logo

عتاب الدعاة بعضهم على بعض


بتاريخ : الأربعاء ، 19 ربيع الأول ، 1445 الموافق 04 أكتوبر 2023
بقلم : تيار الاصلاح
عتاب الدعاة بعضهم على بعض

العتاب مخاطبة ومذاكرة وحل، وهو طلب المسيء الرجوع عن إساءته، وهو مخاطبة الأخلاء بعضهم بعضًا، طالبين حسن مراجعتهم، ومذاكرة ما كرهوه، وإذا تعاتب الصديقان أصلح ما بينهم العتاب، وإنما يعاتب من ترجى عنده العتبى، أي: الرجوع عن الذنب والإساءة.

وما فتئ آحاد الناس في كل بيئة -ومنهم الدعاة والمصلحون- يختلف رأي هذا عن هذا، ويخطئ هذا على هذا بدواعٍ عديدة، ومن منطلقات مختلفة، يأتي في مقدمتها: الجهل، والظلم، والغفلة، والعجلة، وحب الذات، واتباع الهوى، وضعف التجرد، وتفاوت العباد في الفهوم والطباع والقدرات، كما هو الحال في كل بيئة تتسم بالتفاعل والحراك الاجتماعي؛ إذ النقص في كل البشر سجية، والأصل التنوع والاختلاف وحدوث المشاحّة والتنافس، ومن الطبيعي الخطأ.

ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها؟          كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه

وأمام هذا الواقع؛ ينقسم من يقع عليهم التجني والخطأ إلى فئتين:

فئة كريمة: كبيرة النفس، واسعة البال، تناست الهفوة، وآثرت الصفح الجميل؛ فأخذت بالعفو، وارتدت ثياب الحلم، وتخلقت بعبير الصبر، واتسمت بالرفق والسماحة واللين؛ حرصًا منها على استدامة المودة، وعدم تعكير أجواء الصفاء مع الإخوة، وتغليبًا منها لحُسن الظن، والإدراك بأن الزلة من سمات البشر، ورجاءَ بلوغ المعالي يوم الدين، والظفر بما جاء في قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبـُّونَ أَن يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور: ٢٢]، وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ} [الشورى: 40]، {وَلَـمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَـمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43].

وفئة فاضلة: نهجت سبيلَ العدل، وآثرت أخْذَ الحق، قناعةً منها بضرورة معالجة الخطأ، وأنّ إحسان الظن لا يمنع المعالجة والتصويب بل يُحتمه؛ لكي لا يزداد الزلل وتنجم أخطاءٌ أكبر، وحفاظًا على المحبة وديمومة الإخاء، فنبَّهت على ما ترى فيه تقصيرًا تجاهها، وجنوحًا عليها، وعدم مراعاة لمشاعرها؛ معاتِبة على الزلل، ومطالِبةً بتصحيح الحال، والبِدار إلى الرجوع عن السقطات، وعدم التمادي في التفريط، وإتيان مسببات الفرقة وبذور العداوة.

ولا شك أن الاحتمال وإغضاء الطرف، وعدم الالتفات إلى زلـل الإخـوان مـن دون ما تقريعٍ ولا تأنيب، ولا معاتبة، ولا تنبيه على الخطأ؛ أخيَر وأكمل، يقول الشاعر:

هبني أتيت بجهل ما قذفت به        فأين فضلك والحلم الذي عُرِفا؟(1).

ويتأكد ذلك في حال كان ذلك باختيارٍ ورضا نفسٍ، فلم يورث حقدًا ولا ضغينة، ولا جر إلى هجرٍ أو دعا إلى قطيعة، يقول الفضيل بن عياض: الفتوة: العفو عن عثرات الإخوان (2)، وقال الحسن بن وهب: من حقوق المودة: أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن تقصير إن كان (3)، وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدم لك ودهم (4)، وقال بعض الحكماء: الصبر على مضض الأخ خير من معاتبته، والمعاتبة خير من القطيعة، والقطيعة خير من الوقيعة (5).

قال الله سبحانه وتعالى معاتبًا نبيه الكريم متلطفًا في عتابه: {عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)} [التوبة: 43- 45]، قال قتادة: عاتبه كما تسمعون (6).

وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعتاب، وفي هذا الافتتاح كناية عن خفة موجب العتاب لأنه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عفوًا ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلة إيماء إلى أنه ما أذن لهم إلا لسبب تأوله ورجا منه الصلاح على الجملة بحيث يسأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم وهذا من صيغ التلطف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكر نفسه كالسائل عن العلة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأن ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم (7).

