ظاهرة الملل الدعوي
الملل والسأم والضجر، من الظواهر المرضيَّة التي يمكن أن تصيب العمل الإسلامي والعاملين للإسلام، وقد تدفع بهم في النتيجة الى قعر الإحباط واليأس.
وإنَّ أيَّ حالة ركودٍ وعدم تحرُّكٍ، وجمودٍ وعدم تطوُّرٍ، وقعودٍ وعدم تجدُّدٍ، ستنتهي حتمًا بالتوقُّف، وهي ستموت، ولن يُكتَب لها الحياة بحالٍ من الأحوال.
سبب ذلك أنَّ التجديد والتجدُّد، والتطوير والتطوُّر، سنَّةٌ إلهيَّةٌ لاستمرار الحياة.. وبدونها لا تكون حياةٌ ولا استمرار لهذه الحياة.. حتى الإسلام -وهو منهج الله تعالى ورسالته الخاتمة- تجري عليه هذه السنَّة، التي هي سبب استمراره وحفظه، والتي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنةٍ مَن يُجدِّد لها دينها» (1).
الفصول الأربعة، هي حالة من حالات التجدُّد المناخيِّ اللازم لاستمرار الإنسان والحياة.
تعاقب الليل والنهار هو حالة تجدُّدٍ عضويٍّ ومعنويٍّ للإنسان والحياة.
الحياة الأسريَّة، والعلاقة الزوجيَّة، لا بدَّ لها من تجدُّدٍ حتى تستمرَّ متألِّقةً متجانسةً وسعيدة، وعدم حصول ذلك يمكن أن يفسخها ويدمِّرها.
إنَّ كلَّ ما في الكون من مخلوقاتٍ لا يمكن إلا وأن يخضع لهذا القانون الإلهيِّ ليتمكَّن من المحافظة على ديمومته واستمراره.
الإيمان نفسه -الذي يمثِّل حالة العافية العقديَّة لدى الإنسان- هو يخضع أيضًا لنفس المعادلة، والحديث النبويُّ يؤكِّد ذلك على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول: «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فسلوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (2)، وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتنادون لتجديد الإيمان.
ولكن قد يُصاب الداعية بهذه الظاهرة -الملل- خلال حلقة حركته اليومية وفي ظلال تكرار المهام فيها، واستهلاكه لثقافته ومعلوماته.
إن روتينية الأعمال وألفتها في الحقل الدعوي قد يفقدها أبهتها وجمالها، وإن استهلاك الجهود في الحركة اليومية كفيل بتوجيه العمل الدعوي إلى أسِرة الركود والجمود والتوقف، وهذا ما بات يشعر به جزء كبير من أبناء العمل الإسلامي، بالإضافة إلى قصور بعض الوسائل والخطط وفشلها في تحقيق الآمال والطموحات، مما يؤدي ذلك إلى انعكاسات سلبية على الدعاة العاملين؛ حيث إن هذه الآفة تجعل صاحبها ينصرف عن الجد والاجتهاد، والحرص والمتابعة، وتحقيق كثير من الطموحات العظام التي يسعى لها كل إنسان، بل وإن هذه الظاهرة التي تقود بتزايدها وتراكمها إلى اليأس والركود والضعف، وإلى ضعف الإنتاجية وعدم التفاعل مع الأنشطة والفعاليات المختلفة؛ بل والغياب عنها لأبسط الأعذار وأقلها شأنًا لديه.
ومن أسباب الملل الدعوي:
1- عدم وضوح أهداف العمل الدعوي:
هناك مشكلات تحيط بالصحوة الإسلامية، وهذه المشكلات تؤخر مسيرتها، وتشغلها بقضايا ما كانت لتنشغل بها، وأخطر هذه القضايا غياب الهدف المرحلي الذي يجب أن يعمل دعاة الإسلام لتحقيقه، والفرقة والنزاع، وعدم إدراك المنهج الكبير الذي ينبغي القيام به، وهو إقامة منهج العبودية الحقة لله رب العالمين.
