logo

لكل مقام مقال


بتاريخ : السبت ، 1 ربيع الآخر ، 1435 الموافق 01 فبراير 2014
بقلم : تيار الاصلاح
لكل مقام مقال

إن لكل أمرٍ أو فعلٍ أو كلام موضعًا لا يوضَعُ في غيره، وخير القول ما وافق الحال، والعرب تقول: لكل مقام مقال، والخاصة تقول: خير الكلام ما وافق الحال، والعامة

 

تقول: خير الغناء ما شاكل الزمان، وفي القرآن: {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67].

 

نعم لكل مقام مقال فما يجعل في موطن قد يقبح في موطن آخر، وما يجب في مقام قد يمتنع في مقام آخر، ولولا هذا لكان الوصول إلى الطرف الأعلى من البلاغة هينًا، ولأصبح كلام الناس لونًا واحدًا وطعمًا واحدًا، ولكن الأمر يرجع إلى حسن الاختيار من هذه المتنوعات بحسب ما يناسب الأحوال والمقامات، فخطاب الأذكياء غير خطاب الأغبياء، وموضوع العقائد التي يتحمس لها الناس غير موضوع القصص، وميدان الجدل الصاخب غير مجلس التعليم الهادئ، ولغة الوعد والتبشير غير لغة الوعيد والإنذار، إلى غير ذلك؛ مما يجعل اختيار المناسبات عسيرًا ضرورة لأن الإحاطة بجميع أحوال المخاطبين قد تكون متعسرة أو متعذرة، ومما يجعل اللفظ الواحد في موضع من المواضع كأنه نجمة وضاءة لامعة، وفي موضع آخر كأنه نكتة سوداء مظلمة.

 

أما أن يأتي كلام واحد يخاطب به العلماء والعامة، والملوك والسوقة، والأذكياء ومن دونهم، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، ويرى فيه كل منهم مطلبه، ويدرك من معانيه ما يكفيه، فذلك ما لا نجده على أتمه وأكمله إلا في القرآن الكريم وحده؛ يقرأ فيه العامي فيشعر بجلاله، ويذوق حلاوته، ولا يلتوي عليه فهمه، فتدركه هيمنته، ويستولي عليه بيانه، وتغشاه هدايته، فيخشع قلبه، وتدمع عيناه، فينقاد له، ويذعن.

 

ويقرأ فيه العالم فيدرك فصاحته، وتهيمن عليه بلاغته، ويملكه بيانه، وتنجلي له علومه ومعارفه، وتدهشه أخباره وأنباؤه، فيجد فيه زمام فكره، وقيادة عقله، ومنهج علمه، ومحار فكره، ورفعة شأنه فيذعن: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]، ثم يرفع يديه: {رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، فتدركه الخشية، ويذعن لربه، ويؤمن بشرعه.

 

نظر المعنيون بدراسة البيان العربي وآدابه إلى مناهج التعبير وأساليب التخاطب التي ينقل بها المتكلم ما يروم التحدث به إلى غيره، فوجدوا أن هناك دوافع ومحرضات تحمل المتكلم على إظهار ما لديه من معان في نظم من القول؛ تختلف أساليبه وفنونه بحسب اختلاف الموضوع الذي يراد فهمه وإفهامه طبقًا لمقتضى الحال، فليس مقام أداء الحقائق العلمية كأداء المعاني الأدبية، وليس أداء الحقائق التعبدية كأداء حقائق الترغيب والترهيب، وليس القول في المعاتبة كالقول في التغضب والهجران، وهكذا في سائر مقامات الكلام إذ لكل مقام مقال كما يقول أرباب البلاغة.

 

ولقد عالج القرآن الكريم مقامات الكلام وأساليبه بحسب موضوعاتها، فنرى اختلاف الأساليب المكية التي جاءت لإثبات العقيدة والبرهنة عليها ومجادلة المخالفين لها -في الأعم الأغلب- عن أساليبه في السور المدنية التي جاءت -في أكثر أحوالها ومناسباتها- لبيان الأحكام الشرعية والآداب الاجتماعية، والصفات الخلقية، وأحوال المجتمع السياسية، وأصول الحكم وغير ذلك.

