خطورة التأويل الفاسد
التأويل الفاسد أساس كل بدعةٍ ظهرت في الإسلام، وذلك لأن كل مبتدع يسعى إلى البحث عن مستند له في النصوص، وإذا لم يظفر بدليل أو شبهةٍ يغتر بها المخدوعون لجأ إلى ليِّ أعناق النصوص بالتأويل حتى تتفق مع مذهبه الباطل، ولما لم يكن من السهل الميسور تحريف النصوص الشرعية المحفوظة، وتأويلها على هذا النحو، احتاجوا إلى ذريعة يتوسلون بها إلى تأويلاتهم الفاسدة، فاتجهوا إلى اختراع قوانين التأويل وأصوله، فنشأت أصول للتأويل لدى جميع الفرق البدعية من المتكلمين، والرافضة، والباطنية، والصوفية، وغيرهم.
وكم من عائب قولًا صحيحًا وآفته من الفهم السقيم
فالزائغون الذين حادوا عن منهج الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعن منهج أهل السنة والجماعة؛ هم الذين يتأولون النصوص ليفتنوا الناس عن منهجهم ودينهم الحق، ويتأولون النصوص تأويلات باطلة (1).
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: التأويل الفاسد في رد النصوص ليس عذرًا لصاحبه، كما أنه سبحانه لم يعذر إبليس في شبهته التي أبداها كما يعذر من خالف النصوص متأولًا مخطئًا؛ بل كان ذلك التأويل زيادة في كفره (2).
وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية؛ فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين، والحرة؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد؟! (3).
فالذين قتلوا الزبير بن العوام، أو الذين قتلوا طلحة، أو الذين قتلوا علي بن أبي طالب بعد ذلك متأولة، يقولون: أردنا أن نريح الأمة من هؤلاء؛ لأن اختلافهم أدى لافتراق الأمة واختلافها، وهكذا الفتن أصحابها دائمًا يتأولون.
ولبيان خطر التأويل وما أحدث في هذه الأمة من الفساد في الدين والدنيا على مدار التاريخ الإسلامي، أنقل ما كتبه الإمام ابن القيم رحمه الله عن هذه الجنايات والمفاسد التي نجمت بسبب فتح باب التأويل.
يقول: إذا تأمل المتأمل فساد العالم وما وقع فيه من التفرق والاختلاف، وما دفع إليه أهل الإسلام وجده ناشئًا من جهة التأويلات المختلفة المستعملة في آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعلق بها المختلفون على اختلاف أصنافهم في أصول الدين وفروعه، فإنها أوجبت ما أوجبت من التباين والتجارب وتفرق الكلمة وتشتت الأهواء وتصدع الشمل وانقطاع الحبل وفساد ذات البين، حتى صار يكفر ويلعن بعضهم بعضًا، وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين، وتستحل منهم أنفسهم وحرمهم وأموالهم، ما هو أعظم مما يرصدهم به أهل دار الحرب من المنابذین لهم.
ومن أعظم آفات التأويل وجنایاته أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام اجتثها وقلعها، فعمد أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل، وذلك أن معقد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر، فعمدوا إلى أجَّلِ الأخبار وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت کماله، فأخرجوه عن حقيقته وما وضع له.
من جنایات التأويل الباطل على الأديان والشرائع:
ومن جنایات التأويل ما وقع في الإسلام من الحوادث بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، بل في حياته صلوات الله وسلامه عليه فإن خالد بن الوليد قتل بني جذيمة بالتأويل، ولهذا برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صنعه، وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (4)، ومنع الزكاة من منعها من العرب بعد موت رسول الله بالتأويل، وقالوا: إنما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103]، وهذا لا يكون لغيره، فجرى بسبب هذا التأويل الباطل على الإسلام وأهله ما جرى ثم جرت الفتنة التي جرت قتل عثمان، بالتأويل، ولم يزل التأويل يأخذ مأخذه حتى قتل به عثمان فأخذ بالزيادة والتولد حتى قتل به بين علي ومعاوية بصفين سبعون ألفًا أو أكثر من المسلمين، وقتل أهل الحرة بالتأويل وقتل يوم الجمل بالتأويل من قتل، ثم كان قتل ابن الزبير ونصب المنجنيق على البيت بالتأويل.