الأهداف الواضحة تتيح للفرد أن يتجاوز العقبات والعراقيل، ويُنجِز في وقت قصير أضعافَ ما ينجزه غيرُه في وقت أطول؛ ذلك أن المرء بلا هدف إنسان ضائع، فهل نتصور قائد طائرة يُقلِع وليس عنده مكان يريد الوصول إليه، ولا خارطة توصله إلى ذلك المكان؟ أين ينتهي به الطيران؟ ربما ينفَدُ وَقودُه، وتَهوِي طائرته وهو يفكر: إلى أين سيذهب، وأين المخطط الذي يوصله إلى وجهته؟!
ومن الأسباب أيضًا عدم تقسيم الأهداف الكبرى إلى أهداف مرحلية ليسهل تحقيقها، بل يقوم بخلط الجميع معًا، أو تركها من غير تقسيم؛ مما يجعلها صعبة التحقيق، وعدم تعيين جهة تنفيذ، بل يتركز العمل على المؤسسة بشكل عام أو على بعض القياديين فيها، وتجاهل وضع سياسات للخطة يجعلها تسير من غير ضوابط، الأمر الذي يتسبب في كثير من الاجتهادات التي تضعف العمل أو تجهضه كليًا، فضلًا عن عدم وجود فترات تقييم مرحلية يجعل من العصب تدارك السلبيات.
2- صراع القديم والحديث والتشبث بالأفكار القديمة وبالأنماط الجامدة:
الإنسان عادة يميل إلى التمسك بما هو مألوف لديه وبما جرى عليه العرف والتقاليد، ويصبح تخليه عن عاداته وأفكاره القديمة أمرًا يحتاج إلى قدر من الجهد والإرادة والعزم، ولما كان جمود التفكير مضر أكبر الضرر بالإنسان؛ لأنه يفقده الاستفادة من الخاصية الرئيسية التي خصه الله بها وميزه بها عن الحيوان، لذلك حث القرآن الكريم الناس على التحرر من القيود التي تكبل تفكيرهم وتعطل عقولهم، فقد حارب القرآن التقليد والتمسك بالآراء القديمة دون التفكير فيها والتحقق من صحتها، فقد وجه القرآن نقدًا لاذعًا إلى المشركين الذين كانوا يقلدون آباءهم في أفكارهم وعقائدهم، ويلغون عقولهم ويعطلون تفكيرهم، فيقومون برفض كل فكرة جديدة دون أن يحاولوا التفكير فيها، وهذا كان سببًا في عدم قبولهم دين التوحيد الذي دعاهم إليه الأنبياء والرسل، قال تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78].
كما حذر الرسول من اتباع آراء الغير وتقليدهم في أعمالهم تقليدًا أعمى دون روية وتفكير، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرًا شبرًا وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن» (3).
ولو فكروا في هذا الأمر ما دخلوا جحر الضب، إذ لا فائدة من دخوله إلا التقليد الأعمى دون إعمال الفكر والعقل، فالتقليد يعطل العقل عن إدراك حقيقة الفعل والحكمة منه.
3- استنزاف الجهود بأعمال يومية وإدارية، دون انجازات تذكر:
ضياع الأوقات في القيل والقال، والكلام في فلان وعلان، وهذه الجماعة أو تلك، وربما أصبحت -عند الكثيرين- تشغل من الوقت أكثر مما ينشغل الإنسان بقراءة القرآن، أو تعلم السنة، أو العبادة، أو الدعوة إلى الله، أو غير ذلك من الأعمال، وأنت ترى أن الناس اليوم إذا رأوا في الشارع اثنين يتخاصمان التفوا حولهم واجتمعوا، وإذا رأوا سيارتين اصطدمت إحداها بالأخرى؛ تجمع الناس وتجمهروا، لينظروا من أخطأ ومن أصاب، فمن طبيعة الناس إذا لم يوجهوا ويعلموا ويرشدوا، أن يهتموا كثيرًا بأسباب الخلاف والفرقة، ويدندنوا حولها، ويركضوا وراءها، ويغفلوا عن الأمور الجليلة المهمة.
وهناك أعمالًا أخرى تؤدي إلى تآكل الأوقات وضياع الأعمار، وهي أعمال التنظير والنقد، فيظل طوال عمره ينظر لأمر ربما لا فائدة منه، وقد يكون سببًا في شعور الآخرين بالإحباط واليأس والملل من كثرة ترديد هذا الأمر، وكأنه لا يوجد قضايا تشغل الأمة غير هذا، وربما يكون أمرًا هامشيًا لو تجاهلناه ما تغير من الأمر شيء، أو ربما كان الأفضل عدم تناوله من الأساس، غير أنها الرغبة القاتلة في إثبات القدرة على التنظير والنقد.
