logo

الصور الجمالية للدعوة


بتاريخ : الأحد ، 5 ربيع الأول ، 1446 الموافق 08 سبتمبر 2024
الصور الجمالية للدعوة

الإسلام دين الجمال، وهو يريد من المسلم أن يكون جميلًا في كل شيء: جميلًا في عقيدته، جميلًا في شريعته، جميلًا في معاملاته، جميلًا في أخلاقياته، جميلًا ونظيفًا في منظره، جميلًا ونقيًا صافيًا في مخبره.. وعنوان كل هذا الجمال هو أن يكون جميلًا في كلامه وحديثه ومنطقه، وأحوج الناس إلى هذا التحلي بالجمال هم الدعاة إلى الله.

فالإسلام يشترط في الخُلُق أن يكون جميلًا كي يكون كاملًا، فهو إذ أمر بالصبر أمر بالصبر الجميل، وإذ أمر بالهجر أمر بالهجر الجميل، وإذ أمر بالصفح أمر بالصفح الجميل. 

فمفهوم الجمال في الإسلام أوسع وأرحب من الصور والمشاهد المادية والطبيعية؛ إذ الجمال يكون في الصورة وتركيب الخلقة، ويكون في الأخلاق الباطنة، ويكون في الأفعال

فأما جمال الخِلقة فهو أمر يدركه البصر ويلقيه إلى القلب متلائمًا، فتتعلق به النفس من غير معرفة بوجه ذلك... 

وأما جمال الأخلاق فكونها على الصفات المحمودة من العلم والحكمة والعدل والعفة، وكظم الغيظ، وإرادة الخير لكل أحد. 

وأما جمال الأفعال فهو وجودها ملائمة لمصالح الخلق وقاضية لجلب المنافع فيهم وصرف الشر عنهم؛ فالجمال بهذا يوجد في القلب والقالب، في الظاهر والباطن، في القلب والمعاملة.

وهنا أجلي بعض الصور الجمالية للدعوة إلى الله تعالى: 

1- اللغة الحانية في البلاغ الإسلامي:

قال تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]، هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا}: يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ (1). 

فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان (2).

فينبغي للإنسان أن يكون يقول للناس لينًا ووجهه منبسطًا طلقًا مع البر والفاجر، والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} فالقائل ليس بأفضل من موسى وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه (3).

وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] الآية، وأما دعوة الفساق فالقول الحسن فيه معتبر، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، وأما في الأمور الدنيوية فمن المعلوم بالضرورة أنه إذا أمكن التوصل إلى الغرض بالتلطف من القول لم يحسن سواه، فثبت أن جميع آداب الدين والدنيا داخلة تحت قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83] (4).

والقول اللين لَا يكون بالملق أو الإدهان أو المواراة، فإن هذه أمور تتجافى مع الحق إلا بالقول الحق (5).

وقوله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء: 53]، يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة (6).

اللسان أداة البيان، وترجمان القلب والوجدان، والكلام به يتعارف الناس ويتقاربون، وبه يتحاجون ويتفاضلون، ولولاه لما ظهرت ثمرات العقول والمدارك، ولما تلاحقت الأفكار والمشاعر، ولما تزايدت العلوم والمعارف، ولما ترقّى الإنسان في درجات أنواع الكمالات، ولما امتاز على بقية الحيوانات.

فهو رابطة أفراد النوع الإنساني وعشائره وأممه، وبريد عقله وواسطة تفاهمه، فإذا حسن قويت روابط الألفة، وتمكنت أسباب المحبة، وامتد رواق السلام بين الأفراد والعشائر والأمم، وتقاربت العقول والقلوب بالتفاهم، وتشابكت الأيدي في التعاون والتآزر.

ويعني العالم من وراء ذلك تقرر الأمن واطراد العمران، وإذا قبح كان الحال على ضد ذلك.

فالكلام السيء قاطع لأواصر الأخوة، باعث على البغضاء والنفرة، يبعد بين العقول فتحرم الاسترشاد والاستعداد والتعاون، وبين القلوب فتفقد عواطف المحبة وحنان الرحمة، وهما أشرف ما تتحلى به القلوب، وإذا بطلت الرحمة والمحبة بطلت الألفة والتعاون، وحلت القساوة والعداوة، وتبعهما التخاصم والتقاتل؛ وفي ذلك كل الشر لأبناء البشر.

فالمحصل للناس سعادتهم وسلامتهم، والمبعد لهم عن شقاوتهم وهلاكهم- هو القول الحسن.

