logo

حقيقة التدين


بتاريخ : الأربعاء ، 15 شعبان ، 1441 الموافق 08 أبريل 2020
بقلم : تيار الاصلاح
حقيقة التدين

الدين والتدين أوصاف يتمنى كل مسلم أن يتصف بها، بل ربما يدعيها كثير من المسلمين، وقد تكون هذه الدعوى صحيحة، وقد لا تكون، ولا بد من وزن كل دعوى بموازينها الشرعية والعقلية.

ودعوى التدين دعوى كبيرة لا بد لها من حقيقة، فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله، وليس خاضعًا في تعريفه وتحديده لأهواء البشر، كل يحدده أو يعرّفه كما يشاء (1).

التدين: مأخوذ من الدين، والدين: هو التسليم والطاعة والتذلل والخضوع والعبودية، وعلى هذا فإن التدين يتمثل أولًا بالتسليم لله عز وجل، والتذلل له سبحانه، والخضوع والطاعة والامتثال، وجماع ذلك كله: العبودية لله سبحانه.

والتدين لا بد أن يشمل استسلام القلب واستسلام الجوارح، وخضوع القلب وخضوع الجوارح، ولو تأملنا حال المسلمين اليوم ثم قارناها بحال المسلمين في القرون الثلاثة لانكشفت لنا الكثير من الحقائق المتعلقة بدعوى التدين.

أثر عن الحسن البصري: ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب، وصدقته الأعمال (2).

وعلى هذا تستجلى حقيقة التدين من إظهار علامات التدين على القلب أولًا، أي: الأعمال القلبية، التي سيأتي الإشارة إلى شيء منها، ثم على الجوارح التي هي الأعمال الظاهرة، والتي تتمثل بأعمال المسلم الظاهرة تجاه أركان الدين وواجباته والأخلاق.. ونحو ذلك.

ثم ما يستلزم ذلك أيضًا من منهج التعامل، تعامل الإنسان أولًا مع ربه عز وجل، وتعامله مع الحقائق الشرعية، وتعامله مع أصول الإسلام، ومدى امتثاله لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مدى تحقيقه لمعنى الإسلام، ومدى تعلقه بهذا الدين (3).

قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الْإِسْلامُ} [آل عمران: 19]، فهو لا يقبل دينًا سواه من أحد، الإسلام الذي هو الاستسلام والطاعة والاتباع، وإذن فليس الدين الذي يقبله الله من الناس هو مجرد تصور في العقل ولا مجرد تصديق في القلب، إنما هو القيام بحق هذا التصديق وذلك التصور، هو تحكيم منهج الله في أمر العباد كله، وطاعتهم لما يحكم به، واتباعهم لرسوله في منهجه.

وهكذا؛ يعجب من أهل الكتاب ويشهر بأمرهم، إذ يدعون أنهم على دين الله، ثم {يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [آل عمران: 23]، مما ينقض دعوى التدين من الأساس، فلا دين يقبله الله إلا الإسلام، ولا إسلام بغير استسلام لله وطاعة لرسوله، واتباع لمنهجه، وتحكيم لكتابه في أمور الحياة..

ويكشف عن علة هذا الإعراض- الذي هو التعبير الواقعي عن عدم الإيمان بدين الله- فإذا هي عدم الاعتقاد بجدية «القسط» في الجزاء يوم الحساب: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُوداتٍ}، معتمدين على أنهم أهل كتاب؛ {وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ} [آل عمران: 24]، وهو غرور خادع، فما هم بأهل كتاب، وما هم بمؤمنين أصلًا، وما هم على دين الله إطلاقًا وهم يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون.

وبهذا الجزم القاطع يقرر الله سبحانه في القرآن الكريم معنى الدين وحقيقة التدين، فلا يقبل من العباد إلا صورة واحدة ناصعة قاطعة، الدين: الإسلام، والإسلام: التحاكم إلى كتاب الله وطاعته واتباعه، فمن لم يفعل فليس له دين، وليس مسلمًا، وإن ادعى الإسلام وادعى أنه على دين الله، فدين الله يحدده ويقرره ويفسره الله، وليس خاضعًا في تعريفه وتحديده لأهواء البشر، كل يحدده أو يعرّفه كما يشاء؛ لا، بل إن الذي يتخذ الكفار أولياء- والكفار كما يقرر السياق هم الذين لا يقبلون التحاكم إلى كتاب الله- {فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ} ولا علاقة له بالله في شيء ولا صلة بينه وبين الله في شيء، مجرد من يتولى وينصر أو يستنصر أولئك الكفار الذين يرفضون أن يتحاكموا إلى كتاب الله، ولو ادعوا أنهم على دين الله.

