البعد الدعوي في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم
إن السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة الإيمانية والعاطفة الدينية، التي لا تزال هذه الأمة تقتبس منها شعلة الإيمان، وتشتعل بها مجامر القلوب، التي يسرع انطفاؤها وخمودها في مهب الرياح والعواصف المادية، والتي إذا انطفأت فقدت هذه الأمة قوتها وميزتها وتأثيرها، وأصبحت جثة هامدة تحملها الحياة على أكتافها.
إنها تاريخ رجال جاءتهم دعوة الإسلام فآمنوا بها وصدقتها قلوبهم، وضعوا أيديهم في يد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهانت عليهم نفوسهم وأموالهم وعشيرتهم، واستطابوا المرارات والمكاره في سبيل الدعوة إلى الله، وأفضى يقينها إلى قلوبهم، وسيطر على نفوسهم وعقولهم، وصدرت عنهم عجائب الإيمان بالغيب، والحب لله والرسول، والرحمة على المؤمنين، والشدة على الكافرين، وإيثار الآخرة على الدنيا، والحرص على دعوة الناس، وإخراج خلق الله من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، والاستهانة بزخارف الدنيا وحطامها، والشوق إلى لقاء الله، والحنين إلى الجنة، وعُلو الهمة، وبُعد النظر في نشر رِفد الإسلام وخيراته في العالم، وانتشارهم لأجل ذلك في مشارق الأرض ومغاربها، ونسوا في ذلك لذَّتهم، وهجروا راحتهم، وغادروا أوطانهم، وبذلوا مُهَجَهم وحرّ أموالهم حتى أقبلت القلوب إلى الله، وهبَّت ريح الإيمان قوية عاصفة، طيبة مباركة، وقامت دولة التوحيد والإيمان والعبادة والتقوى، وانتشرت الهداية في العالم، ودخل الناس في دين الله أفواجًا(1).
الحديث عن السيرة في مجال الدعوة يمكن أن يكون في جانبين:
- جانب الدعاة. - وجانب المدعوين.
أما الدعاة: فإن لدراسة السيرة واستحضار أحداثها من قبل الدعاة فوائد عدة، تعود عليهم بالتوفيق والسداد في عملهم وبالخير العميم.
(1) إنها تملأ صدورهم بالأمل الواسع عندما يلاقون المصاعب والمتاعب والعقبات، وتنأى بهم عن اليأس، وتدفعهم إلى العمل، وذلك عندما يتذكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجه الدنيا، التي كانت تموج بالشرك والظلم والعدوان، واجهها بعمل وصبر ورفق وحزم وأمل واسع... فدانت له الدنيا، وخضع لسلطانه الوجود، ولم يمض على وفاته صلى الله عليه وسلم مائة عام حتى كانت دعوته قد عمت الكون المعمور، وأصبحت كلمة التوحيد والتكبير تعلو المآذن من حدود فرنسا إلى حدود الصين.
(2) إنها تبين لهم المراحل التي ينبغي أن يسلكوها في الدعوة متأسين بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلقد أخذت دعوته صلى الله عليه وسلم في المدينة منحى يختلف عن المنحى الذي كانت عليه الدعوة في مكة.
(3) إنها توضح الأوليات ومراتب الواجبات والمحرمات، وتحدد لهم الأمور التي يبدءون بها، وهي الأمور المتصلة بالعقيدة، فلقد ظل معظم اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بالتوحيد ونبذ الشرك.
(4) إنها تبين للدعاة الصفات الأساسية المهمة التي ينبغي أن يتصفوا بها وترغبهم بذلك، ومن أهم هذه الصفات: العلم، والتخطيط، والتدرج، والتلطف، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والحلم، والشعور بالمسئولية، والصبر والثبات، والالتزام بما يدعو الناس إليه، والزهد والقناعة، والجرأة في قول الحق، وغير ذلك من الصفات مما سنبينه في هذا البحث إن شاء الله.
وأما بالنسبة إلى جانب المدعوين فهناك الأفكار الآتية:
(1) إن في سماعهم لأحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنمية لحب النبي صلى الله عليه وسلم، وحبه من أسس الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده»(2).
وروى البخاري عن أنس رضي الله عنه بلفظ: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين»(3).
ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم أمر قائم في نفوس الناس، على الرغم من وقوعهم في انحراف أحيانًا، وهذا يجعل إصغاءهم ومتابعتهم للمتحدث أشد وأقوى وانتفاعهم أعظم.
(2) في سماعهم أحداث السيرة إعانة لهم على التأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.