وما ضرب مالك بالسياط وطيف به إلا بالتأويل، ولا ضرب الإمام أحمد بالسياط وطلب قتله إلا بالتأويل، ولا قتل أحمد بن نصر الخزاعي إلا بالتأويل، ولا جرى على نعیم بن حماد الخزاعي ما جرى وتوجع أهل الإسلام لمصابه إلا بالتأويل، ولا جرى على محمد بن إسماعيل البخاري ما جرى ونفي وأخرج من بلده إلا بالتأويل، ولا قتل من قتل من خلفاء الإسلام وملوكه إلا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام عبد الله أبي إسماعيل الأنصاري ما جرى وطلب قتله بضعة وعشرين مرة إلا بالتأويل، ولا جرى على أئمة السنة والحديث ما جرى حين حبسوا وشردوا وأخرجوا من ديارهم إلا بالتأويل، ولا جرى على شيخ الإسلام ابن تيمية ما جرى من خصومه بالسجن وطلب قتله أكثر من عشرين مرة إلا بالتأويل.
فقاتل الله التأويل الباطل وأهله وأخذ حق دينه وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم وأنصاره منهم، فكم هدموا من معاقل الإسلام، وهدوا من أركانه، وقلعوا من قواعده، ولقد تركوه أرق من الثوب الخلق البالي الذي تطاولت عليه السنون، وتوالت عليه الأهوية والرياح (5).
هل التأويل مذموم بإطلاق؟
وقد يقول قائل: وهل التأويل مذموم بإطلاق؟ وهل جميع صوره مردودة وفاسدة؟ والجواب على هذا أن أغلب وأكثر صور التأويل فاسدة ومردودة، لأنها في حقيقتها تحريف للكلم عن مواضعه بلا دليل من كتاب وسنة.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: هذا التأويل في كثير من المواضع –أو أكثرها وعامتها- من باب تحريف الكلم عن مواضعه من جنس تأويلات القرامطة والباطنية، وهذا هو التأويل الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه، وصاحوا بأهله من أقطار الأرض ورموا في أثرهم بالشهب، وقد صنف الإمام أحمد كتابا في الرد على هؤلاء وسماه: «الرد على الجهمية والزنادقة» (6).
يقول الإمام ابن القيم: فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الصحيح وغيره هو الفاسد (7).
فمراد السلف ترك التأويل الذي هو التحريف والتعطيل، وليس المراد ترك كل ما يسمى تأويلًا، بل المراد ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة المخالفة لمذهب السلف التي يدل الكتاب والسنة على فسادها (8).
ولكن لماذا وقف علماء السلف من تأويل المتكلمين هذا الموقف المعارض؟
يجيب على ذلك شارح الطحاوية بالقول: فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف تأويلًا تزيينًا له ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112]، والعبرة للمعاني لا للألفاظ فكم من باطل أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق (9).
ويقول الإمام الأشعري: فإن الزائفين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم، فتأولوا القرآن على آرائهم تأويلًا لم ينزل الله به سلطانًا، ولا أوضح به برهانا، ولا نقلوه عن رسول رب العالمين، ولا عن السلف المتقدمين (10).
لقد كان للتأويل الفاسد المخالف للكتاب والسنة الدور الكبير في افتراق الأمة الإسلامية على ثلاث وسبعين فرقة؛ وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية.
ومن أمثلة التأويل الفاسد والباطل تأويل أهل الشام قوله لعمار بن ياسر: «تقتلك الفئة الباغية» (11)، فقالوا نحن لم نقتله إنما قتلة من جاء به حتى أوقعه بين رماحنا، وهذا التأويل مخالف لحقيقة اللفظ وظاهره، فإن الذي قتله هو الذي باشر قتله لا من استنصر به، ولهذا رد عليهم من هو أولى بالحق والحقيقة منهم فقالوا: أفيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه؛ لأنهم أتوا بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين؟ (12).