4- قتل الوسائل الدعوية بسوء التنفيذ وشح التجديد:
للوسائل حكم الغايات، وإن أي تجاهل لحكم الشريعة في جانب المناهج أو الأساليب أو الوسائل، يعدٌّ انحرافًا في الدعوة عن مسارها، وخروجًا بها عن مصادرها.
ونظرًا لأخطاء بعض الناس في هذه القضية، وانقسامهم فيها إلى فريقين:
أ- فريق يتساهل في الأحكام في جانب الوسائل، وكأنه يرى أن الغاية تبرر الوسيلة.
ب- فريق يتوقف فيها على ما هو وارد، ويعامل الوسائل من حيث الثبات كما يعامل المبادئ والأهداف والغايات.
ويكفي في الوسائل الدعوية:
- أن يُنصَّ على مشروعيتها صراحة في الكتاب أو السنة، فأي وسيلة نصَّ الشارع على مشروعيتها، أو أمر بها أو أذن باستخدامها صراحة، فهي وسيلة مشروعة وترتب حسب درجة مشروعيتها من وجوب أو ندب أو إباحة.
- أن تدخل في دائرة المباح الذي يستوي فيه جانب الفعل أو الترك، فكل وسيلة أذن بها الشارع صراحة، أو سكت عنها؛ هي وسيلة مباحة يجوز للداعية استخدامها، لأن الأصل في الأشياء الإباحة، ولأن النصوص الشرعية محدودة مهما كثرت، والوسائل متجددة ومتطورة، فلا يمكن للنصوص المحدودة استيعاب ما ليس بمحدود، فالأصل في هذا النوع من الوسائل الإباحة، ما لم يعرض لها عارض يخرجه عن هذا الأصل.
5- استطالة الطريق من بعض العاملين:
لا شك أن الطريق طويل، لا سيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية، وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج.
نعم، الطريق طويل والعقبات كثيرة والمثبطات متعددة، ولن يخلى بين هذه الأمة ودينها إلا بعد جهاد صادق وتضحيات كبيرة وعمل دائب مخلص.
الطريقُ طريقٌ تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، وأُضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس، ولبث في السجن بضع سنين، ونُشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضرَّ أيوب، وزاد على المقداد بكاءُ داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد صلى الله عليه وسلم، تزها أنت باللهو واللعب (4).
إنه طريق طويل وصعب نعم ولكنه هو الطريق الوحيد المستقيم، والله سبحانه لا يسألنا عن النتائج؛ وإنما علينا أن نعمل ونغرس حتى لو كان هذا للجيل القادم وجنده القادمين بإذن الله، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وسْعَهَا} [البقرة: 286]، {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105].
6- الجهل وعدم استشعار أهمية ما يقوم به:
الشعور بالمسؤولية من الأمور التي جاءت بها الشريعة، وهي من المقومات الأساسية لنهضة الأمم والمجتمعات، التي إذا حرصنا عليها، وطبقناها كما ينبغي، وربَّينا الجيل عليها، نكون بذلك حققنا العبودية لله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وحصلنا على الأجر العظيم، ولَتَحقق في مجتمعنا الأمنُ الاجتماعي والأسري بنشوء جيل يشعر بأن له قيمة في المجتمع، وبالتالي الشعور بالسعادة.
فالمسؤوليةُ قوة حقيقية تجعل الإنسان قادرًا على بلوغ مقاصده، وتحقيق مطالبه، وبهذا يكون جميع ما يتحمَّله الإنسان (فردًا وجماعة) من وظائف حياتية (دينية ودنيوية) مرهونًا بمقدار ما تسلَّح به من الشعور بالمسؤولية تجاه ذلك، وهي -أي: المسؤولية- على اختلاف مجالاتها: التبليغية الدينية والأسرية والسياسية والأمنية والقانونية تعبير آخر عن جدوى الحياة، فبدونها لا معنى للحياة.
