ينبغي إليه.

وكذا كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم؛ فهذا سعد بن أبى وقاص يتكلم فيه الكوفي، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم، وقال: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض .

فمن الذي يسلم من الكلام فيه بعد هؤلاء؟ .

ولذلك قال الإمام محمد بن جرير الطبري: لو كان كل من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادُّعي عليه، وسقطت عدالته، وبطلت شهادته بذلك؛ للزم ترك أكثر محدثي الأمصار، لأنه ما منهم أحد إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرغب عنه (9).

السادس: التأويل واختلاف الاجتهاد:

جرت طبيعة البشر أنهم يختلفون في النظر والحكم على بعض الأشياء فهذا يحبها وهذا يبغضها، وهذا يقبلها وهذا يرفضها، فقد يدخل بعض العلماء على السلطان ويرى ذلك سائغًا له لنصحه وإرشاده، ولرفع بعض الظلم عن المظلومين، أو لحماية ماله وثروته، أو لغير ذلك من الأسباب التي يراها الداخل على السلطان سائغة بينما يرى البعض ذلك قادحًا فيه، ويتكلم فيه لذلك .

وقد يأخذ بعض العلماء أجرًا على التحديث، ويرى ذلك جائزًا له لأنه يستغرق وقته، وليس عنده ما ينفق منه على أهله، ولم يثبت عنده تحريم هذا الأجر بينما يرى غيره عدم جواز ذلك ويقدح فيه من أجل ذلك .

وقد يرى بعض العلماء جواز التمتع بزينة الحياة الدنيا؛ فيظهر عليه أثر الغنى في ملبسه ومأكله؛ فيتهمه البعض ويقدح فيه من أجل ذلك .

وقد يفتي البعض بتحريم أمرٍ ما ويفتى غيره بجوازه فيقدح فيه لذلك، وأمثال هذه الأمور كثير مما تختلف فيه وجهات النظر والطباع، وتتعدد فيه الآراء والاجتهادات، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلًا، ولا ضير في هذه الاختلافات طالما كان المختلفون ملتزمين بقواعد الشرع وأحكام الإسلام، لكنها تجاوزتها أحيانًا إلى القدح والتضعيف بما لا يوجب ضعفًا .

قال ابن حجر: عاب جماعةٌ من الورعين جماعةً دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط (10).

سابعًا: الخلافات العقائدية:

خلق الله البشر بطباعٍ مختلفة، وفهومٍ متفاوتة، ولذلك اختلفوا في التعامل مع النص الشرعي، فمنهم من يحمله على الحقيقة، ومنهم من يحمله على المجاز، ومنهم من يقول إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومنهم من يعكس، ومنهم من يقبل الراوي ويصحح أحاديثه ويحتج بها، ومنهم من يضعفه ويوهن أحاديثه ولا يحتج بها، ومنهم من يفسر اللفظة بمعنىً، ويفسرها غيره بمعنى آخر، ومنهم من يقف عند ظاهر النص لا يتعداه، ومنهم من يهتم بمقصد النص لا بظاهر ألفاظه، إلى غير ذلك من الأسباب المنطقية المقبولة والتي أدت إلى وقوع الخلاف في الفروع العقائدية كمسئلة تفضيل أبي بكر على علي كما هو مذهب أهل السنة، أو تفضيل علىّ عليه كما هو مذهب الشيعة، وكمسئلة خلق القرآن أو قدمه، وكالقول بخلق أفعال العباد أو عدمه، وكمسئلة رؤية الله في الآخرة أو عدمها، وكعقيدة النصب، والتشيع، والإرجاء، والاعتزال، والقدرية، والجهمية ... الخ .

قال الإمام مالك: ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف .

وعلَّق الإمام القرطبي على ذلك قائلًا: هذا في زمان مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فيه الفساد، وكثر فيه الطغام، وطُلب فيه العلم للرياسة لا للدراية، بل للظهور في الدنيا ، وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن، وذلك مما يحمل عليه عدم التقوى، وترك الخوف من الله تعالى (11).

هذا في زمان القرطبي فكيف في الأزمان المتأخرة عنه والتي شاع فيها الجهل، وغلب فيها الحسد، والتنافس من أجل الدنيا، وأصبح المخالف يُرمى بالبدعة والكفر لأدنى خلاف، نسأل الله العفو والستر .

قال ابن حجر: اعلم أنه قد وقع من جماعةٍ الطعن في جماعةٍ بسبب اختلافهم في العقائد، فينبغي التنبُّه لذلك، وعدم الاعتداد به إلا بحق (12).

ولقد حذَّر ابن حجر من يتصدى لمهمة الجرح والتعديل من السقوط في شرك الهوى أو العصبية أو جرح مخالفه في العقيدة فقال: وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل فإنه إن عدّل أحدًا يغير تثبت كان كالمثبت حكمًا ليس بثابت، فيُخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثًا وهو يظن أنه كذب، وإن جرّح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبدًا، والآفة تدخل في هذا: تارةً من الهوى والغرض الفاسد، وكلام المتقدمين سالم من هذا غالبًا، وتارةً من المخالفة في العقائد، وهو موجود كثيرًا قديمًا وحديثًا، ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك (13) .

ثامنًا: التعصب وعدم الإنصاف:

في عصرنا هذا الذي عزّ فيه الإنصاف، يحتاج الداعية إلى الرجوع إلى منهج المحدثين ليزن الأمور كلها بالميزان القسط، حيث أصبحت الأهواء هي التي تتحكم في الآراء والتوجهات، حتى إن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحب -مهما كانت كبيرة- ويزينها، بل تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن ويجعل محبوبه في أعلى المنازل، ولا يقبل فيه نقدًا أو مراجعة.

