logo

الدعاة والافتقار إلى الله


بتاريخ : الأربعاء ، 26 جمادى الآخر ، 1439 الموافق 14 مارس 2018
بقلم : تيار الاصلاح
الدعاة والافتقار إلى الله

قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} [فاطر:15]، يخبر تعالى بغنائه عما سواه، وبافتقار المخلوقات كلها إليه، وتذللها بين يديه، فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ}؛ أي: هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات، وهو الغني عنهم بالذات؛ ولهذا قال: {وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ}؛ أي: هو المتفرد بالغنى وحده لا شريك له، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله، ويقدره ويشرعه(1).

قال ذو النون المصري: «الخلق محتاجون إليه في كل نَفَس وخطرة ولحظة، وكيف لا، ووجودهم به، وبقاؤهم به»(2).

إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات إلى نور الله وهداه، في حاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله، وأن الله غني عنهم كل الغنى، وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم، وهو المحمود بذاته، وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه، فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم، أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسير.

الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة؛ لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله جل وعلا يعنى بهم، ويرسل إليهم الرسل ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور، ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئًا في ملكه تعالى! والله هو الغني الحميد.

وإن الله سبحانه يمنح العباد من رعايته، ويفيض عليهم من رحمته، ويغمرهم بسابغ فضله، بإرسال رسله إليهم، واحتمال هؤلاء الرسل ما يحتملون من إعراضهم وإيذائهم، وثباتهم على الدعوة إلى الله بعد الإعراض والإيذاء، إن الله سبحانه إنما يعامل عباده هكذا رحمة منه وفضلًا وكرمًا ومنًا؛ لأن هذه صفاته المتعلقة بذاته، لا لأن هؤلاء العباد يزيدون في ملكه شيئًا بهداهم، أو ينقصون من ملكه شيئًا بعماهم، ولا لأن هؤلاء العباد مخلوقات نادرة عزيزة صعبة الإعادة أو الاستبدال، فيغتفر لهم ما يقع منهم لأنهم صنف لا يعاد ولا يستبدل(3).

قال النسفي: «ولم يسمهم بالفقراء للتحقير؛ بل للتعريض على الاستغناء، ولهذا وصف نفسه بالغنى الذي هو مطمع الأغنياء، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، والجواد المنعم عليهم؛ إذ ليس كل غني نافعًا بغناه، إلا إذا كان الغني جوادًا منعمًا، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم.

قال سهل: (لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه).

فينبغي للعبد أن يكون مفتقرًا بالسر إليه، ومنقطعًا عن الغير إليه، حتى تكون عبوديته محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع، وعلامته ألا يسأل من أحد.

وقال الواسطي: (من استغنى بالله لا يفتقر، ومن تعزز بالله لا يذل).

وقال الحسين: (على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنيًا بالله، وكلما ازداد افتقارًا ازداد غنى).

وقال يحيى: (الفقر خير للعبد من الغنى؛ لأن المذلة في الفقر، والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال).

وقيل: صفة الأولياء ثلاثة: الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء.

وقال الشبلي: (الفقر يجر البلاء، وبلاؤه كله عز)»(4).

إن لذة الحياة، ومتعة الدنيا، وحلاوة العمر، وجمال العيش، وروعة الأنس، وراحة النفس هي في شعور الإنسان بفقره إلى الديان، ومتى غرس في القلب هذا الشعور، ونقش في الفؤاد هذا المبدأ فهو بداية الغنى، وانطلاقة الرضا، وإطلالة الهناء، وإشراقة الصفاء، وحضور السرور، وموسم الحبور.

قال ابن القيم: «حقيقة الفقر ألا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر»، ثم قال: «الفقر الحقيقي دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه»(5).

فالافتقار إلى الله تعالى أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظها وأهوائها، ويُقبل بكليته إلى ربه عز وجل، متذللًا بين يديه، مستسلمًا لأمره ونهيه، متعلقًا قلبه بمحبته وطاعته.

قال يحيى بن معاذ: «النسك هو العناية بالسرائر، وإخراج ما سوى الله عز وجل من القلب»(6).

