logo

البناء الذاتي للداعية في رمضان


بتاريخ : الخميس ، 7 رمضان ، 1441 الموافق 30 أبريل 2020
بقلم : تيار الاصلاح
البناء الذاتي للداعية في رمضان

المرء منا مسؤول عن نفسه أولًا عن قلبه عن روحه عن عقله وفكره ووعيه، وعلى هذا سوف يسأل ابتداء {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء: 84]، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)} [عبس: 34- 37].

لقد بات الداعية مشغولًا طوال السنة بالأمور الإدارية والتنظيمية والحركية لبناء جيل الدعوة الإسلامية المنتظر، والذي أصبح الهم الأول عند الدعاة إلى الله؛ ولكن هذا الانشغال الاصطفائي أدى إلى خلل في جوانب أخرى مهمة من حياة الداعية؛ سواء كان في الجانب الإيماني أو الثقافي أو الخيري أو الاجتماعي، فأصبح عنده ضعف في وسائل الاتصال بالله تعالى؛ كقراءة القرآن وقيام الليل وذكر الله تعالى، أو ضعف بالمجتمع الذي يعيش فيه؛ كصلة رحم وقلة الزيارة وبناء علاقة وعيادة مريض وخدمة عامة وإصلاح أسري وغيرها من الأمور الحياتية التعبدية التي يتقرب بها إلى الله تعالى .

كثيرًا ما نشعر بأعباء الحياة، ومشاغلها ومشاكلها، ولربما تأتينا ساعات لا يحب أحدنا أن يجلس فيها إلا مع نفسه، خصوصًا حينما يشعر بعدم الارتياح في مخالطته للناس، أو وقوع الأذى عليه منهم، أو كثرة الابتلاءات التي تواجهه في حياته، فيكون راغبًا بالعزلة، مستأنسًا مع نفسه، مبتعدًا عن أعين المخلوقين.

ومع تسليمي بأن مخالطة الناس في الأعمال الواجبة شرعًا كالصلاة والحج والزكاة، لا سبيل لتركها ألبتة، فهي من أركان الدين التي لا يقوم الدين إلا بها، وكذلك فإن مخالطة الناس للدعوة إلى الله أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو مجال العمل أو الوظيفة أو ذهاب المرء لقضاء حوائجه أو حوائج الآخرين التي لا بد منها، فلكل ذلك مكانة عالية في الشريعة.

بيد أنه من الجميل لطالب العلم أو الداعية أن يكون له وقت طويل في العام يبتعد فيه عن دنيا الناس مطلقًا؛ إلا لواجب شرعي أو حياتي، ويقضي وقته ذاك خاليًا مع ربه ومحاسبًا لنفسه، فـلا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبة نفسه وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشاركه فيها غيره، فهذه يحتاج فيها إلى انفراده بنفسه؛ إما في بيته، كما قال طاوس: نعم صومعة الرجل بيته يكف فيها بصره ولسانه، وإما في غير بيته، فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا وهذا، وما هو الأصلح له في كل حال؛ فهذا يحتاج إلى نظر خاص كما تقدم (1).

يقول الإمام الخطابي رحمه الله: ولسنا نريد بهذه العزلة التي نختارها مفارقة الناس في الجماعات والجمعات، وترك حقوقهم في العبادات، وإفشاء السلام ورد التحيات، وما جرى مجراها من وظائف الحقوق الواجبة لهم، وصنائع السنن والعادات المستحسنة فيما بينهم، فإنها مستثناة بشرائطها، جارية على سبيلها، ما لم يحل دونها حائل شغل ولا يمنع عنها مانع عذر (‏2).

إذا تقرَّر ذلك، فإن ترك فضول مخالطة الناس الزائدة عن حدها هو السبيل القويم لإصلاح القلب، وارتقاء الروح، وغذاء العقل، وتزكية النفس.

إن سلوك التربية الذاتية، والرقابة الخاصة على النفس، وتأديبها وصقلها وتهذيبها مما علق بها من أوضار المخالطة للناس أو الإساءة إليهم، ومحاسبتها في كل صغيرة وكبيرة، سبيل من سبل العزلة المناسبة، وإن جلوسًا كهذا من خير أنواع المجالسة للنفس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب» (3).

