أخلاق زمن الفتن
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيأتي على الناس سنوات خداعات؛ يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: «يا رسول الله، وما الرويبضة؟»، قال: «الرجل التافه يتكلم في أمر العامة»(1).
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «قد علمت متى يهلك الناس: إذا جاء الفقه من قبل الصغير استعص عليه الكبير، وإذا جاء الفقه من قبل الكبير تابعه الصغير فاهتديا».
وقال عبد الله بن مسعود: «لا يزال الناس بخير ما أخذوا العلم عن أكابرهم، فإذا أخذوه عن أصاغرهم وشرارهم هلكوا»(2).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول كل عشية خميس: «سيأتي على الناس زمان تمات فيه الصلاة، ويشرف فيه البنيان، ويكثر فيه الحلف والتلاعن، ويفشو فيه الرشا والزنى، وتباع الآخرة بالدنيا؛ فإذا رأيت ذلك فالنجا النجا»، قيل: «وكيف النجا؟»، قال: «كن حلسًا من أحلاس بيتك، وكف لسانك ويدك»(3).
ومن تأمل في أحوال عالمنا اليوم وجد أننا نعيش هذا العصر الذي أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فالكَذَبة من الكفار والمشركين، الذين يملكون وكالات الأنباء والإذاعات ومن على طريقهم، يُصدَّقون، وأهل الصدق والعدل يُكذَّبون، والأمة الإسلامية تضع أموالها في أيدي الخونة الكفرة، ويؤتمنون على ذلك، ويخون المسلمون ولا يؤتمنون على شيء من ذلك، وقد تكلم في شئون العالم التافهون من الرجال، وقادوه قيادة هوجاء، توشك أن تدمر البشرية جمعاء(4).
وهذه هي المصيبة؛ صحافي جاهل، يسود صفحات الجرائد في هدم الدين، وهذه المطابع تقذف أرحامُها كل يوم بآلاف الكتب المسودة باسم الدين، وتعاني الأمة الويلات من رويبضة يخرج علينا كل يوم، والمصيبة الأكبر أن يجد الباطل دومًا آذانًا صاغية، وقلوبًا واعية، ولِم لا؟ فهؤلاء أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
وأعظم المصائب علماء سوء؛ باعوا دينهم ولم يربحوا دنياهم، فباءوا بخسارة الدنيا والآخرة، فلا للدنيا عملوا، ولا للآخرة استعدوا، فمالئوا الحكام، وانبطحوا للأنظمة الجائرة، فبئس ما عملوا.
قال ابن القيم رحمه الله: «كل من آثر الدنيا من أهل العلم واستحبها فلا بد أن يقول على الله غير الحق، في فتواه وحكمه وخبره وإلزامه؛ لأن أحكام الرب سبحانه كثيرًا ما تأتي على خلاف أغراض الناس، لا سيما أهل الرياسة، والذين يتبعون الشهوات، فإنهم لا تتم لهم أغراضهم إلا بمخالفة الحق ودفعه كثيرًا»(5).
زمان تبدلت فيه كل القيم، وساءت فيه الأخلاق والشيم، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كيف بكم وبزمان» أو «يوشك أن يأتي زمان يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، فكانوا هكذا» وشبك بين أصابعه، فقالوا: «وكيف بنا يا رسول الله؟»، قال: «تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم»(6).
وفي ظل هذه الأعاصير المهلكة، والزلازل المدمرة، تتباين الرؤى، وتتجلى لأهل الخير السبل، فلا يخوضوا مع الخائضين، قال صلى الله عليه وسلم: «العمل في الهرج والفتنة كالهجرة إلي»(7).
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: «وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتبعون أهواءهم ولا يرجعون إلى دين؛ فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم من يتمسك بدينه ويعبد ربه، ويتبع مراضيه، ويجتنب مساخطه؛ كان بمنزلة من هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه»(8).
أخلاق الفتن:
إن للفتن أخلاقًا يجب التحلي بها؛ حتى لا تؤثر تلك الفتن سلبًا على الإنسان، أو يكون هو بنفسه من يؤثر سلبًا على جماعة المسلمين، ومن تلك الأخلاق:
أ- التأني والرفق والحلم وعدم العجلة:
فالتأني والرفق والحلم عند الفتن وتغير الأحوال محمود؛ لأنه يُمكِّن المسلم من رؤية الأشياء على حقيقتها، ويبصر الإنسان بالأمور على ما هي عليه.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»(9)، وقال عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس: «إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة»(10).
