logo

صفات الداعية المجاهد


بتاريخ : الثلاثاء ، 26 صفر ، 1437 الموافق 08 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
صفات الداعية المجاهد

إن هذا الدين بحاجة إلى من يتبنى همومه، ويحمل مسئوليته، ويشعر بخطورة دوره، وليس بحاجة إلى أبواق رنانة، وأصوات طنانة، فليست النائحة الثكلى كالمستأجرة، فالداعية المجاهد هو الداعية الذي تصبح الدعوة همه الشاغل، ويعطيها من جهده ووقته بلا حساب، وينبغي أن يتصف بالصفات التالية :

1- القيادية:

ليس معني القيادية هو التحكم في الأخرين والتعالي عليهم، والأنانية في إبراز الذات فقط، أو فرض الرأي والفكر، ولكن القيادية هي، قبل كل شيء، احترام للذات والآخرين، وثقة بالنفس، وتحمل للمسئولية، والقدرة علي إدارة الأمور، والنجاح في الحياة، والتأثير الإيجابي في الآخرين.

القيادة الناجحة حقًا هي التي تضع نصب عينيها رؤية الأحداث القريبة والبعيدة منها، والتي لها تأثير على اتخاذ القرار الصائب، فمرة تستخدم الشدة في التعامل عندما يتطلب الأمر ذلك، وتارة تميل للين واستعمال اللطف في العبارة؛ لأنه الأصلح والأقدر في تلك المرحلة، وتلك مسألة متروكة لتقدير القيادة.

2- أن يكون ذا حس مرهف:

يلين قلب الداعية فيصير يقظًا مرهف الحس؛ ينبض بمعاني القرآن، فيستخرج من دقائق إشاراته وخفيّ عباراته ما لا يلتفت إليه غيره، وهذا ضروري جدًا للداعية الذي يجعل القرآن الكريم أهم موارده وأمداده.

والداعية لا يبلغ هذه الروحانية إلا بعد تجارب جرب بها مرارة الحرمان، ومشقة المجاهدة، والصبر على تنفيذ أوامر الله ونهيه، وطبق مفردات المنهج الإلهي على نفسه في حياته الخاصة، تطبيقًا عمليًا لا هوادة فيه، فإذا دعا إلى فضيلة بعد هذا، أو نهى عن رذيلة، أو وصف لذة من لذائذ النفس تكلم عن معرفة ويقين وتجربة ومشاهدة، فلا يتكلم إلا بالحق المجرب، فإن النفس التي صهرتها التجربة ومرارة التنفيذ تظل رائعة من خلال عينيه، وعضلات وجهه، وإشارات يده، ونور طلعته.

إن صاحب الإحساس المرهف يراعي مشاعر إخوانه، ويحترمها، ويحذر أن يمسها بسوء، يروى أن أبا سفيان، في هدنة صلح الحديبية قبل إسلامه، مر على سلمان وصهيب وبلال، فأرادوا أن يسمعوه قولًا يغيظه، فقالوا: «والله، ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها».

فاستنكر عليهم أبو بكر ما قالوا، وقال لهم: «أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟»، وذهب أبو بكر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما جرى، فكان أول أمر أهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تساءل عن مشاعرهم تجاه ما صدر من أبي بكر، فقال له: «يا أبا بكر، لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك»، فأتاهم أبو بكر يسترضيهم، ويستعطفهم قائلًا: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك(1).

3- فهم خط سير الدعوة وفقه المرحلية:

إن المرحلية في جهادنا شرط موضوعي تفرضه ضخامة هدف الدعوة وتواضع إمكانياتها، فالعمل التغييري الهادف لا يمكن تحقيقه في الناس دون التمرس بعمل الدعوة في خطوات يتلو بعضها الآخر؛ بل إن المرحلية تتعدى ذلك لتمثل قانونًا وسنـَّة كونية واجتماعية، فالله سبحانه جلـَّت قدرته خلق السماوات والأرض في ست مراحل،{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْ‌ضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق:38]، وخلق الإنسان في عدة مراحل{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَ‌ارٍ‌ مَّكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ‌ فَتَبَارَ‌كَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)} [المؤمنون:12-14]، وخلق الكائنات الحية على أطوار، وأودع في الجميع خاصية النمو التدريجي، كما نشاهد فيما حولنا من خلق الله.

وكذلك سنته تعالى في تحوّل المجتمع من وضع إلى آخر، سواء كان التحول جزئيًا أم كليًا، حيث يتم هذا التحول على مراحل، خاصة إذا كان التحول بجهود فئة من المجتمع.

