logo

العبث بالفتوى


بتاريخ : الاثنين ، 30 صفر ، 1444 الموافق 26 سبتمبر 2022
بقلم : تيار الاصلاح
العبث بالفتوى

لقد أخذ الله العهد على العلماء أن يبنوا للناس دينهم ولا يكتموا منه شيئًا، ولقد حذر سبحانه وتعالى من مغبة التلاعب بأحكام الله تبعًا للهوى، وذلك في سبيل أن يطمئن السائل لجواب من أُمِر بسؤاله إذا غاب عنه حكم من أحكام الله، ولقد كان المسلمون الأوائل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرجون من الفتوى، أما رويبضات اليوم فيتصدرون لمسألة لو عرضت على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.

أخذ الله العهد على العلماء أن يبينوا للناس دينهم ولا يكتموا منه شيئًا، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187].

قال ابن كثير: وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا (1).

عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم علمه ثم كتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» (2).

قال ابن حجر: ثم هنا استبعادية لأن تعلم العلم إنما يقصد لنشره ونفعه الناس، وبكتمه يزول ذلك الغرض الأكمل، فكان بعيدًا ممن هو في صورة العلماء والحكماء (3).

قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169].

وقال عن أولئك الذين كتموا أحكام الله وآياته: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140].

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159].

أما أولئك الذين كتموا أحكام الله لغايات ومقاصد ومنافع دنيوية مادية، فقد قال عنهم جلّ جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} [البقرة: 174- 175].

ولقد حذر المولى سبحانه من مغبة التلاعب بأحكام الله تبعا للهوى، فقال تعالى: {وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُون} [النحل:116].

قال ابن كثير: ويدخل في الآية كل من ابتدع بدعة، ليس له فيها مستند شرعي، أو حلل شيئًا مما حرم الله أو حرم شيئًا مما أباح الله، بمجرد رأيه وتشهيه (4).

ويقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59].

لقد جاءت كل تلك الأوامر والتنبيهات والزواجر في سبيل أن يطمئن السائل لجواب من أمر بسؤاله إذا غاب عنه حكم من أحكام الله، قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل: 43].

وأهل الذكر هم العلماء، والمطلوب منهم بيان أحكام الله دون مواربة، وهذا تِبعًا لأمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 23].

كل هذا يدل على أن الفتوى في الإسلام لها أهمية عظيمة وخطيرة؛ لأنها إخبار عن الله، ولأن القول على الله بغير علم من الكذب على الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 23].

فمن أخطر الأشياء في حياة المسلمين الفتاوى التي يتلقونها من أهل العلم، فعليها يتوقف صلاح العبادة، ومسار الكسب، وكيفية السلوك، ومنهاج الفرد والجماعة.

لكن من يتابع وسائل الإعلام بمختلف أنواعها ومشاربها ومسمياتها اليوم يدرك مدى الخطورة التي نقف على حافتها، ومدى التهاون الذي يبديه بعض المنتسبين للعلم، ومدى التساهل الذي تسير عليه الفتاوى.

لقد كثرت الفتاوى التي تثير الشك والتساؤل والغرابة، وكثر من يستسهلون الإفتاء من بعض الدعاة ومدعي العلم، أو من ينصبون أنفسهم دعاة وعلماء وأصحاب فتاوى.

الكثير ممن ظهروا من خلال إقامة محاضرات أو ندوات أو دروس في بعض المساجد والمنابر العلمية فجأة أصبحوا من أصحاب الفتاوى (حسب الطلب) وفتاوى العصر، و(ما يطلبه المستمعون)، وهذا مؤسف للغاية أن ينصِّب المرء نفسه مفتيًا حسب رغبة السائل أو المستفتي، ويتساهل في الإفتاء الذي تترتب عليه أمور خطيرة منها ما هو مكروه، ومنها ما هو بدعة، ومنها ما هو حرام وشرك؛ لكن التساهل في هذا الشأن يفتح الباب على مصراعيه للعبث بأمور دين المسلمين، ويحدث فتنة في مسار حياتهم الدينية؛ لأنهم درجوا على سماع الفتاوى من أفواه العلماء المحققين المجتهدين المتبحرين في العلم العالمين بقواعد الفتاوى وأصولها ومنهجها.

البعض من العلماء -وللأسف الشديد- يستشفون رغبة المستفتي ويحاولون إرضاءه بالفتوى، ويسهلون له مراده من خلال المراوغة والتحايل على الفتوى، والارتكاز على نادر القول وضعيفه، فتنزل الفتوى باردة على نفس المستفتي فيشكر المفتي -المزعوم- وهو لا يكاد يصدق أنه وجد فتوى ورخصة تجيز له ما ترغب فيه نفسه.