(3) في سماعهم أحداث السيرة إعجاب بشخصية النبي صلى الله عليه وسلم وتأثر بالموعظة.
(4) في سماعهم أحداث السيرة إقناع للمسلمين بأن أحكام الدين التي جاء بها الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم حلت للناس مشكلاتهم.
(5) السيرة النبوية تمثل التطبيق العملي لمبادئ الإسلام، وتجعل الأمور المجردة أشياء محسوسة ظاهرة، ووقائع في عالم الحس، فهي تجسيد للمعاني الكريمة التي يريد الدعاة أن يقرروها للناس.
(6) السيرة النبوية قصة حياة أعظم إنسان عرفته الإنسانية صلى الله عليه وسلم، ومن الطبائع البشرية أن السامع للقصة عندما يعجب ببطل القصة يحاول تقليده، والقصة شيء تميل إليه النفس، وقصة حياة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي غرس حبه في قلوب الناس، لها تأثير، وأي تأثير!
إن السيرة النبوية سجلت أحداث حياة أعظم شخصية عرفها البشر، وأكرم رسول من رسل الله صلوات الله عليهم أجمعين.
وما أشد حاجة المسلمين اليوم إلى أن يتذكروا ما جاء في سيرته صلى الله عليه وسلم ليقتدوا به، ويعملوا بما جاءهم به من عند الله من الهدى والحق والخير، فواقعهم واقع مؤلم، وكيد الكفرة ضدهم متعاظم في كل مكان.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم أبطال الإنسانية على مَر العصور، نقول هذا معتمدين على كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يقول ربنا تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
ويقول الله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (157)} [الأعراف:156–157].
ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب:45-46]، ويقول الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقد شهد بذلك معاصروه ومعاشروه ومن جاء بعدهم من أتباعه ومخالفيه، أجل، لقد شهد بذلك ناس لا يشاركوننا الدين.
وقد أُلّفت مؤلفات جَمعت أقوال هؤلاء، ويحسن أن نذكر أنَّ بعض هؤلاء كانوا من ألدّ أعداء الإسلام، ولكنهم لم يستطيعوا إلَّا أن يعترفوا بعظمة هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.
لقد اجتمعت، بحمد الله وفضله، لدعوة الإسلام كل عوامل النجاح، فكتب الله لها ولحملتها الفوز والغلبة، ومن أهم هذه العوامل توفيق الله وتأييده وشخصية الزعيم العظيم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا علينا أن نتعرّف إلى هذه الشخصيّة العظيمة، وذلك بالوقوف على سيرته الشريفة صلوات الله وسلامه عليه، وأن نعمل على أن تبقى توجيهاته القيمة التي نقلت إلينا في السنة المطهرة حيّة في ضمائرنا وعقولنا، وتكون هادية لنا في مسيرة الحياة.
ولن تجد الناسُ في دنيا البشر بطلًا أو زعيمًا يوازي سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، أو يستطيع أن يقترب من الذروة السامقة التي تبوأها صلى الله عليه وسلم، لقد صنعه الله على عينه، وأحاطه برعايته وعنايته وتأييده، وأكرمه بالنبوة والرسالة، لقد اجتمع في شخص هذا الزعيم المفدّى صلوات الله وسلامه عليه الشرف الرفيع، والخلُق الزكي، والنبوة والرسالة، والعظمة والأصالة.
إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم صفحة مشرقة في تاريخ الإنسانية قاطبة، ارتفعت الإنسانية به إلى مستوى سامٍ راقٍ، لم يتح لها أن تبلغه بأحد من الناس قبله، ولن تبلغه بأحد بعده أبدًا.
لقد عدت سيرته صلى الله عليه وسلم منارة تُطل على قافلة البشرية الحائرة القلقة، المشرفة الآن على الانهيار بسبب اندفاعها وراء الشبهات والشهوات، منارة تناديها وتضيء لها سبل الهدى والطهر والاستقامة.
وسيرته صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العملي لمبادئ الإسلام، تجد تلك المبادئ حيّة فيما تطلع عليه من أحداث تجلّى فيها المثل الأعلى للحياة السامية، تتوازن فيها دواعي المادة والروح، والدين والدنيا، توازنًا لا يجور فيه جانب على جانب.
من أجل ذلك كله كانت دراسة السيرة النبوية ضرورة لا بد منها للداعية المسلم.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأسوة الحسنة، والقدوة المثلى للمسلمين عامة، وللدعاة خاصة، يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
ولا يتم التأسّي به ما لم تتضح معالم سيرته في أذهان المعتدين والمرشدين.