وفي قصة أسرى بدر حين اختلفت آراء المسلمين في مصيرهم، فقال بعضهم نقتلهم، وكان منهم الفاروق عمر رضي الله عنه حتى يعلم المشركون أنْ لا هوادة مع الكافرين الذين يحادون الله ورسوله، وقال بعض المسلمين ومنهم الصديق رضي الله عنه بل نـُبقي عليهم فيفتدون أنفسهم، ولعل الله يهديهم إلى الدين القويم، ويخرج من أصلابهم من يجاهد في سبيل الله.

وكان الرسول الكريم الرحيم بالناس مع الفريق الثاني، ثم نزلت الآيات تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم لإبقائه على الأسرى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)} [التوبة: 67- 68]، فلا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الفداء من الأسرى إلا بعد أن يكثر القتل في المشركين، ويبالغ فيهم، فالفداء حطام الدنيا الزائل، والله يريد لنا العز الباقي، ثواب الآخرة، ولولا أن الله تعالى كتب على نفسه أن لا يأخذ المجتهد في خطئه لمسَّ المسلمين عذابٌ أليم .

وجاء عبد الله بن أم مكتوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مشغول مع جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام، فعبس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهُهُ وأعرض عنه فنزل القرآن الكريم بالعتاب: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)} [عبس: 1- 11].

وجاء الحديث بلغة الغائب تلطفًا برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأعمى ابن أم مكتوم حين جاءه وهو يحاور المشركين كره الرسول صلى الله عليه وسلم مجيئه حتى لا يقطع حديثًا كان يظن أن المشركين من ورائه يمكن أن يؤمنوا.

وابن أم مكتوم كان يريد أن يتعلم، ويتطهر من ذنوبه بما يتلقّاه من موعظة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ولعله يريد أن يتعظ بما يسمع، فكان الأولى أن يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليه ويهتم به، أما الكفار فهؤلاء لا يريدون الإيمان والتطهر من دنس الكفر والعصيان، وليس الرسول صلى الله عليه وسلم مطالبًا بهدايتهم إنما عليه البلاغ فقط.

وصورة أخرى لعتاب المسلمين؛ فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم قائمًا على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عير من الشام بطعام قدم بها (دحية الكلبي) وكان أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سِعْر وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سرورًا بها، فلما دخلت العير كذلك انفض أهل المسجد إليها، وتركوا رسول الله قائمًا على المنبر، لم يبق معه سوى اثني عشر رجلًا، فنزلت الآية تدل على أن ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة، فليطلبوا الرزق من الله وليبتغوا مرضاته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)} [الجمعة: 9- 11].

فكانت هذه الآيات عتابًا مرشدًا، وتأنيبًا خفيفًا مناسبًا، يعلم المسلمين ملازمة الخير الأبدي والفضل الدائم.

وكثرة العتاب من أهم أسباب فقد الأحباب، إذ إنَّه يرسل برسائل سلبية كثيرة من العاتب إلى المعتوب عليه، أبرزها: أن العاتب لا يحتمل لأخيه أدنى شيء منه، وأنه دائمًا ما يسيء الظنَّ بأخيه، وأنه ينظر إليه بعين الاتهام بالتقصير، وكلها أمور تنتهي بالصداقات الراسخة، والأخوة الصادقة إلى القطيعة الدائمة، لذلك كان على المسلمين معرفة القواعد المثلى في تطبيق العتاب بين الأحباب.

 القاعدة الأولى: الحذر من كثرة العتاب، وهي أهم قواعد العتاب على الإطلاق، وضمانة فعالية العتاب في بقاء المودة والمحبة بين الناس، فكثرة اللَّوْم في الغالب لا تأتي بخير، ليس كلُّ لوم، ولكن كثرة اللوم والعتاب؛ فإنها تُنفِّر منك الصديق، وتبعد عنك المحب، ولحظةُ كدرٍ وحِدَّةٍ في عتاب؛ قد تفسد عليك أخوة عُمْرٍ، وتسرُّعٌ في عتاب -بأدنى شيء- قد تبعد عنك حبيب دهرك كله.

