منهجية النبي في اكتشاف الطاقات الدعوية وتوظيفها
تعد قضية اكتشاف الطاقات الدعوية من أهم القضايا التي تُؤَرِّق الداعية الناجح، الذي إن أحسن استثمار طاقات مريديه لنفع بهم الأمة نفعًا كبيرًا، وحقق بهم التطور والازدهار والتمكين.
وفي القرآن الكريم الكثير من الآيات التي تبين امتلاك قادة البشرية من الرسل والأنبياء والمصلحين لمختلف القدرات والكفاءات التي تميزوا بها عن غيرهم من الناس، واستطاعوا أن يحققوا من خلالها آثارًا طيبة تَعْجَز عن تحقيقها الجماعات الكبيرة في الدهور الطويلة، فإبراهيم عليه السلام امتلك لوحده من الخلال الروحية والمنهجية والعملية ما لا تمتلكه الأمة مجتمعة، فقال عنه عز وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120].
وهو لم يستحق هذا الوصف لمجرد صفات وُجِدَت فيه، وإنما للآثار الطيبة والعظيمة التي جسدها في الواقع الذي عاش فيه، والأزمنة التي جاءت من بعده إلى يوم الدين، وهذا موسى عليه السلام برزت فيه صفتا القوة والأمانة، ولاحظتهما ابنتا الرجل الصالح في الوقت القصير الذي تعرفتا عليه فيه، فرشحتاه للعمل عند أبيهما: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ} [القصص: 26].
ويثني القرآن الكريم على أنبيائه مشيرًا إلى جهودهم العظيمة وآثارهم الحسنة في الحياة {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ {أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45]، ويوسف عليه السلام يعلن عن استحقاقه لمنصب رفيع في الدولة، واستعداده لمواجهة سنين القحط والجوع التي تهدد المجتمع: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
ولقد كان للرسول الكريم هدي في اكتشاف الطاقات الفاعلة والمبدعة في المجتمع، وحُسن استغلالها وتوظيفها في مواقعها المناسبة، وكان صلى الله عليه وسلم بارعًا في اكتشاف مواهب أصحابه، وتحديد قدراتهم، من ذلك قوله لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود» (1)، وذلك لمَّا سمعه يقرأ القرآن، فاكتشف صلى الله عليه وسلم هذه الموهبة الصوتية الجميلة، ولم يمرَّ عليها مرور الكرام.
وقال صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس رضي الله عنه: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة» (2).
قواعد في اكتشاف الطاقات الدعوية:
إن الدعوة الإسلامية بمسيس الحاجة إلى الدعاة الذين تتقد قلوبهم شعورًا بالواجب تجاهها، وينشغل تفكيرهم بالدعوة إلى الله في كل وقت، ولا يجدون سعادتهم إلا من خلال طاعة الله، وتقديم الخير وبذل الطاعة والإمكانيات لنشر هذه الدعوة، وكيلا تضيع الجهود هدرًا هنالك قواعد هامة وضعها النبي صلى الله عليه وسلم تساعد الداعية في اكتشاف الطاقات الدعوية منها:
القاعدة الأولى: اختلاف البشر في طباعهم وشخصياتهم:
قوله صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» (3).
يعنى أن الناس معادن الأعمال والأخلاق والأقوال، ولكن يتفاوتون فيها كما تتفاوت معادن الذهب والفضة إلى أن تنتهي إلى الأدنى فالأدنى.
قال في شرح المصباح: وفيه إشارة إلى أن ما في معادن الطباع من جواهر مكارم الأخلاق ينبغي أن تستخرج برياضة النفوس كما يستخرج الجواهر من المعادن بالمقاساة والتعب، ولقد أجاد من قال:
بقدر الكد تكتسب المعالي ومن طلب العلى سهر الليالي
تروم العز ثم تنام ليلًا يغوص البحر من طلب اللآلي
الناس (وإن ظهروا في صورة واحدة) هم في حقيقتهم، فريقان: مؤمن وكافر، ومستقيم، ومعوج، ومهتد وضال، وطيب وخبيث...
سواء اختبروا أم لم يختبروا، وجرّبوا أم لم يجرّبوا، هكذا خلقهم الله، وإن توالد بعضهم من بعض، كما يتولد الماء العذب من الماء الملح، {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} [الأنعام: 95]، {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2].