أنواع التأويل:
الأول: تأويل صحيح، وهو بمعنى التفسير، ومعناه: الكشف عن مراد المتكلم سواء وافق الظاهر أو خالفه، كتفسير الرحمة في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57]، بالمطر بدلالة السياق، وتفسير قوله تعالى في الحديث القدسي الرحمة بالجنة، وذلك في قوله تعالى للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء» (13)، فإن ذلك هو مراده تعالى وإن كان الظاهر الرحمة التي هي الصفة.
ثانيًا: تأويل فاسد، ومعناه صرف اللفظ عما يظهر منه إلى معنى لا يدل عليه بظاهره بأنواع المجازات والاستعارات حتى يوافق هوى المتأول، كتأويل الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، بالاستيلاء.
ثالثًا: تأويل لعب، وهو ما لا يساعد عليه شرع ولا لغة ولا عرف تخاطب، كتفسير الرافضة قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] بالحسن والحسين، وتفسير بعض الصوفية قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] بدرجة اليقين لا الموت ويرتبون على ذلك سقوط التكليف عمن بلغها (14).
أنواع التأويل الفاسد:
الأول: ما لا يحتمله اللفظ بوضعه الأول، مثل تأويل صفة القدم بجماعة من الناس فإن هذا شيء لا يعرف في لغة العرب.
الثاني: ما لا يحتمله اللفظ بنيته الخاصة من تثنية أو جمع، وإن احتمله عرفا كتأويل قوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، بالقدرة.
الثالث: ما لا يحتمله في سياقه الذي ورد فيه وإن احتمله في غيره، كتأويل إتيان الرب في قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، بإتيان بعض آيات الله فإنه ممنوع مع هذا التقسيم والتنوع.
الرابع: التأويل الذي لم يؤلف في لغة التخاطب العربية كتأويل الأفول في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَلَ} [الأنعام: 76]، بالتحرك فإن معنى الأفول في اللغة المغيب ولم يرد استعمالها في التحرك.
الخامس: ما ألف استعماله في معنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص، كتأويل اليدين في قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، بالنعمة فإن من المألوف في اللغة أن يقال له عندي يد أي نعمة وإن كان في تركيب الآية ممنوعا لإضافتها إلى الرب وتعدي الفعل لها بالباء فهو نظير كتبت بالقلم.
السادس: التأويل بالمعنى النادر أو غير المعهود والاستعمال فيه؛ لأن الأصل استعمال اللفظ في معناه المطرد أو الكثير وذلك كتأويل الرحمة بإرادة الإنعام فإن استعمال الرحمة فيه غير مطرد في القرآن والسنة.
السابع: تأويل يرجع على معنى النص بالإبطال بحيث يصادم دلالة النص، كتأويل قوله تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، على أن محبة الله إرادة التوفيق لعباده فإن غايته أن الله لا يحب.
الثامن: تأويل ظاهر النص المشهور على معنى خفي قد لا يعرفه إلا أفراد من الناس، كتأويل لفظ الأحد الدال على الوحدانية على معنى الذات المجردة عن الصفات وقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، بجرحه بأظافر الحكمة تجريحا من الكلم لا الكلم.
التاسع: أن يكون معنى النص في غاية العلو والرفعة والشرف فيؤول على معنى دونه في المرتبة، كتأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، بفوقية الشرف.
العاشر: تأويل النص بغير دليل ولا برهان ولا قرينة كتأويل الرافضة قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22]، بالحسن والحسين (15).
أساليب أهل التأويل في خداع الأمة:
ومن أخطر ما يوقع بعض المتأولة في تأويلاتهم الفاسدة اعتمادهم على ما يسمى بتحقيق المصالح ودفع المفاسد، فيعارضون بهذه القواعد نصوص الكتاب والسنة، وينزلونها بتأويلهم الفاسد على وقائع وحوادث بأهوائهم، دون اعتبار لقواعد الترجيح ودون النظر في فقه الموازنات، وهذا يكثر في المظالم والعدوان على الناس في دمائهم وأموالهم، كما هو الحال عند أرباب السياسة الذين يقدمون السياسة على الشرع عند التعارض، وذلك كما قدم أهل الكلام عقولهم وأهواءهم على نصوص الكتاب والسنة.
ويذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أساليب قد انتهجها أرباب التأويل الفاسد ومهدوا له بذلك، فمن هذه الأساليب التي ذكرها:
أولًا: أن يأتوا بالتأويل مزخرف الألفاظ ملفق المعاني:
أن يأتي به صاحبه مموه مزخرف الألفاظ ملفق المعاني، مكسوًا حلة الفصاحة والعبارة الرشيقة، فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه، وتبادر إلى اعتقاده وتقليده، ويكون حاله في ذلك حال من يعرض سلعة مموهة مغشوشة على من لا بصيرة له بباطنها وحقيقتها، فيحسنها في عينه ويحببها إلى نفسه، وهذا الذي يعتمده كل من أراد ترویج باطل، فإنه لا يتم له ذلك إلا بتمويهه وزخرفته وإلقائه إلى جاهل بحقيقته.
قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 112]، فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما یزخرفه بعضهم لبعض من القول، فيغتر به الأغيار وضعفاء العقول.
أي: يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المموه بما يظنون أنه يستر قبحه ويخفي باطله بطرق خفية دقيقة لا يفطن لباطلها كل أحد ليغروهم به (16).
وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات وتخيروا لها من الألفاظ الرائقة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة، وأكثر الخلق كذلك.
ثانيًا: أن يضعوا للمعاني الصحيحة الثابتة ألفاظًا مستنكرة شنيعة:
أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة، تنفر عنها القلوب، وتنبو عنها الأسماع، فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولًا إلى القلوب وأشدها نفرة عنها، فيتوهم السامع أن معناها هو الذي دلت عليه تلك الألفاظ فيسمى التدين ثقالة، وعدم الانبساط إلى السفهاء والفساق والبطالين سوء خلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب لله والحمية لدينه فتنة وشرًا وفضولًا.
فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل، فيسمون إثبات صفات الكمال لله تجسيمًا وتشبيهًا وتمثيلًا، ويسمون إثبات الوجه واليدين له تركيبًا، ويسمون إثبات استوائه على عرشه وعلوه على خلقه فوق سماواته تحيزًا وتجسيمًا، ويسمون العرش حيزًا وجهة، ويسمون الصفات أعراضًا، والأفعال حوادث، والوجه واليدين أبعاضًا، والحكم والغايات التي يفعل لأجلها أغراضًا.
فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة الثابتة تلك الألفاظ المستنكرة الشنيعة، تم لهم من نفيها وتعطيلها ما أرادوه، فقالوا للأغيار والأغفال: اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض والجهات والتركيب والتجسيم والتشبيه، فلم يشك أحد لله في قلبه وقار وعظمة في تنزيه الرب تعالى عن ذلك.
فلما صرحوا لهم بنفي ذلك: بقي السامع متحيرًا أعظم حيرة بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم، وبين إثباتها، وقد قام معه شاهد نفيها بما تلقاه عنهم، فمن الناس من فر إلى التخييل، ومنهم من فر إلى التعطيل، ومنهم من فر إلى التجهيل، ومنهم من فر إلى التمثيل، ومنهم من فر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكشف زيف هذه الألفاظ وبين زخرفها وزغلها، وأنها ألفاظ مموهة بمنزلة طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل؛ ولكن الطعام مسموم، فقالوا ما قاله إمام أهل السنة باتفاق أهل السنة أحمد بن حنبل: لا نزيل عن الله صفة من صفاته لأجل شناعة المشنعين (17).
ولما أراد المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض، اخترعوا لأهل السنة الألقاب القبيحة، فسموهم حشوية ونوابت ونواصب ومجبرة ومجسمة ومشبهة ونحو ذلك، فتولد من تسميتهم لصفات الرب تعالى وأفعاله ووجهه ويديه وحكمته بتلك الأسماء، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب لعنة أهل الإثبات والسنة وتبديعهم وتضليلهم وتكفيرهم وعقوبتهم، ولقوا منهم ما لقي الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم، وهذا الأمر لا يزال في الأرض إلى أن يرثها الله ومن عليها.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فها هم سلف هؤلاء المبتدعة في واقعنا المعاصر من ليبراليين وعلمانيين ومرجئة وصوفية يرمون الدعاة والمجاهدين من أهل السنة بالمتحجرین والظلاميين والإرهابيين ودعاة فتنة وخوارج.