والناس ليسوا على قلب رجل واحد، فمنهم سريع الفيئة عند العتاب، ومنهم من تغلغله فلا يرعاك، فالإقلال والإكثار -أي: من العتاب- مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال:

أقلل عتاب من استربت بوده     ليست تنال مودة بقتال

وانظر إلى الأدب النبوي في تطبيق العتاب، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: لمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذ أبو طلحة بيدي، فانطلق بي إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أَنَسًا غلامًا كيسًا، فليخدمك، قال: فخدمته في السفر، والحضر، والله ما قال لي لشيء صنعتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هذا هكذا؟ ولا لشيء لم أصنعْه: لِمَ لَمْ تصنعْ هذا هكذا؟ (8)، فعلى الرغم من صغر سن أنس، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تألَّفه بترك المعاتبة؛ لما رأى فيه من رشد وكياسة في معظم تصرفاته، والصغير لا يخلو من هفوات، ومع ذلك، لم يعاتبه الرسول صلى الله عليه وسلم عليها؛ لعلمه أنها لا تنفك عن أحد في مثل سنه.

 القاعدة الثانية: النظر بواقعية للخطأ، وتعني النظر بواقعية تجاه أخطاء البشر، فلا أحدَ يخلو من أخطاء، وفي الحديث: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» (9)، ومن طلب صديقًا بلا عيب أو خطأ؛ أفنى عمره قبل أن يتحقق له ما يريد، والواجب على المسلم عندما يرى أخاه على خطأ وعيب؛ أن يبصره بالتعامل الأمثل مع هذا الخلل، فليس بعار أن يكون الإنسان مخطئًا، ولكن العار الحقيقي أن يستمر على خطئه ويواصل الاحتفاظ بعيوبه، وهكذا ينبغي أن نقبل الآخرين على أنهم بشر يخطئون.

القاعدة الثالثة: خذ بيد أخيك، كن بجواره عند الخطأ، ولا تتخل عنه، وتتركه غنيمة باردة للشيطان، أزلِ الغشاوةَ عن عينَيِ المْخطئ؛ وحينما ترى خطأه؛ لا تتشنج، ولا تجحظ بعينيك، ولا يتعكر صفو مزاجك، تمهل، قد يكون المخطئ قد غطي على عينيه، فلم يدر ماذا يفعل؟ وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي وأمتي كلها، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: أن غلامًا شابًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا، فصاح الناس فقال: «مه»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقروه ادن»، فدنا حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتحبه لأمك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم؟ أتحبه لخالتك؟» قال: لا، قال: «وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم»، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال: «اللهم كفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه» (10).

عندئذ، يقول هذا الفتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس شيء أحب إليّ من الزنا، وخرجت من عنده، وليس شيء أبغض إليّ من الزنا.

فهذا الذي يخطئ على عينيه غشاوة؛ حاول أن تزيل هذه الغشاوة بهدوء، وبحكمة، وبصبر، وبحلم؛ فلعله يعود إلى فطرته، ويعود إلى رشده.

القاعدة الرابعة: الكلمة الطيبة صدقة، هذا أصل من أصول الدعوة الإسلامية العظيمة، تجد أثرها وفعاليتها في كل المجالات، فتخير أفضل الكلمات، وانتقاء ألطف العبارات؛ كفيل بنزع فتيل أكبر المشكلات، وللكلمات أنوار، إذا لمعت بروقها؛ أضاءت قلوب السامعين، وأنارت ظلمة الغافلين، فالمؤمن ليس بلعان، ولا طعان، ولا بذيء، ولا فاحش، ولا متفحش، كما أنه ليس بفج العبارات، أو قاسي الكلمات، يجلد بسوط خيوطه من حرير؛ فيحدث وقْعًا وأثرًا، ولا يقطع لحمًا، أو ينزف دمًا.

القاعدة الخامسة: إياك والجدل؛ إلا ما كان بالحسنى، غير ذلك، فهو المراء الذي يُرهق العقول، ويوغر الصدور، بالجدال؛ قد تخسر أقرب الأصدقاء، وأخلص الأحباب، ولو كنت محقًا، ذلك أن المجادل بعقله الباطن؛ يربط كرامته بأفكاره، فإذا أردت أن تنقض أفكاره بالحجة والبرهان؛ يرى أنَّك تنتقص من كرامته؛ فيزداد بها تشبثًا، فلذلك وجه النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه الكرام، فعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء، وإن كان محقًّا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه» (11).