المؤمنون الأخيار في المجتمع الإنساني، وهم مادة الحياة، وهم الروح الذي يسري في شرايين كل ما هو نافع، وصالح، لإثبات شجرة الحياة، وإروائها، وإزهارها، وإثمارها، ولو افتقدتهم هذه الأرض، لما كان للحياة أثر فيها؛ إنهم الماء العذب، الذي هو حياة الأحياء، من نبات، وجماد، وإنسان؛ {وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]، وفي هذا يقول بعض العارفين: الماء العذب، ما وقع منه على الأرض أنبت البرّ، وما وقع في البحر ولد الدرّ، أي: اللؤلؤ والمرجان (4).
الله سبحانه وتعالى خلقنا مختلفين في أمور كثيرة، مِنها التفكير والعادات والطباع واللغة والشكل والاهتمامات وغيرها الكثير، لا لشيء إلا لنتعارف ونتعاون ونتشارك فيما بيننا، ولنعلم جميعًا أن اختلاف أنماط الناس إيجابي وتكاملي، وان اختلاف الألوان يُعطي جمالًا للّوحة.
يختلف الناس من حيث الشكل واللون والعرق واللغة والمعتقد، أي أننا نختلف سواء من حيث الفطري أو المكتسب، لكننا نتحد من حيث جوهر الوجود، وجوهر وجود الإنسان ما هو إلا تحقيق إنسانيته، وفي مسعى تحقيق إنسانية الإنسان قد نختلف في الوسائل والسبل، كما قد تواجهنا نفس التحديات وربما تختلف، لكن قد نتفق جميعًا على أن التحديات الحقيقية التي تواجه تحقيق الإنسان إنسانيته هي الجهل والفقر والظلم وغياب العدالة.
فليس كل ما تراه صحيحًا هو في نظر ورؤية الآخرين كذلك، وليس كل ما تراه في مفهومك على كونه خطأ قد يبدو على نفس الصورة في مفهوم الآخرين، كما أنه ليس كل ما يُناسب ذوقك وتعشقه قد يناسب الآخر ويقبله، وقديمًا قيل: الناس فيما يعشقون مذاهبُ، وكما قيل: لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع.
إذا أخـذنـا هذا الفكر الراقي في الاعتبار فلن يثور كل منا من أجل رأيه؛ بل سيـكون عليه أن يستمع إلى رأي الآخرين، وإذا أصر على رأيه فعليه أن يقـدم الأدلـة والبـراهين على صدق كلامه، هذا إن لم يقـتنع برأي الآخـرين لأن لـديه مـا يـثبت خـطأ هذا الرأي، وأهم من إثبات الرأي طريقه إثباته.
لذا، يجب علينا أن نعي ثقافة الاختلاف على أنها احترام كل وجهة نظر ورأي واختيار مخالف لآرائنا وأفكارنا واختياراتنا، وسماعه ومناقشته في أجواء يسود فيها الاحترام والهدوء وسعة صدر؛ وذلك بإفساح المجال لصاحبها للتعبير عنها وشرحها؛ فالاختلاف رحمة وهو سبب أساسي لازدهار المجتمعات، أما الخلاف فهو جوهر تحجّرها وتخلّفها (5).
القاعدة الثانية: التميز بين الطبع التطبع:
الطبع: ما جبل عليه الإنسان، وأما التطبع: فتكلف طبع لم يجبل عليه الإنسان، فإذا جُبِل الإنسان على النشاط، والحلم، والكرم، والشجاعة، وحب العلم، ونحوها، فهو طبع، وأما إذا جُبل على الكسل والعجلة، والبخل، ونحوها، فتكلف أن يكون نشيطًا حليمًا، كريمًا، فهذا من التطبع، وحيث إن الله شرع لنا حسن الخلق والعفو، ونحو ذلك، فهو مقدور لنا، وإن لم يُطبع بعضنا عليه، ولكن يمكنه اكتسابه.
فالطبع الفطري ما طبع عليه الإنسان منذ نشأته وفطر عليه، والطبع هنا يعني مزاج الإنسان وحالته الوجدانية والانفعالية والنفسية؛ أما التطبع فهو المكتسب من خلال التربية والتنشئة واكتساب العادات.
فنحن لو نظرنا مثلًا إلى صفات مزاجية وانفعالية معينة؛ مثل الحلم والأناة والحياء والحمق والغضب وسرعة الانفعال وما شابهها؛ نجد أن جانبًا منها فطري، وجانبًا منها مكتسب يتمثل في التحكم والسيطرة على الصفة المزاجية قدر المستطاع.