إن قيام الفرد بواجبه الاجتماعي ينم عن تلك العقيدة التي تسري بين جوانحه وتُوجِّهه إلى أداء الحقوق تجاه الآخرين بكل أريحية ومحبة، طالبًا في ذلك رضوانَ الله ورحمته، وإذا ما فقد المرء تلك الواجباتِ وترَكها وراءه ظهريًّا، فليعلم أن خللاً قد دبَّ إلى إيمانه وعقيدته.
7- وجود الخلافات التي لا تليق بالعمل الدعوي وأبنائه:
إن الإشكالية هي أن الشخص الواقع في الخلاف لا يستطيع أن يدرك أنه يفتعل خلافًا لا مبرر له، لأنه مشغوف ومملوء العقل والذهن بقضية معينة، نشأ عليها ثم كبرت عنده وأصبح لا يرى غيرها، ولا يؤمن بسواها بل وحتى أصبحت تعزله عن الآخرين، وعن مشاريعهم العمليّة، وعن رؤية أمور ونتائج أكثر فاعلية.
إنه في الوقت الذي تراه يتوجع من الخلاف نظريًا، يصنع الخلاف عمليًا، لأن تربى على نوع من المنهجية الصارمة، التي ليس من آلياتها التعامل مع الخلاف، وتحقيق معاني الأخوة والإعذار، وحسن الظن ومعاني التفاهم مع الآخرين، ولذلك ربما يتكلم بكلام جميل جدًا عن قضية الخلاف، دون أن يمارسه في الواقع.
8- عدم تقدير الكفاءات والقدرات التي يتحلى بها الداعية:
إن من الآثار المترتبة على عدم الاهتمام بمعيار الكفاءة في الأعمال الدعوية أن يتم إنشاء كيانات متعددة، وأعمال دعوية مكررة بنفس المكان وبنفس الزمان، قد يكون من المستحسن دمجها في إطار واحد بدلًا من تشتيت الجهود، وكذلك من النتائج عدم وجود دراسات توثيقية لمرحلة من مراحل العمل الدعوي أثناء هذه القيادة أو تلك، من أجل أن يستفيد منها من سيأتي من قيادات وإدارات جديدة للعمل أو الكيان، أما ما تصدره بعض الجهات من تقارير سنوية، فهذه وإن كانت جيدة، إلا أنها غالبًا ما تكون في ذكر المحاسن والمزايا، دون التقويم البنَّاء والنقد الهادف للأخطاء.
وهكذا كان تعامل خليفة رسول الله في إسناده مهمة جمع القرآن، وهو يعد من المشاريع الدعوية الضخمة جدًّا بالمصطلح المعاصر، فأسند هذه المهمة لزيد بن ثابت؛ لأن خبراته السابقة مع النبي الكريم تؤهله لأن يتولى هكذا مهمة؛ قال أبوبكر لزيد رضي الله عنهما: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرآن فاجمعه، قال زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن... فقمتُ فتتبعتُ القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعُسُب وصدور الرجال (5)؛ فأبو بكر لم يسند هذه المهمة لزيد إلا لأنه كان أهلًا لها.
9- ضعف الانسجام والتجانس بين الدعاة في وحدات العمل المختلفة:
يلعب التجانسُ دورًا على درجة كبيرة من الأهمية -مع ملاحظة الفروق الفردية بين الأعضاء- لأن الانسجام والتجانس بين الأفراد في الجماعة يصنع حالةً من التفاعل الإيجابي والجو الصحيِّ للعمل، ويُقلِّل من فرص الصراع والخِلاف، ويَزيد من تماسك الجماعة واستمرارية العمل، وكذلك يرفع من شعور الأعضاء بروح العمل الجماعي، ولا يعني التجانسُ هنا تجانسًا كاملًا، بل أن يكون هنالك نسبةٌ عالية من التقارب في الخصائص والسِّمات بين أعضاء الجماعة (6).