ثالثًا: أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق:
أن يعزو المتأول تأويله وبدعته إلى جليل القدر نبيه الذكر من العقلاء، أو من آل البيت النبوي، أو من حل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق؛ ليحليه بذلك في قلوب الأغيار والجهال، فإن من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم، وأن يتلقوه بالقبول والميل إليه، وكلما كان ذلك القائل أعظم في نفوسهم كان قبولهم لكلامه أتم، حتى إنهم ليقدمونه على كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويقولون هو أعلم بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم منا..
وهذا ميراث التعصب من الذين عارضوا دين الرسل بما كان عليه الآباء والأسلاف، فإنهم لحسن ظنهم بهم وتعظيمهم لهم آثروا ما كانوا عليه على ما جاءتهم به الرسل عليهم السلام، وكانوا أعظم في صدورهم من أن يخالفوهم، ويشهدوا عليهم بالكفر والضلال، وأنهم كانوا على الباطل، وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم القيامة.
رابعًا: أن يقبل التأويل من برز ذكره في الناس في بعض العلوم والمعارف:
أن يكون ذلك التأويل قد قبله ورضيه مبرز في صناعة من الصناعات أو علم من العلوم الدقيقة أو الجليلة، فيعلو له بما برز به ذكر في الناس ويشتهر له به صیت، فإذا سمع الغمر الجاهل بقبوله لذلك التأويل وتلك البدعة واختياره له أحسن الظن به، وارتضاه مذهبًا لنفسه، ورضي من قبله إمامًا له، وقال: إنه لم يكن ليختار مع جودة قريحته وذكائه وصحة ذهنه ومهارته بصناعته وتبريزه فيها على بني جنسه، إلا الأصوب والأفضل من الاعتقادات والأرشد والأمثل من التأويلات، وأين يقع اختياري من اختياره، فرضيت لنفسي ما رضيه لنفسه، فإن عقله وذهنه وقريحته إنما تدله على الصواب، كما دلته على ما خفي عن غيره من صناعته وعلمه.
وهذه الآفة قد هلك بها أمم لا يحصيهم إلا الله، رأوا الفلاسفة قد برزوا في العلوم الرياضية والطبية، واستنبطوا بعقولهم وجودة قرائحهم ما عجز أكثر الناس عن تعلمه، فقالوا: للعلوم الإلهية والمعارف الربانية أسوة بذلك.
وما عرف أصحاب هذه الشبهة أن الله سبحانه قد يعطي أجهل الناس به وبأسمائه وصفاته وشرعه من الحذق في العلوم الرياضية والصنائع العجيبة ما تعجز عنه عقول أعلم الناس به ومعارفهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلم بأمور دنیاکم» (18).
خامسًا: أن يختاروا للمعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها:
الإغراب على النفوس بما لم تكن عارفة به من المعاني الغريبة، التي إذا ظفر الذهن بإدراكها ناله لذة من جنس لذة الظفر بالصيد الوحشي الذي لم يكن يطمع فيه، وهذا شأن النفوس فإنها موكلة بكل غريب تستحسنه وتؤثره وتنافس فيه.. ثم اختاروا لتلك المعاني الغريبة ألفاظًا أغرب منها، وألقوها في مسامع الناس، وقالوا: إن المعارف العقلية والعلوم اليقينية تحتها، فتحركت النفوس لطلب فهم تلك الألفاظ الغريبة، وإدراك تلك المعاني، واتفق أن صادفت قلوبًا خاوية من حقائق الإيمان وما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فتمكنت منها، فعز على أطباء الأديان استنقاذها منها، وقد تحكمت فيها..