 

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم في حجرتي، وكان مضطجعًا وفخذه باد، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على حالته، ثم استأذن عثمان فاعتدل وغطى فخذه وأذن له.

 

تقول عائشة رضي الله تعالى عنه: فلما خرجوا قلت: يا رسول الله استأذن عليك أبي فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عمر فأذنت له وأنت على حالك، واستأذنك عثمان فنهضت وسترت فخذك، فلماذا؟ فقال: »ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة«، هذه ناحية، الجواب الثاني وهو عملي، قال: »إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت أن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إلي في حاجته«(1).

 

فالرسول لما علم من عثمان شدة حيائه خشي أن يرى عثمان ذلك فلا يطلب ولا يسأل حاجته، وربما ينصرف، فقابله بما يمكن أن يكون وسيلة أو طريقة لما يصل بها عثمان إلى حاجته، فالأقوال والمجالس والأحاديث تتفاوت؛ ولكل مقام مقال.

 

فإذا كانت المصلحة في الغلظة والشدة فعليك بها، وإذا كان الأمر بالعكس فعليك باللين والرفق، وإذا دار الأمر بين اللين والرفق أو الشدة والعنف فعليك باللين والرفق، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: »إن اللهَ رفيق يحب الرفق في الأمر كله«(2)، ولقد جرت أشياء كثيرة تدل على فائدة الرفق.

 

ولكل شخص ما يناسبه من الأساليب؛ لأن الهدف تغيير المنكر، هذا القصد وهذا الهدف، فإذا تغير المنكر بأي أسلوب يناسبه هذا هو الهدف، ولذا بعض الناس يغير ما يرتكبونه من المنكرات باليد؛ لأنه لا يترتب على ذلك مفسدة، وهو الأصل، إن لم يستطع هذا أو هذه المرتبة لا يستطيعها المغير ينتقل إلى المرتبة التي تليها وهكذا، فلا يغير المنكر بما يترتب عليه من مفاسد هي قد تكون أعظم منه، أيضاً إقرار المنكر والتواطؤ على إقراره والسكوت عنه لا يجوز، بل إنكار المنكر فرض على الأمة، وهو سبب خيريتها: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران: 110].

 

ومن بلاغته وحكمته في رد سؤال الأعرابي: حيث إن الأعرابي لما ناداه بقوله: يابن عبد المطلب، ولم يراع منزلة النبوة، أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «قد أجبتك»، وقال ابن حجر رحمه الله: وقد قيل: إنما لم يقل له: نعم؛ لأنه لم يخاطبه بما يليق بمنزلته من التعظيم مع قوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا } [النور: 63]، والعذر عنه- إن قلنا: إنه قدم مسلمًا- أنه لم يبلغه النهي وكانت فيه بقية من جفاء الأعراب.

 

وهذا يدل على حكمته التي تقتضي أن يكون لكل مقام مقال، فكان هذا الرد لفتًا لانتباه الصحابة وتعليمًا لهم بجفاء مسلك الأعرابي.

وقيل: ثمانية إن أهينوا فلا يلوموا إلا أنفسهم: الجالس في مجلس ليس له بأهل، والمقبل بحديثه على من لا يسمعه، والداخل بين اثنين في حديثهما ولم يدخلاه فيه، والمتعرض لما لا يعنيه، والمتأمّر على رب البيت في بيته، والآتي إلى مائدة بلا دعوة، وطالب الخير من أعدائه، والمستخف بقدر السلطان.