إن أدنى نظرة إلى جهاد الأنبياء عليهم السلام ترينا كيف كانوا يتدرجون في عملهم لتحويل الناس وتغييرهم برسالة الله تعالى، وكيف كانوا يتقيدون بالتدرج والمرحلية.

وقد التزم الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه الحقيقة، وطبقها جيدًا؛ حيث صدع بدعوته المباركة على ثلاث مراحل:

الأولى: بناء النواة الطليعية من المتغيرين بالإسلام، والذين يتحملون أعباء المسيرة، وكان طابعها سريًا في أكثر أشخاص الدعوة، ودامت ثلاث سنوات.

الثانية: مرحلة التبليغ العام، والتفاعل مع المجتمع في صراع فكري وسياسي مرير، وكان طابعها علنيًا في أكثر أشخاص الدعوة، ودامت عشر سنوات.

الثالثة: مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي في المدينة، وخوض الصراع الكامل مع أعداء الدعوة، وتحرير أوسع بقعة ممكنة من المناطق المحيطة بالدولة وضمها إلى الدولة.

وكذلك أئمة المسلمين عليهم السلام، اعتمدوا المرحلية في جهادهم لاستئصال الانحراف والفساد في المجتمع المسلم(2).

4- يميز بين الفكر التنظيمي الصائب والخاطئ:

إن هذه الفترة تتطلب بلورة المفاهيم السائدة في الأنشطة والاتجاهات الدعوية، والتعامل مع هذه الأنشطة وفق المفهوم العلمي لأداء المنظمات؛ وبالتالي تحقيق أقصى درجات الكفاءة في الأداء في مجال الدعوة، وهذا لن يتحقق إلا بتبني منهج التطوير التنظيمي للفكر الدعوي، والبحث عن مكامن الخلل في الأداء، والكشف عن الواقع الحالي له وخصائصه، وبالتالي تحديد الآلية المناسبة لرفع كفاءة نشاط برامج التوعية الإسلامية؛ وفقًا للثوابت الإسلامية، وفي ظل ما شرع الله سبحانه وتعالى ورسوله الأمين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

5- يحدد أولوياته:

إن إغفال فقه الأولويات أو فقه الواقع عند إنشاء أي عمل أو اتخاذ أي قرار يجعل بناء القرار على مبدأ غير صحيح، وإذا أقيم فلا يستمر، وإذا استمر فلا يثمر الثمرة المطلوبة منه؛ لذا ما نرى أي رسول من رسل الله تعالى عليهم السلام إلا طبقه عند تبليغ رسالته، لأن مراعاة فقه الأولويات سنة من سنن الله تعالى، وعلى سبيل المثال: يريد إنسان عادي بناء بيت له فحينئذ عقله لا يسمح أن يقوم بالتأسيس لبيته على أرض ليس له حق فيها، فينتظر ويصبر حتى  تصبح الأرض في حوزته فيبدأ البناء؛ لأنه يخشى أن يضيع جهده وماله ووقته هباءً منثورًا، هذا نتيجة استيعاب فقه الأولويات في ذهنه فطريًا، فكيف يقوم المسلم بإهمال أمور دينه؛ فمثلًا هو يريد أن يصوم ولكنه لا يعرف حقيقة الصيام وأركانه وفوائده المطلوبة، أو يريد أن يتصدق متطوعًا بمبلغ وهو لم يؤد الزكاة الواجبة عليه، وهذا أمر شخصي، خطره قد لا يتجاوز نفسه، أما إذا كان الأمر أعظم من هذا فالحاجة أعظم لمعرفة فقه الأولويات(3).

6- يعمل على التخلص من الجمود والركود والتقوقع:

إن النمو الفكري لدى كثير من الدعاة ازداد إلى حد أن الداعية أصبح يتمكن أن يشع بفكره على الآخرين، وما لم يفسح المجال لمفكري الدعوة من المجاهدين والواعين لإنتاج الفكر الحي المؤثر؛ فإن من المحتمل أن تتجه بعض هذه الطاقات إلى التفكير بقضايا غير حيوية، تتعطل من جرائها طاقات نحن أحوج ما نكون إليها.

إن الجمود والتقليد إنما يعطل ملكات التعقل والتجديد التي أنعم الله بها على الإنسان، والتي ميزته، كخليفة الله سبحانه وتعالى، عن سائر المخلوقات، وعندما يكون هذا الجمود والتقليد لتجارب الآخرين تجاوزها التطور، يكون سببًا في حدوث فراغ فكري يملؤه الغزو الفكري والاستلاب الحضاري، وتتمدد فيه المذاهب الغريبة التي يشكو منها أهل الجمود والتقليد.