والمتأمل في جميع أنواع العبادة القلبية والعملية يرى أن الافتقار فيها إلى الله هي الصفة الجامعة لها، فبقدر افتقار العبد فيها إلى الله يكون أثرها في قلبه، ونفعها له في الدنيا والآخرة، وحسبك أن تتأمل في الصلاة أعظم الأركان العملية، فالعبد المؤمن يقف بين يدي ربه في سكينة، خاشعًا متذللًا، خافضًا رأسه، ينظر إلى موضع سجوده، يفتتحها بالتكبير، وفي ذلك دلالة جليَّة على تعظيم الله تعالى وحده، وترك ما سواه من الأحوال والديار والمناصب، وأرفع مقامات الذلة والافتقار أن يطأطئ العبد رأسه بالركوع، ويعفِّر جبهته بالتراب، مستجيرًا بالله منيبًا إليه.

علامات الافتقار إلى الله تعالى:

العلامة الأولى: كمال الذل مع كمال الحب لله سبحانه وتعالى: فموسى عليه الصلاة والسلام حينما خرج خائفًا يترقب، وورد ماء مدين وسقى للمرأتين ثم تولى إلى الظل الظليل لم يُنسِه ذلك الظلُّ ظلًا أعظم، ومأوى أكرم، ولطفًا أشمل، ورعاية أكمل، فلبس ثوب الفقر، وارتدى جلباب الفاقة، وأعلن حالة المسكنة، ورسم لوحة الذل، في عبارات حانية، وكلمات هادئة، ومناجاة صادقة، لا يجيدها إلا الفقراء إلى الله فقال: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24]، إنه يأوى إلى الظل المادي البليل بجسمه، ويأوي إلى الظل العريض الممدود، ظل الله الكريم المنان، بروحه وقلبه: رب إني في الهاجرة، رب إني فقير، رب إني وحيد، رب إني ضعيف، رب إني إلى فضلك ومَنِّك وكرمك فقير محووج، ونسمع من خلال التعبير رفرفة هذا القلب، والتجاءه إلى الحمى الآمن، والركن الركين، والظل الظليل، نسمع المناجاة القريبة، والهمس الموحي، والانعطاف الرفيق، والاتصال العميق: {رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}(7).

قال شيخ الإسلام بن تيمية: «كلما ازداد القلب حبًّا لله ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبًا وحرية عما سواه، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة، وهي العلة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، وهي العلة الفاعلية، فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يُسر ولا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن إلا بعبادة ربه، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه، ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه»(8).

وقال ابن القيم: «إن مقام العبودية هو بتكميل مقام الذل والانقياد، وأكمل الخلق عبودية أكملهم ذلًا لله وانقيادًا وطاعة، ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لقهره، ذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه وإنعامه عليه»(9).

العلامة الثانية: التعلق بالله تعالى وبمحبوباته:

الحب هذا الروح الساري اللطيف الرفاف المشرق الرائق البشوش، هو الذي يربط القوم بربهم الودود.

وحب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من يعرف الله سبحانه بصفاته كما وصف نفسه، وإلا من وجد إيقاع هذه الصفات في حسه ونفسه وشعوره وكينونته كلها، أجل، لا يُقَدر حقيقة هذا العطاء إلا الذي يعرف حقيقة المعطي، الذي يعرف من هو الله، من هو صانع هذا الكون الهائل، وصانع الإنسان الذي يلخص الكون وهو جرم صغير! من هو في عظمته، ومن هو في قدرته، ومن هو في تفرده، ومن هو في ملكوته، من هو ومن هذا العبد الذي يتفضل الله عليه منه بالحب، والعبد من صنع يديه سبحانه، وهو الجليل العظيم، الحي الدائم، الأزلي الأبدي، الأول والآخر والظاهر والباطن.

وحب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها كذلك إلا من ذاقها، وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرًا هائلًا عظيمًا، وفضلًا غامرًا جزيلًا، فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد، الذي لا نظير له في مذاقات الحب كلها ولا شبيه، هو إنعام هائل عظيم وفضل غامر جزيل.

وهذا الحب من الجليل للعبد من العبيد، والحب من العبد للمنعم المتفضل، يشيع في هذا الوجود ويسري في هذا الكون العريض، وينطبع في كل حي وفي كل شيء، فإذا هو جو وظل يغمران هذا الوجود، ويغمران الوجود الإنساني كله ممثلًا في ذلك العبد المحب المحبوب(10).

