logo

التنوع والتخصص


بتاريخ : السبت ، 12 ربيع الآخر ، 1439 الموافق 30 ديسمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
التنوع والتخصص

ليس كل الناس على درجة واحدة من العلم والفهم والعبادة، حتى الجيل الفريد من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم؛ تنوعت اهتماماتهم، واختلفت تخصصاتهم، وتباينت اتجاهاتهم، فهذا وعاءٌ للعلم، آتاه الله حفظًا وفهمًا وفقهًا، وذاك عابد ناسك خاشع قانت، وثالث منفق باذل يضرب في كل مكرمة بسهم، ورابع داعية مصلح بين الناس، وخامس أمَّار بالمعروف، نهّاء عن المنكر، محتسب، وسادس مجاهد مرابط يحمي الثغور، ويصون حوزة المسلمين، وسابع حُبِّبَ إليه السعي على الأرملة والمسكين، وملاطفة اليتيم...، وهكذا.

وكل فاضل من هؤلاء فُتِح له في باب من أبواب الخير، قد نال حظًا من بقية الأبواب، لكن قَصَّر عن غيره فيه، كما قَصَّر غيره عنه فيما فُتِحَ له فيه {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60]، قال الذهبي رحمه الله: «كم من إمام في فن مقصِّر عن غيره؛ كسيبويه، مثلًا، إمام في النحو، ولا يدري ما الحديث، ووكيع إمام في الحديث، ولا يعرف العربية، وعبد الرحمن بن مهدي إمام في الحديث، لا يدري ما الطب قط، وكمحمد بن الحسن، رأس في الفقه، ولا يدري ما القراءات، وكحفص إمام في القراءات، تالف في الحديث»(1).

ومن تأمل في حال الصحابة الكرام رأى هذا التنوع والتخصص جليًّا؛ فمَنْ كأبي بكر الصديق رضي الله عنه في بذله، وثباته، ورسوخ إيمانه؟ ومَنْ عبقريٌّ كعمر بن الخطاب رضي الله عنه يفري فرِيَّه، يسوس الناس، ويمصِّر الأمصار، ويدون الدواوين؟ ومَنْ كعثمان بن عفان رضي الله عنه في بذله وإنفاقه؟ ومَنْ كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه في شجاعته وإقدامه؟ ومع ذلك فإن الفضل الخاص لا يقضي على الفضل العام، ولم تزل هذه الأمة ولودًا، تُنتِق أرحامُها الأمجاد الأفاضل من الرجال والنساء.

وبهذا يتبين أن التنوّع والتخصص بين الخلق سُنّة من سنن الله؛ فإن الله قَسم الأخلاق كما قسم الأرزاق، فسائغ شرعًا، واقع قدرًا، أن يفتح على شخص في باب، ويُقَصّر في غيره، لكن مع الإتيان بالحد الأدنى من المأمور، أما بالنسبة لعموم الأمة فلا يسوغ ذلك، ولا يجوز أن تلغي أو تهمل بابًا من أبوب الدين؛ فإن الله أمر بإقامة الدين، فقال: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فِيه} [الشورى:13] .

ويتبين من ذلك أنه لا يجوز لطائفة، أو طريقة، أو مذهب، أو جماعة دعوية أن تدعو الكافة إلى مبادئ خاصة وأصولٍ منتقاة من الدين وتهجر الباقي؛ بل الواجب إقامة الدين كله، وتربية الناس على جميع مقاصده، ثم الله يصطفي من عباده ويختار من يقيمه ويستعمله في بعض هذه الشُّعب، ويفتح له فيه.

ومن الطبيعي أن تتعدد فصائل العمل الدعوي وتتنوع في مقابلة خصم تتنوع أساليبه وتتعدد بنادقه المصوبة في صدور أبناء الأمة.

وهذا التنوع قد يكون مصدر إثراء للدعوة الإسلامية، وقد يكون مصدر بلاء تؤتى الأمة من قبله بصورة أشد مما تفعله نصال الخصوم، فالتعدد المحذور هو الذي ينشأ عنه التضارب والتباين في الرؤى السياسية والاختيارات الفقهية بحيث يؤدي إلى التعصب، الذي يعقد على أساسه الولاء والبراء، والذي يفضي إلى تمزق العاملين وتدابرهم وفساد ذات بينهم، والذي يقود إلى رايات شتى وانتماءات متصارعة، وكيانات متحوصلة، وكلها أمور أفقدت الدعوة الإسلامية حلاوة الإنجاز، وأورثتها أدواء شتى ما زالت الأمة تعاني من آثارها وأعراضها الجانبية.