وفي المقابل تراه إذا أبغض أحدًا لهوى في نفسه، أو تقليدًا لغيره؛ جرّده من جميع الفضائل، ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته يضخمها، وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بيِّنة، بل قد تتحول المحاسن -المتفق على حسنها- إلى سيئات، لغلبة الهوى والبغض، والعياذ بالله.

تاسعًا: سوء الظن والأخذ بالتوهم والقرائن التى تتخلف:

ذكر الشيخ ابن دقيق العيد أن الآفة تدخل على علماء الجرح والتعديل من خمسة أبواب وذكر منها :

عدم الورع، والأخذ بالتوهم، والقرائن التى تتخلف .

قال: فإن من فعل ذلك دخل تحت قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث» (14) .

وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال: احمل أمر أخيك على أحسنه ولا تظنن بكلمةٍ خرجت منه شراً وأنت تجد لها في الخير محملًا (15) .

قال ابن دقيق العيد: وهذا ضرره عظيم فيما إذا كان الجارح معروفًا بالعلم، وكان قليل التقوى، فإن علمه يقتضي أن يُجعل أهلًا لسماع قوله وجرحه فيقع الخلل بسبب قلة ورعه وأخذه بالتوهم .

ثم قال: ولقد رأيت رجلًا لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جرَّح، ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ فقال له: أين سمعت منه؟ فقال: بمكة أو قريبًا من هذا، وقد كان جاء إلى مصر يعني في طريقه للحج، فأنكر ذلك وقال: إنه كان صاحبي، ولو جاء إلى مصر لاجتمع بي، أو كما قال .

قال: فانظر إلى هذا التعلق بهذا الوهم البعيد، والخيال الضعيف فيما أنكره (16).

يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الغيرة بين أهل العلم أشد من الغيرة بين التيوس في زروبها.

أي: أن الذي يبعثهم على الكلام في بعضهم البعض هو الغيرة، وكم من إنسان من سلف الأمة ومن عظماء العلماء تكلم في أقرانه، أو تكلم فيمن سبقه، وإن كان هذا لا نوافق عليه والأصل عدمه، وهناك نماذج طيبة مشرقة في أهل العلم، لم يتكلموا في أحد، وإنما تكلم فيهم، وبلا شك أن الأصل والأولى: أن يتصدق المرء بعرضه على من انتهك عرضه، فلا أقل من أنه رد الظلم بظلم، أو رد الإساءة بإساءة، والبادئ أظلم وإن كانت الأولى أحسن وأفضل.

فالشاهد من هذا الكلام كله: أن أبناء الصحوة لا علاقة لهم بما يدور بين الكبار، فلعلهم معذورون، ولعلهم متأولون، ولعلهم مخطئون، فلا علاقة للشباب بما وقع بين الكبار، كما أنه يجب على الكبار كذلك إذا كان هناك شيء من الإحن والفتن بينهم أن يخفوها عن الطلاب وجوبًا شرعيًا، فإن بدا شيء بغير قصد فلا يجوز استغلال هذا الشيء الذي بدا من هذه القضايا (17).

وقال ابن عبد البر في باب حكم قول العلماء بعضهم في بعض: هذا باب قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت به نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك, والصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته وثبتت في العلم أمانته وبانت ثقته وعنايته بالعلم لم يلتفت فيه إلى قول أحد؛ إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة تصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب قوله من جهة الفقه والنظر, وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته، ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته؛ فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه, والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخده جمهور من جماهير المسلمين إمامًا في الدين قول أحد من الطاعنين (18).

وقال ابن دقيق العيد: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار يوقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدثون والحكام (19).

وقال العز بن عبد السلام: إذا بلغك أن أحدًا من الأئمة شدد النكير على أحد من أقرانه فإنما ذلك خوفًا على أحد أن يفهم من كلامه خلاف مراده, لا سيما علم العقائد فإن الكلام في ذلك أشد (20).

وقال الذهبي في مقدمة الميزان: وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحدًا لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس؛ مثل أبي حنيفة، والشافعي، والبخاري، فإن ذكرت أحدًا منهم، فأذكره على الإنصاف، وما يضره ذلك عند الله ولا عند الناس، إذ إنما يضر الإنسان الكذب، فإنه خيانة وجناية، والمرء المسلم يطبع على كل شيء إلا الخيانة والكذب (21).

***

______________

(1) ميزان الاعتدال (1/ 111).

(2) جامع بيان العلم وفضله (2/ 1091).

(3) التواصل مع الأقران وغيرهم في حياة الداعية/ شبكة مساجدنا.

(4) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (238).

(5) الإخوان لابن أبي الدنيا (ص: 131).

(6) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي (3/ 179).

(7) أخرجه البخاري (7529)، ومسلم (558).

(8) فتح المغيث (3/ 274- 275).

(9) هدي الساري (ص: 449).

(10) هدي الساري (ص: 404).

(11) الجامع لأحكام القرآن للقرطي (1/ 245).

(12) هدي الساري (ص: 385).

(13) نزهة النظر (ص: 69).

(14) أخرجه البخاري (5143)، ومسلم (2563).

(15) التدوين في أخبار قزوين (1/ 217), وفتح المغيث (3/ 276).

(16) فتح المغيث (3/ 276).

(17) شرح صحيح مسلم - حسن أبو الأشبال (88/ 3)، بترقيم الشاملة آليًا.

(18) جامع بيان العلم (2/ 186).

(19) الجرح والتعديل للقاسمي (ص: 4).

(20) الميزان الكبرى للشعراني (1/ 69).

(21) ميزان الاعتدال (1/ 2- 3).