وفرق كبير بين المجادلة وبين الحوار، الحوار: تسوده المحبة، يسوده التفاهم، يسوده التواصل، تسوده رغبة في معرفة الحقيقة، بينما الجدال: يسوده الكبر، يسوده رغبة في تحطيم الآخرين، يسوده استعلاء، فإياك أن تجادل، لا تجادل، ولكن ألق كلماتك الرقيقة العاتبة بأرقى أسلوب؛ فلعل قلب المخطئ يلين.

القاعدة السادسة: الرفق مذلل الصعاب، فالرفق زينة الأمور، وزينة الكلام، وزينة الرجال، وزينة الإسلام كله، وقد حض عليه الرسول الكريم في عدة مواطن، فقال صلوات ربي وسلامه عليه: «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه» (12)، وقال: «إن الرفق لا يكون في شيء إِلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه» (13)، وقال: «إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق» (14)، ويعطينا مثالًا عمليًا راقيًا، في تطبيق النصيحة -برفق- مهما كان العمل مستفزًّا ومُنفِّرًا، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن أعرابيًّا دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جَالِس، فصلى ركعتين، ثم قال: اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحدًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد تحجرت واسعًا»، ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد، فأسرع إليه الناس، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه سجلًا من ماء»، أو قال: «ذنوبًا من ماء» (15)، ثم قال للأعرابي: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر؛ إِنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن» (16)، كلمات رقيقة -برفق- استولت على قلب الأعرابي، وحققت المراد منها بكل يسر وسلاسة.

القاعدة السابعة: الإنصاف، وهو أعز خلق يتصف به الناس، وقليل من الناس من يتخلق بهذا الخلق في شتى أحواله، ذلك أن كثيرًا من الناس قد يُنْصفون حال الرضا، فإذا حل الغضب، أو ضاق الأمر؛ نسوا الإنصاف، واتشحت قلوبهم بسواد الخصومة، فحينما تعاتب، اذكر الجوانب الإيجابية؛ فإن هذا يُشعر المعاتب بالإنصاف إن ذكرت محاسنه، ثم نوهت بسلبياته؛ فهذا يدعو إلى الطمأنينة لك، أنك منصف، وأن الهدف من عتابك له ليس تجريحه، أو تقريعه، أو الاستعلاء عليه، بقدر ما هو حبك له، وحرصك عليه، وإرادة الخير له.

وهذا الإنصاف من معين النبوة الصافي: «نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل» (17)، هناك مديح، وهناك توجيه، وحديث آخر، عن أبي بكرة رضي الله عنه أنه انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع، فركعَ قبل أن يصل إلى الصف، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: «زادك الله حرصًا، ولا تعد» (18).

إن أردت أن تعاتب، فابدأ بذكر الإيجابيات قبل السلبيات، عندها؛ تنفتح القلوب لقبول النصح والعتاب، والنفس البشرية الطاهرة البريئة مثل نفس الطفل، التي لم تشبْها شائبة الغل، والحقد، وحب الذات، حين تمدحه على عمل صغير؛ تراه يبذل لأن ينجز لك الجليل.

فعند العتاب لا بد أن تذكر محاسن أخيك وتشير إلى فضائله، وفي ذكر المحاسن والإشارة إلى الفضائل فوائد كثيرة، من هذه الفوائد:

أولًا: أن ذكر المحاسن والفضائل هو مدخل لتقبل العتاب، وتطييب لنفس صاحبك بما هو فيها.

ثانيًا: أن من الظلم أن تذكر المساوئ والأخطاء، وتوجع قلب أخيك بتكرارها عليه، ولا تشير إلى فضائله ومحاسنه، ولا شك أن هذا ظلم للعباد، فليس من العدل أن يسرد الجرح والثلب وبيان المساوئ، ويسكت عن التوثيق وبيان المحاسن، فالإنسان يؤخذ بحسناته وسيئاته، ولا شيء مثل الورع والسكوت عن الناس.

ثالثًا: الخطأ في بعض الأشياء خطأ مغفور، بل ليس من شرط المتقين ترك الصغائر مطلقًا، وأيضًا ليس من شرطهم ترك الكبائر أو الكفر الذي تعقبه التوبة.

فالكامل إذًا الذي ليس فيه شيء عزيز ونادر الوجود، ومن لطيف ما ذكر ابن الأثير رحمه الله قال: إنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته؛ فهي الدنيا لا يكمل فيها شيء.