ما هكذا تؤخذ الفتاوى، ولا هكذا يستفتى العلماء في أمور خطيرة تمثل جوهر الدين؛ خاصة في مسائل البيوع والمعاملات والربا والمرابحات، لقد تشابكت وتعقدت العلاقات الاقتصادية والمالية والشراكات والديون والأقساط، وهذا فتح المجال واسعًا أمام الذين فتحوا خزائن الفتاوى وصاروا يكيلون لكل من يرغب بلا قيد ولا رقيب ولا معيار، إنها كارثة بحق وحقيقة أن تصل أمور الدين إلى هذا الحد.

فتاوى غريبة باتت تطفو على السطح يرفع بها بعض من يسمون أنفسهم علماء، وأخذت تسبب بلبلة وإرباكًا للناس؛ خاصة فيما يتعلق بما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وخطورة مثل هذه الفتاوى لا تقتصر فقط على ما تحمله من تساهل وخلط للأوراق، وتناقض مع ما يفتي به علماء آخرون لهم باعهم في مجال العلم والفتوى، بل يمتد الأثر للإضرار بالدعوة، وعرقلة مسارها في ميادينها المختلفة، وفي شتى الأقطار والمجتمعات المستهدفة في قارات العالم المختلفة؛ حيث تعطي فرصة للمتصيدين للأخطاء والتناقضات ليستشهدوا بها ضد رجال الدعوة، ويبرهنوا على وجود تناقضات في متون الدعوة وأصولها ومن بينها الفتاوى.

والأمور -ما لم تضبط- آخذة في الانفلات، ومتجهة نحو الفوضى والفتنة، وهذا الانفلات وهذه الفوضى قد تكون مقبولة أو سهل التغلب عليها حينما تتعلق بأمر من أمور المعاش واحتياجات الحياة الدنيوية؛ لكن الأمر عندما يتعلق بأمور الدين فلا مناص من الوقوف في وجهها وتطويقها وإيقافها عند حدها، وهذا واجب العلماء والدعاة والجهات المختصة في كل البلدان الإسلامية أن تضع نظامًا يمنع الفتوى إلا عبر القنوات الشرعية المجاز لها الإفتاء بإجماع أهل العلم، وبالاستناد إلى الأدلة الشرعية؛ وذلك لمنع التغول على الإفتاء وسد الذرائع والثغرات التي تنفذ من خلالها الفتاوى المثيرة للبلبلة والإحباط، والمتساهلة في أمور لا يجب التساهل معها ما لم يرد ذلك في أحد مصادر التشريع (5).

فالذي يتولى الفتوى ويصدرها هو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلـم المطلع على أقوال العلماء ليختار منها ما قام عليه الدليل، ولا يفتي إلا عند الحاجة قال تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون} [النحل: 43]، وأهل الذكر هم العلماء، والذكر هو الوحي (6).

قال الشافعي: ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب، أو في السنة، أو في الإجماع، أو القياس على هذه الأصول، وما في معناها، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلًا قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُون (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون (60)} [يونس: 59- 60] (7).

قال ابن كثير: وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله، أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة (8).

وفي هذا العصر تساهل الناس في تلقي الفتوى، فصار لكل قناة من القنوات الإذاعية مفت أو أكثر، والقنوات الفضائية صار لها مفت أو أكثر، وكذلك الجرائد والمجلات التي تنشر الفسق، والفجور لها مفت، والذين يفتون المثقفون، والأطباء، والصحفيون، والمهندسون.. وغيرهم من الجهال (9).

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالمًا، اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا» (10).

ولذلك كان السلف يكرهون الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها، والإكثار منها، قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلـم يُسْأَلُ أحدهم عن المسألة، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه، وفي رواية: فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول (11).

قال الإمام أحمد: من عرض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجئ إليها الضرورة، قيل له: فأيما أفضل الكلام أو السكوت؟ قال: الإمساك أحبُّ إليَّ، قيل له: فإذا كانت ضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له (12).

وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره، ونهيه، وأنه موقوف، ومسؤول عن ذلك، وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: لا أدري، فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: لا أدري، قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألت مالكًا؟ وقال: لا أدري (13).

وقال بعض العلماء لبعض المفتين: إذا سئلت عن مسألة، فلا يكن همك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولًا (14).

