التطفيف الأخلاقي
التطفيف مشتق من الشيء الطفيف الذي لا يهتم به الناس لقلته، مثل أن ينقص البائع شيء بسيط وقليل، وهم الذين يأخذون حقهم من الناس كاملًا، وإذا حصل العكس، ينقصوا أو يُخسئون حق غيرهم.
قال القرطبي: قال أهل اللغة: المطفف مأخوذ من الطفيف، وهو القليل، والمطفف هو المقل حق صاحبه بنقصانه عن الحق، في كيل أو وزن (1).
قال الشيخ أبو القاسم القشيري رحمه الله: لفظ المطفف يتناول التطفيف في الوزن والكيل، وفي إظهار العيب وإخفائه، وفي طلب الإنصاف والانتصاف، ومن لم يرض لأخيه المسلّم ما يرضاه لنفسه، فليس بمنصف، والذي يرى عيب الناس ولا يرى عيب نفسه، فهو من هذه الجملة، ومن طلب حق نفسه من الناس، ولا يعطيهم حقوقهم، كما يطلب لنفسه، فهو من هذه الجملة، والفتى من يقضي حقوق الناس، ولا يطلب من أحد لنفسه حقًا (2).
يقول ربنا تبارك وتعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 1- 6].
قالوا: نزلت في رجل كان له مكيالان: كبير وصغير، إذا اكتال لنفسه على غيره، اكتال بالمكيل الكبير، وإذا كال من عنده لغيره، اكتال بالمكيل الصغير، ففي كلتا الحالتين تطفيف، أي: تنقيص على الناس من حقوقهم.
والتقديم في افتتاحية هذه السورة بالويل للمطففين، يشعر بشدة خطر هذا العمل، وهو فعلًا خطير؛ لأنه مقياس اقتصاد العالم وميزان التعامل، فإذا اختل أحدث خللًا في اقتصاده، وبالتالي اختلال في التعامل، وهو فساد كبير (3).
فالوصاية بإيفاء الكيل والميزان راجعة إلى حفظ مال المشتري في مظنة الإضاعة، لأن حالة الكيل والوزن حالة غفلة المشتري، إذ البائع هو الذي بيده المكيال أو الميزان، ولأن المشتري لرغبته في تحصيل المكيل أو الموزون قد يتحمل التطفيف، فأوصي البائع بإيفاء الكيل والميزان.
وهذا الأمر يدل بفحوى الخطاب على وجوب حفظ المال فيما هو أشد من التطفيف، فإن التطفيف إن هو إلا مخالسة قدر يسير من المبيع، وهو الذي لا يظهر حين التقدير فأكل ما هو أكثر من ذلك من المال أولى بالحفظ، وتجنب الاعتداء عليه (4).
والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفت النظر، فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية؛ كتقرير وحدانية الله، وانطلاق مشيئته، وهيمنته على الكون والناس، وكحقيقة الوحي والنبوة، وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء، مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها، وربطها بأصول العقيدة، أما التصدي لمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق- كمسألة التطفيف في الكيل والميزان- والمعاملات بصفة عامة، فأمر جاء متأخرًا في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية، وفق المنهج الإسلامي، الشامل للحياة.
ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه، وهو يشي بعدة دلالات متنوعة، تكمن وراء هذه الآيات القصار.
إنه يدل أولًا على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء، الذين كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة، التي تكاد تكون احتكارًا، فقد كانت هنالك أموال ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، كما افتتحوا أسواقًا موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج، يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار، والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل، ويعلن عليهم هذه الحرب؛ كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ، الذي يملكون إكراه الناس على ما يريدون، فهم يكتالون {عَلَى النَّاسِ} لا من الناس، فكأن لهم سلطانًا على الناس بسبب من الأسباب، يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسرًا، وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقًا، وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم، إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم، ويستوفون ما يريدون إجبارًا.
فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس، دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق، ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي، أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم، كما يقع حتى الآن في الأسواق، فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة (5).
قال السعدي رحمه الله: ودلت الآية الكريمة؛ على أن الإنسان كما يأخذ من الناس الذي له يجب أن يعطيهم كل ما لهم من الأموال والمعاملات، بل يدخل في عموم هذا الحجج والمقالات، فإنه كما أن المتناظرين قد جرت العادة أن كل واحد منهما يحرص على ما له من الحجج، فيجب عليه أيضًا أن يبين ما لخصمه من الحجة التي لا يعلمها، وأن ينظر في أدلة خصمه كما ينظر في أدلته هو، وفي هذا الموضع يعرف إنصاف الإنسان من تعصبه واعتسافه وتواضعه من كبره وعقله من سفهه (6).
التطفيف المعنوي قد يمارسه الشخص لحظ نفسه، وقد يمارسه لحظ غيره، وهو الشقاء الحقيقي والحمق الأعظم؛ قال عمر بن عبد العزيز لجلسائه: أخبروني بأحمق الناس، قالوا: رجل باع آخرته بدنياه، فقال عمر: ألا أنبئكم بأحمق منه؟ قالوا بلى، قال: رجل باع آخرته بدنيا غيره (7).
لا يعجز أصحاب المكاييل المطففة أن يبرروا لأنفسهم صواب خطأهم، وجواز ما حُرم عليهم، بدعاوى عدة، يجمعها رابط واحد أنه ما أنزل الله بها من سلطان، إن تكلموا عن أنفسهم ذكروا النقاء والصفاء والصدق والوفاء؛ وإن تكلموا عن غيرهم أبطلوا أعمالهم، وشككوا في نواياهم، وتتبعوا عثراتهم وعوراتهم.
ليس التطفيف المعنوي مقصورًا على التجار وتجارتهم؛ بل تراه وتشاهده حتى في الدوائر الوظيفية فهو من يهتم بأمور العمل وهو الذي ينظر لمصلحة مرجعه؛ أما غيره من الزملاء فليس لديه اهتمام؛ وإن اهتم فاهتمامه لمصلحة نفسه لا لمصلحة العمل.
والتطفيف ليس خاصًّا بالكيل والوزن والذرع، بل هو عام يدخل فيه كل بخس، سواء كان بخسًا حسيًّا أو معنويًّا، وإعطاء المرء أقل من حقه تطفيف.
ومن التطفيف تطفيف المعلم والمعلمة في حقوق العمل، ومن ذلك التأخر في دخول الحصَّة والخروج في أثنائها من غير حاجة، أو الانشغال بأشياء خارجة عن الدرس كالاتصال بالهاتف، أو الانشغال بأعمال مكتبية تنجز خارج الحصة، فوقت المعلم والمعلمة أثناء الحصة خاص بالطلاب والطالبات، فالواجب أن يصرف الوقت فيما فيه مصلحتهم.
ومن تطفيف المعلم والمعلمة عدم الاستعداد الذهني للدرس، ويظهر هذا في المراحل المتقدمة من التعليم.
ومن تَطفيف المعلم والمعلمة عدم متابعة أعمال الطلاب من تصحيح وتصويب أخطاء، وغير ذلك.
ومن التطفيف تطفيف الموظف في عمله، سواء كان حكوميًّا أو خاصًّا، فيتأخر في الحضور ويخرج مبكرًا، يجعل ذلك عادة له.
ومن التطفيف تأخير العمل والتسويف، خصوصًا ما يتعلق بالمراجعين مما يشق عليهم بتكرار المراجعة أو بالبحث عن شفاعة لينجز له عمله.
ومن التطفيف أن يطالب الموظف بكلِّ ما له، ولا يرضى أن ينتقص شيء من حقوقه، مع إخلاله بواجبه الوظيفي.