أما التنوع المقبول أو الراشد فهو الذي يخلو من كل هذه الآفات المزمنة، وليس معنى هذا أن تكون جميع فصائل العمل الدعوي عبارة عن نسخة واحدة مكررة من بعضها البعض، لا خلاف بينها في أي شيء، ولكن تلك التي تحصر خلافاتها في دائرة الفروع ومسائل الاجتهاد، فالتعدد والتنوع وقتها يكون تعدد تخصص، وتنوع تكامل، يتنافس به الناس في الخيرات، كل حسب ما فتح الله عز وجل عليه من أبواب الدين والعلوم والمعارف، وذلك في إطار من التسامح والتناصح والتراحم والتغافر(2).

والتنوع مدعاة للتكامل وسبب له، وذلك أن تقوم كل جماعة أو مؤسسة بشيء فمعناه أنها تحتاج إلى من يقوم بشيء آخر؛ لذلك كل من يقوم بشيء ويعطيه حقه فيحتاج إلى من يسد له ثغرة الشيء الآخر، وهذا طبيعي؛ فكل ميسر لما خلق له.

فلو وقفنا بصدق، فإن التنوع سبب قوي للتكامل، فمن يقوم بالدعوة والانتشار في القرى والمدن يحتاج إلى من يسد له ثغرة التعليم، ومن يقوم بالعمل السياسي يحتاج من يقوم بدور التربية، وهكذا.

التمييز بين الدعوي والسياسي:

الذي نقصده بالتمييز بين الدعوي والسياسي هو التمييز العملي التنظيمي التخصصي، وليس على أساس علمي أو عقائدي أو فكري، فليس لمؤمن أن يعتقد أن السياسة ليس لها علاقة بالدين؛ لكن الذي نقوله: إن السياسي مهما ابتعد عن المجال الدعوي يجب أن يعتقد أن السياسة من الدين، ويجب على الداعية أيضًا أن يوجه الناس في الأمور ذات الشأن العام، والذي نعنيه بالتخصص أن يكون هناك مَن تفرغ لآليات السياسة: الانتخابات، وقيادة الحزب، والدخول في الصراع السياسي، فالذي نقصده هو الفصل الوظيفي.

الأمر الآخر الذي يجب أن ننبه عليه هو أن مرجعية المسلمين واحدة، سواء كان دعويًا أو سياسيًا، فالمرجعية هي الشريعة؛ وهي القرآن والسنة، لكن كل فريق قد يجد بغيته أكثر في قرائن أو أدلة يحتاجها في عمله وتخصصه.

فالعمل السياسي يتجه بالأساس إلى فروض الكفاية، والعمل الدعوي يركز على فرض العين، وفرض العين يلزم الجميع، لكن الدعوي يشرحها ويركز عليها ويربي الناس عليها، والسياسي يضع الحلول لإقامة فروض الكفايات، لكن في النهاية لا بد للجميع من مرجعية واحدة هي مرجعية الإسلام.

فالدعوة دين والسياسة دين، لكن الداعية لا يعرف إشكاليات السياسة، ولا السياسي يعرف إشكاليات الدعوة، وكل له عالمه الذي يعيش فيه.

ولا خلاف في هذا أن المنهج الرباني هو الأقوم بأحكامه وآدابه ورمزياته، وينبغي أن يسري في كل مسارات حياتنا ومفاصلها، كما يسري الماء في العود الأخضر، فشمولية الإسلام تنعكس على شمولية الأهداف، وشمولية الأهداف تنعكس على شمولية وتعدد مجالات العمل التي ينبغي للحركة الإسلامية أن تعمل بها؛ كالعمل السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي، الفكري... إلخ.

والضرورة تقتضي بالطبع التمييز بين وظائف الحركة الإسلامية الأساسية؛ وهي: الدعوة – التربية...، وبين الأعمال التخصصية؛ مثل: المسائل الاقتصادية – العمل السياسي... إلخ.

وتحتاج هذه الأعمال التخصصية إلى أطر أخرى، ولكن بنفس المرجعية والمنطلقات الأساسية.

فلا يعني التمييز الفصل، وليس له أي علاقة قريبة أو بعيدة من العلمانية، والذي يعنينا هنا أن نؤكد أن التمييز لا يعني الفصل؛ لأن هناك توحدًا والتقاءً في المرجعية الإسلامية الأساسية، وفي المنطلق الأساسي وهو شمولية الإسلام.