إن للفتنة مظاهر خداعة في مبدئها، حتى يستحسنَ الناس صورتها، وربما يعقدون الآمال عليها، لكنها سرعان ما تموت وتتلاشى؛ كمثل الزهرة التي تموت قبل أن تتفتَّح وتُعطي ثمرتها.
قال ابن القيم: «إن الباطل له دهشة وروعة في أوله، فإذا ثبت له القلب رد على عقبيه، والله يحب من عنده العلم والأناة، فلا يعجل؛ بل يتثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه، ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه، فالعجلة والطيش من الشيطان، فإذا حصل الثبات أولًا والعزيمة ثانيًا أفلح العبد كل الفلاح»(11).
فعلينا جميعًا بالرفق في الأفكار والمواقف، وفي كل ما يجد من الحوادث، وعدم العجلة، فإنها ليست من منهج الأمة الإسلامية، وخاصة في زمن الفتن.
ب- الصبر:
نحتاج إلى الصبر كثيرًا، وخصوصًا عند الفتن، يقول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)} [البقرة:155-157].
وعن أبي ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيه مثل قبض على الجمر، للعامل فيهم مثل أجر خمسين رجلًا يعملون مثل عمله»، قال: «يا رسول الله، أجر خمسين منهم؟»، قال: «أجر خمسين منكم»(12).
وبالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف؛ ولذلك وَعَى السلف الصالح أهمية الصبر عند وقوع الفتن والحوادث، وإليك نماذج من سيرتهم.
لما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون ويفُتنون في صدر الإسلام بمكة كان يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بالصبر، ومنهم آل ياسر، فإذا مر بهم قال: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»(13).
وعن الزبير بن عدي قال: «أتينا أنس بن مالك فشكونا إليه ما نلقى مِن الحجاج، فقال: (اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم)»(14).
قال النعمان بن بشير: «إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتن، فأعدوا للبلاء صبرًا».
إن الثبات على الأمر، مهما كانت الظروف صعبة وقاسية، واحتمال المشقة في ذلك هو مفهوم الصبر، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان:20]، فلا يعني الصبرَ والاستسلام للأحوال السيئة، لكنه يعني عدمَ اللجوء إلى الحلول السريعة، التي تظهر قويةً مندفعة، لكنها يعقبها الندامة، وتتعقد بسببها المشاكل، فتحدث اليأس والإحباط في النفوس.
هنا يأتي الصبر كأنه استخدام للوقت في الخلاص من أوضاع صعبة، لا نستطيع أن ننجح من الخلاص منها الآن، الصبر ليس سلبيةً، ولكنه حركة وجهد وعمل مستقيم؛ قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:110]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
ج- العدل والإنصاف في الأمر كله:
فإن من أقوى أسباب الاختلاف بين العباد، وخصوصًا زمن الفتن، فقدان العدل والإنصاف، ولو جاهد المسلم نفسه لتحقيق صفة العدل مع نفسه ومع الناس فإن كثيرًا من المشاكل التي تحصل بين المسلمين، سواء منها الفردية أو الجماعية، ستزول وتحل بإذن الله تعالى.
يقول الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152]، ويقول تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، فلا بد من العدل في الأقوال والأعمال، وخصوصًا زمن الفتن، بمعنى أن يأتي الإنسان بالأمور الحسنة والأمور السيئة ثم يوازن بينهما، وبعد ذلك يحكم؛ لأن في الموازنة عصمة للمسلم من أن ينسب للشرع ما ليس موافقًا لما أمر الله به، وبالتالي يكون عدلك وإنصافك في الفتنة منجيًا بإذن الله تعالى.
د- التفقه في الدين:
وتقع الفتنة بأسباب الشبهات والشهوات، فكم من فتن وقعت لكثير من الناس بشبهات لا أساس لها، كما جرى للجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وغيرهم من طوائف أهل البدع، فتنوا بشبهات أضلتهم عن السبيل، وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة بأسبابها، وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله.
والمقصود أن الفتن، فتن الشهوات والشبهات والقتال وفتن البدع، كل أنواع الفتن لا تخلص منها ولا نجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم، ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى.
وجميع ما يقول الناس، وما يتشبث به الناس، وما يتعلق به الناس في سلمهم وحربهم وفي جميع أمورهم، يجب أن يعرض على كتاب الله وعلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، قال جل وعلا في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59]؛ يعني أحسن عاقبة، هذا هو الطريق، وهذا هو السبيل، فالرد إلى كتاب الله هو الرد إلى القرآن الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
وهكذا يقول جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وتحكيم الرسول هو تحكيم الكتاب والسنة.