ويشتد التحذير من هذه الولاية التي تذهب بالدين من أساسه، ويضيف السياق إلى التحذير التبصير، تبصير الجماعة المسلمة بحقيقة القوى التي تعمل في هذا الوجود، فالله وحده هو السيد المتصرف، مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، وهذا التصريف لأمر الناس ليس إلا طرفًا من التصريف لأمر الكون كله، فهو كذلك يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، وهذا هو القيام بالقسط في أمر الناس وفي أمر الكون، فلا داعي إذن لولاية غيره من العباد، مهما يكن لهم من قوة ومن مال وأولاد.

ويشي هذا التحذير المؤكد المكرر بما كان واقعًا في الجماعة المسلمة يومذاك من عدم وضوح الأمر تمامًا ومن تشبث بعضهم بصلاته العائلية والقومية والاقتصادية مع المشركين في مكة ومع اليهود في المدينة، مما اقتضى هذا التفسير والتحذير، كما أنه يشي بطبيعة ميل النفس البشرية إلى التأثر بالقوى البشرية الظاهرة، وضرورة تذكيرها بحقيقة الأمر وحقيقة الأمر وحقيقة القوى، إلى جانب إيضاح أصل العقيدة ومقتضياتها في واقع الحياة (4).

إن تدين الناس يصيبه الخلل مع طول المدة، ومن مظاهر خلل التدين تخلف مقتضيات الإيمان عن سلوك المؤمنين؛ إما بالتقصير بالقيام بالواجبات الإيمانية؛ كأركان الإسلام مثلًا، أو بتأدية هذه الأركان وغيرها من شعائر الدين بشكل غير سليم؛ كالحجاب المتبرج لدى كثير من المسلمات، أو الخلل في فهم عقيدة التوحيد التي هي جوهر الإسلام، فلذلك نجد من يقلد الجاهلية بالاستغاثة بالأموات والطواف بالقبور، أو تجد أنه يتقبل أفكارًا تصادم صريح القرآن الكريم؛ كمن يعرض عن آيات القرآن الكثيرة في خلق الله عز وجل لجنس الإنسان من طين {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ} [السجدة: 7]، ليقبل مزاعم الدجل بتطور الإنسان من حيوان، أو يغلو ويتشدد بخلاف وسطية الإسلام ورحمته فيكفر المسلمين ظلمًا، أو ينتهك الأموال والدماء المعصومة للمسلمين والمسالمين من غير المسلمين بغيًا وعدوانًا.

ومن هنا جاء تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الإيمان بضرورة تجديد التدين عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (5)، ويخلق أي يبلى ويهترئ كالثوب القديم، وقال صلى الله عليه وسلم في وصف تبدل حالة الإيمان في قلب المؤمن بقوله: «ما من القلوب قلبٌ إلا وله سحابةٌ كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابةٌ، فأظلم إذ تجلت عنه فأضاء» (6).

وعليه فإن المؤمن يحتاج دومًا لمراقبة إيمانه وتدينه وتعديل مساره، ومن هنا كان حرص القرآن الكريم على أهمية تذكير المؤمنين وتكرار التذكير دومًا {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الْذِكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] (7).

والتدين حالة إنسانية تطرأ على المرء وقد تلازمه حياته كلها، وقد ترافقه فترة من الزمن ثم تغيب أو تخفت، ويمكن أن تتوهج حسب توفق هذا المسلم في درجات صقل تدينه وتشذيبه مما يمكن أن يشوبه من شوائب وأخطاء تعلق به بسبب التأثير والتأثر في مجتمع اليوم، حيث التدافع أساس الحياة المدنية الراهنة.