ويتعلق الطبع بالجانب الفطري الموروث في الإنسان وما يقوم به مطاوعة بدون تكلف.
ومما يستدل به على فطرية مثل هذه الصفات في طبع الإنسان ومزاجه، ما ورد في حديث أشج عبد القيس، ولفظه: أن الوزاع يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشج المنذر بن عامر، ومعهم رجل مصاب، فانتهوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم وثبوا من رواحلهم، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا يده، ثم نزل الأشج، فعقل راحلته، وأخرج عيبته ففتحها، فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أشج، إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة» فقال: يا رسول الله، أنا تخلقتهما، أو جبلني الله عليهما؟ قال: «بل الله جبلك عليهما»، قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله (6).
ومن ناحية أخرى نجد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه» (7).
وعلى هذا يقال إنما الخلق بالتخلق، والطبع بالتطبع، وهذا القول يشير إلى الجانب المكتسب للطبع من خلال مداومة الإنسان على اكتساب العادة.
يقول الإمام الغزالي: إن الخَلق والخُلق عبارتان مستعملتان معًا، يقال: فلان حسن الخَلق والخُلق؛ أي حسن الظاهر والباطن، فيراد بالخَلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخُلق الصورة الباطنة، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدركة بالبصيرة، ولكل منهما هيئة وصورة، إما قبيحة أو جميلة (8).
والقول بأن الأخلاق لا تكتسب مردود عليه بالحديث «ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله» (9).
والمزاولات تعطى الملكات، ومعنى هذا أن من زاول شيئًا واعتاده وتمرن عليه صار ملكه له وسجية وطبيعة، قالوا: والعوائد تنقل الطبائع، فلا يزال العبد يتكلف التصبر حتى يصير الصبر له سجية، كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار والسكينة والثبات حتى تصير له أخلاقًا بمنزلة الطبائع.
قالوا: وقد جعل الله سبحانه في الإنسان قوة القبول والتعلم، فنقل الطبائع عن مقتضياتها غير مستحيل، غير أن هذا الانتقال قد يكون ضعيفًا فيعود العبد إلى طبعه بأدنى باعث، وقد يكون قويًا ولكن لم ينقل الطبع فقد يعود إلى طبعه إذا قوى الباعث واشتد، وقد يستحكم الانتقال بحيث يستحدث صاحبه طبعًا ثانيًا؛ فهذا لا يكاد يعود إلى طبعه الذي انتقل عنه (10).
القاعدة الثالثة: معرفة نقاط التميز:
عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب ولكل أمة أمين وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» (11).
فجعل لكل واحد منهم خصلة أفرده بها لم يلحقه فيها صاحبه.
واعلم أن هؤلاء الثمانية من رؤوس الصحابة وأعيانهم، وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم كل واحد منهم بأنه رأس في خصلة من خصال الخير، وخصال الكمال المذكورة مع مشاركته للباقين فيما اختصوا به، فمثلًا اختص أبو بكر بزيادة الرأفة وشارك الباقين فيما اختصوا به، ولهذا جيء باسم التفضيل، فكل واحد من الثمانية يختص بالصفات الثمان؛ إلا أنه فيما خص به أزيد من غيره في الاتصاف بتلك الصفة، وهو في الاتصاف بما خص به غيره أنقص.
ونظيره وصف الرب تعالى لبعض رسله بصفة شريفة اختص بها؛ كقوله في الذبيح عليه السلام أنه كان (صادق الوعد) مع أن سائر رسله كذلك؛ إلا أنه خص الذبيح باختباره فيها، فتميز بها، وكوصفه أيوب عليه السلام بأنه وجده صابرًا مع أن الرسل كلهم عليهم السلام كانوا من أهل الصبر على أذى قومهم وغيره، لكنه لما اختبره تعالى ببلائه تميز بتلك الصفة، وصار الفرد الكامل فيها.
ومن هذا تخصيص أبي عبيدة بن الجراح بأنه أمين هذه الأمة، فهو أوحدي في هذه الصفة؛ وإن كان غيره أمينًا أيضًا (12).