كان عامر بن الظرب العدواني من عظماء العرب في الجاهلية، واشتهر بالحكمة والفصل والحكم بين المتخالفين والمتخاصمين، وكان الناس يقصدون مجلسه ليبتّ في مشاكلهم ويفتي في معضلاتهم.

ومن أشهر فتاويه وحِكَمه الجاهلية أن جاءه بعض القبائل مستفتين عن معضلة أعجزتهم، وهي كيفية توريث من وجدت فيه آلتا الذكر والأنثى (الخنثى) - وهي من أعقد المسائل في باب الميراث في الفقه الإسلامي كذلك -، فلم يهتد عامر إلى الجواب ولم يعرف الحل مع فطنته وسرعة فهمه ورجاحة عقله وخبرته الطويلة في مسائل التحكيم والفتيا، وطلب من مستفتيه مهلة ووقتًا ينظر فيها ليجول بفكره في تصورها ويعمل رأيه في فهمها، ليتمكن من الإجابة عنها والفتيا فيها، مع بقائهم على وفادته وحسن ضيافته مدة انتظارهم لجواب مسألتهم.

فأتى عليه أربعون يومًا وليلة لم يستطع الوصول إلى جواب صحيح، وكانت له جارية تسمى سُخَيلة ترعى له الغنم، وكان يذبح شاة في كل يوم لضيوفه، فقالت له الجارية: يا سيدي إن هؤلاء الضيوف لا يبقون لك غنمًا إذا ما استمروا على حالهم، فما هي حاجتهم وشأنهم؟ فقال عامر: ما لك ولهم، انصرفي إلى غنمك، فلما ألحت عليه أخبرها القصة، قائلًا: ما نزلت علي نازلة أعظم منها، عند ذلك قالت له: أين أنت يا عامر، أتبع الحُكم الـمَبال (مجرى البول)، أي إن كان يبول بآلة الذكر فله حكم الذكر، وإن كان يبول بآلة الأنثى فله حكم الأنثى، فقال عامر لخادمته: فرجتيها عني يا سُخيلة (15).

قال الإمام إسحاق بن إبراهيم الأذرعي: في ذلك عبرة ومُزدجر لجهلة قضاة الزمان ومفتيه، فإن هذا مشرك توقف في حكم حادثة أربعين يومًا ولا قوة إلا بالله (16).

هذا رجل مشرك لا يرجو جنة ولا يخاف نارًا، ولا يعبد الله، ويتوقف في مسألة أربعين يومًا حتى يفتي فيها، فكيف بمن يرجو الجنة ويخاف النار؛ فينبغي عليه أن يتحرى إذا صُدِّر للإفتاء.

تراجع أثر الفتوى من النفوس:

كان الناس فيما مضى تقيم وزنًا كبيرًا لعلمائها، وكان لآراء هؤلاء العلماء وزنًا كبيرًا في حياتهم، أما الآن فلم يعد لفتاوى العلماء تأثير كبير في نفوس الناس، ولا شك أن لضياع هيبة الفتوى من النفوس أسباب متعددة، نذكر منها:

- ضياع الهيبة والنفوذ للشيوخ من نفوس الناس: وهذا العامل يعد في حد ذاته سببًا ونتيجة في نفس الوقت، بمعنى أن ضياع الهيبة والنفوذ التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس الناس قد أدى إلى عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن هؤلاء الشيوخ، كما أن عدم تمسك الناس بالفتاوى التي تصدر عن الشيوخ قد زاد من ضعف مكانة وتأثير الشيوخ في نفوس الناس.

ويحكي لنا التاريخ عن المكانة السامقة التي كان يحتلها الشيوخ من نفوس العامة.

ونذكر في هذا الصدد على سبيل المثال قصة سلطان العلماء: الشيخ العز بن عبد السلام، سار الشيخ إلى مصر فأكرمه ملكها وولاه الخطابة والقضاء، وكان الحكم في مصر في ذلك الوقت للمماليك، فنظر الشيخ فرآهم لا يزالون في نظر الشرع عبيدًا، لم يتحرروا هم، فضلًا عن أن يحكموا الأحرار، فأعلن بوصفه القاضي، أنهم سيباعون بالمزاد العلني.

وكان نائب السلطنة من المماليك، الذين حكم الشيخ ببيعهم!! وحسبوه يهزل، فإذا هو جاد.

فشكوه إلى السلطان، فنهاه فلم ينته، فقال له السلطان كلمة فيها غلظة، فما كان من الشيخ إلا أن حمل أمتعته على حمار، وأركب أهله على حمار آخر وخرج من مصر، فماذا حدث؟!!