والتدين بهذا يكون حالة بشرية لها ما لها وعليها ما عليها، فكان لزامًا التفريق بين الدين كنور وهداية صادقين أبدًا؛ وبين التدين كنمط سلوكي قد تعتريه نواقص وقد تتخلله آفات تكبر وتصغر وفق شخصية الشخص المتدين، فهناك التدين المغشوش والتدين المتشدد والتدين المعكوس والتدين السياسي، وكلها أصناف وعلل للتدين لا ينبغي بأي حال من الأحوال إسقاط تبعاتها السيئة على الدين كرسالة صافية نقية لا أخطاء ولا علل فيها.

في هذا السياق التمييزي والتعريفي، يقول الدكتور عبد المجيد النجار في دراسة له نشرها في أحد أعداد سلسلة كتاب الأمة: إن حقيقة الدين تختلف عن حقيقة التدين؛ إذ الدين هو ذات التعاليم التي هي شرع إلهي، والتدين هو التشرع بتلك التعاليم، فهو كسب إنساني، وهذا الفارق في الحقيقة بينهما يفضي إلى فارق في الخصائص، واختلاف في الأحكام بالنسبة لكل منهما.

التدين المغشوش:

الاعتناء بالظاهر مع إهمال الباطن، بمعنى أن المتدين يعتني في تدينه بتحسين الأعمال والصفات الظاهرة والمرئية والملموسة، ويحرص على الالتزام بأحكام الشرع وآدابه فيها، بينما لا يبالي بعكسها مما لا يراه الناس ولا يظهر للعيان.

كمن يحافظ على الصلاة في أوقاتها وبهيئاتها وسننها بدرجة جيدة جدًا، ولكن الاهتمام بباطن الصلاة، أي بحالة القلب وتعظيم الرب ونباهة العقل وخشوع النفس، شيء منعدم أو كالمنعدم.

وقد تجد المتدين مهذبًا رقيقًا، عفيف اللسان حلو الخطاب، لا يسب ولا يشتم ولا يُغلظ القول...، ولكنه في مجالسه الخاصة الآمنة، يفعل كل ذلك وأكثر منه، ويسترسل في الغيبة والنميمة والتجريح، استرسال المستبيح المستريح؛ وهكذا، فالتدين الفاسد المغشوش كما يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله يفسد البداهة ويمسخ الفطرة.

التدين المعكوس:

أما التدين المعكوس فهو ذلك التدين الذي يَقْلب أصحابُه مراتبَ الشرع وقيمه ومقاصده وأولوياته، فيتشددون ويبالغون فيما خففه الشرع، أو لم يطلبه أصلًا، ويهملون ويضيعون ما قدمه وعظمه.

فتجد من الحرص والتزاحم على صلاة التراويح، وعلى تقبيل الحجر الأسود، ما لا تجده في فرائض الدين وأركانه.

وتجد الإنفاق والإغداق في الولائم والضيافات والعمرة، مع تضييع فرائض الزكاة وحقوق الشركاء والأقارب والفقراء والمستخدمين.

ويسرد العالم المغربي الأمثلة الجلية على هذا النوع من التدين، بإبراز ما نجده حين نرى ما جاء به الإسلام من طهارة ونظافة ونقاوة، تتصدر أحكامُها وآدابها كافة كتب الفقه والشريعة، ثم ننظر في عالم المسلمين مغربًا ومشرقًا، فنرى حواضرنا ومدننا -بشوارعها وحدائقها وساحاتها وأسواقها- غارقة في الأوساخ والأوحال والأزبال.

ويظل المسلمون يترددون على مساجدهم وصلواتهم، ويسمعون أئمتهم يقولون ويعيدون: سووا صفوفكم، استووا واعتدلوا، وإن الله لا ينظر إلى صف أعوج...، ولكن قلما تخلو صلاة من صف أعوج، وقلما ترى المسلمين عند الأبواب والشبابيك وغيرها من مواطن الازدحام؛ إلا في حالة فوضى وتدافع، يموج بعضهم في بعض ويدوس بعضهم نساء ورجالًا.

وهو من التدين المعكوس الذي يستجيب لما هو سنة من الدين ويتحمس لما هو مستحب، ويهمل ما هو واجب وفرض، تماما كمن يصر على صلاة التراويح كل رمضان في المسجد جماعة، ولكنه لا يصلي الصبح في وقته وقد تطلع عليه الشمس وهو نائم في سباته غارق في نعاسه.