فكل واحد له ميزة تميزه؛ فأبو بكر اشتهر بالرحمة، وعمر اشتهر بالشدة في الدين، وعلي اشتهر بالقضاء، ومعاذ بن جبل اشتهر بالعلم بالحلال والحرام، وأبو عبيدة أمين هذه الأمة، وهذه فضائل عظيمة لهؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم (13).
إن من أسرار العظمة التي تمتع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قدرته على معرفة رجاله، وحسن توظيفه لهم، كلًا حسب قدرته ومواهبه، يقول أحد المفكرين: إن معرفة الرجال بعمق من أدق أعمال الرئيس واكثرها تأثيرًا، إنها ينبوع القوة التي يملكها، إنها سر الرؤساء العظام (14).
إن معرفة الرجال هي الطريق الأمثل لحسن توظيفهم ووضعهم في المكان الذي يمكنهم أن يقدموا أفضل ما يكون في أنفسهم لخدمة أهدافهم (15).
القاعدة الرابعة: توظيف نقاط التمييز في مكانها الصحيح:
اكتشاف شخصية زيد بن ثابت رضي الله عنه، فعندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أُعجب به، وأدرك على الفور موهبته في الفهم السريع، والحفظ القوي، والذاكرة الحية، عن زيد بن ثابت، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود قال: «إني والله ما آمن يهود على كتاب»، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم (16).
كما اكتشف شخصية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، والذي كان نحيل الجسم ضامرًا، دقيق الساقين قصيرًا، اكتشف رسول الله مواهبه فقال له: «إنك غلام معلّم» (17)، وشجعه على التفرغ للعلم، وقربه منه حتى كان أشبه بصاحب سره، لا يفارقه في سفر ولا حضر، ويدور الزمان ويصبح الراعي المغمور من أئمة الصحابة وعلمائهم وقُرَّائهم، يجعله الرسول للناس إمامًا، ويوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود، فيقول: «من سره أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل؛ فليقرأ على قراءة ابن أم عبد» (18).
واكتشف الرسول القائد مواهب عمر بن الخطاب قبل أن يُسلم، فيطلق قولته المشهورة: «اللهم أعز الدين بأحب هذين الرجلين إليك: بأبي جهل بن هشام، أو عمر بن الخطاب» (19)، سهّل له القدوم، فأصبح أعظم القادة في التاريخ، كان نموذجًا فريدًا في سرعة الإدراك واستقراء الأحداث والحكم عليها، ويوم أسلم جاء دار الأرقم بن أبي الأرقم وأمام رسول الله صلى الله عليه وسلم نطق بالشهادتين، ومنذ دخوله في الإسلام استشعر مسئوليته عن الدين الجديد، وطالب رسول الله بالخروج ومواجهة الشرك، ولكن كيف اكتشف رسول الله صلى الله عليه وسلم موهبة عمر وهو ما زال في معسكر الشرك؟، وكيف هذبه وشذبه بعد إسلامه حتى غدا في مقدمة العظماء الذين يفخر بهم تاريخ الإنسانية؟ هذا هو دور القائد المربي في التعرف على القيادات، وإطلاقها لتأخذ دورها في معركة البناء.
وأيضًا اكتشاف شخصية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فيقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقِّه في الدين» (20)، فأصبح فقيه الأمة وحبرها، ويلتقط سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الموهبة الشابة المبكرة، ويضمه إلى مجلس شوراه، وهو بعد فتى صغير.
كما اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد رضي الله عنه لقيادة الجيش المتجه لدومة الجندل لقتال الروم، مع وجود مَن هو أقدم منه في الجيش، وفيهم أبو بكر وعمر، والمسلمون كانوا ينظرون إلى أسامة وإلى والده زيد من قبل بعيون الموقع والقبيلة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينظر إليهم بعيون القائد الذي يبحث عن الموهبة، وأيضًا خالد بن الوليد الذي قال عنه: «خالد سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين» (21)، فيصبح خالد القائد العسكري العظيم الذي لا يهزم (22).
القاعدة الخامسة: معرفة نقاط الضعف والقوة:
عن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: «يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها» (23).
عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم» (24)، هذه أربع جمل بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر فيها ما يلي:
الأولى: قال له: «إني أراك ضعيفًا»، وهذا القول إذا كان مصارحة أمام الإنسان؛ فلا شك أنه ثقيل على النفس، وأنه قد يؤثر فيك أن يقال لك إنك امرؤ ضعيف، لكن الأمانة تقتضي هذا أن يصرح للإنسان بوصفه الذي هو عليه إن قويًا فقوي، وإن ضعيفًا فضعيف، هذا هو النصح «إني أراك ضعيفًا»، ولا حرج على الإنسان إذا قال لشخص مثلًا إن فيك كذا وكذا من باب النصيحة؛ لا من باب السب والتعيير، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «إني أراك ضعيفًا».