ومن التطفيف في حقوق الموظفين ما يصدر من بعض الرؤساء، حينما يتعامل مع مرؤوسيه وفق العلاقات الشخصية بعيدًا عن الكفاءة، فيرفع من حقه أن يخفض، ويَخفض من حقه أن يرفع، تقاريره لها دور في حجْب مكافأة عن مستحقِّها، أو تعطى مَن لا يستحقها، ربَّما نُقِل موظف وحقه أن لا ينقل، أو بقي من حقه أن ينقل؛ بسبب التطفيف في كتابة التقارير.
ومن التطفيف ما يقوم به البعض مِن استئجار عامل يعمل عنده، ثم يبخسه حقه كله أو بعضه، فخاب وخسر من هذا فعله؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوْفى منْه ولم عْطِه أجْرَه» (8).
ومن التطفيف التطفيف في الصلاة، فمن ذلك أن لا يتم شروطَها أو أركانها أو واجباتها، فلا تصح منه ولا تبرأ ذمته؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا دخل المسجِد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلى ثم جاء فسلم عليه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل»، فرجع فصلى ثم جاء فسلم، فقال: «وعليك السلام، فارجع فصل فإنك لم تصل»، فقال في الثانية أو في التي بعدها: علمني يا رسول الله، فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ بما تيسَّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئنَّ ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها» (9).
ومن التطفيف في الصلاة، الصلاة في البيوت ممن تجب عليه الجماعة من غير عذر، ومن التطفيف في الصلاة تأخير الصلاة عن وقتها متعمدًا؛ {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 4- 6].
روى الإمام مالك: أن عمر بن الخطاب انصرف من صلاة العصر، فلقي رجلًا لم يشهد العصر، فقال عمر: ما حبسك عن صلاة العصر؟ فذكر له الرجُل عذرًا، فقال عمر: طففت، قال الإمام مالك: ويقال لكل شيء وفاء وتطفيف (10).
ومن التطفيف تطفيف المستشار، فمن استشاره غيره وسأله عن شيء في بيع أو شراء أو نكاح، أو تولية عمل أو غير ذلك؛ وجب عليه أن يبين ما يعرفه وما يعتقده، ويحرم عليه أن يكتم مستشيره مواطن العيب والخلل، أو يظهر المحاسن فقط، أو يثني بما ليس فيه، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «المستشار مؤتمن» (11)، ومن لم ينصح لمن استشاره فقد خان الأمانة، وخيانتها من صفات النفاق العملي، فلا تمنعك أخي خشية عتب الناس وذمهم من بذل النصح والصدق مع من استشارك؛ فاللَّه أحق أن تخشاه.
ومن التطفيف تطفيف الأب مع أولاده -ذكورًا وإناثًا- فيجب على الأب أن يعدل بين أولاده في كل ما يستطيعه من مأكل ومشرب، وملبس ومسكن ومركب، ويحرم أن يفضل بعضَهم على بعض من غير سبب.
ومن تطفيف الأب هجر الأولاد وعدم زيارتهم والجلوس معهم، حينما يكون بينه وبين أمهم خلاف، فربَّما جلس عند أولاده من زوجة أخرى، وهجر أولاده من الزوجة الثانية من غير جناية اقْترفوها، فلسان حالهم يقول:
غيري جنى وأنا المعذب فيكم فكأنني سبابة المتندم
ومن التطفيف تطفيف الولد مع أبيه وأمه، فتجده يبخس أبويه حقهما، فلا يقوم بما افترضه الله عليه من برهما وطاعتهما بالمعروف، يدخل عليهما الهم والغم ونقد النَّاس لهما بسبب سوء صنيعِه، ويكون الأمر أشد حينما يكون هذه العقوق بسبب تفريط الولد في طاعة الله من صلاة وغيرِها، فقد جمع بين معصيتين.