ولهذا أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرشد العباد إلى قول التي هي أحسن، فقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

والعباد المأمورون هنا هم المؤمنون لوجهين:

الأول: أنهم أضيفوا إليه وهذه إضافة شرف لا يكون إلاّ للمؤمنين به.

الثاني: أن الذين يخاطبون بهذا الإرشاد ويكون منهم الامتثال إنما هم من حصلوا أصل الإيمان.

و{الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هي الكلمة الطيبة، والمقالة التي هي أحسن من غيرها؛ فيعم ذلك ما يكون من الكلام في التخاطب العادي بين الناس، حتى ينادي بعضهم بعضًا بأحب الأسماء إليه.

وما يكون من البيان العلمي فيختار أسهل العبارات وأقربها للفهم حتى لا يحدث الناس بما لا يفهمون، فيكون عليهم حديثه فتنة وبلاء.

وما يكون من الكلام في مقام التنازع والخصام، فيقتصر على ما يوصله إلى حقه في حدود الموضوع المتنازع فيه، دون أذية لخصمه، ولا تعرض لشأن من شؤونه الخاصة به.

وما يكون من باب إقامة الحجة وعرض الأدلة، فيسوقها بأجلى عبارة وأوقعها في النفس، خالية من السب والقدح، ومن الغمز والتعريض، ومن أدق تلميح إلى شيء قبيح.

وهذا يطالب به المؤمنون سواء كان ذلك فيما بينهم، أو بينهم وبين غيرهم، وقد جاء في الصحيح: أن رهطًا من اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم ففهمتها عائشة رضي الله عنها فقالت: وعليكم السام واللعنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلًا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، فقالت: ألم تسمع ما قالوا؛ فقال: قد قلت: «وعليكم» (7).

فكان الرد عليهم بمثل قولهم بأسلوب العطف على كلامهم، وهو قوله وعليكم، أحسن من الرد عليهم باللعنة، فقال صلى الله عليه وسلم القولة التي هي أحسن، وهذا أدب الإسلام للمسلمين مع جميع الناس.

وأفاد قوله تعالى: {أَحْسَنُ} بصيغة اسم التفضيل أن علينا أن نتخير في العبارات الحسنة، فننتقي أحسنها في جميع ما تقدم من أنواع مواقع الكلام.

فحاصل هذا التأديب الرباني هو اجتناب الكلام السيء جملة، والاقتصار على الحسن، وانتقاء واختيار الأحسن من بين ذلك الحسن، وهذا يستلزم استعمال العقل والروية عند كل كلمة تقال، ولو كلمة واحدة؛ فرب كلمة واحدة أوقدت حربًا، وأهلكت شعبًا، أو شعوبًا، ورب كلمة واحدة أنزلت أمنًا وأنقذت أمة أو أممًا. 

وقد بين لنا النبي صلى الله عليه وسلم مكانة الكلمة الواحدة من الأثر في قوله: «الكلمة الطيبة صدقة» (8).

وهذا الأدب الإسلامي- وهو التروي عند القول، واجتناب السيء واختيار الأحسن- ضروري لسعادة العباد وهنائهم، وما كثرت الخلافات وتشعبت الخصومات وتنافرت المشارب، وتباعدت المذاهب حتى صار المسلم عدو المسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المسلم أخو المسلم» (9)، إلا بتركهم هذا الأدب، وتركهم للتروي عند القول والتعمد السيء، بل للأسوأ في بعض الأحيان (10).

2- التحلي بالخلق الحسن والصبر والحلم:

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. 

فالناس في حاجة إلى كنف رحيم، وإلى رعاية فائقة، وإلى بشاشة سمحة، وإلى ود يسعهم، وحلم لا يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ويحمل همومهم ولا يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائمًا الاهتمام والرعاية والعطف والسماحة والود والرضاء.. وهكذا كان قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت حياته مع الناس، ما غضب لنفسه قط. ولا ضاق صدره بضعفهم البشري، ولا احتجز لنفسه شيئًا من أعراض هذه الحياة، بل أعطاهم كل ما ملكت يداه في سماحة ندية، ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده الكريم، وما من واحد منهم عاشره أو رآه إلا امتلأ قلبه بحبه نتيجة لما أفاض عليه صلى الله عليه وسلم من نفسه الكبيرة الرحيبة. 

وكان هذا كله رحمة من الله به وبأمته.. يذكرهم بها في هذا الموقف، ليرتب عليها ما يريده سبحانه لحياة هذه الأمة من تنظيم (11).

