ومن يدبر الأمر

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} آية تهدأ بها الروح، ويسكن بها القلب، وتخرجك من الضيق إلى السعة
يعطي سائلًا، ويجيب داعيًا، ويفك عانيًا، وعن بعضهم: يحيي ويميت، ويعز ويذل، ويخلق ويرزق، وعن بعضهم: يعتق رقابًا، ويعطي رغابًا، ويفحم خطابًا.
قال المفسرون: من شأنه أن يحي ويميت ويرزق، ويغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويكشف غمًا، ويعطي سائلًا، ويجيب داعيًا، وينصر مظلومًا، ويأخذ ظالمًا، ويفك عانيًا، ويغني فقيرًا، ويشفي مريضًا، ويجبر كسيرًا، ويعز ذليلًا، ويرحم مسكينًا، ويقيل عثرةً، ويستر عورةً، ويذهب بدولة، ويأتي بأخرى، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين، فعال لما يشاء.
فله الحمد على كل ذلك حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا، ملء السماء، وملء الأرض.
وتضيق بنا دنيانا وتطبق علينا نفوسنا حين تختلط أمور في أمور، فلا نحسن لها تدبيرًا أو تصريفًا، ويظهر عجزنا البشري وفاقتنا إلى من يرشد ويسدد فترتفع أكفَّ ضراعةٍ إلى السماء؛ يا رب يا رب دبرنا لنا فإنّا لا نحسن التدبير.
يدبر الأمر فلا شيء يجري عبثًا في الكون وإنما كل شيء بتدبير من الله.
{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} القدري والأمر الشرعي، الجميع هو المتفرد بتدبيره، نازلة تلك التدابير من عند المليك القدير {مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} فيسعد بها ويشقي، ويغني ويفقر، ويعز، ويذل، ويكرم، ويهين، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين، وينزل الأرزاق.
{يُدَبِّرُ} من التدبير بمعنى الإِحكام والإِتقان، والمراد به هنا: إيجاد الأشياء على هذا النحو البديع الحكيم الذي نشاهده، وأصل التدبير: النظر في أعقاب الأمور محمودة العاقبة.
وقوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} أي: من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، {يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن} [الرحمن: 29]، فالملك كله العلوي والسفلي، وما فيهما من ملائكة وإنس وجان، فقيرون إليه، عبيد له، خاضعون لديه، {فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} أي: هم يعلمون ذلك ويعترفون به، {فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أي: أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟
وقوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [يونس: 32] أي: فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} أي: فكل معبود سواه باطل، لا إله إلا هو، واحد لا شريك له (1).
وما يزال البشر يكشفون من أسرار الموت وأسرار الحياة، وإخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي، وتحول العناصر في مراحل إلى موت أو حياة، ما يزيد مساحة السؤال وعمقه وشموله كل يوم وكل لحظة.
وإن تحول الطعام الذي يموت بالطهي والنار إلى دم حي في الجسم الحي، وتحول هذا الدم إلى فضلات ميتة بالاحتراق، لأعجوبة يتسع العجب منها كلما زاد العلم بها، وهي بعد كائنة في كل لحظة آناء الليل وأطراف النهار.
وإن الحياة لأعجوبة غامضة مثيرة تواجه الكينونة البشرية كلها بعلامات استفهام لا جواب عليها كلها إلا أن يكون هناك إله، يهب الحياة! {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ}.
في هذا الذي ذكر كله وفي سواه من شؤون الكون وشؤون البشر؟ من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الأفلاك على هذا النحو الدقيق؟ ومن يدبر حركة هذه الحياة فتمضي في طريقها المرسوم بهذا النظام اللطيف العميق؟ ومن يدبر السنن الاجتماعية التي تصرف حياة البشر، والتي لا تخطئ مرة ولا تحيد؟ ومن ومن؟
{فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} فهم لم يكونوا ينكرون وجود الله، أو ينكرون يده في هذه الشؤون الكبار. ولكن انحراف الفطرة كان يقودهم مع هذا الاعتراف إلى الشرك بالله، فيتوجهون بالشعائر إلى سواه، كما يتبعون شرائع لم يأذن بها الله.
{فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} أفلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، والذي يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، والذي يدبر الأمر كله في هذا وفي سواه؟ إن الذي يملك هذا كله لهو الله، وهو الرب الحق دون سواه (2).