القاعدة الثامنة: إحسان الظن مع التثبت، فتقديم إحسان الظن بين يدي المعاتبة؛ تقطع شوطًا كبيرًا على طريق بناء الثقة، والتقدير، وزيادة الألفة والمحبة، وهذا أدب قرآني سامٍ، لا يناله إلا الصالحون، قال تعالى: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: 27]، وهو أدب نبوي راق، لا يعرفه إلا المحبون، مارسه الرسول صلى الله عليه وسلم بكل اقتدارٍ، ومهارةٍ مع حاطب بن أبي بلتعة، ومع الأنصار يوم حنين؛ فأثمرت ثمارًا يانعة، وأنوارًا ساطعةً؛ بددت غيوم الشك، ووساوس الشيطان، الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم.

عن علي بن الحسين، أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته: أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره، وهو معتكف في المسجد، في العشر الغوابر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة من العشاء، ثم قامت تنقلب، فقام معها النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد، الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، مر بهما رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» قالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما ما قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما» (19).

القاعدة التاسعة: إياك والمعايرة، من الأخلاق الذميمة، التي تكشف عن سوء الطوية وخبث النفس؛ خلق المعايرة، فالذنب شؤم على المجتمع؛ ويوجد مشكلةً مع صاحب الذنب، مع صديقه، مع أخيه، مع جاره، مع قريبه، صاحب المذنب، إن رضي بهذا الذنب؛ شاركه في الإثم، وإن ذكره للناس؛ فقد اغتابه، وإن عيَّره؛ ابتلي به.

جاء في الحديث عن جندب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حدث: «أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله تعالى قال: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان، وأحبطت عملك» (20).

إياك أن تعيّر أحدًا بذنبه؛ فقد يعافيه الله ويبتليك، انصح فيما بينك وبينه، اشكر الله عز وجل أن عافاك من هذا الذنب، الذي وقع فيه أخوك، ينبغي أن تشكر الله، وأن تدعو لأخيك، لا أن تعيره، لا أن تتعالى عليه، لا أن تقوم مقام الشامت به، فلذلك من قواعد المعاتبة؛ أن تبتعد أشد البعد عن التعيير.

مرّ أبو الدرداء يومًا بأحد أحياء دمشق على رجل قد أصاب ذنبًا، فكان الناس يسبّونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قَليبٍ ألم تكونوا مخرجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه؛ فهو أخي (21).

إذًا هذا الذي أذنب كأنه مريض، فحاول أن تكون طبيبًا، لا شامتًا، حاول أن تكون معلمًا، لا معنفًا.

القاعدة العاشرة: إياك والمبالغة أو التهوين، فتضخيم الخطأ، أو تصغيره؛ من الأخطاء الشهيرة عند العتاب، فإنك حين تعظم الحقير توغر الصدر، وحين تحقر العظيم تفسد الأمر، ومن صفات العوام؛ أنهم يبالغون، فالخطأ الصغير؛ يكبرونه إلى درجة وكأنه جريمة، والخطأ الكبير يصغرونه -إن صدر من أحبابهم- وكأنه هفوة.

والرسول صلى الله عليه وسلم حين علم أن أسامة رضي الله عنه قد قتل رجلًا؛ بعد أن نطق بالشهادة، اشتد في عتابه وإنكاره على أسامة فعلته، حتى تمنى أسامة، ألا يكون قد أسلم إلا في هذا اليوم، وعندما كسرت عائشة إناء صفية؛ لم يزد على قوله: «غارت أمكم» (22)، وألزمها بضمان ما أتلفته، لم يزد في عتابه، وتقريعه عن ذلك؛ لعلمه أن الغيرة بين النساء أمر جبلي (23).

تنبيهات وآداب للعتاب الجميل:

فالاحتمال في الأصل أجل وأفضل، لكن متى رجح مكلوم طرق بوابة المعاتبة؛ فلا بد له حينها من التنبه إلى ما يأتي:

- أن يتوثق قبل العتاب من دِقة النقل، وصحة الفهم، وعدم التجني، ويتأكد من صدور الهفوة ووقوع صاحبه في الزلة، حتى لا يلوم على خطأ لم يقع، فيكون هو الملوم بلومه، وأن يعلم بأنه إن لم يصادف بعتابه العلةَ كان ذلك خادشًا للألفة، وحامشًا للمودة، ومفسِدًا لصحة الأخوة، وكان نتاج معالجته لنفسٍ سليمة كتركه معالجة نفسٍ سقيمة سواء بسواء، إن لم يكن أشد.