سادسًا: تقديم مقدمات قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه:
تقديم مقدمات قبل التأويل تكون كالأطناب والأوتاد لفسطاطه، فمنها: ذم أصحاب الظواهر وعيبهم والإزراء بهم، وأنهم قوم جهال لا عقول لهم، وإنما هم أصحاب ظواهر سمعية، وينقلون من مثالبهم وبلههم ما بعضه صدق وأكثره كذب.
ومنها: قولهم: إن الخطاب بالمجاز والاستعارة أعذب وأوفق وألطف، وقد قال بعض أئمة النحاة: أكثر اللغة مجاز، فإذا كان أكثر اللغة مجازًا سهل على النفوس أنواع التأويلات، فقل ما شئت، وأوِل ما شئت، وأنزل عن الحقيقة ولا يضرك أي مجاز ركبته.
ومنها: قولهم: إن أدلة القرآن والسنة أدلة لفظية، وهي لا تفيد علمًا ولا يقينًا، والعلم إنما يستفاد من أدلة المعقول وقواعد المنطق.
ومنها: قولهم: إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل على النقل، فهذه المقدمات ونحوها هي أساس التأويل، فإذا انضمت هذه الأسباب بعضها إلى بعض، وتقاربت فيا محنة القرآن والسنة، وقد سلكا في قلوب قد تمكنت منها هذه الأسباب، فهنالك التأويل والتحريف والتبديل والإضمار والإجمال (19).
الأسباب التي ساعدت على انتشار التأويل:
وهي أربعة أسباب: اثنان من المتكلم، واثنان من السامع؛ فالسببان اللذان من المتكلم؛ إما من نقصان بيانه، وإما سوء قصده.
واللذان من السامع: إما سوء فهمه، وإما سوء قصده.
فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة انتفى التأويل الباطل، وإذا وجدت أو بعضها وقع التأويل.. فإذا كان المتكلم قد وفي البيان حقه، وقصد إفهام المخاطب وإيضاح المعنى له وإحضاره في ذهنه، فوافق من المخاطب معرفة بلغة المتكلم وعرفه المطرد في خطابه، وعلم من كمال نصحه أنه لا يقصد بخطابه التعمية والإلغاز، لم يخف عليه معنى كلامه، ولم يقع في قلبه شك في معرفة مراده.
وإن كان المتكلم قد قصر في بيانه وخاطب السامع بألفاظ مجملة تحتمل عدة معان، ولم يتبين له ما أراده منها، فإن كان عاجزًا أتي السامع من عجزه لا من قصده، وإن كان قادرًا عليه ولم يفعله حيث ينبغي فعله أتي السامع من سوء قصده..
ولهذا كان ما فهمه الصحابة من القرآن أولى أن يصار إليه، مما فهمه من بعدهم، فانضاف حسن قصدهم إلى حسن فهمهم، فلم يختلفوا في التأويل في باب معرفة الله وصفاته وأسمائه وأفعاله واليوم الآخر، ولا يحفظ عنهم في ذلك خلاف لا مشهور ولا شاذ، فلما حدث بعد انقضاء عصرهم من ساء فهمه وساء قصده، وقعوا في أنواع من التأويل بحسب سوء الفهم وفساد القصد، وقد يجتمعان وقد ينفردان، وإذا اجتمعا تولد من بينهما جهل بالحق ومعاداة لأهله واستحلال ما حرم الله منهم.
وإذا تأملت أصول المذاهب الفاسدة رأيت أربابها قد اشتقوها من بين هذين الأصلين، وحملهم عليها منافسة في رياسة أو مال أو توصل إلى عرض من أعراض الدنيا تخطبه الآمال وتتبعه الهمم وتشرئب إليه النفوس، فيتفق للعبد شبهة وشهوة، وهما أصل كل فساد ومنشأ كل تأويل باطل، وقد ذم الله سبحانه من اتبع الظن وما تهوى الأنفس، فالظن الشبهات، وما تهوى الأنفس الشهوات (20).