10- الشعور بالفراغ القيادي والضعف العام:
وهذا أيضًا من الأدواء القاتلة لأي حركة تغيير وإصلاح جماهيرية، وخصوصًا بعد مرحلة انتشار وظهور خطاب، إذ من المفترض المحافظة على حرية حركة القيادة العلمية الفكرية التوجيهية وفاعليتها وقدرتها ونفوذها مهما تعاظمت العوائق، قبل البدء بتوسيع الخطاب، وألا يخلط بينها وبين القيادات التنفيذية، التي قد تظهر وقد تختفي، وقد تتراجع وتتغير، وإذا تكالبت العقبات بصورة غير متوقعة بعد التوسع، فسيكون إبقاء القيادة العلمية التوجيهية بعيدة عن الخصومات اليومية، وقادرة على التأثير بالجماهير، وخلق أجواء الاستجابة لها بنزاهتها العلمية وتجردها وإخلاصها للمبدأ، ضرورة من الضرورات كي يستمر وهج الرسالة ولا يتوقف –بإذن الله– عند إيقاف هذه القيادة التنفيذية أو تلك، أو منع هذا البرنامج أو ذاك.
11- الاقتصار على دوائر الدعوة التقليدية:
التركيز على القطاعات التعليمية ومساجد الأحياء والمؤسسات الإغاثية الخارجية وما يرتبط بها من مشاريع، هو السمة البارزة للدعوة المحلية، وهذا ليس تقليلًا من نفع وخيرية هذه الدوائر، ولكن المعطيات القريبة والبعيدة كانت تدفع وبإلحاح للبحث عن دوائر جديدة تناسب طبيعة هذا العصر وتتفاعل مع تطوراته، كما أن الفرص كانت متاحة، لكننا مضينا في التردد والمبالغة في التحوط وبطء الحركة والمبادرة.
ومن المفارقات العجيبة، أن العديد من شباب الدعوة الذين سافروا خارجًا للدراسات العليا، وحرصوا على مواصلة رسالتهم الدعوية صدموا بالفارق الكبير بين تنوع وعلنية وحيوية وانفتاح البرامج الدعوية في تلك الدول وبين ما تربوا عليه، وحصل لديهم صراع نفسي انتهى ببعضهم للانقطاع عن العمل المنظم، وبالبعض الآخر لفقد القناعة بما كان عليه والتردد فيه.
إن دعوتنا المحلية هي أيضًا حبيسة البيئة التي نشأت فيها وتقلبت فيها، وكان من المفترض أن تتحرر منها وتنفتح على الآخرين، وتستفيد مما لديهم وتتعرف على عيوبها من خلالهم، ومن ثم تبتكر وسائل ودوائر جديدة وتتحصل على الأسبقية بنقلها إلى البيئة المحافظة بضوابطها وقيودها التي تحرص عليها، ولا تنتظر حتى تفرض عليها من غيرها وبالطريقة التي لا تريدها كما هو حاصل الآن، والمصيبة أن هذا التحفظ التقليدي والانغلاق النسبي في أنشطة الدعوة المعتادة، والذي كان دافعه الحرص على جودة التربية وجديتها، أصبح مدخلًا كبيرًا على الدعوة مع المتغيرات الأخيرة، مما يؤكد الخطأ في هذه الدرجة من الانغلاق، وهذا الشح في تنوع الأنشطة وانفتاحها على المجتمع.
12- العجز عن استيعاب المستجدات:
وهذا الملحظ هو قطعًا نتيجة طبيعية للمظاهر السابقة، إذ رغم أن أحداث ثورات الربيع العربي قد فاجأت الدول قبل الحركات، إلا أن قدرتنا على استيعاب هذه المفاجأة واحتواء تأثيراتها على الساحة وعلى الصورة العامة عن الدعوة التربوية لدى الجماهير، كان دون المتوقع، كما أنه أحرج الجميع بتناول قضايا حساسة لم يكن في الحسبان أبدًا الحديث عنها، فحصل الاضطراب ولم ننجح في احتوائه وتوجيهه والإفادة منه بالصورة الأمثل، مع توافر فرصة كبيرة لذلك.
13- صناعة المواهب ثم تكبيلها:
وهذه مأساة بحد ذاتها، حين ترى المواهب الفردية المتعددة التي تزخر بها الساحة الدعوية ثم لا تتمكن من استثمارها وتنميتها ولا تتمكن من خلق فرص ومشاريع وبرامج دعوية تنطلق من ملكات وقدرات هذه المواهب وتستوعبها؛ والسبب هو: التحفظ التقليدي عند صاحب القرار الدعوي على بعض هذه المواهب وأفكارها المتعدية، وهذا في تقديري هو الفشل بعينه، فالنجاح هو في كسب هذه النماذج وحسن الاستماع لها واستمرار قناعتها بالمشروع الدعوي وتفاعلها معه، وليس افتعال مشكلة معها والتضييق عليها حتى تهرب بعيدًا عنا، أو تصاب بالملل والاحباط.