 

ويتعين على الجليس أن يراعي ألفاظه ويكون على حذر أن يعثر لسانه خصوصًا إذا كان جليسه ذا هيبة، فقد قيل: رب كلمة سلبت نعمة، أي: أن يكون نوع ولغة وطول الكلام على قدر مضمونه وأفكاره وأهميته عامة، ثم حسن تقسيمه لرسالته، والترتيب الدقيق لأفكاره، والاهتمام بالخاتمة أو النهاية إلى جانب المقدمة أو الصدر كما كانت عباراته قصيرة، دقيقة ومتماسكة, كل ذلك إلى جانب ميله إلى تقديم الحجج القوية والبراهين التي تؤدي إلى إقناع القارئ بما يقول, كما كان يبتعد عن اللفظ الغريب، والوحشي أو السوقي

فعن مالك بن الحويرث قال: أتينا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده عشرين يوماً وليلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحيمًا رفيقًا، فلما ظن أنا قد اشتهينا أهلنا أو قد اشتقنا سألَنا عمن تركْنا بعدنا فأخبرناه، قال: »ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم ومروهم، وذكر أشياء أحفظها أو لا أحفظها، وصلوا كما رأيتموني أصلي، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم«(3).

 

لكن حين يتطلب الأمر الحزم فإن الحال يختلف؛ ففي موقف آخر يأتيه شاب من أصحابه شاكيًا له ما أصابه من المشركين، وقد بلغ به الأذى والشدة كل مبلغ وهو خباب بن الأرت فها هو يروي الموقف فيقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو محمر وجهه، فقال: »لقد كان من قبلكم ليمشط بمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله«(4).

 

لقد كان صلى الله عليه وسلم يضع لكل موقف ما يناسبه؛ ففي الموقف الأول: شاب يأتي إليه من أصحابه، وهو في آخر أيامه صلى الله عليه وسلم فإن غادره لن يلقاه أخرى حتى يموت، وهي فرصة للتعلم والاستزادة لن تتكرر في حياته، لكنه لرحمته ورفقه صلى الله عليه وسلم لم يؤكد عليه البقاء والاحتساب لطلب العلم بل لصحبته ومجالسته.

 

بل إن الأمر يتجاوز ذلك كله ليبادر هو، ويدرك ما في نفوسهم دون أن يطلبوا هم منه ذلك، فيبادرهم آمرًا إياهم أن ينصرفوا إلى أهلهم.

 

وفي الموقف الثاني: يأتيه شاب غض الشباب يشتكي إليه شدة الأهوال التي لقيها من المشركين، فيحمر وجهه ويغيّر جلسته، ولربما يتصور بعض الناس أنه كان من الأوْلى في الموقف الأول الحزم، وتعويد الشاب على الجدية في طلب العلم، وتحمل الغربة وشدتها، والتعاطف في الموقف الثاني مع هذا الذي تعرض للأذى وجاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء.

 

لكنه صلى الله عليه وسلم الحكيم والمربي، الذي يضع لكل مقام ما يناسبه، فما أجدر من يقتدي به من المربين أن يضع الحزم في موضعه، وأن يضع التعاطف والرفق في موضعه.

وليس هذا فحسب بل سمى النبي صلى الله عليه وسلم حسن التعبير وجودة الأسلوب في الخطبة سحرًا، فقال صلى الله عليه وسلم: «وإن من البيان سحرًا»(5).

 

عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا بعد صلاة الغداة موعظةً بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب.

 

وتتفاوت هذه البلاغة من جمهور لآخر؛ لأن الهدف هو إيصال الموعظة للقلوب، لا الاستمتاع بألفاظها دون التأثر بها؛ فالمبالغة في تحسين الكلام وانتقائه إذا تعدّى فهم المتحدّث إليهم، كان عيبًا في الاختيار، وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون! أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟(6).

 

 

_________________________________

(1) مسلم، (2402).

(2) البخاري، (6927).

(3) البخاري، (631، 7246)، ومسلم، (674).

(4) صحيح البخاري، (3852).

(5) البخاري، (5767)، ومسلم، (869).

(6) البخاري، (127).