شروط التأويل الصحيح:
والتأويل الفاسد إما أن يقصد به أصحابه إبطال المعنى الشرعي الصحيح، وإما أن يريدوا إبطال اللفظ الشرعي، والأول هو أكثر ما يتطرق له المبطلون، ولذلك وضع العلماء شروطًا للتأويل الصحيح، ومما ذكروه في ذلك:
1- أن يكون المُؤَوِل من العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، الذين يدركون المعاني الشرعية، والمتضلعين في لغة العرب التي نزل بها القرآن وجاءت بها السنة.
2- أن يكون اللفظ مما يقبل التأويل أصلًا فلا يكون نصًا.
3- أن يكون اللفظ محتملًا للمعنى الذي يؤول إليه، وأن يكون احتمال اللفظ له على أساس من وضع اللغة، أو عرف الاستعمال، أو مما عرف من استعمال القواعد الشرعية كنحو تخصيص عام أو تقييد مطلق.
4- أن يقوم التأويل على دليل صحيح قوي يؤيده من الكتاب أو السنة.
5- ألا يعارض التأويل نصوصًا صريحة قطعية الدلالة في التشريع.
ولذلك بين العلماء ما لا يجوز التأويل فيه، ومن أمثلته:
1- ألا يكون التأويل فيما هو نص في مراد المتكلم، وهو المسمى بواضح الدلالة، كنصوص الصفات، والتوحيد، والمعاد؛ لأنّ التأويل في هذه الحالة يعد افتراءً على صاحب الشرع، وتزويرًا لمقصد كلامه.
2- يمتنع تأويل ما هو ظاهر في مراد المتكلم، وقد احتفت به قرائن تقوّيه، إلا بما يوافق عرف المتكلم وعادته المطَّردة؛ من قبيل اطّراد استعمال اللفظ الواحد على وجه واحد، فهذا مما يستحيل تأويله على خلاف ظاهره؛ كصفة الاستواء في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، حيث اطّرد في جميع موارده في القرآن على هذا اللفظ، فتأويله بالاستيلاء باطل.
3- لا يجوز تأويل المجمل من النصوص بخلاف بيان الشرع لها، والبيان للمجمل إما أن يكون متصلًا بالنص، كقوله: {وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، فتأكيد الفعل بالمصدر {تَكْلِيمًا} يمنع من تأويل هذه الصفة لله تعالى إلى أي معنىً آخر، بل يجب أن تحمل على حقيقة الكلام المعروف لغةً وشرعًا.
وإما أن يكون البيان في نص آخر غير متصل بالنص المجمل، ومن أمثلته قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ} [الدخان: 3] هو مجمل في ماهية الليلة، وبركتها، وقد بُيّنَ ذلك الإجمال في قوله: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)} [القدر: 1- 3].
والتأويل الصحيح لا بد له أن يوافق نصوص الكتاب والسنة المحكمة، وأي تأويل خالف النصوص الشرعية المحكمة فهو من التأويل الباطل الفاسد الذي يجب الحذر منه ومن أهله (21).
---------
(1) شرح لمعة الاعتقاد للمحمود (2/ 7) بتصرف.
(2) تفسير آيات من القرآن الكريم (ص: 92).
(3) شرح الطحاوية (ص: 189).
(4) أخرجه البخاري (4084).
(5) الصواعق المرسلة (1/ 365- 376).
(6) مجموع الفتاوى (4/ 69).
(7) الصواعق المرسلة (1/ 187).
(8) شرح الطحاوية لابن أبي العز (ص: 232).
(9) شرح العقيدة الطحاوية (ص: 232).
(10) الإبانة عن أصول الديانة (ص: 13).
(11) أخرجه مسلم (2916).
(12) الصواعق المرسلة (1/ 13).
(13) أخرجه البخاري (25).
أضواء البيان (1/ 329- 330). (14)
(15) مجلة البحوث الإسلامية (68/ 303- 305).
(16) تفسير المنار (8/ 7).
(17) معجم المناهي اللفظية (ص: 146).
(18) أخرجه مسلم (2363).
(19) الصواعق المرسلة (2/ 436-451)، باختصار.
(20) الصواعق المرسلة (2/ 500-510) باختصار.
(21) التأويل وأثره في ظهور الفرق الضالة/ ملتقى الخطباء.