التدين المحروس:

أما التدين المحروس فهو التدين الذي لا يلتزم به أصحابه بواجباتهم، إلا بالمراقبة والمطالبة والملاحقة، ولو تُركوا لتَركوا؛ فهم ممن يصدق فيهم قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} [آل عمران: 75].

ويقصد بذلك المسلم المتدين الذي يبادر إلى أداء الصلاة وإيتاء الزكاة وإسدال اللحية أو من تحرص على الحجاب -وكل هذا شيء جميل- لكن في نفس الوقت يكون غير مؤد لحقوق الناس عليه، أو يؤديها عن مضض وبعد كثير من المماطلة والتسويف.

فعلى سبيل المثال، فإن المقترض أو المستعير، الذي يرد العارية والقرض في أجله وبدون طلب، قد أصبح من نوادر الزمان، بين المسلمين من أهل القبلة والصيام والازدحام في التراويح، وأما مذهب الجمهور، فهو تناسي الدين والعارية، وعدمُ ردهما بالمرة، أو ردها، لكن بعد فوات الأجل، أو بعد ملاحقات وتوسلات وتسويفات.

التدين المتشدد والمسيس:

يمكننا إضافة أصناف أخرى مما يندرج ضمن آفات التدين وعلله المستشرية في كثير من المتدينين في بلادنا الإسلامية، ولعل أبرزها وأشهرها التدين المتشدد، حيث يقوم المتدين بدور المحلل والمحرم والآمر والناهي؛ دون ضابط شرعي ولا دليل يقوم عليه موقفه وردة فعله، ويضفي على ما يقوم له بعض التعصب والنرفزة، وربما شيء من الزجر والتعنيف، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يومًا عنافًا ولا مزمجرًا، بل كان ألين الناس وأطيبهم معشرًا؛ روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأة، ولا خادمًا، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط، فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عز وجل (8).

وقال أنس بن مالك رضي الله عنه كما جاء في صحيح مسلم: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، والله ما قال لي: أفا قط، ولا قال لي لشيء: لم فعلت كذا؟ وهلا فعلت كذا؟ (9).

التدين المسيس:

التدين السياسي الذي يتسم به البعض في جماعات وحركات إسلامية على مدى العصور وفي شتى الأمصار، فيكون الحزب سياسيًا لكن بمرجعية دينية، فيصير محط اتهامات بأنه يستخدم الدين لبلوغ غايات سياسية، وأن الدين مجرد وسيلة لا غير، وهنا لا يجب التعميم طبعًا؛ لكن يوجد من المتدينين فعلًا من يجعلون تدينهم قنطرة عبور نحو منصب سياسي أو حزبي أو كرسي سلطوي، وغير ذلك، فأين التدين من كل هذا خاصة إن خلع عنه ثياب التدين فور ما يستوي على كرسي المسئولية؟

يقول الدكتور فريد الأنصاري: ارتمى الشباب في مجاري العمل السياسي العفن، فانتقضت الطهارة، وتنجَّسَ العمل، وتورطت الطاقات في الخلافات القبلية وزادتها تأجيجًا واشتعالًا، وقد كانوا إلى عهد قريب هم أهل الصلاح والإصلاح، إليهم المفزع عند أي نزاع، فصاروا طرفًا في كل شيء، وبدل أن يكونوا مرجعًا لحل الإشكال صاروا جزءًا من الإشكال.

ويضيف: كثير من أبناء العمل الإسلامي انهمكوا في الهموم الدنيوية والسياسية، ونسوا القضية الكبرى؛ قضية الإنسان مع خالقه، ومصيره في آخرته... فلا بركة في حركة تثير النقع في وغى السياسات، وتشعل الخطب النارية في نوادي النقابات، وأصحابها لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى.

لكن مع كل ذلك ما يزال كثير من العاملين في صفوفها من الصالحين المتقين بل ربما وجدتَ منهم أحيانًا بعض الأولياء الربانيين الحقيقيين (10).