لقد صنع بفعلته هذه العجائب، لقد خرج أهل مصر جميعًا، بالضجيج والعويل، يسيرون خلفه، وارتجف البلد، وزلزلت مصر، وأسرعوا إلى السلطان يقولون له: تدارك ملكك لئلا يذهب بذهاب الشيخ، فلحقه فأرجعه وأجابه إلى طلبه (17).

- تضارب فتاوى المفتين: فتجد للموضوع الواحد أكثر من فتوى متعارضة، مما أضاع أثر الفتوى من النفوس، فقد يسأل أحد الأشخاص عن شيء ما، فيُفتي فيه برأي معين، فإذا ما بدأ في العمل به عن اقتناع، يفاجأ بعد حين بمن يتعجب من هذا العمل، بل ويأتيه برأي آخر قد يكون مضاد للرأي الذي بدأ في العمل به، ولذلك نجد هذا الشخص يتهاون بعد ذلك في السؤال عن أي شيء، أو يعمل بأيسر الآراء دون مراجعة أيٍ من المفتين.

- التصدي للفتوى ممن ليس بأهل لها: فإذا كان المريض بالقلب يتخير أفضل الأطباء في هذا التخصص، ولا يلجأ لتخصص آخر كالمخ مثلًا، فلماذا يقول بالفتوى كل من هب ودب؟ وللأسف فقد أصبح للإعلام من صحافة وقنوات فضائية سطوة كبيرة في توجيه رأي الناس إلى ما تريده، بغض النظر عن الرأي الصحيح للشرع، كما أصبح لبعض الإعلاميين فتاوى كثيرة في موضوعات شتى، بغض النظر عن خلفيتهم الشرعية.

- الهزيمة النفسية للمفتين: وهذا عامل في غاية الخطورة، فمعظم المفتين أمام ضغط العوامل السياسية التي تمر بها الأمة الإسلامية، وكثرة دعاوى المستشرقين المغرضة وطعونهم في الإسلام، ومحاولة منهم لكي يبرروا للناس الواقع الذي يعيشون فيه، تجدهم أمام هذه الضغوط يتهاونون في أمر الدين، ويحاولون إضفاء صفات ومعاملات وأحوال جديدة عليه لكي يبرهنون على أنه دين متطور ومناسب لهذا العصر (18).

- حب الظهور وبريق الشهرة، فصاحب الفتاوى المتساهلة تزداد شعبيته، وتكثر جماهيره، ويُثنى عليه بأنه معتدل، وأنه يمثل المنهج الوسطي... وغير ذلك من العبارات البراقة، بينما صاحب الورع والفتوى المستندة إلى الأدلة الشرعية يوصف بأنه متشدد، وأنه لا يعرف إلا لغة التحريم، وأنه يشق على الناس ويثقل عليهم.

- الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة: وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل.

- عدم استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها، فيسأل بعضهم عن مسألة معينة، ويشاهده الملايين من البشر، ومع ذلك يجيب مباشرة، ولو عرضت مسألته على عمر رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.

- العجلة وعدم التأني والنظر والتأمل، فبعض المفتين في القنوات الفضائية يُسأَلُ عن أربع، أو خمس مسائل دفعة واحدة، ثم يجيب إجابة سريعة، ويذكرون عن الشيخ محمد بن إبراهيم أنه كان لا يفتي وهو واقف إلا ما ندر، ولا يفتي وهو في السيارة، وإنما كان إذا أراد أن يفتي تربع واستحضر ذهنه واستجمع فتواه، وطلب من السائل أن يُلقي عليه المسألة، فعند ذلك يفتي، وكان المشايخ يروون عنه أنه ربما أَخَّرَ الفتوى شهرًا إذا كان لها صلة بأمر عظيم حتى ينظر فيها، ويستخير (19).

- إرضاء الكفار، والظلمة، وأهل الفسق والفجور، وذلك لأجل الحصول على شيء من متاع الدنيا وحطامها الفاني، إما منصب، أو مال، أو غير ذلك، وهذا حال علماء السوء، قال تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين} [التوبة: 62].

من صور العبث بالفتوى:

أن بعضهم يرى إباحة الربا المنتشر لدى البنوك اليوم بكل صوره وأشكاله، وآخر يرى جواز إمامة المرأة للرجال في الصلاة، وثالث يرى أنه لا ينبغي إقامة حد الردة على المرتد في هذا الوقت لعدم مناسبته، ورابع يرى إباحة الغناء والمعازف، وخامس يرى جواز إرضاع الكبير بدون ضوابط، وسادس يرى جواز نكاح المرأة نفسها بدون ولي ولا شهود وذلك وسيلة إلى انتشار الزنا، بل وصل الأمر بأحدهم إلى أن قال: ما المانع أن يُبنَى كنيسة، ومعبد، ومسجد في مكان واحد، وكل يعبد ربه بطريقته الخاصة؟! وصدق النبي صلى الله عليه وسلـم إذ يقول: «إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين» (20).