فالمخلص من الفتن والمنجي منها بتوفيق الله هو بتحكيم كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بالرجوع إلى أهل السنة وعلماء السنة الذين حصل لهم الفقه في كتاب الله عز وجل، والفقه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودرسوهما غاية الدراسة، وعرفوا أحكامهما، وساروا عليهما، فجميع الأمة، من إنس وجن وعجم وعرب، يجب عليهم أن يحكموا بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يسيروا على نهج سلف الأمة، من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان، في السلم والحرب، في العبادات والمعاملات، وفي جميع ما افترق فيه الناس في أسماء الله وصفاته، في أمر البعث والنشور، في الجنة والنار وفي كل شيء، ومن ذلك الحروب التي يثيرها بعض الناس يجب أن يحكم فيها شرع الله.
قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [الأنعام:104]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء:174].
فما أحوجَنا إلى هذا النور في زمنٍ كقطع الليل المظلم، إذا كان للمؤمن في كل زمان وظائف يؤديها المؤمن عبوديةً لله تعالى، واستثمارًا لذلك الزمان، وتحصيلًا للبركات منه.
فإن المؤمن لا يفوته في زمان الفتن، التي تختلط فيها الأمور، وتشتبه فيها المسائل، وتنطلق فيها الانفعالات والحماسات، ويقل فيها الحلم والتأني، وترى المعروف والمنكر، والخير والشر، وتذهب عقول الرجال، وخصوصًا إذا كانت الفتنة في الأمور المهمة، والمصالح العامة، تجد الفتنة تقع، وسرعان ما تتطور وتخرج عن حدود السيطرة، حينئذ يلزم المؤمن وظائف، لا لمجرد استثمار ذلك الزمان، ولا تحصيل الثواب فيه، وإنما للبحث عن أسباب النجاة وطلب السلامة من تلك الفتن.
هـ- مواجهة الفتن بتقوى الله والعمل الصالح:
والانشغال بها بدلًا من الانشغال بتتبع النشرات والأخبار، فكيف كان هديه صلى الله عليه وسلم إذا أهمه أمر أو أحزنه، أو في الفتن عمومًا؟
وهذا الهدي، هدي محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»(15).
والعمل الصالح وسيلة للثبات عند الفتن التي يضطرب الواحد فيها ويتشكك من أمرها، فيمسي على حال ويصبح على أخرى، ويرى وكأنه في حلم؛ قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66].
وهذه الأعمال الصالحة والعبادة عمومًا حصانة لنفس المرء وداخله من الظروف البيئية المحيطة به؛ حتى لا تؤثر فيه، قال صلى الله عليه وسلم: «العبادة في الهرج كهجرة إلي» (16)، والهرج: الفتنة واختلاط الأمر.
فكما أن المهاجر فر بدينه ممن يصده عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك الذي انشغل بالعبادة فر عن الناس بدينه إلى عبادة ربه مهاجرًا إلى الله، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر:97]؛ لذلك عند فتنة القتال ولقاء أعداء الله من المشركين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [الأنفال:45].
وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
وكان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر [نابه وألم به أمر شديد] صلى. [رواه أبو داود].
استيقظ صلى الله عليه وسلم يومًا فزعًا يقول: «لا إله إلا الله، ماذا أنزل الليلة من الفتنة، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات [يريد أزواجه لكي يصلين]، كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة»(17).
ز- حفظ اللسان والصمت في الفتنة أولى:
حفظ اللسان واجب عام في جميع الأوقات والأحوال، وقال صلى الله عليه وسلم: «أكثر خطايا ابن آدم في لسانه»(18)، وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا} [الإسراء:53].
وعن سفيان الثقفي قال: «قلت: يا رسول الله، ما أخوف ما تخاف علي؟»، فأخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (هذا)»(19).
لكن حفظ اللسان عند الفتن مؤكد؛ لأنه في الفتن تزداد شهوة الإشاعات والمبالغات والأباطيل، وتكون عندها الآذان مستعدة لاستقبال كل ما يقال، قال صلى الله عليه وسلم: «من صمت نجا»(20).
وقال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»(21).
فإن أردت أن تتكلم فانظر: إن ظهرت مصلحة في الكلام الذي تتكلم به فتكلم، وإن شككت في ظهور المصلحة من الكلام فلا تتكلم، ومن باب أولى إن رأيت مفسدةً في الكلام فلا تتكلم.