والنتيجة التي نرنو الوصول إليها هي كما يقول الدكتور عبد الكريم بكار: «ليس فيما أدعو إليه [التمييز بين الدعوي والسياسي] أي توجه إلى فصل الدين عن الدولة، أو تجريد العمل السياسي من الضوابط الشرعية والأخلاقية؛ إذ على من يمارس السياسة أن يمارسها بغية تحقيق مصالح العباد والبلاد، وفي إطار الأحكام والآداب الإسلامية، كما أن على الدعاة والمثقفين أن يمتلكوا من الوعي السياسي ما يجعلهم يساعدون في ترشيد الممارسة السياسية.

فالحديث ليس عن العقائد والمبادئ؛ إذ إن على المسلم أن يعتقد بصلاحية الإسلام عقيدة وشريعة لكل زمان ومكان، لكننا نتحدث عن ممارسة العمل السياسي؛ فالتمايز الذي ينبغي أن يكون ليس بين المبادئ السياسية والمبادئ الإسلامية، فهذا لا يقول به أصغر طالب علم، وإنما بين ممارسة الدعوة وممارسة السياسة؛ حيث إنه من الأنجع والأنجح للأفراد والجماعات أن يعملوا وينشطوا في مجالات محددة، يملكون فيها ما يكفي من المعرفة والخبرة، وإذا رغبت جماعة إسلامية ما في الانخراط في العمل السياسي، فإن المصلحة تقتضي، فيما أظن، أن تحفز بعض أبنائها على دراسة العلوم السياسية، وإذا كانت الظروف مواتية لتشكيل حزب سياسي فليكن، لكن لا أرى للسياسي الانغماس في النشاط الدعوي، كما أنني لا أرى للداعية الانغماس في النشاط السياسي»(3).

كما نعني بالتمييز بين الدعوي والسياسي أيضًا انسحاب التنظيم لا الأفراد، فانسحاب التيار أو الحركة من العمل السياسي المباشر لا يعني انسحاب أعضائها من هذا العمل، وإنما يعني انسحاب التنظيم فحسب.

فمع هذا الانسحاب يمكن للكوادر التنظيمية أن تؤسس حزبًا سياسيًا تنطلق من رؤيتها الإصلاحية الشاملة، وتمارس العمل السياسي المباشر، فتكتفي الأحزاب بممارسة العمل السياسي دون غيره، وتكفي الأمة هذا الواجب، وتفرغ الجماعة المزيد من طاقاتها للعمل الدعوي والتربوي والفكري، وهو أهم واجباتها من دون شك، بالإضافة لبعض المجالات الأخرى التي لم تنضج على النحو المطلوب بعد،... وتتفرغ الجماعة للعمل الدعوي والفكري والتربوي، وتسحب أذرعها من مجالات العمل المختلفة؛ لتبقى في خلفية المجتمع تشكل وعيه، وتحافظ على هوية الأمة، وتنطلق بها نحو نهضة جديدة، تعيد لها سابق عهدها، وتحقق فيها قول ربها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وتستكمل بها ولها شروط الشهادة التي كلفها بها ربها {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].

طبيعة العمل السياسي والعمل الدعوي:

لعل البدايات الأولى لعمل أيِّ حركة دعوية وإصلاحية ترسّخت عنها الصورة الإسلامية، والتي تستند في مشروعها وأدبياتها إلى النصوص الشرعية، والتي تحمل طابعًا من المثالية والقداسة، وتحمل، غالبًا، فكرًا يحتمي بالماضي، ومضمونًا يغلب عليه العموم والشعارات، ونظرةً تصطبغ بالكلية والشمولية، وفكرًا أيديولوجيًا في فهم الإسلام، واجتهادًا معاصرًا في العمل الدعوي، ثم تخرج خروجًا مفاجئًا واضطراريًا إلى باحات العمل السياسي المتعدد، في ظلّ ظروف متسارعة، وأحداث متقلّبة، وساحات سياسية فصّلتها قوى أخرى، وخيارات اضطُرت إليها، يجعلها تدفع ضريبة باهظة تُستهلك معها الطاقات والإطارات، وتكون على حساب البناء التنظيمي والتربوي الداخلي، وعلى حساب المشروع الواقعي، والرؤية الواضحة (سياسيًا، اقتصاديًا، اجتماعيًا، وثقافيًا...)، فتكون النتيجة الحتمية لها أنها لا هي بالحزب السياسي القوي ولا هي بالجماعة الدعوية المتميزة.