الثانية: قال: «وإني أحب لك ما أحب لنفسي» وهذا من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، لما كانت الجملة الأولى فيها شيء من الحرج، قال: «وإني أحب لك ما أحب لنفسي» يعني: لم أقل لك ذلك إلا أني أحب لك ما أحب لنفسي.
الثالثة: «فلا تأمرن على اثنين» يعني لا تكن أميرًا على اثنين، وما زاد فهو من باب أولي، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يكون أميرًا لأنه ضعيف والإمارة تحتاج إلى إنسان قوي أمين، قوي بحيث تكون له سلطة وكلمة حادة وإذا قال فعل، لا يكون ضعيفًا أمام الناس؛ لأن الناس إذا استضعفوا الشخص لم يبق له حرمة عندهم، وتجرأ عليه لكع بن لكع، وصار الإنسان ليس بشيء، لكن إذا كان قويًا حادًا في ذات الله لا يتجاوز حدود الله عز وجل ولا يقصر عن السلطة التي جعلها الله له؛ فهذا هو الأمير حقيقة
الرابعة: «لا تولين مال يتيم واليتيم» هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ؛ فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتولى على مال اليتيم؛ لأن مال اليتيم يحتاج إلى عناية، ويحتاج إلى رعاية {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، وأبو ذر ضعيف لا يستطيع أن يرعى هذا المال حق رعايته، فلهذا قال: «ولا تولين مال يتيم» يعني لا تكن وليًا عليه دعه لغيرك، ففي هذا دليل على أنه يشترط للإمارة أن يكون الإنسان قويًا وأن يكون أمينًا.
أبو ذر الذي أتى بغفار كلها، من أوائل من أسلم من الصحابة، لا يتولى أي منصب ويصرح له بأنه ضعيف، وكأنها صيحة لاحترام التخصصات مع استمرار تقدير أهل الفضل، وهي رؤية إسلامية فريدة.
ثبات المنزلة لا تتحدد ولا تتأثر بالمناصب، والصديق رضي الله عنه جندي في جيش عمرو بن العاص وأسامة بن زيد أكبر مثال لذلك.
كان السلف يقولون: من شيوخنا من نرجو دعاءهم ولكن لا نأخذ منهم الحديث، فالأمانة لا تعني أن الكفاءة مباشرة بجانبها، فالحديث الذي بين أيدينا يوضح أن أبا ذر كان أمينًا، ولكنه لم يكن كفئًا أو قويًّا، فالقوي الأمين هو المعيار، وهذا لا ينقص ولكنه التخصص (25).
_____________
(1) أخرجه البخاري (5048)، ومسلم (793).
(2) سيأتي تخريجه.
(3) أخرجه البخاري (3383)، ومسلم (2526).
(4) التفسير القرآني للقرآن (10/ 45).
(5) ثقافة الاختلاف واحترام الرأي الآخر/ شباب مصر.
(6) أخرجه أبو داود (5225).
(7) صحيح الجامع (2328).
(8) إحياء علوم الدين (3/ 53).
(9) أخرجه البخاري (1469).
(10) عدة الصابرين لابن القيم (ص: 21).
(11) أخرجه الترمذي (3790).
(12) التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 247).
(13) شرح سنن ابن ماجة- الراجحي (9/ 19)، بترقيم الشاملة آليًا).
(14) فن القيادة (ص: 32).
(15) معرفة الرجال من سمات القيادة الناجحة/ مجلة البيان (العدد: 53).
(16) أخرجه الترمذي (2715).
(17) أخرجه أحمد (3599).
(18) أخرجه الطبراني في الكبير (8415).
(19) أخرجه ابن حبان (6881).
(20) أخرجه أحمد (3032).
(21) أخرجه أحمد (16823).
(22) اكتشاف الطاقات طريق المربي لتحقيق النهضة/ بصائر.
(23) أخرجه مسلم (1825).
(24) أخرجه مسلم (1826).
(25) حديث أبي ذر رؤية إدارية/ موقع مصر العربية.