والموهوبون بطبعهم مشاكسون، والحل الأسهل لمشكلتهم عند المسؤول التقليدي يكمن في التخلص منهم والإبقاء على المسالمين الطيعين، في حين أننا نردد كثيرًا أهمية تربية القادة وليس الأتباع، ولا أدري كيف نصنع القادة من الطيّعين!؟
وعلى الداعية أن يحارب كل ما يدفع به وبإخوانه إلى الملل والضجر والسأم، عليهم أن يرفضوا الجمود ويفروا منه، ليواصلوا المسير في درب الارتقاء، وعليهم أن ينتفضوا على روتينية الأعمال خشية إصابتهم بجفاف يخسرون فيه أنفسهم قبل الناس من حولهم.
مقترحات للمرحلة القادمة:
1- توسيع دائرة الكفاءات القيادية المتخصصة:
لا بد من إشراك وتفعيل أكبر عدد ممكن من الكفاءات القيادية في كافة التخصصات، وإشعارهم بالأهمية والتواصل معهم والاستماع لآرائهم ومقترحاتهم وانتقاداتهم، وحشد جهودهم جميعًا للمطالبة بالعودة إلى الرؤية الإسلامية الصحيحة والصافية، والمتضمنة للعدل والحق والهدى، والبعيدة عن الهوى والمصالح الآنية الضيقة، والتعامل في ذلك مع كل من يلتقي مع هذه التطلعات أيًا كان موقعه وخلفيته، بشرط أن يتم الفصل بين دوائر اهتماماتها وقدراتها والتأكيد على عدم التداخل بينها حرصًا على فاعليتها والتناغم بينها.
2- مراجعة الأدوار القيادية:
لا بد من مراجعة كل الأدوار القيادية القائمة في الساحة الدعوية، وهل معايير الوصول إليها والبقاء فيها تاريخية أم استحقاقية؟ هل هي احتكارية أم تداولية؟ وهل هي إشرافية أم تنفيذية؟ وما هي آليات اختيار هذه القيادة العلمية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية دون غيرها، لهذا الدور دون ذاك؟ وهل التأهيل العلمي الشرعي هو المطلوب فقط لشغل هذه الأدوار أم المطلوب أن نبحث عن البارزين في كل التخصصات؟ ومن الذين يحق لهم الترشح، ومن الذين يحق لهم التصويت والانتخاب؟
والمفترض في الأوساط الدعوية أن تكون سبّاقة في حسم هذه القضايا وتقديم النموذج العملي الذي ترتضيه في هذا الإطار، قبل أن تفجأها التغيرات المتوقعة، ولا بد أن تدرك القيادات أن المرحلة الآن تقتضي مشاركة الناس في إدارة وصياغة واقعهم، وتفهم حاجتهم للتفاعل معهم وتسيير شؤونهم من الداخل وعلى أرض الواقع، ولا يمكن أن يتحقق ذلك فقط بالدروس النظرية والمؤلفات.
3- مراجعة آليات صناعة القرار:
من المهم أن تتوسع دائرة دراسة وصناعة القرارات الدعوية الهامة، وأن تشترك فيها كل الشخصيات ذات الدور والحضور والتأثير، وأن يتم الإفادة من الجميع، وألا يشعر أحد بالتهميش في هذا الإطار، وبمنظور الشركة القابضة سيكون من الطبيعي احتياجها لجمعية عمومية تتابع التطورات، ومن خلالها يتم نقاش القضايا المختلفة بطريقة علمية مقنعة للجميع، ويطرح فيها بدائل الحلول المختلفة لقضايا الشأن العام، وبإمكان هذه الجمعية العمومية أن توجد وتؤتي غرضها بصورة افتراضية وغير مباشرة، عبر منتديات الحوار والملتقيات المتنوعة ومراكز البحث العلمي الرصين ومجلاتها التي تصدر عنها.