إن جلوس المرء مع نفسه ومحاسبتها في كل صغيرة وكبيرة، من الأعمال القلائل التي يهتم بها الناس في عصرنا الذي عرف بأنه عصر العجلة والسرعة، فمحاسبة المرء لنفسه تبصره بعيوبه، وتوضح له جوانب تقصيره في حقِّ الله تعالى، وتذكر قوله عز وجل: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)} [القيامة: 14- 15].

وإن خلوة الشخص مع نفسه، تعوِّدها ألا تستجيب لكل ما تريد، بل يلزم نفسه وجسده ذلك، ليستفيد منها فوائد عدة، من أهمها: تربية النفس، وتأديبها، ومحاسبتها، ودعاء الله تعالى أن يغفر ذنوبه وخطاياه.

وكما يحب أن يغفر الله ذنبه، فإنَّه يحاول أن يسامح الآخرين الذين أخطئوا في حقه، ويستغفر لهم، ويعود نفسه على ذلك، لعل الله تعالى يجعل ذلك سبيلًا لدخول الجنة.

العزلة الشرعية مفيدة لك خصوصًا إن كنت مشهورًا، أو معروفًا بين الناس، فهي تحجمك عنهم لمدة وتبصرك بعيوبك وخفاياك، وتجعلك قادرًا على تأنيب نفسك وتأديبها، وعدم انسياقها خلف ملذاتها وشهواتها، ففي البعد عنهم في كل سنة ولو لشهر أو شهرين فوائد لصقل شخصيتك، وإراحة بالك، والبعد عنهم كل يوم ولو لساعات مفيد لك في محاسبة نفسك، ورؤيتك عيوبك أمامهم وذنوبك تجاه ربك.

كما أنّ في العزلة بُعدُ عن خلطاء السوء وتضييع الأوقات، وقد بوب البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق: باب: العزلة راحة من خلاط السوء.

فعلى الداعية كذلك أن يجعل لنفسه حظًا ونصيبًا من عبادة ربه، والله تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)} [المزمل: 1 - 9]، ففي الليل والنهار لا بد لسالك طريق العبودية من ساعات يخلو فيها مع ربه تعالى، ويستثمر وقته في طاعة الله تعالى (4).

ولذا حبذت شريعة الإسلام الاعتكاف في أواخر رمضان، للمسلمين الصائمين؛ وذلك لكي تحلق الروح مع أجواء الإيمان، وتبتعد النفس عن أحاديث الإنسان، وتنقطع العلائق عن الخلائق للتفرغ لعبادة الخالق، ومع هذا فلقد صرنا نلحظ قلَّة المهتمين بإحياء هذه السنَّة المهجورة من أكثر المسلمين.

فاقترح على أخي الداعية أن يجعل رمضان هذه السنة فرصة لبناء وتقوية هذه الجوانب التي قصر فيه بقية العام لأسباب خارجه عن إرادته؛ فهل يكون رمضان استراحة روحانية وخيرية واجتماعية من عناء الجوانب الإدارية؟

وأوصي القيادة الدعوية أن يعطوا الفرد العامل فرصة لبناء هذه الأنشطة الذاتية في هذا الشهر الكريم من خلال التخفيف عنه من الوسائل التنظيمية.

نحو أفضل شهر عند الداعية إيمانيًا وخيريًا واجتماعيًا:

1- فكر في أمور الآخرة وما أعده الله تعالى لأهل الخير في الجنة.

2- احرص على الكلام التي ترجوا ثوابه عند الله.

3- اغتنم وقت السحر بالصلاة والدعاء والاستغفار واستثمر نزول الرحمن إلى السماء الدنيا، ووقت بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، واستثمر بركة اليوم ووقت قبيل المغرب بدقائق، واستثمر إجابة الدعاء.

4- املأ صحيفتك بالحسنات عبر عبادة الأذكار.

5- عود لسانك طوال الشهر على كلمة الحمد لله مع استحضار نعم الله عليك.

6- استمتع مع عائلتك برحلة إيمانية إلى مكة أو المدينة، وعرف أولادك بفضل العمرة وزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم.

7- اجعل لك مفكرة للأعمال الخيرية، والمقصود بها: ورقة عمل مليئة بالطاعات والأعمال الصالحة وأفعال البر لكي تمارسها خلال الشهر مستشعرًا التعبد لله تعالى وحصول الأجر، واحرص أن تجعلها بين يديك طوال الشهر (5).

إن الله سبحانه قد أمر بتطهير القلب وتزكيته وتخليصه من درنه ومرضه، قال ابن القيم رحمه الله: في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‌} [المدثر:4].

جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب هنا هو القلب، بل قال سبحانه عن الفاسدين والمبعدين عن رحمته وفضله: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِ‌دِ اللهُ أَن يُطَهِّرَ‌ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَ‌ةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 41].

فجعل عدم تطهير تلك القلوب من أهم الأسباب الموجبة للعذاب، قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهِي القلب» (6).

وقال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].

فقدم التزكية على التعليم من باب تقديم الغرض والغاية على الوسيلة التي تؤدي إليها، فالأصل هو: تزكية هذه القلوب التي هي موضع نظر الله من العبد، وقد علمنا الشرع الحنيف أن الله تعالى لا يقبل من الأعمال إلا ما خرج من قلب سليم فقال سبحانه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88- 89]. 

والقلب السليم هو الذي خلصت عبوديته لله سبحانه وخلص عمله له وهو السالم من كل شبهة وشهوة تخالف أمر الله وخبره سبحانه وتعالى، ومن ظن أن أشد ابتلاء العبد هو ابتلاؤه في جسده فقد أخطأ إنما هو ابتلاء القلوب قال الله سبحانه: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِ‌كُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 154]، وقال سبحانه: {أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَىٰ} [الحجرات: 3].  

وتفاعلات القلب هي صراعاته التي تحدث في داخله بين مراداته الصالحة وطغيان أمراضه الخبيثه، فأيهما ينتصر؟! ولذلك فإنك قد تجد أن بعض الدعاة قد تحسن له صفة وتسوء له أخرى، بل إنه في بعض الأحيان يظهر بصورة الحليم الكريم وفي بعضها الآخر يبدو في صورة العتل الغليظ الصاخب الغضوب البخيل، وما ذلك إلا لغلبة مرض القلب في بعض الأحيان على مراده الصالح، ولذلك فقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نهتم بتقويم ذلك الصراع وتلك التفاعلات القلبية فقال صلى الله عليه وسلم: «إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» (7)، وقال صلى الله عليه وسلم: «من كظم غيظًا وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله عز وجل على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره الله من الحور العين ما شاء» (8).

وعلّم أن من ترك المراء وهو محق فله بيت في ربض الجنة... إلى غير ذلك، بل في بعض أحاديثه صلى الله عليه وسلم قد شرح لنا وفصل جانبًا من ذلك التفاعل وكأننا نشاهده رأي العين، فقال في حديث حذيفة عند مسلم: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أشرب من هواه» (9)، وكل هذا التفاعل نحن عنه غائبون ولا ندري ما يحدث في ذلك القلب، ولكن صاحبه يدري به ويستشعر أثره فراقب ربك يأيها الداعية إلى الله، واحرص أن يكون رجاء الله دائمًا هو الغالب، وعالج قلبك، واكبح جماح نفسك، وعالج هواها من قبل أن يأتي يوم {لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 254].

التوازن المطلوب:

لا شك أن الداعية إلى الله هو أحوج الناس إلى التزود بوقود الإيمان، لكي يستطيع مواصلة السير في هذا الطريق الطويل، كما أن رمضان فرصة عظيمة لكي يقف الداعية مع نفسه وقفة يقيم فيها جهده، ويراجع فيها وسائله وأدواته، وأيضًا يغذي فيها عقله وقلبه بما يقرأ ويفعل من صنوف البر والخير، لكن هذا لا يعني أن ينعزل عن الناس وينزوي مع نفسه بحيث لا يراه أحد، ولا يتحمل عبء عمل أو يساهم في سد ثغرة.

والمطلوب من الداعية أن يكون متوازنًا، فلا يهمل نفسه فيحرمها من التزود بالإيمان، ولا يهمل دعوته فيحرمها الأجر بعزلها عن الناس وتركهم بلا نصيحة أو توجيه، ولكن عليه أن يوطن نفسه، فينظم أوقاته، ويرتب أعماله، فيعطي لهذا حقه، ولهذا حقه، دون أن يجني على نفسه، ودون أن يقصر في حقوق إخوانه ودعوته.

رمضان خير فرصة:

من المعلوم أن الفرصة مجهولة وغير متوقع متى تأتي وفي أي وقت؛ أليس كذلك؟ ويكمن سر الناجحين في استغلالهم الفرص بشكل صحيح، من خلال الترقب لها، والاستعداد لاقتناصها لأنها سريعة تمر مر السحاب، لا تنتظر من يضع شروطًا لها لأنها هي شروط.