إنّ عرض الداعية أحداث في مجال الدعوة يبين أن هذه الأحكام الشرعية والمبادئ الإسلامية، التي تضمنتها، قامت حقائق ملموسة في واقع الحياة، في حقبة سعيدة من الزمان في حياة الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، وكانت أكرم حقبة عرفها التاريخ.
إن السيرة النبوية تكفل لنا إيضاح الوسط الروحي المتألق الذي عاشت فيه هذه المبادئ الإسلامية، وتبين كيف انطلقت في حركتها السريعة تسود الدنيا المعمورة في وقت قصير.
إن السيرة تبث الحيوية في الدعوة، وتوقظ في الناس الروح الدينية الكريمة، وتخلص الدعوة من الجفاف والنظرية.
إن واقع المسلمين اليوم مؤلم لبعدهم عن حقيقة دينهم، وهم بحاجة إلى إصلاح يتغلغل إلى أعماق قلوبهم، فيبدّل ما في نفوسهم وأذهانهم.
وإن بشائر الخير، وأمارات التقدم، تبدو بين حين وآخر باعثة على الأمل، وتحيي موات القلب، وتنشط الهمة، وتحفز إلى العمل، وتنتظر هذه البشائر من يدفعها ويرشدها ويأخذ بيدها، هذا ومن أهم وسائل بعث الأمم المتخلفة، وبث الحياة في كيانها الضعيف، ونفض غبار التأخر والكسل عنها، وإيجاد اليقظة الواعية البنّاءة، ونشر صفحات الماضي المجيد لهذه الأمم، وإحياء بطولاتها في أذهان أبناء الأمة وناشئتها، وحضهم على متابعة السعي وبذل الجهد لاستكمال ما بنى الآباء والأسلاف، وإذا أردنا أن ننظر في أمجادنا وبطولاتنا فلن نجد مثل السيرة النبوية في هذا المجال على الإطلاق.
ولذا فإن على رجال الفكر وأرباب القلم أن يُولوا السيرة النبوية ما تستحق من الاهتمام والدراسة، عليهم أن يقدموها للناس بأسلوب سائغ مؤثر جذاب، بالمحاضرات والخطب والدروس والمقالات، والأحاديث الإذاعية والندوات التلفزيونية، وبالأسلوب القصصي، ويستخدموا لذلك كل وسائل النشر الممكنة.
قال عبد الرحمن عزام: «من الأبطال من امتازوا باتساع دائرة تأثيرهم وسلطانهم، أولئك هم المبرزون في تاريخ الإنسانية، وأولئك هم الذي كان لإصلاحهم الخلود والأثر الباقي، وأعظم هؤلاء هو محمد صلى الله عليه وسلم»(4).
إن جانب الدعوة إلى الله في السيرة النبوية يشمل السيرة كلها، فرسول الله صلى الله عليه وسلم شاهد ومبشر ونذير وداعٍ إلى الله؛ بل هو إمام الدعاة وسيدهم صلوات الله وسلامه عليه، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب:45-46].
عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، فقال عبد الله: «أجل، إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سمّيتك المتوكل، لست بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملّة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، فيفتح به أعينًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقلوبًا غُلفًا»(5).
وهذا وصف ينطبق عليه صلى الله عليه وسلم، هذا وقد روى ابن أبي حاتم، ونقله عنه ابن كثير، في تفسيره هذه الآية نصًا جميلًا عن وهب بن منبّه معناه صحيح، نورده هنا لصحة معناه، ودقة وصفه لسيدنا رسول الله الداعية الرسول، قال وهب: «إن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل: فإني منطق لسانك بوحي، وأَبعثُ أميًّا من الأمّيّين، أبعثه مبشرًا، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه، أبعثه مبشرًا ونذيرًا، لا يقول الخنا، أفتح به أعينًا كُمهًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غلفًا، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق والوفاء طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام حلّته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلّم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرّف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلّفُ به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء مشتّتة، وأستنقذ به فئامًا من الناس عظيمة من الهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين، مصدقين لما جاءت به رسلي، ألهمهم التسبيح والتحميد، والثناء والتكبير والتوحيد، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومنقلبهم ومثواهم، يصلّون لي قيامًا وقعودًا، ويقاتلون في سبيل الله صفوفًا وزحوفًا، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي أُلوفًا، يطهرون الوجوه والأطراف، ويشدون الثياب في الأنصاف، قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم، رهبانٌ بالليل، ليوثٌ بالنهار، وأجعل في أهل بيته وذريته السابقين والصديقين والشهداء والصالحين، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون، أُعزُّ من نصرهم، وأؤيّد من دعا لهم، وأجعل دائرة السوء على منْ خالفهم أو بغى عليهم، أو أراد أن ينتزع شيئًا مما في أيديهم، أجعلهم ورثة لنبيهم، والدعاة إلى ربهم، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويوفون بعهدهم»(6).