وما انتشر الإسلام في العصر الأول بتلك السرعة التي لم يسبق لها نظير في دين من الأديان إلا بحسن معاملة أهله لمن يعاشرونهم، ويعيشون معهم، ولولا ترك الخلف لسنة السلف في ذلك لما بقي في البلاد الإسلامية أحد لم يدخل الإسلام باختياره، بل لعم الإسلام العالم كله (12). 

كان من شمائله صلى الله عليه وسلم طلاقة الوجه، والبشاشة في وجوه جميع من يلقاهم حتى الكفار والمنافقين، عن عائشة: أن رجلًا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: «بئس أخو العشيرة، وبئس ابن العشيرة» فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وانبسط إليه، فلما انطلق الرجل قالت له عائشة: يا رسول الله، حين رأيت الرجل قلت له كذا وكذا، ثم تطلقت في وجهه وانبسطت إليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عائشة، متى عهدتني فحاشًا، إن شر الناس عند الله منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء شره» (13).

عن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس -وكان من النفر الذين يدنيهم عمر- وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته -كهولًا كانوا أو شبابًا- فقال عيينة لابن أخيه: يا بن أخي، لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه، قال: سأستأذن لك عليه، قال ابن عباس: فاستأذن الحر لعيينة، فأذن له عمر رضي الله عنه فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل، فغضب عمر حتى هم أن يوقع به، فقال له الحر: يا أمير المؤمنين، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله، عز وجل (14). 

فقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، خذ العفو الميسر الممكن من أخلاق الناس في المعاشرة والصحبة، ولا تطلب إليهم الكمال، ولا تكلفهم الشاق من الأخلاق، واعف عن أخطائهم وضعفهم ونقصهم.. كل أولئك في المعاملات الشخصية لا في العقيدة الدينية ولا في الواجبات الشرعية، فليس في عقيدة الإسلام ولا شريعة الله يكون التغاضي والتسامح.

ولكن في الأخذ والعطاء والصحبة والجوار، وبذلك تمضي الحياة سهلة لينة. فالإغضاء عن الضعف البشري، والعطف عليه، والسماحة معه، واجب الكبار الأقوياء تجاه الصغار الضعفاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم راع وهاد ومعلم ومرب، فهو أولى الناس بالسماحة واليسر والإغضاء، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم، لم يغضب لنفسه قط. فإذا كان في دين الله لم يقم لغضبه شيء! وكل أصحاب الدعوة مأمورون بما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالتعامل مع النفوس البشرية لهدايتها يقتضي سعة صدر، وسماحة طبع، ويسرًا وتيسيرًا في غير تهاون ولا تفريط في دين الله.. 

{وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} وهو الخير المعروف الواضح الذي لا يحتاج إلى مناقشة وجدال والذي تلتقي عليه الفطر السليمة والنفوس المستقيمة.. والنفس حين تعتاد هذا المعروف يسلس قيادها بعد ذلك، وتتطوع لألوان من الخير دون تكليف وما يصد النفس عن الخير شيء مثلما يصدها التعقيد والمشقة والشد في أول معرفتها بالتكاليف! ورياضة النفوس تقتضي أخذها في أول الطريق بالميسور المعروف من هذه التكاليف حتى يسلس قيادها وتعتاد هي بذاتها النهوض بما فوق ذلك في يسر وطواعية ولين..

{وَأَعْرِضْ عَن الْجَاهِلِينَ} من الجهالة ضد الرشد، والجهالة ضد العلم، وهما قريب من قريب.

والإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال والمرور بها مر الكرام وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.

وقد ينتهي السكوت عنهم، والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلًا من الفحش في الرد واللجاج في العناد، فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم، فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير، إذ يرون صاحب الدعوة محتملًا معرضًا عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى، وإذا قدر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة (15). 

3- احتواء العصاة والمقصرين:

عن أبي أمامة قال: إن فتى شابًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه، مه، فقال: «ادنه، فدنا منه قريبًا»، قال: فجلس قال: «أتحبه لأمك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأمهاتهم»، قال: «أفتحبه لابنتك؟» قال: لا، والله يا رسول الله جعلني الله فداءك قال: «ولا الناس يحبونه لبناتهم»، قال: «أفتحبه لأختك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لأخواتهم»، قال: «أفتحبه لعمتك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لعماتهم»، قال: «أفتحبه لخالتك؟» قال: لا، والله جعلني الله فداءك، قال: «ولا الناس يحبونه لخالاتهم»، قال: فوضع يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء (16).