ولكن هناك فرصة ظاهرة ومعلومة في وقتها المحدد، وانت الذي تضع لها شروط النجاح، وتستطيع أن تقتنصها من غير ترقب، وهي ليست كمثل الفرص الأخرى لأنها جوهر الفرص، وطاقة النفوس، وريحانة الدهور، وحبيبة المخلوق، ألا وهي فرصة شهر رمضان، الذي أنزل فيه القرآن، هدى ورحمة للعالمين؛ من خلال هذا الشهر يستطيع الإنسان ان يقفز فيه قفزة لا مثيل لها، إذا استغلها بأفضل شكل، حيث تنقى فيه النفوس، وتطمئن القلوب، ويتسلق الانسان سلم النجاح.

إذن؛ هيا بنا نستقبله خير استقبال، وبأفضل الأشكال، وبالطبع ليس بالشكل الخارجي، إنما في تزيين أنفسنا وتنقيتها بالاستغفار والعزم على ترك المعاصي، والتوبة والعمل بجدية دون تسويف أو انشغال بما هو تافه، وأن تكون لدينا الهمة الكافية للأخذ من معينه؛ وعلينا ألا نودعه الا بقلب سليم ونفس خالية من الشوائب، وقلب ممتلئ بالطمأنينة، ونقطة انطلاق في محاربة النفس والشيطان (10).

إن الأمة تحتاج اليوم إلى طاقات فاعلة تسهم في إنقاذها وقيادتها، وتعد المحاضن التربوية للناشئة اليوم من أهم ميادين الإعداد الفعلي لهؤلاء الدعاة.

وحين يبدأ الإعداد الفعلي لهؤلاء في مرحلة مبكرة فإن ذلك يمكن من استثمار مرحلة البناء الأساسي لشخصية الفرد واغتنام السنين الذهبية، ثم هو يعطي مدى واسعًا لاكتساب المهارات والخبرات الدعوية، وبناء المفاهيم التي يحتاجها الداعية.

أبرز مجالات البناء الذاتي:

البناء العلمي، وإذا أطلقنا العلم قصدنا به العلم الشريعة، لأن العلم يقي شبهات الطريق وغوائله، ويعلم به الإنسان السنن، ويقوى به حيال البذل والمقاومة، قال جل من قائل: {يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11]، وقال سبحانه: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير» (11).

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: تعلموا العلم، فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة (12)، قال عمر رضي الله عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا، أي تعلموا قبل أن تباشروا الناس؛ قال أبو عبد الله: وبعد أن تسودوا وقد تعلم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كبر سنهم (13).

وكذا كان الرعيل الأول أصحاب العلم والعمل، فعن مسروق قال: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: والله الذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلا أنا أعلم أين أنزلت ولا أنزلت آية من كتاب الله إلا أنا أعلم فيم أنزلت، ولو أعلم أحدًا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لركبت إليه (14.(

ويقارن أبو الحسن رضي الله عنه بين العلم والمال، فقال: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، المال ينقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق (15).

وحريٌّ بالعلم أن يكون قائدًا إلى الخشية وتعظيم شرع الله ومعرفة حدوده، وقد ذكر الطبري في تفسيره: قال عبد الأعلى التيمي: إن من أوتي من العلم ما لم يبكه لخليق ألا يكون أوتي علمًا ينفعه؛ لأن الله نعت العلماء {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء: 107– 109] (16).

ومن مجالات البناء الذاتي: البناء الإيماني، قال الحق: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]، إن الإيمان والعمل الصالح هو الزاد الحقيقي للفاعل والعامل لهذا الدين العظيم، ألم تر أمر الله لرسوله عليه الصلاة والسلام إبان بداية الداعية: {يَأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} [المزمل: 1- 2]؛ لأن صلة العبد بربه هي مظنة التوفيق والسداد والإعانة وهي الماخور الذي يعبر به العبد بحور الشهوات دون أن تصل إليه، فكم ضل عامل لشهوة دنيا عاجلة ظنها مصلحة راجحة، وهكذا كانوا، وانظر رحمني الله وإياك سورة الأنبياء وكيف كان الرسل والأنبياء منذ أن تلهج ألسنتهم بالدعاء فتكن الاستجابة السريعة ليعلل الله جل وعلا ذلك لهم في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، ولما تنظر لمنطوق الآية ستجد أن المسارعة للخيرات والدعاء والخشية هي سبب الاستجابة المباشرة، فنحن أولى لضعفنا وتقصيرنا، إن ولاية الله لعبده لا تكن حتى يكن، وفي الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه» الحديث (17).