ومن تعلّق قلبه بربه وجد لذة في طاعته وامتثال أمره لا تدانيها لذة، فأوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذات النفوس، وبها كمال النعيم، فقرُّة عين المحب في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك، وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف، ولا يدركه مَنْ ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم(11).

وأعظم الناس ضلالًا وخسارًا مَنْ تعلق قلبه بغير الله تعالى، ويزداد ضلاله وخساره بزيادة تعلُّقه بغير مولاه الحق، ولهذا كان ركون العبد إلى الدنيا أو إلى شيء من زخرفها آية من آيات العبودية لها، قال الله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيكَ فلا انتقش»(12).

قال شيخ الإسلام بن تيمية: «كل من علَّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه، أو يرزقوه، أو أن يهدوه؛ خضع قلبه لهم، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميرًا متصرفًا بهم، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر، فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة، ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيرًا لها، تحكم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيدها؛ لأنه زوجها، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه.

فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن، فإن من استُعبد بدنه واستُرق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحًا من ذلك مطمئنًا، وأما إذا كان القلب، الذي هو الملك، رقيقًا مستعبدًا متيمًا لغير الله فهذا هو الذل والأسر المحض، والعبودية لما استعبد القلب»، ثم قال: «ومن أعظم هذا البلاء إعراض القلب عن الله، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك، ولا ألذ ولا أطيب»(13).

وقال الإمام ابن القيم: «أعظم الناس خذلانًا من تعلق بغير الله، فإنَّ ما فاته من مصالحه وسعادته وفلاحه أعظم مما حصل له ممن تعلق به، وهو معرض للزوال والفوات، ومثل المتعلق بغير الله كمثل المستظل من الحر والبرد ببيت العنكبوت أوهن البيوت»(14).

العلامة الثالثة: مداومة ذكره تعالى على كل حال:

إنَّ مداومة الذكر والاستغفار آية من آيات الافتقار إلى الله تعالى، فالعبد يجتهد في إظهار فاقته وحاجته وعجزه، ويمتلئ قلبه مسكنة وإخباتًا، ويرفع يديه تذللًا وإنابة؛ فهو ذاكر لله تعالى في كل شأنه؛ في حضره وسفره، ودخوله وخروجه، وأكله وشربه، ويقظته ونومه؛ بل حتى عند إتيانه أهله، فهو دائم الافتقار لعون الله تعالى وفضله، لا يغفل ساعة، ولا أدنى من ذلك، عن الاستعانة به والالتجاء إليه.

قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41].

إن القلب ليظل فارغًا أو لاهيًا أو حائرًا حتى يتصل بالله ويذكره ويأنس به، فإذا هو مليء جاد قار، يعرف طريقه، ويعرف منهجه، ويعرف من أين وإلى أين ينقل خطاه.

ومن هنا يحض القرآن كثيرًا وتحض السنة كثيرًا على ذكر الله، ويربط القرآن بين هذا الذكر وبين الأوقات والأحوال التي يمر بها الإنسان، لتكون الأوقات والأحوال مذكرة بذكر الله، ومنبهة إلى الاتصال به؛ حتى لا يغفل القلب ولا ينسى(15).

وذكر الله كثيرًا هو حلقة الاتصال بين نشاط الإنسان كله وعقيدته في الله، واستشعار القلب لله في كل لحظة؛ فلا ينفصل بخاطر ولا حركة عن العروة الوثقى، وإشراق القلب ببشاشة الذكر، الذي يسكب فيه النور والحياة(16).

وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَٰوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)} [آل عمران:190-191].

العلامة الرابعة: الخوف من عدم قبول العمل:

فعلى الرغم من حرصهم على أداء هذه العبادات الجليلات فإنهم لا يركنون إلى جهدهم، ولا يدلون بها على ربهم؛ بل يزدرون أعمالهم، ويظهرون الافتقار التام لعفو الله ورحمته، وتمتلئ قلوبهم مهابة ووجلًا، يخشون أن تُرد أعمالهم عليهم، والعياذ بالله، ويرفعون أكف الضراعة ملتجئين إلى الله يسألونه أن يتقبل منهم.

فمن سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم، كما عند البخاري ومسلم: «لن ينجي أحدًا منكم عملُه»، قالوا: «ولا أنت يا رسول الله»، قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة»(17)، أيقن بضعفه وعجزه ولم يتعاظم في نفسه أو يعجب بجهده وعمله، هذا وهو رسول الله، فالناس من باب أولى.

قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون:60]؛ أي: يعطون العطاء وهم خائفون ألا يُتقبل منهم؛ لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط(18).

ومن هنا يبدو أثر الإيمان في القلب، من الحساسية والإرهاف والتحرج، والتطلع إلى الكمال، وحساب العواقب، مهما ينهض بالواجبات والتكاليف.

فهؤلاء المؤمنون يشفقون من ربهم خشية وتقوى وهم يؤمنون بآياته، ولا يشركون به، وهم ينهضون بتكاليفهم وواجباتهم، وهم يأتون من الطاعات ما استطاعوا، ولكنهم بعد هذا كله: {يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} لإحساسهم بالتقصير في جانب الله، بعد أن بذلوا ما في طوقهم، وهو في نظرهم قليل.

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «يا رسول الله، {الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله عز وجل؟»، قال: «لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون، وهم يخافون ألَّا تقبل منهم»(19).

إن قلب المؤمن يستشعر يد الله عليه، ويحس آلاءه في كل نفس وكل نبضة، ومن ثم يستصغر كل عباداته، ويستقل كل طاعاته، إلى جانب آلاء الله ونعمائه، كذلك هو يستشعر، بكل ذرة فيه، جلال الله وعظمته، ويرقب بكل مشاعره يد الله في كل شيء من حوله، ومن ثم يشعر بالهيبة، ويشعر بالوجل، ويشفق أن يلقى الله وهو مقصر في حقه، لم يوفه حقه عبادة وطاعة، ولم يقارب أياديه عليه معرفة وشكرًا(20).

خامسًا: خشية الله في السر والعلن:

الخوف من الله تعالى من أجل صفات أهل الإيمان، قال عز وجل: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2]، وقال عز وجل: {وَبَشِّرِ المُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج:34-35].

وخشيته عز وجل في السر والعلن من أعظم آيات الافتقار والفاقة إليه سبحانه، فمن عرف الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأدرك عظمته وجبروته، وسلطانه الذي لا يقهر، وعينه التي لا تنام، وقدَّره حق قدره؛ خاف منه حق الخوف، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى (40) فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى (31)} [النازعات:40-41]، وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14].

ومن كانت هذه هي حاله رأيته متيقظ القلب، يرتجف خشية وإشفاقًا، دائم المناجاة لربه، يستجير به ويستغيث استغاثة المفتقر الذليل، قال الله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر:9]، وقال سبحانه وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].

وقال: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64]، قال الحسن البصري: «تجري دموعهم على خدودهم فَرَقًا من ربهم».

وتأمل معي قول الحق جل وعلا: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)} [الإسراء:107-109].

فهو الافتقار التام لله عز وجل، والانكسار بين يديه تذللًا وإنابة، قال الأستاذ سيد قطب: «إنهم لا يتمالكون أنفسهم، فهم لا يسجدون ولكن {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء:107]، ثم تنطلق ألسنتهم بما خالج مشاعرهم من إحساس بعظمة الله وصدق وعده: {سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا} [الإسراء: 108]، ويغلبهم التأثر فلا تكفي الألفاظ في تصوير ما يجيش في صدورهم منه، فإذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر الذي لا تصوّره الألفاظ»(21).

وشرط الخشية الصادقة أن تكون بالغيب؛ لأن القلب لا يتعلق إلا بالله، ولا يلتفت إلى ما سواه، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]، وقال تعالى: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:49]، وقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ (33)} [ق:31-33].

وفي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله...»، وذكر منهم: «ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه»(22).

سادسًا: تعظيم الأمر والنهي:

فغاية العبودية التسليم والانقياد محبَّة وتذللًا، فتعظيم الأمر والنهي من تعظيم الله جل وعلا، قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّه} [الحج:30]، وقال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32].

وما انتشرت المعاصي وكثرت المنكرات والأهواء في ديار المسلمين إلا بسبب ضعف الإيمان، والتهاون في تعظيم أمر الله عز وجل ونهيه.

وتعظيم الأمر والنهي يعني الوقوف عند حدود النصوص الشرعية، والالتزام الصادق بمقتضياتها ودلائلها، والعض عليها بالنواجذ، فأَمْر الله عز وجل وأَمْر رسوله صلى الله عليه وسلم حقه الإجلال والامتثال، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].