تصحيح أخطاء المدعوين عن طريق تغيير تصوراتهم من خلال فتح باب الحوار معهم ومجادلتهم بالتي هي أحسن؛ خاصة عند وجود الشبهات وسوء الفهم غير المقصود، بدلًا من إصدار الأحكام القيمية عليهم وتأنيبهم وتوبيخهم وتبكيتهم ولو تجاوز الخطأ حجم المقبول عرفًا.

روى البخاري أن أبا هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه وهريقوا على بوله سَجْلًا من ماء أو ذَنُوبًا من ماء؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين ولم تُبعثوا معسِّرين» (17).

إن التعامل بالرفق والرحمة يورث النفس نوعًا من الطمأنينة والهدوء، ويجعل تَفَهُّم المشكلة والتعامل معها أكثر نجاحًا وتحقيقًا للأهداف بخلاف ما لو صَحِب ذلك نوعٌ من التوتر. 

عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمياه، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» (18).

قال النووي: فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته وشفقته عليهم، وفيه التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل وحسن تعليمه واللطف به، وتقريب الصواب إلى فهمه (19). 

4- كظم الغيظ والدفع بالتي هي أحسن:

قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134]، أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه، بمعنى: كتموه فلم يعملوه، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليه (20). 

عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله، من جرعة غيظ كظمها عبد ابتغاء وجه الله» (21). 

وقال صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق حتى يخيره من الحور ما شاء» (22). 

إن الغيظ وقر على النفس حين تكظمه وشواظ يلفح القلب ودخان يغشى الضمير.. فأما حين تصفح النفس ويعفو القلب، فهو الانطلاق من ذلك الوقر، والرفرفة في آفاق النور، والبرد في القلب، والسلام في الضمير (23). 

عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة، حتى نظرت إلى صفحة عاتق النبي صلى الله عليه وسلم قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحك، ثم أمر له بعطاء (24). 

قال النووي: فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل (25).

عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (26).

والصرعة: الذي يصرع الناس ويكثر منه ذلك، كما يقال للكثير النوم نومه، وللكثير الحفظ حفظه، فأراد عليه السلام أن الذي يقوى على ملك نفسه عند الغضب ويردها عنه هو القوى الشديد والنهاية في الشدة لغلبته هواه المردي الذى زينه له الشيطان الغوي، فدل هذا أن مجاهدة النفس أشد من مجاهدة العدو؛ لأن النبي عليه السلام جعل للذي يملك نفسه عند الغضب من القوة والشدة ما ليس للذي يغلب الناس ويصرعهم (27).

5- تأدية البلاغ وعدم استعجال الثمرات، بل عدم التعويل عليها أحيانًا:

النفس البشرية مفطورة على العجلة ومجبولة على انعدام الصبر، وهذا ما أكده الله سبحانه في أكثر من موضع، فهو القائل: {وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11]، وهو القائل أيضًا: {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37]، ومن حكمته سبحانه أن خلق الأناة والعقل في الإنسان ليعادل تلك العجلة ويتوازن الإنسان بين العجلة والأناة.

ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث والأصنام تملأ جوف الكعبة، وتحيط بها وتعلوها من كل جانب، ثم لا يقبل على إزالتها بالفعل إلا يوم فتح مكة، في العام الثامن من الهجرة، أي أنها بقيت منذ بعث إلى يوم تحطيمها إحدى وعشرين سنة؛ ليقينه بأنه لو قام بتحطيمها من أول يوم، قبل أن تحطم من داخل النفوس لأقبلوا على تشييدها وزخرفتها بصورة أبشع، وأشنع، فيعظم الإثم، ويتفاقم الضرر، لذلك تركها، وأقبل يعد الرجال، ويزكي النفوس، ويطهر القلوب حتى إذا تم له ذلك أقبل بهم يفتح مكة، ويزيل الأصنام، مرددًا: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، وها هو صلى الله عليه وسلم يخاطب أم المؤمنين عائشة قائلًا: «ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟»، فقلت: يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال: «لولا حدثان قومك بالكفر لفعلت» فقال عبد الله رضي الله عنه: لئن كانت عائشة رضي الله عنها سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر، إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم (28) 

فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا توقف في شأن تجديد الكعبة، وإعادتها إلى قواعد إبراهيم خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى منكر أكبر، وهو الفرقة والشقاق، بدليل قوله في رواية أخرى: «ولولا أن قومك حديث عهدهم بالجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن أدخل الجدر في البيت، وأن ألصق بابه بالأرض» (29).

6- تجلي الفقه الصحيح تجاه كل موقف دعوي، عبر تأمل ودراسة دقيقة:

قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]. 