4- وحدة المبدأ وتعدد الاجتهادات:
وتحقيق هذا المطلب الملح سيساعد على حسم التباينات التي لا يمكن التخلص منها في الظروف الحالية، وذلك من خلال تفهم هذه التباينات ودوافع أصحابها، وحججهم والاعتراف لهم بحقهم في الاجتهاد، واحترام علمهم وسابقتهم، ومطالبتهم بتقبل اختلاف الآخرين معهم، ومع انطلاق الجميع من وحدة المبدأ واحترام تعدد الاجتهادات، لا بد من إعلان وجود هذا الخلاف العلمي للناس، وأن كل طرف يحترم الآخر في اختياراته، ويعمل على التكامل معه والتنسيق والتعاون، بل ويؤيد الاجتهاد الآخر ويدعمه أمام الآخرين حفاظًا على وحدة الموقف، وتربيةً للأتباع على التجرد للحق إذا لم يتضح يقينًا، وقد يكون مع أي من الطرفين، وهذه الوضعية ليست مثالية مفرطة، بل هي حكمة سياسية واقعية.
5- الحذر من الانشغال بالنزاعات عن الهدف الرئيس:
المؤسف أن غياب الوضعية السابقة، فتح المجال لنوع من التنازع يكثر بين الأتباع ويصل إلى الرموز أحيانًا، فلا بد من الحذر منه، فإذا تعذر التنسيق الكامل بين الاجتهادات المختلفة، فلا بد من التمييز بينها وتوضيح مناطق الاختلاف قوليًا وعمليًا، واحترام حق الناس في المعرفة بذلك، وترك حرية الاختيار لهم، كما يقتضي ذلك الحذر من الانشغال بالنزاعات عن الهدف الرئيس للدعوة.
6- التمحور حول الفكرة والمشروع بدل الشخصيات:
فرق كبير بين صناعة الرموز والقادة وإبرازهم إعلاميًا وواقعيًا وجعلهم مرجعية، وبين جعلهم هم والناس من حولهم يرجعون للمبدأ الذي ينطلقون منه ويتمحورون حول الأفكار والمشاريع التي تخدم المبدأ، فالطريقة الأولى تجعل في نفوس الأتباع هيبة ووجل من الرمز وتمنعهم من قدرة التصويب له إذا أخطأ، وتجعلهم عالة على تفكيره وتخطيطه وأوامره لا عونًا له في ذلك، أما الطريقة الثانية فتقلل من الهيبة غير الشرعية، وتمنح الجرأة على النقد، وتوفر الفرصة الواسعة أمام الجميع للمشاركة والعمل والابتكار والتطوير بعيدًا عن حرج العمل الذي يأباه البعض في ظل هذه الجهة أو تلك، ويتربى الناس على التجرد بصورة عملية، كما يتخلصون من سلبية جماهيرية الرمز.
7- المواهب الفردية وفريق العمل:
الصفة الأبرز للدعوة المحلية هي تعدد وتنوع المواهب الفردية مع ضمور وانحسار الأنشطة والبرامج الجماهيرية العامة، والسبب الواضح لهذا التعطيل والهدر يكمن في افتقار هؤلاء للبيئة الجماعية الفعالة التي تفجر طاقاتهم وتوجهها وتسددها وتوفر لهم الأجواء والأوضاع الأنسب لإبراز وتنمية هذه المواهب.
بمعنى أنهم يفتقدون لفريق العمل الذي يحركهم، فمن المعروف أن البشر يتكاملون ويتعاونون، ولا يمكن أن يستقل أحد عن الآخر أو يستغني عنه؛ وخصوصًا الموهوبين منهم، وإذا لم يجدوا هذه الروح وهذا الفريق فيمن حولهم فسيبحثون عنه عند الآخرين.
8- استيعاب التقصير بدلًا من استعدائه:
والمرحلة تقتضي بلا مراء أن نستوعب الجميع بأخلاقنا ورحمتنا وتآخينا، وألا نستعديهم لتقصير أو مشاكسة أو تمرد أو تفريط أو إفراط، وتعنيف وتحذير كل من يتسبب في حصول شيء من ذلك وإعادة اعتبار كل من أسيء إليه، والعمل على (منهجة) التقويم بدلًا من شخصنته.