ولعل من أسباب هذه النتيجة الحتمية هي عدم التمييز بين طبيعة العمل السياسي والعمل الدعوي: فكرًا وممارسة، هيكلًا وتنظيمًا، وهذا ما يدفعنا إلى تحديد طبيعة كلّ منهما، فالعمل الدعوي يستند إلى نصوصٍ شرعية تفصيلية يخضع فيها إلى قاعدة الحلال والحرام، فيميل إلى خطاب الأخوة والوحدة، ويأخذ طابع المثالية والقداسة، بينما العمل السياسي يستند إلى قواعد عامة ومقاصد كلية، يخضع فيها إلى قاعدة الخطأ والصواب، فيجوز معه التنافس والتعدّد، ويأخذ طابع الواقعية والاجتهاد البشري غير المعصوم.

والعمل الدعوي يتحرك في مساحات الثوابت والأصول؛ فيتميز بالاستقرار والثبات في المواقف؛ كالأحكام الشرعية الثابتة، الخاضعة للأدلة قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، بينما العمل السياسي يتحرك في مجال المتغيرات والفروع؛ فيكون عرضة لتغير الخيارات والقرارات؛ كالفتوى التي تتغير بتغير الزمان والمكان والإنسان .

والذين رأوا ضرورة التمييز بين الدعوي والسياسي أشاروا إلى عدة مبررات، من أهمها:

1- تنوع قابليات البشر: وأن القادرين على الجمع بين الفريضتين باقتدار وتمكّن قليل في البشر، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم التفاوت النسبي بين الصحابة، فوجههم للتخصص، مع احتفاظ بمسحة شمولية تحافظ على الحد الأدنى من الواجبات الجماعية، فأبو هريرة تميّز في الحفظ ونقل السنة، وفي نفس الوقت كانت له مشاركاته الجهادية، إلا أنها لم تكن بمستوى خالد بن الوليد، الذي سجل رقمًا قياسيًا في القيادة العسكرية، إلا أنه في نفس الوقت كان يحفظ القليل من القرآن ويقول لهم: شغلني الجهاد عن تعلم القرآن.

وقد لاحظ الدكتور عبد الكريم بكار أن الخلط يؤثر على جودة الأداء فقال: «الخلط بين الممارستين يجعل كلًا منهما عبئًا على الأخرى، ومن النادر أن يكون للشخص الواحد فتوحات روحية وسياسية في آن واحد».

2- إن طبيعة الخطاب الدعوي قائم على غرس القيم والمثاليات: بينما يرتكز الخطاب السياسي على الهموم اليومية، والقضايا المطلبية التي يشتد فيها النزاع، فالخطاب الدعوي قائم على الكسب، بينما السياسي يقوم على الكسر والغلبة، كما عبر عنه الدكتور محمد الشنقيطي.

3- إن جوعة التدين لدى الناس لا تعني قبولهم بمشروعك السياسي، فقد يقبلون بك واعظًا ومربيًا لأبنائهم، أما أن تزاحمهم على مصالحهم السياسية فهذا ما ينفرون منه.

4- معالجة التضخم السياسي: لاحظ المفكر المغربي الراحل فريد الأنصاري حالة من التضخم السياسي في صفوف الدعوة، فردها لانشغال الدعاة بمتابعة المجريات السياسية، فطفق يدبج الكتب محذرًا من هذه الحالة، فألف كتابه (البيان الدعوي وظاهرة التضخم السياسي) ومن قبله حذر البشير الإبراهيمي من هذه الظاهرة فقال: «شغلوهم بالسفاسف الحزبية؛ حتى أصبح المقهى أحب إليهم من الجامع، والجريدة أحب إليهم من الكتاب، والمناقشات الحزبية أشهى إليهم من المذاكرات العلمية».

إن سياسة التمييز بين الدعوي والسياسي ستدفع بالطاقات الإسلامية والدعوية إلى خطوط الإنتاج الخلفية، التي تبني المجتمع على أسس الأخلاق وقيم الدين، ومعاني الإيمان، وحينها نكون قد أنجزنا الجزء الأكبر من المهمة الإصلاحية، ويأتي دور السياسي الموهوب المتفرغ، المليء بالقيم، الراسخ في الوعي؛ ليناوش المشاريع الأخرى، مستندًا إلى أرضية صالحة، وشعب يُغَلِّب الموازين الوطنية والمصالح الحقيقية على موازين المصلحة الآنية الضيقة.