ولا يعلم أن هناك محتاجًا لولاية الله ونصرته أكثر من الداعية والمصلح إذ تحطمه المحن والآفات، وترزأ به المصائب وتعرقله العراقيل، فكيف له أن يترك هذا الحصن، ثم كيف له أن يدعو لله وهو أجهل الناس بالله لا سيما في علاقة العبد بربه وصلته به، قال ابن كثير عن صلاح الدين الأيوبي: وكان مواظبًا على الصلوات في أوقاتها في الجماعة، يقال: لم تفته الجماعة في صلاة قبل وفاته بدهر طويل، حتى ولا في مرض موته، كان يدخل الإمام فيصلي به، وكان يتجشم القيام مع ضعفه (18).

ومن مجالات البناء الذاتي وهو الأخير البناء الدعوي، والدعوة في هذه الأمة لا تنفك منها، قال الله: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2)} [المدثر: 1، 2]، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] البناء الدعوي بناء لثقافة الداعية وأساليبه المناسبة ووسائله القويمة بناء يدعم مشروعه ويرسيه على مرافئ الحياة، وتأمل قول الحق تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، ومفهوم هذا الآية ظاهر في أن الداعية حين يدرك بيئته ويعلم مدى مناسبة أساليب الدعوة ووسائلها استطاع البيان والتأثير، ومن تلك المهمات أن يعتني بالخبرات والمهارات اللازمة كالحوار، التقنية، الإلقاء، فقه الواقع، فقه السيرة، جهود أهل الباطل، وأيضًا أصول ومفاهيم العمل الدعوي.. إلخ.

والعلاقة طردية، فمتى ما زاد فقه الداعية وبنائه استطاع البيان والتأثير بأكثر فعالية.

الإنسان أفكار وسلوك وتطلعات وأمانٍ، ولذا لزم صاحب الهمة التغييرية ألا يفارق همه وخطراته العمل لهذا الدين والبذل له، فتجتمع أمانيه وهمومه للدعوة والعطاء.

فراقب همومك وأمانيك دائمًا، فعن مالك بن دينار قال: إن صدور المؤمنين تغلي بأعمال البر، وإن صدور الفجار تغلي بأعمال الفجور، والله تعالى يرى همومكم فانظروا ما همومكم رحمكم الله (19).

وتيقن دائمًا أن تجعل همومك وأمانيك همًا واحدًا؛ تفز به إن شاء الله، قال أبو الأعلى المودودي: إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم وتعمر قلوبكم بالطمأنينة وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد والحنيفية وتركز عليها جهودكم وأفكاركم بحيث أن شؤونكم الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين (20).

قال ابن الجوزي: ولله أقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها، فهم يبالغون في كل علم ويجتهدون في كل عمل، يثابرون على كل فضيلة، فإذا ضعفت أبدانهم عن بعض ذلك قامت النيات نائبة وهم لها سابقون (21).

***

_____________

(1) مجموع الفتاوى لابن تيمية (10/426).

(2) العزلة للإمام الخطابي (ص: 11- 12).

(3) أخرجه ابن حبان (4862).

(4) وصفة إرشادية لـعزلة شرعية/ صيد الفوائد.

(5) الداعية من العمل الجماعي إلى البناء الذاتي في رمضان/ صيد الفوائد.

(6) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).

(7) أخرجه البخاري (6114)، ومسلم (2609).

(8) أخرجه أبو داود (4777).

(9) أخرجه مسلم (144).

(10) شهر رمضان نقطة الانطلاق للبناء الذاتي/ مجلة الهدى.

(11) أخرجه الترمذي (2685).

(12) جامع بيان العلم وفضله (1/ 239).

(13) صحيح البخاري (1/ 25).

(14) أخرجه البخاري (5002).

(15) جامع بيان العلم وفضله (1/ 246).

(16) تفسير الطبري (17/ 579).

(17) أخرجه البخاري (6502).

(18) البداية والنهاية (13/ 8).

(19) الزهد لأحمد بن حنبل (ص: 262).

(20) كلمة للدعاة والمصلحين (ص: 36)، بترقيم الشاملة آليًا.

(21) كيف أكون فاعلًا؟ موقع الألوكة.