9- العمل على ترسيخ الثوابت:
مع التهديدات المتتالية لثوابت الأمة ومسلماتها سيكون من المهم أن يحرص القادة والمربون على إعادة التذكير بالثوابت والتأكيد عليها، والخروج بالناس من دوامة الجدل والمراء غير المفيد، ومثل هذه العلنية قد تساهم في تخفيف الضبابية التي بدأت تشوب بعضًا من رسائل الدعوة الرئيسة، فيرتفع الغموض وتتضح القضية في أذهان الناس (7).
10- التجديد أمر لا بد منه:
فالشخص الذي لا يتغيَّر، ويبقى هو نفسه الذي يعطي ويتابع ويدير، بالرغم من تغيُّر المراحل والظروف، سيكون مدعاةً لملل الآخرين منه وملله منهم.
والموجِّه والخطيب والداعية والمرشد الذي لا يقدِّم جديدًا سيكون مملًا في توجيهه وخطبته وإرشاده، ومثل هؤلاء كمثل الطبيب الذي إن لم يسعَ دائمًا وباستمرارٍ إلى زيادة ثقافته الطبيَّة، ومتابعة مستجدَّات المهنة سيصبح تقليديًّا بالتالي، ويعيش على هامش الحياة الطبيَّة، وشأنه كذلك كشأن المهندس والمحامي والصناعي والتاجر والمعلِّم وغيرهم إذا هم رضوا بواقعهم ولم يعملوا على التجديد والتطوير في إمكاناتهم.
إنَّه لا بد من إعادة النظر في المربِّي، ومنهج التربية، وآلية ووسائل التربية، وفي تغيُّر المكان والزمان، فليست كلُّها سواء.
وفوق هذا وذاك فمطلوبٌ من المربِّي، أن تكون تربيته بلسان حاله قبل لسان مقاله، ذلك أنَّ لسان الحال أوقع من لسان المقال، وصدق عليُّ بن أبي طالبٍ حيث يقول: من نصَّب نفسه للناس إمامًا فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تهذيبه بسيرته قبل تهذيبه بلسانه، ومعلم نفسه ومهذبها أحقُّ بالإجلال من معلِّم الناس ومهذبهم.
وهذه المشكلة تعكس حالة الجمود وعدم التجدُّد في واقع العمل الإسلامي المعاصر، فضلًا عن التخلُّف عن واقع العصر وعدم الأخذ بالأسباب والإمكانات المتوافرة فيه.
إنَّ السبب الرئيسي لهذه المشكلة يكمن في سوء فهم المقاصد التربويَّة والدعويَّة، وبذلك تبقى التربية استفادةً بدون إفادة، كما تبقى الدعوة أخذًا بدون عطاء (8).
ويبقى في كتاب الله الزاد والهدى، فالمتأمل قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16]، سيجد أن هذا القلب البشري سريع التقلب، سريع النسيان، وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور، ويرف كالشعاع؛ فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا، وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع، ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف؛ ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
لذا هي دعوة للتجديد والتطوير وطرق أبواب التغيير بين الحين والآخر، فإن البقاء على الجمود والقديم، والثبات على الوسائل البدائية، ما هي إلا لهواة جمع التحف، وذلك سبب في تخلف العمل الدعوي وفقده لأهم أهدافه.
لا بد من تصفير المشكلات والخلافات لتنقية الأجواء من أية ملوثات معيقة للعمل.
وللتخلص من هذا المرض فعلى القائمين على العمل الإسلامي والعاملين فيه بكافة مستوياته أن يقوموا بمهمة التجديد والتطوير على مختلف مسارات العمل الحركية منها والتربوية (9).
-----------
(1) أخرجه أبو داود (4291).
(2) أخرجه الطبراني (84).
(3) أخرجه البخاري (7320).
(4) الفوائد لابن القيم (ص: 42).
(5) أخرجه البخاري (4679).
(6) ظاهرة الملل الدعوي/ أسباب وعلاج – بصائر.
(7) إشكالات في واقع الدعاة/ صيد الفوائد.
(8) الملل الدعوي/ عيون نت.
(9) إشكالات في واقع الدعاة/ صيد الفوائد.