من الذي يتولى تدبير أمر هذا الكون من إحياء وإماتة، وصحة ومرض، وغنى وفقر، وليل ونهار، وشمس وقمر ونجوم ...
هذه الجملة الكريمة من باب التعميم بعد التخصيص، لأن كل ما سبق من نعم يندرج فيها.
وأصل التدبير معرفة أدبار الأمور، والمدبر يعرف حاضر الأمور ويعلم القابل والحاضر والدابر منها والعواقب، لَا يغيب عن علمه شيء وقد أحاط بكل شيء علمًا وفي قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} الأمر هو أمر الخلق والتكوين ومن يعيش في السماوات والأرض وحالهما، تبارك اللَّه.
{يُدَبِّرُ الأمْرَ} في العالم العلوي والسفلي من الإماتة والإحياء، وإنزال الأرزاق، ومداولة الأيام بين الناس، وكشف الضر عن المضرورين، وإجابة سؤال السائلين.
فأنواع التدابير نازلة منه، وصاعدة إليه، وجميع الخلق مذعنون لعزه خاضعون لعظمته وسلطانه (3).
{وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ} في السماء والأرض؛ فينزل الماء، ويخرج النبات، وينشر الأقوات؛ ويهب لمن شاء البنين ولمن شاء البنات؛ بتدبير منظم حكيم {ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}.
قوله: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ} يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبرهم بالإيجاد، والإعدام والإحياءِ، والإماتة، والاعتماد، والانقياد، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسل وتكليف العبادِ، وفيه دليل عجيب على كمال القدرةِ والرحمة؛ لأن هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيط بها إلا الله تعالى.
والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات (4).
هذه الآيات مناقشة حادّة، وتوبيخ وإلزام في الحجة لأولئك المشركين الذين يقرّون بوجود الله، ولكنهم خطأ لا يعتقدون بوحدانية الله، قل أيها النّبي لمشركي مكّة وأمثالهم: من الذي ينزل المطر من السماء، فينبت به الزرع والشجر ومختلف النباتات والثمار والفاكهة، فيكون ذلك رزقا لكم أيها البشر، بسبب خيرات السماء وبركات الأرض، ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وهذا لفظ يعم جملة الإنسان ومعظمه، حتى إن ما عداهما تبع، ومن الّذي يهب الحياة، ويزيلها بالموت، فيخرج الحي من الميت كالجنين من النطفة، والطائر من البيضة، والنبات من الأرض، إذ له نمو شبيه بالحياة الحركية. ومن الذي يخرج الميت من الحي مثل البيضة من الطائر، والحبّ والنّوى من الزرع والشّجر، وهناك أمثلة علمية أخرى لإخراج الحيّ من الميت كالغذاء المحروق الذي يتناوله الإنسان، فيتولّد منه الدّم، وإخراج الميت من الحيّ كالخلايا الميتة في الدم والجلد التي يطرحها مع البخار والعرق.
ومن الذي يدبّر أمور العالم ويسيطر على شؤون الكون، ويتصرّف في المخلوقات حسبما يشاء، من غير عوائق ولا موانع؟! هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، فهو موجود من غير شكّ ولا مندوحة لهم عن هذا الإقرار، بسبب إيجاد الرزق، وإحياء الإنسان، وهبة الحياة، وإحداث الموت والفناء، وتدبير الأمور كلها. وإذا اعترف الإنسان بوجود الله، فما باله ينكر وحدانية الله؟ (5).
ومن تدبير الله تعالى للمخلوقات: عنايته بهم، و"دليل العناية"، ويسمى: دليل النظام، أو التناسق؛ لأنه يفتح للعبد آفاق النظر والتأمل في الكون، وما فيه من مخلوقات، وما تدل عليه بأحوالها، وشواهدها: على عناية الله بأمر هذا الكون، وتدبيره لخلقه، سبحانه، وما يدل عليه ذلك من علمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته بخلقه، سبحانه.
ومن الآيات القرآنية التي ورد فيها دليل العناية قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)} [الأنبياء: 31- 33]، وقوله تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22)} [الحجر: 19- 22].