- نظره في عواقب العتاب وآثاره، وتفكيره في مآلاته، فإن رأى فيه علاجًا للعلل، وتطهيرًا للشحناء، واستدامةً للإخاء؛ أقدم عليه، وإن رأى فيه غرسًا للعداوة، وجلبًا للبعاد، وزرعًا للبغضاء؛ تركه ولم يحفل به؛ لأنه رب هجر مولَّد من عتابٍ، وجفاء ناشئ عن كتاب.

- أن يتسم بالنية الصالحة والقصد الحَسَن، ويجعل غرضَه من معاتبة أخيه صيانةَ الصحبة وتعميقَ المحبة؛ لأنها -كما قيل- تصلح بالعتاب وتصدق، وألا يكون مرامه منها تقرير الفضل، والانتصار للذات، والقيام بتعنيف الآخر وتبكيته وإثبات خطئه، إذ العتاب ضربان: عتاب يحيي المودة، وهو ما كان في نفس الود، وعتاب يميتها، وهو ما كان في ذنب وموجدة. التقى أعرابيان فتعاتبا، وإلى جنبيهما شيخ، فقال: أنعِما عيشًا، إن العتاب يبعث التجني، والتجني ذرء المخاصمة، والمخاصمة أخت العداوة، فانتبها عمّا ثمَرَتُه العداوة (24).

 

لذا؛ على المرء ألا يعاتب من إخوانه إلا من يحب، ومن له في مكنون القلب منزلة وود، وفي هذا السياق يقول الشاعر:

أُعاتِب ذا المودة من صديق    إذا ما رابني منه اجتناب

إذا ذهب العتاب فليس ود    ويبقى الود ما بقي العتاب (25)

- تقليل العتاب وتخفيفه، وتجميل التأنيب، وسلوك طريق الحسنى به، من خلال مراعاة المفاسد والمصالح، ووضع الخطأ في نصابه، وتجنب تضخيمه وإعانة الشيطان على أخـيـه أو إثارة الآخرين عليه، بل يقبل الصواب، ويتجنب التعميم، ويعرض عن بعض، ويخاطب صاحبه برفق وإدلال؛ تاركًا التكرار، مقدمًا السر على العلن، والتعريض على التصريح، والمكاتبة على المشافهة؛ لأن المباشرة في المعاتبة والغلظة فيها، والإكثار منها؛ مجلبة لقلة الإخوان، فالكيِّس العاقل هو الفطن المتغافل، ومن أكثر من معاتبة إخوانه وأعظم من لومهم لم تطل مودته، ولن يدوم لهم بصاحب، يقول موسى ابن جـعفر: مـن لك بأخيك كله؟ لا تستقصِ عليه فـتبقى بلا أخ (26)، وقيل: من عاتب في كل ذنب أخاه؛ فخليق به أن يمله ويقلاه (27)، ومن لم يتغافل ويغمض عينه عن بعض ما في صديقه؛ يمُت وهو عاتب، فأسوأ الآداب وأجفى الخلال تجاه الإخوان: شدة العتاب وكثرته.

- أن يوضح للمعاتَب أن غرضه من العتاب استدامة المودة وإزالة ما يعكرها، ويبدأ عتابه ويختمه بذكر محاسن أخيه المعاتب، ويظهر له المحبة والإشفاق عليه، ويشوب ملامته له بمدح وثناء صادق، حتى يكون ذلك أدعى للولوج إلى قلبه وتقبله تجرع مرارة العتاب، وحتى يكون في ذلك كثرة دلالة على اتسام الشخص المعاتب بالإنصاف، والرغبة في حفظ المودة، وتصحيح الحال، وإتيان رفيقه بالصواب.

- أن يتحين الوقت والمكان المناسبين؛ إذ لكل مقام مقال، ولكل فعل أوان، وللعتاب مواضع، وخير القول ما وافق الحال، وفي حفظ الحدود استمرار الخير الموجود، لذا؛ عليه أن يقصر عتابه على حالات الهدوء والاطمئنان وراحة البال التي لا توتر فيها، ولا غضب من كلا الطرفين فيها.