الخلاصة: أن المؤمن يجب عليه أن يحتاط لدينه، فإذا أُشْكِلَ عليه شيء سأل العالم الذي يثق به في دينه، ولا يسأل من هب ودب ممن لا تبرأ الذمة بسؤالهم، فإن الأمر دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم (21).

روى مسلم في صحيحه: عن مجاهد، قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عباس، فجعل يحدث، ويقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس، مالي لا أراك تسمع لحديثي، أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تسمع، فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلًا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب، والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف (22).

هذا النص يفيد أنَّ العلماء والأئمة كانوا يتثبَّتون أشدَّ التثبُّت في تلقِّي العلم، ويتحرَّوْن في نَقَلته ورواته، وبخاصة بعد أن ظهرت الفتن وكثُر الابتداع، قال ابن سيرين: اتقوا الله يا معشر الشباب! وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث، فإنها دينكم.

 فإذا كان ذلك الحرص في تلقي العلم في القرن الأول وأعلام السنة عزيزة مرفوعة، فكيف في هذا العصر الذي اندرست فيه معالم السنة، وكثر فيه أهل الأهواء؟

إن ثمة حقيقة لا شك فيها، وهي أن الساحة الإسلامية تشهد فوضى فقهية تطاول فيها بعض أدعياء العلم وأنصاف المثقفين على الفتوى، فراحوا يخوضون فيها بدون ورع أو تثبُّت، بل تجرؤوا على المسائل الكبار التي لو عُرِضت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر.

والعجيب أنَّ بعض الناس عندما تراجعه في بعض تلك الفتاوى والآراء، يبادرك بضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف، لأنه ما زال العلماء يختلفون ولا يُنكِر بعضهم على بعض، وهذا حق لا شك فيه لو أنَّه صادر عمن يحق له الفتوى والاجتهاد من أهل العلم الراسخين، أما وإنه صادر في أغلب الأحوال عن غير أهله، فكيف يراد منا أن نعذر فيه المخالف؟

قال بعضهم: ونحسب أن بعض المفتين في هذا الزمان أحق بالسجن من السُّرّاق!

نسمع كثيرًا في وسائل الإعلام الإنكارَ على تشدد بعض المفتين، والنهي عن الغلو في الدين، وما إلى ذلك من المطالبة باتخاذ موقف جاد من التطرف والتنطع والغلو، ولكننا لا نسمع إنكارًا على الطرف الآخر من المفتين المتطرفين، أعني المفتين المجّان، بل إن أولئك المفتين المجّان يُبَجَّلون ويُثنى عليهم ويُصدِّرون فتاوى على الأهواء.

إن الغَيْرة على الدين تقتضي أن يتم التحذير من هؤلاء وهؤلاء، لأنهم كلهم خطر على الدين، بل في أحيان كثيرة يكون المفتي الماجن أخطر على الدين من المفتي المتشدد، لأنه وباستقراء التاريخ نجد أن الأقوال المتشددة لا تصمد للزمن؛ بل تندثر أو يقلّ أخذ الناس بها، لأنها مخالفة للنفس البشرية التي تميل إلى السكون والدعة، بينما نجد أن أقوال المفتين المجّان ما زالت تسري بين المسلمين، وعلى أية حال فالمطلوب التحذير من كلا المفتيَيْن، وكلاهما يشكلان خطرًا على الناس.

وقال حذيفة رضي الله عنه: لا يفتي الناس إلا ثلاثة: رجل قد عرف ناسخ القرآن ومنسوخه، أو أمير لا يجد بُدًّا، أو أحمق متكلف (23).

ودخل رجل على ربيعة وهو يبكي، فقال: ما يبكيك؟ وارتاع لبكائه، وقال: أَدَخَلَتْ عليك مصيبة؟ فقال: لا، ولكن استُفْتِيَ من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم.

قال ابن الجوزي بعد ذكره لهذا الخبر: هذا قول ربيعة والتابعون متوافرون، فكيف لو عاين زماننا هذا؟ وإنما يتجرأ على الفتوى من ليس بعالمٍ لقلة دينه (24).