فهذه الآيات القرآنية التي ذكرناها وآيات أخرى كثيرة نظائر لها: تلفت نظر الإنسان لما في هذا الكون، من التنظيم الدقيق والتناسق بين أجزاء الكون، يدل دلالة قاطعة على العناية التامة بهذا الكون وما فيه، وأن إلهًا واحدًا قادرًا هو الذي نظم كل ما فيه أحسن تنظيم، وأنه لا يوجد أي شيء في الكون إلا في محله المناسب وبالقدر المناسب، فكل ما فيه في غاية الحكمة والعناية والإتقان، والناظر لهذا الإتقان العجيب والتنظيم المدهش في كل شيء، في الأرض وفي السماء وما بينهما، بحيث إن أي تغيير فيه يؤدي إلى الخلل والفساد؛ لا يسعه إلا أن يؤمن بوحدانية الله تعالى.
إننا لو سألنا عالم الفلك، فإنه يبين لنا من دقائق الحسابات الفلكية وتنظيم الكواكب وأحجامها وأبعادها ما يحير العقول.
ولو سألنا عالم التشريح عن جسم الإنسان، وعالم الحيوان عن أنواع الحيوان الطائر والسابح والماشي والزاحف بأشكاله وألوانه وخواصه ومعيشته وغرائبه؛ لأسلمنا ذلك بلا شك إلى وحدانية الله.
ولو سألنا عالم النبات عن أنواعه وثماره وأوراقه وطعومه وخواصه، لأجابنا بما يدل دلالة قاطعة على وحدانية الله.
ولو نظرنا إلى التنظيم الدقيق في الأرض ببجرها ويابسها وجبالها وأغوارها وسهولها وصخورها ورمالها ومعادنها وينابيعها وأنهارها وطبقاتها، لأدى بنا ذلك إلى الاعتراف بوحدانية الله.
إن العقل السليم يرفض رفضًا تامًّا أن يكون أي ترتيب وتنظيم لشيء ما، حدث بصورة عفوية وبطريق الصدفة، فلو دخلنا دارًا أو محلًّا تجاريًّا منظمًا، لأدى بنا النظر لأول وهلة إلى أن منظمًا نظم هذه الدار وهذا المحل، فكيف بهذا الكون المنظم كل شيء فيه أحسن تنظيم؟ (6).
وليس هناك فرق ظاهر مؤثر بين العناية، والتدبير؛ وإنما يمكن القول: إن (التدبير): أمر أشمل وأعم من العناية.
وإذا رجعنا لتدبير الله عز وجل في كثير من قصص الأنبياء عليهم السلام كيف دبر الله عز وجل رسله؟! فهذا موسى عليه السلام أوصى الله إلى أمه أن ألقيه في اليم في البحر داخل صندوق، ثم وصل الصندوق إلى فرعون، فلماذا لم يقتله وهو طفل صغير وستكون نهاية موسى عليه السلام؟! لكنه تدبير الله عز وجل جعله يربيه في قصره، حتى أصبح شابًا كبيرًا، ثم دعاه للإسلام بعد أن أصبح نبيًا؛ فرفض دعوة موسى عليه السلام والإيمان بالله.
وإذا علم المؤمن أن الله يدبر أمره كله، فلم الحزن والقلق؟ ولم الخوف والاضطراب؟ فها هو نبي الله إبراهيم عليه السلام، يوقن أن مدبر الأمر هو الله، وهو سبحانه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، فيُرمى به في وسطِ النار، فلم تتزعزع عقيدته في أن الله يدبر الأمر، فيقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، ويحاصر المشركون مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق.. وها هي القلوبُ في وجل..
وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشِّر أصحابه بكنوزِ كسرى وقيصر، إنه التوكُّل على الله، والثقة بمن يقول للشيءٍ كنْ فيكون.. إنه مدبِّرُ الأمر كله، ويصل سيدنا موسى عليه السلام إلى البحر، وها هو فرعون وجنوده من ورائه، ويخاف بنو إسرائيل أن يدْركَهم فرعون وجيشُه، فيقول لهم موسى عليه السلام، واثقًا بالله، متوكِّلًا عليه، مؤمنا بأنه يدبر الأمر كله :قال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)} [الشعراء: 61- 67]، ويلتقمُ الحوتُ سيدنا يونس عليه السلام.. فيقول متوكلًا على الله مدبر الأمر: قال الله تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87- 88].
هكذا يستجيب الله دعاءه، ويفرج همه وكربه، لأنه سبحانه مدبر الأمر كله، فلو كنت تعلم أخي المسلم كيف يدبر الله لك أمرك، لازددت له حبًا، وتقول دائمًا: يا مدبر الأمور دبر لي أمري فإني لا أحسن التدبير، ولذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله لا إله إلا أنت» (7).