إنه نص جميل، وردت فيه جملة من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوية، وورد فيه ذكر لفضله العظيم على أمته التي هداها الله به، فكان فيها بفضل الاقتداء به صفات الدعاة الصادقين.
أجل، إن السيرة النبوية تمثل التطبيق العملي لمبادئ الإسلام، على يد نبي الله وخير خلقه محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم(7).
إننا نجد في أحداثها المشرقة الكريمة مبادئ الإسلام حيةً متحركة، إن الكلام النظري المجرد قد يقنع الفكر عندما يكون حقًا، وعندما يكون عرضه موفقًا، وعندما يكون السامع على مستوى جيد من الفهم والإدراك، ولكنه لا يولِّد في المرء الحماسة، ولا يحدث التعاطف والاندفاع لتحقيق مضمون هذا الكلام، أما عندما يدعم هذا الكلامَ النظريَ واقعٌ حي تجسدت فيه مبادئ هذا الكلام، وبرز ما فيه من مُثُلٍ بين ظهراني الناس يبصرونها ويعايشونها، فإن ذلك يفعل في النفس فعل السحر، ويدفعها إلى تحقيق الخير، وتنحية الشر، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل.
إن السيرة النبوية سدت ثغرة في هذا المجال لا يسدها غيرها؛ ذلك لأن عرض مبادئ الإسلام وعرض النظرات الإسلامية، في شتى جوانب الحياة، بعيدًا عن الواقع يُفوت على الناس أن يدركوا سرًا من أسرار هذه الشريعة، وخاصة من خصائصها.
وتعد السيرة النبوية تسجيلًا عمليًا للدعوة الإسلامية، أصولها، ومناهجها، ووسائلها، وتاريخها خلال هذه الفترة المهمة.
وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خير أجناد الأرض، وهم خير أمة أخرجت للناس، آمنوا بالإسلام إيمانًا كاملًا، وخلعوا من قلوبهم حب الدنيا، وملئوها بحب الله ورسوله؛ ولذلك حملوا أمانة الدعوة إلى الإسلام، وبلغوها للعالمين، بعد أن طبقوها على أنفسهم وحياتهم، وقدموا من صور الحب للإسلام، والتفاني في سبيله، ما يعد نشازًا في نظر كثير من الناس.
هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم كانوا جمهور الدعوة في عصرها الأول، وكانوا عمليًا حقل تجارب دقيقًا لبيان مدى تجاوب الدعوة الربانية مع الفطرة البشرية، ومعرفة قيمة المنهج المتبع، والأسلوب المألوف، وقد ثبتت سعادة الناس بالدعوة، وخيرية الدعوة للناس أجمعين.
ومن قدر الله تعالى أن الرواة كانوا يتابعون كل شيء في حياة الصحابة اليومية؛ ولذلك نقلوا عن الجميع، وفي كل شئون الحياة، ونشاط الدنيا، فبقيت التجربة بأحداثها، ووقائعها، ونتائجها حية في حركتها ووضوحها؛ لتؤكد لكل ذي عقل أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه لن تصلح الأمة الإسلامية في أي عصر إلا بما صلح بها أولها(8).
الأهداف الأخلاقية لدراسة السيرة النبوية:
إن لدراسة السيرة العطرة، خاصة فيما يتعلق بالمجال الأخلاقي، أهدافًا عديدة يمكن إبراز أهمها فيما يلي:
1- يجد المرء في سيرته صلى الله عليه وسلم ما يعينه على فهم كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
2- إن الدارس لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يقف على التطبيق العملي لأحكام الإسلام، التي تضمنتها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة في مجالات الحياة المختلفة.
3- إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي معرفة شمائله وأحواله صلى الله عليه وسلم في المجالات المختلفة، ومن عرف شمائله وأحواله وأحبه واقتدى به فسيهتدي بإذن الله إلى الصراط المستقيم، وسينال ما يدخره الله عز وجل له على ذلك، قال تعالى: {لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، فقد كان صلى الله عليه وسلم في هدايته الناس كما وصفه ربه: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى:52-53].
4- إن الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعه دليل على محبة العبد ربه، وسينال العبد محبة الله له، وفي هذا يقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران:31].