- ألا يعاتـب إلا من يرجـو أوْبَتـه ويخال رجوعه، فمن لم يكن له لب يردعه، أو كان في حالة تحول بينه وبين الفهم والاستيعاب، أو كان فاقدًا لإرادة التراجع، غير مالك للعزيمة، أو غير قادر على التصويب للعلة المرادة؛ لم يحسـن عتابه، ولو عوتب كان في ذلك وضع للشيء في غير موضعه، وإهمال بين لحظ النفس، وعدم صيانتها عما لا يجدر بها ويحسن من مثلها.

- أن يعنى بمعالجة أصل الخطأ وبواعثه ولا يكتفي بمعالجة مظاهره، وألا يصحب عتابه بجفاء، ويرفقه بهجران وقطيعة أو كلمة قاسية أو لفظ ناب، فالحر تكفيه الملامة، وعليه أن يكثر عقبه من التزاور والصلة، والإحسان والكلمة الطيبة، ويداوم على التبسم والبشاشة، وإظهار المودة.

- ألا يقربن الصنيع الذي يعاتـب أخـاه على فـعـله، حتى لا يقع في الملامة الواردة في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: ٤٤]، وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف: ٢- ٣]، التــي نعى الله تعالـى فيها على طائفة من المؤمنين تتمدح بخير لا تأتيه، وتتنـزه عن شر وهـي ملوثـة به جاثيـة في أسْـره، وما أجمل مقولة الشاعر:

عود لسانك قلة اللفظ        واحفظ لسانك أيما حفظ

إياك أن تعظ الرجال وقد      أصبحت محتاجًا إلى الوعظ

- أن يحسن الظن بأخيه، ويتجنب الحكم على النوايا، ويضع نفسه موضعه، فيتلمس له ما قد يوجد من أعذار دفعته للوقوع في الخطأ، ويحرص على إنصافه وترك التعسف والمبالغة والتجني في إثبات الخطأ، ويدع الإصرار على اعترافه بخطئه قبل التصافي، بل يعطي أخاه فرصة للتعبير عن وجهة نظره، ويقبل عذره، ويرضى عنه، ويعفو عن خطيئته والزلة التي حدثت منه في حقه؛ إذ المؤمن سمح لين، سليم الصدر، حسَن الظن في الأصل، يطلب المعاذير لإخوانه، سواء صمت الآخر ولم يتماد، أو قال: لم أفعل، أو قال: فعلت لأجل كذا، أو قال: فعلت وقد أسأت، قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: أعقل الناس أعذرُهم لهم (28)، وقال بعض الأدباء: من أحبّ أن يسلم له صديقه، فليقبلْ عذرَه (29).

 

اقبل معاذير من يأتيك معتذرًا       إن بر عندك فيما قال أو فَجَرَا

فقد أطاعك من أرضاك ظاهره     وقد أجلك من يعصيك مستتِرَا

كما على من عوتب أن يتنبه إلى الجوانب التالية:

- أن يحمد الله تعالى على أن سخر له من إخوانه من يعاتبه، وأن يعلم أنه بذلك منعم محبور، إذ في العتاب حياة بين أقوام، وبعث على الإجلال والإكرام، وهو رائد الإنصاف، وشفيع المودة، ويد للمحافظة؛ تظهر للمرء من خلاله عيوب خافية، ويستطيع أن يزيل به من مسيرة العلاقة بينه وبين إخوته ما يعكر صفاء الوداد، ويهيج البغضاء والحقد، ويقطع أواصر الصحبة، قال بعض الحكماء: العتاب علامة الوفاء، وسلاح الأكفاء، وحاصد الجفاء، وقال آخر: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، وضربة الناصح خير من محبة الشاني (30).

- أن يحسن الظن بأخيه المعاتب له، وينظر إليه على أن غرضه من المعاتبة التنقيب عن علة لأخذ العفو وحدوث التصافي، وأنه عينه التي تريه الزلل، وتنبهه على ما لا يحسن صدوره عنه من الأقوال والفعال التي تسهم في تشتيت الأخوّة، وتضييع حقوق الخلة، فيشكر له تنبيهه له وصراحته معه، وعنايته بحفظ مبنى المودة وأسوار الثقة.