فقدم المفعول ليفيد الاختصاص، والرحمة عامة، فيلزم تفويض الأمور كلها إلى الله كأنه قيل: فإذا فوضت أمري إليك فلا تكلني إلى نفسي، لأني لا أدري ما صلاح أمري وما فساده، وربما زاولت أمرًا واعتقدت أن صلاح أمري، فانقلب فسادًا، وبالعكس (8).
وفي حكاية يرويها لنا الشيخ علي الطنطاوي، يقول الشيخ: كنت قاضيًا في الشام، وذهبنا في المساء عند أحد الأصدقاء، فشعرت بضيق نفس، واختناق شديد، فاستأذنت أصدقائي للرحيل، فأصروا على أن أتم السهرة معهم، ولكني لم أستطع، وقلت لهم: أريد أن أتمشى لأستنشق هواء نقيًا، فخرجت أمشي وحدي في الظلام، وبينما أنا كذلك، إذ سمعت بكاء ونحيبًا وابتهالًا، آت من خلف تلة، قال: فنظرت فوجدت امرأة تبدو عليها مظاهر البؤس، وكانت تبكي بحرقة، وتدعو الله اقتربت منها، وقلت لها: ما الذي يبكيك يا أختي؟ قالت: إن زوجي رجل قاسٍ وظالم، طردني من البيت، وأخذ أبنائي، وأقسم أن لا أراهم يومًا، وأنا ليس لي أحد، ولا مكان أذهب له.
قال الشيخ: فقلت لها: ولماذا لا ترفعين أمرك للقاضي؟ فبكت كثيرًا وقالت: كيف لامرأة مثلي أن تصل للقاضي؟
يقول الشيخ وهو يبكي: والمرأة تقول هذا، وهي لا تعلم أن الله قد جر القاضي (يقصد نفسه) من رقبته ليُحضرهُ إليها، فسبحان مدبر الأمر، سبحان من أمره بالخروج في ظلمة الليل، ليقف أمامها بقدميه، ويسألها هو بنفسه عن حاجتها، إنه من يعلم السر وأخفى، سبحان مدبر الأمر، سبحان العليم بخلقه، اللطيف بهم، فهو يسمع دعاءهم وشكواهم، ويفرج كروبهم وهمومهم.
فيامن تشعر بالبؤس والضيق، ويامن تشعر بالظلم، ويامن تظن أن الدنيا قد أظلمت في وجهك، فقط، ارفع يديك إلى السماء، وتضرع لمن يسمع الدعاء، ويرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء ... فكونوا أيها المؤمنون على يقين أن الله يدبر الأمر، ويأتي الفرج بعد الضيق، واليسر بعد العسر، قال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)} [الشرح: 5- 6].
لو كنت تعلم كيف يدبر الله لك الأمور لازددت له حبًا.
وهذا يوسف -عليه السلام- يتشاورون في قتله فلم يقتلوه؛ إنه تدبير الله، ثم يرميه إخوته في الجب -أي البئر-، فلم يهلك بل حفظه الله حتى جعله الله عز وجل وزيرًا في مصر؛ إنه تدبير الله {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [يوسف: 56].
وهذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يريد المشركون أن يقتلوه، يتآمروا عليه ويجتمعوا حول بيته في مكة، لكن الله عز وجل أعمى أبصارهم، وخرج من بين أيديهم بعد أن جعل عليًا في فراشه؛ أنه تدبير الله عز وجل، ويطارده الكفار في كل مكان حتى في المكان الذي يختفي فيه بجبل ثور مع صاحبه أبي بكر رضي الله عنه حتى إن صاحبه أبا بكر يقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى قدميه لرآنا، لكن الله أعمى أبصارهم وبصائرهم؛ فيرد الرسول عليه الصلاة والسلام على أبي بكر ويقول: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما» (9)؛ إنه تدبير الله عز وجل.
-----------
(1) تفسير ابن كثير (4/ 267).
(2) في ظلال القرآن (3/ 1782).
(3) تفسير السعدي (ص: 357).
(4) اللباب في علوم الكتاب (ص: 239).
(5) التفسير الوسيط للزحيلي (2/ 967).
(6) عقيدة التوحيد في القرآن الكريم (ص: 147- 149).
(7) أخرجه أبو داود (5090).
(8) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (4/ 1697).
(9) أخرجه البخاري (4663)، ومسلم (2381).