5- يقف الدارس لسيرته صلى الله عليه وسلم على حقائق معجزاته [دلائل نبوته]؛ مما يقوي ويزيد الإيمان من ناحية، والفهم الجيد لهذه المعجزات في ضوء معرفة هذه الوقائع من ناحية أخرى.
6- إن معرفة ما حفلت به السيرة من مواقف إيمانية عقدية، وقفها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإعلاء كلمة الله، تقوي من عزائم المؤمنين السائرين على درب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبتهم للدفاع عن الدين والحق، وتبعث في قلوبهم الطمأنينة.
7- في سيرته صلى الله عليه وسلم دروس كثيرة لجميع الناس، ومواساة لهم في كافة أنواع الابتلاءات التي يتعرضون لها، لا سيما الدعاة.
8- إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي المثل الأعلى للإنسان الكامل في جميع الجوانب.
9- يحصل دارس السيرة على قدر كبير من المعارف الصحيحة في علوم الإسلام المختلفة، من عقيدة وشريعة وأخلاق وتفسير وحديث وسياسة وتربية واجتماع... الخ.
10- يقف الدارس لسيرته صلى الله عليه وسلم على تطور الدعوة الإسلامية، وما كابده الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لإعلاء كلمة الله، وما واجهه هو وأصحابه من مشكلات، وكيفية التصرف في تذليل تلك العقبات، وحل تلك المشكلات.
11- إن معرفة أسباب نزول الآيات القرآنية ومناسبات أقوال كثيرة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا تعرف إلا بمعرفة السيرة النبوية، ولهذا أهمية قصوى في الفهم الصحيح للآيات الكريمة والأحاديث الشريفة.
12- إن علم الناسخ والمنسوخ، في القرآن الكريم والسنة، لا يتأتى فهمه ومعرفته إلا في ضوء وقائع السيرة.
13- إن معرفة السيرة على وجهها الصحيح يمَكِّن المسلم من تفنيد الترهات والأباطيل، التي يحاول بعض المستشرقين أن يفسروها على غير وجهها الصحيح.
14- في السيرة العطرة ما يساعد المسلمين على الخروج من المحنة التي ابتلي بها كثير منهم في هذه الأيام؛ حيث توضح مواقف السيرة كيف يتآخى المسلمون، ويصبرون على الشدائد، ويثقون بنصر الله تعالى(9).
إننا نعيش الآن في غربة، غربة جديدة للإسلام، تجعل محاولة العودة صعبة وشاقة، وفيها عنصر الجدة، لا بد من عودة جادة إلى المنابع الأولى الصافية، منابع العقيدة، ودراسة السنة، وكيف ربى الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه.
ما أحوجنا إلى دراسة السيرة النبوية دراسة جادة، وتحقيق مروياتها، وتنقيتها، والتمعن فيها، وربطها بالواقع، واستلهام الدروس والعبر منها؛ فليست سيرة نبينا وسنته مجرد أحداث وقصص وقعت وانتهت، تقرأ للتسلية، أو التبرك أو للمعرفة؛ بل الأمر أكبر من ذلك؛ فقد حفظها الله لنا لتكون لنا نورًا نستضيء به، ودربًا نسير عليه ونطبقه في واقعنا؛ فالقرآن والسنة هما منهج حياة كاملة مثالية حتى قيام الساعة.
فحياة نبينا محمد من بعثته حتى وفاته في جميع شئونه هي الحياة المثالية والقدوة الحسنة للمسلمين جميعًا من رجال ونساء، وحكام ومحكومين وعامة، وقد أمرنا ربنا عز وجل أن نقتدي به فقال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، وسنته وطريقه هي الصراط المستقيم، والسبيل الوحيد الذي يجب أن يتبع لتحقيق العبودية لله، وللفوز بجنته والنجاة من عذابه، وأن ما عداه من طرق وسبل هي ضلال وافتراق عن الحق، كما قال جل وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153](10).
***
_________________
(1) حياة الصحابة، للكاندهلوي (1/ 15).
(2) أخرجه البخاري (14)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري (15)، ومسلم (44).
(4) بطل الأبطال، ص5.
(5) أخرجه البخاري (4838).
(6) تفسير ابن كثير (6/ 438).
(7) الجانب الدعوي في السيرة النبوية، موقع: صيد الفوائد.
(8) دعوة الرسل عليهم السلام، ص19.
(9) نضرة النعيم (1/ 184).
(10) وقفات مع اليهود من خلال السيرة النبوية، مجلة البيان (العدد:121).