ومن التطفيف تطفيف الزوج مع زوجته، فتجد البعض يطالب زوجته بحقوقه كلِّها، ويذكرها بالنصوص الشرعيَّة الواردة في ذلك، لكنه يتناسى الحقوق التي افترضها الله عليْه لزوجته، من عدل إن كان معه غيرها، ومن معاشرة بالمعروف في القول والفعل، ومن القيام بحوائجها داخل البيت وخارجه؛ {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [البقرة: 228].
ومن التطفيف تطفيف الزوجة في نكران جميل زوجها، حين الاختلاف بسبب موقف لا يرضيها، أو لم يحقق لها كل ما تريده، وهذا كفران نعمة متوعد عليه المرأة؛ فعن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أريت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن»، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنتَ إلى إحداهُنَّ الدَّهر ثمَّ رأَتْ منكَ شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط» (12).
حينما تمر بنا سورة المطففين لنقف مع آياتها وقفة تدبر ومحاسبة، فربما كانت السورة تتوعد أحدنا ممن يقرؤها أو يستمع إلى تلاوتها، فلنمتثل لتحذيرها، فكيف لا يرعوي مسلم وهو يسمع وعيد ربه له بقوله تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)} [المطففين: 4 - 6] (13).
المطفف: هو ذلك الموظف الذي يعطل مصالح الناس ومقدراتهم ولا يأبه لهم وفي المقابل يوصل الحقوق لأصحاب الوسائط في بيوتهم لمنافع تسدى له
المطفف: هو كل صاحب عمل يعطى الفرص والحوافز لأشخاص بعينهم ويحرم منها عموم العاملين لأغراض في نفسه.
المطفف: هو الكفيل الذي يأخذ من مكفوله أكثر من حقه ويبخسه راتبه أو يمنعه إياه.
المطفف: هو أستاذ الجامعة والقاضي ومدير المؤسسة الذي يعين ابنه في مجال عمله ويحرم منها من هو أكفأ منه، الآية تجعل كل ذي عقل يفكر، إن معناها الجامع يشمل أدق جوانب حياتنا، هل كلنا مراعي لضميره في عمله؟ في حياته؟ في علاقاته الاجتماعية؟ أو حتى في علاقاته المادية؟
وعن عبد الملك بن مروان: أن أعرابيًا قال له: قد سمعت ما قال الله في المطففين: أراد بذلك أن المطفف قد توجه عليه الوعيد العظيم الذي سمعت به، فما ظنك بنفسك وأنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل ولا وزن.
وفي هذا الإنكار والتعجيب وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصفه ذاته برب العالمين: بيان بليغ لعظم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان في مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط، والعمل على السوية والعدل في كل أخذ وإعطاء، بل في كل قول وعمل (14).
وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن، بل يسلبونهم ما بأيديهم، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم، فيحرمونهم التمتع بها، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال الحيل المختلفة.
لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا في عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين (15).
الفئات المستهدفة في التطفيف:
يقول الله جل شأنه: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام: 152- 153].
جميع الفئات الاجتماعية في المجتمع، أي مجتمع، مستهدفة في سياسة التطفيف، ولا يمارس سياسة التطفيف إلا ذوي النفوس المريضة، الذين يرغبون في سرقة جهد ووقت وأموال غيرهم ظلمًا وعدوانًا، ويستغفلون الآخرين، ولديهم نقص نفسي، وسادية وتلذذ في تعذيب الآخرين، والانتقام من زملائهم الذين لا يماثلونهم الرأي والمكر والمكيدة، ولا ينافقون لهم، والزعم بالتوفير على المؤسسة، علمًا بأنهم يكونون من المبذرين في نشاطات أخرى، فيلجؤون لتغطية نقصهم، بسياسة التطفيف السلبية، فيأكلون حقوق العباد ظلمًا وعدوانًا.