وقال أبو حنيفة: من تكلم في شيء من العلم وتقلده وهو يظن أن الله عز وجل لا يَسأله عنه: كيف أفتيتَ في دين الله، فقد سَهُلت عليه نفسه ودينه، وقال: ولولا الفَرَق من الله أن يضيع العلم ما أفتيت أحدًا، يكون لهم المهنأ، وعليَّ الوزر (25).

وتتابعت كلمات السلف أيضًا في النهي عن تتبع الرخص، واختار جمع منهم تفسيق من فعل ذلك، وذلك لأنهم كانوا على فقه ودراية في نصوص الوحي ومقاصد الشرع وأحوال الناس، ولم يكن يغيب عنهم قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُم} [المائدة: 49]، ومن أقوالهم في ذلك قول الإمام الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام. وقال الإمام أحمد: لو أن رجلًا عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة كان فاسقًا.

ودخل إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي على المعتضد فدفع إليه كتابًا فقرأه، فإذا فيه الرخص من زلل العلماء قد جمعها له بعض الناس، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما جمع هذا زنديق، فقال المعتضد: كيف؟ قال القاضي: إن من أباح المتعة لم يبح الغناء، ومن أباح الغناء لم يبح إضافته إلى آلات اللهو، ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه، فأمرَ بتحريق ذلك الكتاب (26).

وقد نصّ غير واحد من أهل العلم على حرمة تتبع رخص أهل العلم، وذكروا أنه لا يجوز استفتاء من تتبعها، وردّوا على من قال أو عمل بذلك.

يتذرع بعض المفتين ومن سار في مسارهم بالأدلة الدالة على التيسير على هذه الأمة، وكون الشريعة الإسلامية شريعة سمحة، ولماذا تشددون على الناس والله جل وعلا يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، ويقول تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، ويقول صلى الله عليه وسلم: «أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة» (27).

والجواب عن هذه الشبهة من أوجه:

الوجه الأول: أن الذي أراد التيسير وبعث بالحنيفية السمحة هو الله سبحانه، فكل ما شرعه فهو يسير، وعلى ذلك فعلى المفتي أن يبحث عما شرعه الله وفق الضوابط المرعية في الاجتهاد، وإذا وصل المفتي إلى ما شرعه الله فقد وصل إلى اليسر، وليس اليسر هو ما يهواه المفتي، وليس اليسر في اتباع رخص الفقهاء وزلَّاتهم، وليس اليسر هو أن يخرج المستفتي وهو راض ومرتاح من الفتوى، وليس اليسر هو أن يمدحك الناس بعد الفتوى ويشتهر صيتك بين الأنام.

الوجه الثاني: أن في تتبع الرخص اتباعًا للهوى، فالمفتي المتتبع للرخص لا ينظر في الأدلة والمقاصد الشرعية، بل ينظر في هواه أو هوى المستفتي، وقد نُهينا عن اتباع الهوى في أكثر من دليل، مثل قوله تعالى: {فَلَا تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا} [النساء: 135].

الوجه الثالث: ليس المقصودُ باليسرِ السهولةَ والدعةَ، وإلا لم يكن للتكاليف معنى، فالأحكام الشرعية تخالف هوى الناس، ليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين، وعندنا في الأحكام الشرعية الصلاة في الأيام الشديدة البرد، ودفع الزكاة، والحج، والجهاد، وإقامة الحدود، وغير ذلك من الأحكام الشرعية التي تخالف هوى النفوس، ومع ذلك لا يشك أحد في كونها من الشرع، ولا يشك أحد في يسر الشرع أيضًا، وباختصار: فالذي يحدد اليسر، هو الذي ذكر أن هذا الدين يسر، وهو الحكيم الخبير.

الوجه الرابع: أن القول بتتبع الرخص وترك قواعد الاجتهاد والترجيح بين الأدلة يؤدي إلى ضياع الأحكام الشرعية، وترك الناس لهذه الشريعة السمحة، والقفز على المسلّمات الشرعية، وانفراط العقد، وكثيرًا ما نسمع من هؤلاء أهمية العلم بالمقاصد الشرعية، وصدقوا في ذلك، ولكن أليس اتباع زلات العلماء يؤدي إلى ترك الشريعة؟ أليست هذه الرخص تؤدي إلى تلاعب الناس بالدين، واتخاذه لهوًا ولعبًا، خذ لذلك مثلًا: من الفقهاء من يقول بعدم اشتراط الولي في النكاح، ومنهم من لا يشترط الشهود في النكاح، ويتركب من هذين القولين، جواز ما يعرف في بعض البلاد بالزواج العرفي، وهل يقول بذلك أحد يخشى الله ويتقيه؟ ولهذا فغالبًا ما يؤدي تتبع الرخص إلى التلفيق بين الأقوال.