إن دين الله ليس راية ولا شعارًا ولا وراثة، إن دين الله حقيقة تتمثل في الضمير وفي الحياة سواء، تتمثل في عقيدة تعمر القلب، وشعائر تقام للتعبد، ونظام يصرف الحياة، ولا يقوم دين الله إلا في هذا الكل المتكامل ولا يكون الناس على دين الله إلا وهذا الكل المتكامل متمثل في نفوسهم وفي حياتهم، وكل اعتبار غير هذا الاعتبار تمييع للعقيدة، وخداع للضمير لا يقدم عليه «مسلم» نظيف الضمير، وعلى «المسلم» أن يجهر بهذه الحقيقة ويفاصل الناس كلهم على أساسها ولا عليه مما ينشأ عن هذه المفاصلة، والله هو العاصم، والله لا يهدي القوم الكافرين.

وصاحب الدعوة لا يكون قد بلغ عن الله ولا يكون قد أقام الحجة لله على الناس، إلا إذا أبلغهم حقيقة الدعوة كاملة، ووصف لهم ما هم عليه كما هو في حقيقته، بلا مجاملة ولا مداهنة، فهو قد يؤذيهم إن لم يبين لهم أنهم ليسوا على شيء، وأن ما هم عليه باطل كله من أساسه، وأنه هو يدعوهم إلى شيء آخر تمامًا غير ما هم عليه، يدعوهم إلى نقلة بعيدة، ورحلة طويلة، وتغيير أساسي في تصوراتهم وفي أوضاعهم وفي نظامهم وفي أخلاقهم، فالناس يجب أن يعرفوا من الداعية أين هم من الحق الذي يدعوهم إليه {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42].

وحين يجمجم صاحب الدعوة ويتمتم ولا يبين عن الفارق الأساسي بين واقع الناس من الباطل وبين ما يدعوهم إليه من الحق، وعن الفاصل الحاسم بين حقه وباطلهم، حين يفعل صاحب الدعوة هذا- مراعاة للظروف والملابسات، وحذرًا من مواجهة واقع الناس الذي يملأ عليهم حياتهم وأفكارهم وتصوراتهم- فإنه يكون قد خدعهم وآذاهم، لأنه لم يعرّفهم حقيقة المطلوب منهم كله، وذلك فوق أنه يكون لم يبلغ ما كلفه الله تبليغه! إن التلطف في دعوة الناس إلى الله، ينبغي أن يكون في الأسلوب الذي يبلغ به الداعية، لا في الحقيقة التي يبلغهم إياها؛ إن الحقيقة يجب إن تبلغ إليهم كاملة، أما الأسلوب فيتبع المقتضيات القائمة، ويرتكز على قاعدة الحكمة والموعظة الحسنة (11).

ويقول المودودي: والظاهر أن أول ما يطالب به دين الله عباده، أن يدخلوا في عبودية الحق كافة مخلصين له الطاعة والانقياد، حتى لا يبقى في أعناقهم قلادة من قلائد العبودية لغير الله تعالى، ثم يتطلب منهم ألا يكون لحياتهم قانون إلا ما أنزله الله تعالى، وجاء به الرسول الأمي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم إن الإسلام يطالبهم أن ينعدم من الأرض الفساد، وتستأصل شأفة السيئات والمنكرات الجالبة على العباد غضب الله تعالى وسخطه.

وهذه الغايات السامية لا يمكن أن يتحقق منها شيء ما دامت قيادة أبناء البشر وتسيير شؤونهم في الأرض بأيدي أئمة الكفر والضلال، ولا يكون من أمر أتباع الدين الحق وأنصاره إلا أن يستسلموا لأمر هؤلاء وينقادوا لجبروتهم، يذكرون الله قابعين في زواياهم، منقطعين عن الدنيا وشؤونها، مغتنمين ما يتصدق به هؤلاء الجبابرة عليهم من المسامحات والضمانات، ومن هنا يظهر ما للإمامة الصالحة وإقامة نظام الحق من أهمية خطيرة تجعلها من غايات الدين وأسسه.