يقول ابن الرومي:

أنت عيني، وليس من حق عيني      غض أجفانها عن الأقذاء

- أن يضع نفسه موضع أخيه، ويتخيل مشاعره حال وقـوع الخـطأ عليه، فيبادر إلى تطيـيب نفسـه بالمقالة والفعل، ويعـمل على إزالـة كربه وطـمس غضبه بترك الخطأ، ومفارقة مسـببات الجـفاء، والاعتذار له عن الأمر الذي ألجأه إلى نهج سبـيل المعـاتـبة، سـواء أكان ذلك خـطأ صـادرًا عنه بقـصد أو غـفلة، أو كان سـوء فهم أو ضعف بيان.. ونحو ذلك، وألا يدع لشياطين الجن والإنس مجالًا لزراعة الضغينة، وإفساد بذور المحبة وما تقـادم مـن إخـاء ووفـاء وثقة، حتى لو كان المعاتِبُ مخطئًا في حقه، لائمًا له على أمر لم يصدر عنه أو ليس في يده، متذكِّرًا مقولة الشاعر:

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد    جاءت محاسنه بألف شفيع

- أن يتجنب الحلف، ويحذر من مقابلة معاتبة أخيه له بعتاب آخر، بل يعاتب نفسه ويلومها على تسببها في إيذاء أخيه وإقحامه في دركات الغضب، سواء أكان مرد تلك المعاتبة إلى قول أو فعل صادر عنه، أو سوء فهم أو ظن بني على ضعف معلومة ورداءة اتصال؛ إذ ما لام النفس مثلها لائم، والإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره.

 

ومتى تمكن المرء من الاتصاف بذلك حمد للمعاتب فعله، وإن تعجل في عتابه أو أساء بأخيه الظن.

 

- أن يصبر ويحتسب على وخزات اللوم ومقارع العتاب، ويعمل على القيام بحق أخيه واحتمال تقصيره، ويحذر الإعراض والجفاء؛ فإن الصدود -كما يقال- هو الفراق الأول، متذكّرًا مقولة الشاعر:

 

صبرت على بعض الأذى خوف كله     ودافعت عن نفسي بنفسي فعزت

فيا رب عز ساق للنفس ذلها      ويا رب نفس بالتذلل عزت

وجرعتها المكروه حتى تجرعت    ولو لم أجرعها كذا لاشمأزت

والمتأمل في بيئة طلبة العلم والدعاة اليوم يرى بجلاء أن العتاب الرديء كثيرًا ما أسهم في بث الفرقة، وأورث القطيعة والشحناء، وأتلف أكثر مما أثمر، وأنه لا بد من إذاعة ثقافة العتاب الجميل، وتربية الأجيال -ذكورًا وإناثًا- عليها، حتى تحدث الصحة النفسية، ويتحقق الاستقرار الداخلي، فتذهب الحساسية الزائدة، ويزول التوتر، وتنتشر البسمة، وتتجذر المحبة، وتعم الألفة.

 وحري بمن كان غرضه صون أخوته، وتعميق الوداد بينه وبين رفقاء دربه من أهل الفضل والإحسان أن يتأدب بآداب المعاتبة، ويتخلق بأخلاقها الفاضلة، حتى تؤتي أكلها، ويتحقق المقصد من إتيانها (31).

-------------

(1) حتى يكون العتاب جميلًا/ موقع المسلم.

(2) آداب الصحبة (ص: 15).

(3) أدب الدنيا والدين (ص: 216).

(4) أدب الدنيا والدين (ص: 145).

(5) إحياء علوم الدين (2/ 186).

(6) تفسير ابن كثير (4/ 159).

(7) التحرير والتنوير (10/ 210).

(8) أخرجه البخاري (6911)، ومسلم (2309).

(9) أخرجه الترمذي (2499).

(10) أخرجه الطبراني (7679).

(11) أخرجه أبو داود (4800).

(12) أخرجه مسلم (2593).

(13) أخرجه مسلم (2594).

(14) أخرجه أحمد (13052).

(15) أخرجه أبو داود (380).

(16) أخرجه مسلم (285).

(17) أخرجه البخاري (1121).

(18) أخرجه البخاري (783).

(19) أخرجه البخاري (6219).

(20) أخرجه مسلم (2621).

(21) حلية الأولياء (1/ 225).

(22) أخرجه البخاري (5225).

(23) القواعد العشر في العتاب بين الأحباب/ ملتقى الخطباء.

(24) محاضرات الأدباء (1/ 333).

(25) الجليس الصالح (ص: 366).

(26) الآداب الشرعية (1/ 377).

(27) غرر الخصائص الواضحة (ص: 239).

(28) الآداب الشرعية (1/ 377).

(29) بهجة المجالس (ص: 155).

(30) نفس المصدر.

(31) حتى يكون العتاب جميلًا/ موقع المسلم.