إن أي تطور وتقدم ونهوض لا بد أن يحطم قيود الجمود وأغلال التقليد، ليفجر في الأمة طاقات الإبداع النابع من فقه الواقع، والمسترشد بالمناهج والثوابت والأصول، مع التفاعل مع الآخرين في ما هو مشترك إنساني عام.

7- القدرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب:

نرى كثيرًا من الناس دقيقين جدًا في تجميع المعلومات، ووضع الأسئلة، ودراسة الأحوال والمتغيرات، ولكن عندما تأتي لحظة القرار فإنهم لا يعرفون إلا طريقًا واحدًا، وهو الارتجالية وسرعة البديهة.

والقرار البديهي ليس مذمومًا مطلقًا؛ بل هناك حالات تتطلب من المرء أن يتخذ فيها قرارًا سريعًا، كالقضايا الطارئة، فالدكتور يتخذ قرارًا في صرف الدواء للمريض، ويتطلب أن يكون القرار سريعًا، لكنه يجب أن يكون مبنيًا على علم مسبق، وعند اتخاذ قرار مبني على البديهة فإننا في الغالب لا نلتفت إلى المآلات وما يترتب على ذلك من نتائج، وإنما نعيش اللحظة الآنية، فنتخذ القرار متأثرين بالعوامل التي تحيط بنا.

إن صناعة القرار لا يعتمد فقط على البديهة أو الحدس، وإنما تبنى كذلك على إجراءات تساعد على اتخاذ القرار الصائب.

إن كثيرًا من الأشخاص يتخذون قراراتهم بناءً على انفعال ناتج عن موقف لحظي، دون النظر للنتائج على المدى البعيد، وطبعًا هذا لا يعكس أي حكمة.

إن أي قرار تتخذه أو لا تتخذه له نتائج على حياتك؛ لذلك بمجرد أن نتعلم اتخاذ القرار بناءً على النتائج, كل الاعتبارات الأخرى توضع في مكانها الصحيح تلقائيًا.

8- يحافظ على المواعيد ويخطط لكي لا يضيع الموعد:

الالتزام بالمواعيد هي صفة وميزة حضارية، ودليل رقي في القيم والآداب الاجتماعية، وسمة للإنسان الملتزم الذي يحترم نفسه والآخرين، وتعتبر سببًا من أهم أسباب تقدم الشعوب.

إن عدم الالتزام باحترام المواعيد يشجع العابثين وأصحاب الأهواء، ويثبط عزائم الجادين، ويساهم في تخلف المجتمع بأسره، وبذلك يعتبر إخلاف المواعيد مرضًا خطيرًا يتطلب من المخلصين لدينهم ووطنهم التفكير في علاج ناجع.

وقد نبه ابن القيم رحمه الله إلى أن إيثار المرء الناس بوقته أمر يفسد عليه حاله، فقال: «مثل أن تؤثر جليسك على ذكرك، وتوجهك وجمعيتك على الله، فتكون قد آثرته بنصيبك من الله ما لا يستحق الإيثار، فيكون مثلك كمثل مسافر سائر في الطريق لقيه رجل فاستوقفه، وأخذ يحدثه ويلهيه حتى فاته الرفاق، وهذا حال أكثر الخلق مع الصادق السائر إلى الله تعالى؛ فإيثارهم عليه عين الغبن، وما أكثر المؤثرين على الله تعالى غيره، وما أقل المؤثرين الله على غيره.

وكذلك الإيثار بما يفسد على المؤثر وقته قبيح أيضًا؛ مثل أن يؤثر بوقته، ويفرق قلبه في طلب خلقه، أو يؤثر بأمر قد جمع قلبه وهمه على الله؛ فيفرق قلبه عليه بعد جمعيته، ويشتت خاطره، فهذا أيضًا إيثار غير محمود.

وكذلك الإيثار باشتغال القلب والفكر في مهماتهم ومصالحهم التي لا تتعين عليك على الفكر النافع، واشتغال القلب بالله، ونظائر ذلك لا تخفى؛ بل ذلك حال الخلق، والغالب عليهم، وكل سبب يعود عليك بصلاح قلبك ووقتك وحالك مع الله فلا تؤثر به أحدًا؛ فإن آثرت فإنما تؤثر الشيطان وأنت لا تعلم»(4).

***

__________________

(1) أخرجه مسلم (2504).

(2) المرحلية في جهاد الدعوة، ثقافة الدعوة الاسلامية.

(3) العمل الدعوي في الأقليات المسلمة على ضوء فقه الأولويات، المركز الوطني للمعلومات.

(4) مدارج السالكين (2/ 310).