والحق أن الإنسان لا يمكنه أن يبلغ رضى الله تعالى بأي عمل من أعماله إذا تناسى هذه الفريضة وتقاعس عن القيام بها.. ألم تروا ما جاء في الكتاب والسنة من ذكر الجماعة ولزومها والسمع والطاعة، حتى إن الإنسان ليستوجب القتل إذا خرج من الجماعة- ولو قيد شعره- وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم. وهل لذلك من سبب سوى أن غرض الدين الحقيقي وهدفه إنما هو إقامة نظام الحق، والإمامة الراشدة وتوطيد دعائمه في الأرض (12).

إن طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس، صلبة لا تقبل التمييع، والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة، وهم من أجل ذلك يوجهون إليه جهودًا لا تكل، وحملات لا تنقطع، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته، كل الوسائل وكل الأجهزة، وكل التجارب، هم يسحقون سحقًا وحشيًا كل طلائع البعث والحيوية الصلبة الصامدة في كل مكان على وجه الأرض، عن طريق الأوضاع التي يقيمونها ويكفلونها في كل بقاع الأرضَ، وهم يسلطون المحترفين من علماء هذا الدين عليه؛ يحرفون الكلم عن مواضعه، ويحلون ما حرم الله، ويميعون ما شرعه، ويباركون الفجور والفاحشة، ويرفعون عليها رايات الدين وعناوينه، وهم يزحلقون المخدوعين في الحضارات المادية، المأخوذين بنظرياتها وأوضاعها ليحاولوا زحلقة الإسلام في التشبه بهذه النظريات وهذه الأوضاع، ورفع شعاراتها، أو الاقتباس من نظرياتها وشرائعها ومناهجها.

وهم يصورون الإسلام الذي يحكم الحياة حادثًا تاريخيًا مضى ولا تمكن إعادته، ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين، ثم ليقولوا لهم- في ظل هذا التخدير-: إن الإسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة، لا شريعة ونظامًا، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي القديم، هذا وإلا فإن على هذا الدين أن «يتطور» فيصبح محكومًا بواقع البشر، يبصم لهم على كل ما يقدمونه له من تصورات وقوانين.

وهم يضعون للأوضاع التي يقيمونها في العالم- الذي كان إسلاميًا- نظريات تأخذ شكل العقيدة والدين، لتحل محل ذلك الدين القديم، وينزّلون لها قرآنًا يتلى ويدرس، ليحل محل ذلك القرآن القديم، وهم يحاولون تغيير طبيعة المجتمعات- كما يحاولون تغيير طبيعة هذا الدين- كوسيلة أخيرة، حتى لا يجد هذا الدين قلوبًا تصلح للهداية به، فيحولون المجتمعات إلى فتات غارق في وحل الجنس والفاحشة والفجور، مشغول بلقمة العيش لا يجدها إلا بالكد والعسر والجهد، كي لا يفيق، بعد اللقمة والجنس، ليستمع إلى هدى، أو يفيء إلى دين.

إنها المعركة الضارية مع هذا الدين والأمة التي تهدي به وتحاول أن تعدل به، المعركة التي تستخدم فيها جميع الأسلحة بلا تحرج، وجميع الوسائل بلا حساب والتي تجند لها القوى والكفايات وأجهزة الإعلام العالمية والتي تسخر لها الأجهزة والتشكيلات الدولية والتي تكفل من أجلها أوضاع ما كانت لتبقى يومًا واحدًا لولا هذه الكفالة العالمية.

ولكن طبيعة هذا الدين الواضحة الصلبة ما تزال صامدة لهذه المعركة الضارية، والأمة المسلمة القائمة على هذا الحق -على قلة العدد وضعف العدة- ما تزال صامدة لعمليات السحق الوحشية، والله غالب على أمره (13).

______________

(1) في ظلال القرآن (1/ 377).

(2) شعب الإيمان (1/ 159).

(3) حقيقة التدين ومظاهره/ إسلام ويب.

(4) في ظلال القرآن (1/ 377).

(5) أخرجه الحاكم (5).

(6) صحيح الجامع (5682).

(7) حقيقة الدين وترشيد التدين/ الغد.

(8) أخرجه مسلم (2328).

(9) أخرجه مسلم (2309).

(10) عافية الدين وعلل التدين/ طريق الإسلام.

(11) في ظلال القرآن (2/ 941).

(12) من مقدمات كتاب: الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية.

(13) في ظلال القرآن (3/ 1404).