قال وهيب بن الورد رحمه الله: «وجدت العزلة في اللسان»، فكم ممن كف يده وجسده عن المشاركة في الفتنة لكنه خائض فيها بلسانه.
ليس كل قول يقال:
قال ابن مسعود رضي الله عنه: «ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»(22).
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيكون في آخر أمتي أناس يحدثونكم ما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم»(23).
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين: أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته قطع هذا البلعوم»(24).
فكتم رضي الله عنه الأحاديث التي في الفتن، في بني أمية، بعد أن اجتمع الناس عليهم بعد فرقة وقتال، رغم أن ما معه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق.
لكن ليس كل ما يقال، ولو من الحق، حان وقته، وليس كل ما حان وقته وجد من يسمعونه، فليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال يقال في كل الأحوال.
التثبت من الأخبار وعدم إشاعتها:
لا تصدق خبرًا قبل أن تتثبت من صحته، وما أكثر الأخبار في وقت الفتن، وما أقل الثابت منها، فكيف يسمح لنفسه أن يكون مجترًا للكلام ناقلًا له كنقل الذباب للعدوى، يذيع وينشر قبل أن يتثبت من الخبر؟!
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع»(25).
ثم لو فرض صحة الخبر يقينًا فإنه ينبغي بعد ذلك النظر في مصلحة نشره من عدمها؛ لأنه ليس كل ما يعلم يقال، وإن من الأخبار ما لا يُلقى إلا إلى الخاصة، قال تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83].
وقد وضع حذيفة رضي الله عنه مقياسًا للمرء منا يقيس به تأثير الفتنة على قلبه، فقال رضي الله عنه: «إن الفتنة تعرض على القلوب، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، فإن أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، فمن أحب منكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر: فإن كان يرى حرامًا ما كان يراه حلالًا، أو يرى حلالًا ما كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنة»(26).
ل- الدعاء والتضرع في الفتن:
الضراعة من أسباب كشف الغمة وتفريج الكروب، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام:42]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94].
عندما تحل الفتن، ولا يدري المرء، أحيانًا، ماذا يعمل، يغفل كثير عن أعظم سلاح كان عدة الأقوياء من الأنبياء والصالحين على مر الزمان، قال سبحانه عن نبيه نوح: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، وقال صلى الله عليه وسلم: «أعجز الناس من عجز عن الدعاء»(27).
ولا يعرف العبد طريق الهدى ولا يجده إذا اشتبهت الأمور والتبس على الجمهور حتى يهديه الله تعالى «يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم»(28).
لذا كان صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل قائلًا: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»(29).
لكن أي دعاء:
عن أبي هريرة رضي الله عنه: «تكون فتنة لا ينجي منها إلا دعاء كدعاء الغرق»(30).
والدعاء سلاح المؤمن، والسلاح البارد لا يقطع، فليس الدعاء مجرد ألفاظ باردة، وقلب غافل، إنما هي كلمات خرجت من شعور اضطرار، وقلب حاضر، عنده في ربه يقين بالإجابة.
الدعاء بطلب الحماية من شر الفتنة أن يطالنا شرها بسوء، قال صلى الله عليه وسلم: «تعوذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن»(31).
***
___________________
(1) أخرجه الحاكم (8439).
(2) الحوادث والبدع، ص79.
(3) إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة (2/ 25).
(4) القيامة الصغرى، ص193.
(5) الفوائد، ص100.
(6) أخرجه أبو داود (4342).
(7) أخرجه الطبراني في الصغير (933).
(8) لطائف المعارف، لابن رجب، ص132.
(9) أخرجه مسلم (4698).
(10) أخرجه مسلم (24).
(11) مفتاح دار السعادة، ص170.
(12) أخرجه أبوداود (4341).
(13) صححه الألباني في تخريج فقه السيرة، ص103.
(14) أخرجه البخاري (7068).
(15) أخرجه مسلم (118).
(16) أخرجه مسلم (2948).
(17) أخرجه البخاري (5844).
(18) الجامع الصغير (2081).
(19) أخرجه الترمذي (2410).
(20) أخرجه الترمذي (2501).
(21) أخرجه البخاري (6018).
(22) أخرجه مسلم (5).
(23) أخرجه مسلم (6).
(24) أخرجه البخاري (120).
(25) حلية الأولياء (1/ 272-273).
(26) صحيح الجامع (1044).
(27) أخرجه مسلم (2577).
(28) أخرجه مسلم (2577).
(29) أخرجه مسلم (770).
(30) أخرجه ابن أبي شيبة (37749).
(31) رواه مسلم (2867).