قال الإمام ابن القيم: «استقامة القلب بشيئين: أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب...، الأمر الثاني: تعظيم الأمر والنهي، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يُعظّمه ولا يعظّم أمره ونهيه، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا} [نوح:13]، قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة»، ثم قال: «فعلامة التعظيم للأوامر: رعاية أوقاتها وحدودها، والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحسينها وفعلها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها...»، ثم ذكر عددًا من علامات تعظيم المناهي، وهي على وجه الاختصار:

1- الحرص على التباعد عن مظانها وأسبابها وما يدعو إليها، ومجانبة كل وسيلة تقرب إليها.

2- أن يغضب لله عز وجل إذا انتُهكت محارمه، وأن يجد في قلبه حزنًا وكَسْرة إذا عُصي الله تعالى في أرضه، ولم يُطع بإقامة حدوده وأوامره، ولم يستطع هو أن يغير ذلك.

3- ألا يسترسل مع الرخصة إلى حد يكون فيه جافيًا غير مستقيم على المنهج الوسط.

4- ألا يحمل الأمر على علة تُضعف الانقياد والتسليم لأمر الله عز وجل؛ بل يسلم لأمر الله تعالى وحكمه، متمثلًا ما أمر به، سواء ظهرت له حكمة الشرع في أمره ونهيه أو لم تظهر(13).

ومن المسائل الجديرة بالعناية في هذا الباب أن على العلماء وطلبة العلم والباحثين والمثقفين ونحوهم العنايةَ بالاستدلال، والاعتماد على النصوص الشرعية في العلم والعمل، وقلَّ أن تُعْوِزَ النصوص مَنْ يكون خبيرًا بها، وبدلالتها على الأحكام(24).

ويجب أن يكون نظرهم في النصوص نظر المفتقر إليها، المتتبع لهداياتها، الملتزم بدلالتها.

وما أجمل قول الإمام الثوري: «إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل»(25).

ومَنْ نظر في النصوص الثابتة، ثم تقدم بين يديها، أو أغار عليها بالتأويل المتعسف، أو التحريف المتكلف، وراح يفسرها مجاراة لأهواء الناس، أو مداهنة لأهل العلمنة والتغريب؛ لم يكن في الحقيقة مفتقرًا لها، معظمًا لحدودها، قال ابن تيمية: «من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان: ألا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجْده، فإنهم ثبت عنهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم»(26).

وأحسب أن الدعاة وأبناء الصحوة الإسلامية لو فقهوا هذه المسألة حق الفقه، والتزموها في مناهج التربية والحركة والإصلاح؛ لأثمر ذلك انضباطًا كبيرًا في خططهم الدعوية والإصلاحية، ولساروا على جادة الصراط المستقيم، ولكن، مع الأسف الشديد، قلَّ عند بعضهم تعظيم النصوص الشرعية، وأصبحت القوالب الحزبية والمصالح المتوهمة هي المعيار الذي توزن به شئون الدعوة(27).

***

_______________

(1) تفسير ابن كثير (6/ 541).

(2) الأساس في التفسير (8/ 4585).

(3) في ظلال القرآن (5/ 2937).

(4) تفسير النسفي (3/ 82-83).

(5) مدارج السالكين (2/ 440).

(6) ذم الهوى، ص69.

(7) في ظلال القرآن (5/ 2686).

(8) مجموع الفتاوى (10/ 193-194).

(9) مفتاح دار السعادة (1/ 500).

(10) في ظلال القرآن (2/ 918).

(11) طريق الهجرتين، ص70.

(12) أخرجه البخاري (2887).

(13) مجموع الفتاوى (10/ 185-187).

(14) مدارج السالكين (1/ 458).

(15) في ظلال القرآن (5/ 2871).

(16) المصدر السابق (5/ 2863).

(17) أخرجه البخاري (5673).

(18) تفسير ابن كثير (5/ 480).

(19) أخرجه الترمذي (3175)

(20) في ظلال القرآن (4/ 2472).

(21) المصدر السابق (5/ 2254).

(22) أخرجه البخاري (660).

(23) الوابل الصيب، ص24-39.

(24) الحسبة في الإسلام، ص65.

(25) الجامع لأخلاق الراوي (1/ 142).

(26) مجموع الفتاوى (13/ 28).

(27) الافتقار إلى الله لب العبودية، مجلة البيان (العدد:196).