والمضطهدين ينافقون لهم ويجاملونهم ويتربصون بهم الدوائر، ويبقون يبلعون المر، طيلة فترة العذاب النفسي والاجتماعي والحبس اللاإرادي الذي يمارسه غيرهم ضدهم، والبعض ينتفض أمام هؤلاء الظالمين من الطغاة البغاة، المستأسدين على ذوي الحاجة، فينالون حقوقهم، ويشنون حملات دعاية وإعلام وعلاقات عامة مكثفة ومبرمجة ناجحة فتعاطف معهم الناس، ويهدئون من روعهم، ويطالبونهم بالصبر والبعض ينصحهم بترك العمل وإعلان الإضراب وهكذا.
وتعتبر فئة المقاومين للظلم بشتى صوره، فئة مقاتلة من أجل الحرية والحق، وتنال أمانيها ومطالبها في نهاية المطاف على استحياء أو بصورة علنية.
وكلمة ويل هي زجر وتهديد إلهي للذين يتلاعبون بالأوزان والمعاملات، فالأصل هو أن يرضى الإنسان لغيره كما يرضى لنفسه، حتى يكون عادلًا، ولا يبخس الناس أشياءهم، ومن حكمة الله العدل العادلة بين جميع خلقه هو الميزان الحق، لا زيادة ولا نقصان، ولو كان نزرًا يسيرًا، فاحرصوا عندما تشترون وتتولون عملية التوزين ألا يزيد ولا ينقص الميزان قدر الإمكان.
ولا بد من القول، إن كل إنسان هو حاكم نفسه، وقاضي نفسه والآخرين، ومحاسب نفسه وبنفسه لنفسه ولغيره من الناس الآخرين، إن كان من أهل الصلاح والإصلاح، وهو يعلم علم اليقين الحق من الباطل، والغث من السمين.
وما نراه من صراع بين الناس على أمور تافهة، لا تنم إلا عن جهل مطبق.
والأصل الصحيح أن يكون الوزن القسط العدل بأدق الموازين الاقتصادية والاجتماعية والنفسية ليعيش المجتمع المسلم على أكمل وجه، بعيدًا عن المغالاة، وبعيدًا عن الشح والبخل والتقتير، وبعيدًا عن الإسراف والتبذير والامتلاء الفاسد غير المبرر (16).
والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة، يدركونها جيدًا، ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة، ومصالحهم المغتصبة، وكيانهم الزائف، وسلوكهم المنحرف، هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم! والطغاة البغاة الظلمة المطففون- في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات- هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف! الذي لا يقبل المساومة، ولا المداهنة، ولا أنصاف الحلول؟
ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة: قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس.
فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه، فهو والله خير الدنيا والآخرة، قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا؟ قال: «الجنة»، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه.
فقد أدرك هؤلاء- كما أدرك كبراء قريش من قبل- طبيعة هذا الدين، وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك، لا يقبل من طاغية طغيانًا، ولا من باغ بغيًا، ولا من متكبر كبرًا.
ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال، ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد (17).
قال تعالى: {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [هود: 86]، والمعنى: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، يعني المال الحلال الذي يبقى لكم خير من تلك الزيادة الحاصلة بطريق البخس والتطفيف (18).
----------
(1) تفسير القرطبي (19/ 251).
(2) غرائب القرآن (30/ 49).
(3) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (8/ 454).
(4) التحرير والتنوير (8-أ/ 166).
(5) في ظلال القرآن (6/ 3855).
(6) تيسير الكريم الرحمن (ص: 915).
(7) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (5/ 325).
(8) أخرجه البخاري (2270).
(9) أخرجه البخاري (6251) ومسلم (397).
(10) الموطأ (1/12).
(11) أخرجه أبو داود (5128).
(12) أخرجه البخاري (29) ومسلم (907).
(13) من صور التطفيف/ شبكة الألوكة.
(14) تفسير الزمخشري (4/ 720).
(15) تفسير المراغي (30/ 73).
(16) الكيل بمكيالين/ كمال إبراهيم علاونه.
(17) في ظلال القرآن (6/ 3856).
(18) مفاتيح الغيب (18/ 386).