الوجه الخامس: لسنا ننكر على المفتي أن يعتقد القول بعد النظر في المسألة والتجرد للحق ثم يقول بالقول الذي يراه سواء أكان هذا أشد مما عليه الناس أم أخف، إذ هذا ما أداه إليه اجتهاده وهذا ما يدين الله به، ولكن إنما اللوم على من يتبع هواه في التشديد والتسهيل، أو يتبع أهواء الناس وما يشتهونه، ويفسد دينه بصلاح دنيا غيره، أو يتبع معظّمًا في ذلك.

قال ابن عقيل: من أكبر الآفات: الإلف لمقالة من سلف، أو السكون إلى قول معظَّم لا بدليل، فهو أعظم حائل عن الحق وبلوى تجب معالجتها (28).

هناك عدد من الأسباب التي توقع المفتي في التساهل، أذكر بعضها:

أولًا: ضعف الإيمان.

ثانيًا: غياب أو تغييب أهل العلم الراسخين في العلم.

ثالثًا: حب الظهور بين الناس، فيأتي بالفتوى الشاذة، أو الرخص التي لا تقوم على ساق الدليل، لكي يبحث عنه الناس ويشتهر بينهم، وتتنافس عليه الفضائيات ليُصدّر فتاوى الهوى في برامج على الهواء، ولست أعمم هذا الحكم على كل الفضائيات، ولكن للأسف كثير منها كذلك، وحب الظهور يقصم الظهور.

رابعًا: تضخيم وسائل الإعلام لهؤلاء المفتين، حتى أصبح يخيّل إليهم أنه لا يجيد الفتوى إلا هم، ولا يفقه واقع الحياة أحد غيرهم.

خامسًا: الهزيمة النفسية التي يعاني منها بعض هؤلاء.

سادسًا: طلبُ الدنيا، سواء أكان ذلك طلبًا للمنصب أم طلبًا لرضا السلطان أم غير ذلك (29).

سبل العلاج:

نستعرض فيما يلي أهم سبل العلاج:

1- إبعاد مجامع البحوث الفقهية عن السيطرة الحكومية، بحيث يُترك أمر انتخاب أعضائها إلى العلماء الذين يختارون أفضلهم وأعلمهم وأورعهم. ثم التزام جميع المفتين بما يصدر عن هذه المجالس الفقهية من فتاوى والتقيد بها. ولنا في السلف الصالح أسوة، حيث جاء في ترجمة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب – أحد فقهاء المدينة السبعة رحمه الله تعالى – أن ابن المبارك قال: كانوا إذا جاءتهم المسألة دخلوا فيها جميعًا فنظروا فيها، ولا يقضي القاضي حتى يرفع إليهم، فينظرون فيها، فيصدرون (30)، لذا يحسن إصدار فتاوى جماعية في النوازل التي تحدث للأمة، وهي للأسف كثيرة في عصرنا هذا، فيكون الناس على بينة من أمرهم.

2- كثرة القراءة في تراجم المفتين، وكثرة الاطلاع على أخبار المستفتين، ومعرفة كيف كان ورعهم وتقواهم في أمور الدين.

وهذه الأخبار مبسوطة في كتب أصول الفقه في مباحث الاجتهاد والتقليد، وكتب آداب الفتوى، وكتب آداب طلب العلم، وبعض الكتب الفقهية في كتب القضاء فيها.

3- تخلي المفتين عن حب الظهور فإنها مهلكة، والتجرد لله تعالى فيما يصدر عنهم من فتاوى، ومعرفة أنهم بمثابة موقعين عن الله تعالى إلى خلقه، فليخشوا الله وليتقوه، وليعلموا أنهم موقفون بين يديه سبحانه في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فليقدروا لهذا اليوم قدره.

4- العمل على نشر العلم الشرعي بين أفراد الأمة، وتشجيع الناس على تلقي هذه العلوم، وتبصير الناس بأهميتها، حتى لا تقع الناس فريسة لمن يتلاعبون بالدين، وتستطيع أن توقفهم عند حدودهم.

5- تيقن أن هذا العلم دين، فليس معنى إحاطة أصحاب العلوم التجريبية ببعض العلوم الشرعية أو نبوغهم في مجالهم أن هذا يعطيهم الحق للتصدي للإفتاء بين الناس.

وبحسب أصحاب العلوم التجريبية النبوغ في تخصصاتهم والإبداع فيها والاشتهار بذلك، لكي يفيدون الأمة الإسلامية التي هي أحوج ما تكون إليهم في هذه التخصصات (31).