5- الفصل يجنب الدعوي كمائن العمل السياسي: يرى الكثير ممن يقترحون فصل الدعوي عن السياسي أن ذلك يعزله عن المواجهة مع الأنظمة، التي ما فتئت تجرف المشروع الإسلامي برمته؛ كونه يشكل قلقًا وجوديًا لها، فإذا ما عزل الدعوي عن السياسي فلعله يجنبه الملاحقات والتضييق، وقد لاحظنا أن الأنظمة تعايشت مع التيارات الدعوية التي لا تحترف العمل السياسي؛ كالصوفية، والتبليغ، والسلفية العلمية، والدعاة الجدد، بينما صبت جام غضبها على الإسلام السياسي؛ لأنه يشكل تهديدًا لها.

وقد أدرك ذلك مبكرًا بديع الزمان سعيد النورسي فنهى أصحابه، وهم في مسيرة الاستئناف الإسلامي في تركيا، من الخوض في السياسة؛ حتى يكون غالب المجتمع مع ما يطرحونه، وأطلق كلمته المشهورة: «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة»، وظن البعض أنه توجه دائم لحركة النورسي، بينما كان اختيارًا مرحليًا؛ حتى لا تُستأصل بذور الاستئناف في تركيا.

وقد لاحظ حسن البنا في أخريات أيامه خطورة التوغل السياسي على مستقبل الدعوة، فقال للشيخ محمد الغزالي: «تمنيت لو عدت بالدعوة إلى عهد المأثورات».

تجارب واقعية:

تنوعت التجارب في الحقل الإسلامي، ويمكن أن نجملها في ثلاث تجارب:

1- الاستقلال بالتخصص، وهي تجربة حزب العدالة التركي، الذي حمل عبء العمل السياسي، وتكامل في مرحلة سابقة مع حركة فتح كولن، الذي دعمها لتغطي الجانب الدعوي، إلا أن الخلاف الأخير قضى على التعاون؛ مما جعل الساحة الدعوية في تركيا في حالة نقص شديد، لا يلاحظها كثير ممن أبهرتهم نجاحات العدالة التنموية عن رؤية التغيير الاجتماعي البطيء لحركة الإسلام هنالك، وهذا يحتاج من دعاة الأتراك إلى الاستئناف والاستفادة من الفضاء الذي هيأته خطوات أردوغان التنموية.

2- التخصص مع المرجعية الواحدة، وهي تجربة حزب العدالة المغربي، الذي قرر من أول يوم أن تمضي الحركة في خطها الدعوي، ويمضي الحزب في خطه السياسي دونما خلط للمهمتين، مع الإبقاء على مرجعية تشاورية، وصفها الأستاذ محمد الحمداوي، الرئيس السابق لحركة التوحيد، بشراكة استراتيجية، وهي تجربة استطاعت أن تستفيد من الاستقرار السياسي في المغرب في التفرغ للإصلاح.

3- إنشاء ذراع سياسي للحركة؛ كما في تجربة الأردن وإخوان مصر، إلا أن تلك التجربة فشلت لتَحَكُّم الجماعة في عمل الحزب، وحدوث تضارب كما في الحالة الأردنية.

4- تفريغ دعاة التوجيه والإرشاد والعمل الاجتماعي، وإبعادهم عن الجدل السياسي، ولعل هذه الآلية هي الأنسب في الوقت الراهن، للحركات الشمولية، لصعوبة إنشاء كيان موازي للعمل الدعوي، ولعلها خطوة إيجابية تمهد لعمل مجتمعي واسع ينأى بنفسه عن الأطر الحزبية الضيقة، بحيث ينتقل العمل الدعوي من مرحلة دعوة المجتمع، إلى تمكين المجتمع، بحيث ينخرط الدعاة مع بقية المجتمع في بناء مجتمع مدني عابر للأحزاب والتدخلات الحكومية، كما أن الدفع بقطاع التوجيه في المساجد والمنابر العامة للنأي بنفسه عن الشأن السياسي سيلقى ترحيبًا شعبيًا(4).

لقد آن الأوان أن نفكر في مجاراة فطرة الله التي فطر الناس عليها، فنوظف الطاقات كُلًا حسب ميوله، وندرك أن التخصص الدعوي لا يعني التنكر لشمولية الإسلام، وكونه مرجعية الحياة، إلا أن هذه الشمولية لا يقدرها بحقها إلا الأنبياء، ودور الورثة أن يقتسموا ميراث النبوة، كُلٌ بقدر طاقته.

***

_____________

(1) تذكرة الحفاظ (9/ 74).

(2) قضايا دعوية معاصرة .. التنوع والتعددية، موقع: ملتقى الخطباء.

(3) نقد ومراجعات حول الممارسة السياسية، موقع: الإسلام اليوم.

(4) التمييز بين السياسي والدعوي، خطوة نحو التخصص، موقع: إسلام أون لاين.