والبصيرة هنا هي العلم بما تدعو إليه، والعلم بحال المدعو، والعلم بالطريقة التي توصل الحق إليه. 

والبصيرة هي العلم الشرعي المبني على الدليل من الوحي المنزل من عند الله تعالى، والفهم لمراد الله تعالى فيما أنزل، ومراد النبي صلى الله عليه وسلم فيما بيَّن، وهدى السلف الصالح الأول. 

ولهذا قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108]، أي: على علم ويقين وبرهان شرعي وعقلي فيما أدعو إلى فعله وما أدعو إلى تركه، وفي أسلوب الدعوة وحال المدعوين، فسمى الله العلم بصيرة لأنه يحصل به الصواب ويتبين به الحق لأولي الألباب، وتنكشف به الشبهة، ويدمغ به الباطل، وترد به الضلالة؛ فتتضح به المحجة وتقوم به الحجة. 

والبصيرة في الدعوة لا تختص بالعلم الشرعي فقط، بل تشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة، فيكون بصيرًا بحكم الشرع، وبصيرًا بحال المدعو، وبصيرًا بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة. 

فنحن على هدى من الله ونور، نعرف طريقنا جيدًا، ونسير فيها على بصر وإدراك ومعرفة، لا نخبط ولا نتحسس، ولا نحدس، فهو اليقين البصير المستنير، ننزه الله سبحانه عما لا يليق بألوهيته، وننفصل وننعزل ونتميز عن الذين يشركون به (30).

عن أناس من أهل حمص، من أصحاب معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟»، قال: أقضي بكتاب الله، قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟»، قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كتاب الله؟» قال: أجتهد رأيي، ولا آلو فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول، رسول الله لما يرضي رسول الله» (31).

قال الخطابي: لم يرد به الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه، أو يخطر بباله على غير أصل من كتاب، أو سنة، بل أراد رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة؛ من طريق القياس وفي هذا إثبات للحكم بالقياس (32). 

ينبغي للداعية إلى الله تعالى أن يعنى بمعرفة الأحكام الشرعية العملية، وخصوصًا المسائل التي يحتاج الناس إلى توجيه بشأنها في عباداتهم ومعاملاتهم وغير ذلك من شؤونهم، وذلك بالرجوع إلى كتب أهل العلم المعتبرة في كل فن كالتفسير، والحديث، والفقه، وأصول هذه العلوم، فيصدر عن أمهات هذه الفنون التي دوَّنها أئمة هذا الشأن في كل فن، ويراجع الأكابر من أهل العلم المعاصرين ليستفيد من تجربتهم، ويستنير بتوجيههم حتى يعرف أحكام المسائل والقول الراجح فيما فيه اختلاف ووجه رجحانه، ويكون على علم بأدلة المخالفين من أهل المذاهب المعتبرة، كل ذلك بالدليل فإن الأدلة هي مفاتيح العلم ومعدن الأحكام وبينات الحق (33).

------------

(1) تفسير ابن كثير (5/ 294).

(2) في ظلال القرآن (4/ 2336).

(3) تفسير القرطبي (2/ 16).

(4) تفسير الرازي (3/ 589)، بتصرف يسير.

(5) زهرة التفاسير (9/ 4730).

(6) تفسير ابن كثير (5/ 87).

(7) أخرجه مسلم (2165).

(8) أخرجه ابن حبان (472).

(9) أخرجه البخاري (2442).

(10) تفسير ابن باديس (ص: 112- 115).

(11) في ظلال القرآن (1/ 501).

(12) تفسير المنار (6/ 161).

(13) أخرجه البخاري (6032).

(14) أخرجه البخاري (4642).

(15) في ظلال القرآن (3/ 1419).

(16) أخرجه أحمد (22211).

(17) أخرجه البخاري (220).

(18) أخرجه مسلم (537).

(19) شرح النووي على مسلم (5/ 20).

(20) تفسير ابن كثير (2/ 119).

(21) أخرجه ابن ماجه (4189).

(22) أخرجه أبو داود (4777).

(23) في ظلال القرآن (1/ 475).

(24) أخرجه البخاري (3149).

(25) شرح النووي على مسلم (7/ 147).

(26) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(27) شرح صحيح البخاري لابن بطال (9/ 296).

(28) أخرجه البخاري (1583).

(29) أخرجه البخاري (1584).

(30) في ظلال القرآن (4/ 2034).

(31) أخرجه أبو داود (3592).

(32) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (6/ 2428).

(33) البصيرة في الدعوة/ منتديات الألوكة.