ومما يجب على المفتي: استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها في الدنيا والآخرة.

أما في الدنيا؛ فمن تشريع لأحكام من تحليل وتحريم وما يترتب على ذلك من أقضية وأحكام وحقوق، وفي الآخرة من وقوف بين يدي الملك سبحانه ليسأل اولئك الذين أولاهم الله أمانة التبليغ عنه.

ولقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام إن سئل عن شيء لا يعلمه قال: «لا أدري»، عن جبير بن مطعم: أن رجلًا، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي البلاد شر؟ فقال: «لا أدري»، فلما أتى جبريل رسول الله عليهما السلام، قال: «أي البلاد شر؟» قال: لا أدري، حتى أسأل ربي، فانطلق جبريل عليه السلام، فمكث ما شاء الله، فقال: يا محمد إنك سألتني أي البلاد شر؟ فقلت: لا أدري، وإني سألت ربي، فقلت: أي البلاد شر؟ قال: أسواقها (32).

ومن أهمّ ما يجب منه الحذر أن يسعى المفتي في فتواه إلى إرضاء أحد من أهل السلطة، ومن له منفعة معه من حزب أو جماعة.

فتذكر أيها المفتي أن فتواك حكم تنطق به لكنك تنسبه إلى الله، فالواجب على المفتي أن يكون وقافا على الحق مهما كان سلطان من يريد له أن يميل وينحرف، وإن كان هو الحاكم أو الأمير... وفي الحديث: «إنه سيكون عليكم أئمة تعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع...» (33).

ومن يتعرض للفتيا حقيق به أن يصغي جيدًا إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالًا، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالًا، يهوي بها في جهنم» (34).

إن مما ينبغي على المسلم فعله ألا يأخذ فتواه إلا من العلماء الربانيين المأمونين في دينهم وعلى شريعة ربهم ومن طلاب العلم الموثوقين المتعمقين في المسائل الفقهية، لا أن يأخذها من المجاهيل الذين لا يُعرف من أين أخذوا العلم وعن من تلقوه، كما ينبغي أن يأخذ الفتوى من علماء بلده فهم أدرى بالواقع الذي قد تتغير معه الفتوى تبعًا لتغير الظروف، فلكل بلد ظروفها وأحوالها وعاداتها، فما يصلح لبلد قد لا يصلح في بلد آخر، وخاصة في أمور المعاملات والحقوق، وأخص من ذلك في أمور الدماء التي أول ما سيسأل الله عنه العباد (35).

----------

(1) تفسير ابن كثير (2/ 181).

(2) أخرجه الترمذي (2649).

(3) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (1/ 303).

(4) تفسير ابن كثير (2/ 590).

(5) فتاوى حسب الطلب ودعاة متساهلون/ الجزيرة.

(6) آداب المفتي والمستفتي (ص: 12- 13).).

(7) جامع بيان العلم وفضله (2/59).

(8) تفسير ابن كثير (7/ 373).

(9) الفتوى بين مطابقة الشرع، ومسايرة الأهواء (ص: 9).

(10) أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673).

(11) جامع بيان العلم وفضله (2/ 163).

(12) إعلام الموقعين لابن القيم (9/ 134).

(13) سير أعلام النبلاء (8/ 77).

(14) ذم المال والجاه (ص: 38).

(15) مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل (٦/ ٦٤٠- ٦٤١).

(16) البهجة شرح التحفة (٢/ ٦٩٩).

(17) رجال من التاريخ (ص: 252- 253).

(18) الفتوى بين التشدد والتساهل/ صيد الفوائد.

(19) الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء (ص: 11).

(20) أخرجه الترمذي (2229).

(21) خطر الفتوى/ شبكة الألوكة.

(22) صحيح مسلم (1/ 13).

(23) ترتيب الأمالي الخميسية للشجري (1/ 84).

(24) تعظيم الفتيا لابن الجوزي (ص: 113).

(25) أخبار أبي حنيفة وأصحابه (ص: 47).

(26) الديباج المذهب لابن فرحون (1/ 12).

(27) أخرجه البخاري (38).

(28) شرح الكوكب (4/ 591).

(29) الفتوى بين التشديد والتساهل/ إسلام أون لاين.

(30) التعالم وأثره على الفكر والكتاب (ص: 50).

(31) الفتوى بين التشدد والتساهل/ صيد الفوائد.

(32) أخرجه الطبراني في الكبير (1545).

(33) أخرجه مسلم (2265).

(34) أخرجه البخاري (6478).

(35) خطورة الفتوى وممن تُؤخذ/ رابطة خطباء الشام.