ضوابط العمل التطوعي
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله, أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟»، فقال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينًا، أو يطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ لي في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد [مسجد المدينة] شهرًا»(1).
فهذا الحديث بمثابة بيان شامل للأمة على امتداد رحلتها مع الزمن، فقد عالج الرسول صلى الله عليه وسلم فيه منظومة العلاقة بين المسلم وغيره، وما يكتنفها من أعمال وأحوال تطوعية، تسهم جميعها في الارتقاء الإيماني بالمكونات المجتمعية، بحيث تتحول فيه الحياة إلى نماذج تكاتفية، يزداد إحساس المسلم فيها بغيره، فينشط إلى صنائع المعروف اختيارًا بلا إجبار، وليس سعيًا إلى شهرة أو انتصار لمذهب سياسي أو توجه فكري، بحيث يكون التسابق إلى عمل الخير ابتغاء محبة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد تحدث ابن القيم عن جانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، عرض فيه لشيء من منهجه في التطوع إلى عمل الخير، بحيث يكون هديًا واهتداءً لسائر مكونات أمته صلى الله عليه وسلم.
قال ابن القيم: «كان صلى الله عليه وسلم أعظم الناس صدقة مما ملكت يده، وكان لا يستكثر شيئًا أعطاه لله تعالى ولا يستقله، ولا يسأله أحدٌ شيئًا عنده إلا أعطاه، قليلًا أو كثيرًا، وكان عطاؤه عطاءَ مَن لا يخاف الفقر، وكان العطاء والصدقة أحب شيء إليه، وكان سروره وفرحه بما يعطيه أعظم من سرور الآخذ بما يأخذه، وكان أجود الناس بالخير بما يأخذه، وكان إذا عرض له محتاج آثره على نفسه، تارة بطعامه، وتارة بلباسه، وكان يتنوع في أصناف عطائه وصدقته، فتارة بالهبة، وتارة بالصدقة، وتارة بالهدية»(2).
إلى غير ذلك من الطرائق الإيمانية في أعمال البر والخير، وقد أفاض ابن القيم في بيان المنهج النبوي وتطبيقه، للاقتداء به، والسير على منواله وفق متطلبات الأحوال(3).
وعن أنس رضي الله عنه قال: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، فمنا الصائم ومنا المفطر، فنزلنا منزلًا في يوم حار، أكثرنا ظلًا صاحب الكساء، ومنا من يتقي الشمس بيده، فسقط الصوام، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذهب المفطرون اليوم بالأجر)»(4).
لذلك حث الإسلام على العمل خارج نطاق المنفعة والمقابل، وهو العمل التطوعي الذي يبتغي به فاعله وجه الله تعالى، والمثوبة والأجر منه، ثم مساعدة مجتمعه ومساندة أهله، أو غير أهله ممن احتاج المساعدة من مسلمين وغيرهم.
قال الله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:74].
ولقد حث الإسلام على العمل التطوعي في الكتاب والسنة، وضرب النبي صلى الله عليه وسلم العديد من الأمثلة بأفعاله التطوعية ليكون قدوةً لأمته، ومن ذلك ما فعله قبل البعثة، فلقد شارك النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا في وضع الحجر الأسود في مكانه عندما طلبوا منه ذلك، ومشاركة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في وضع حجر الأساس للمسجد النبوي، ومساعدتهم في أعمال البناء، كما أنه نزل في قبر أحد الصحابة وشارك في دفنه؛ وهو ذو البجادين رضي الله عنه.
وتعددت أشكال العمل التطوعي ووسائله ضمن منظومة الخدمة والرعاية الاجتماعية، التي تهدف إلى فتح المجال أمام الأفراد لخدمة دينهم ووطنهم، ولزرع التكافل الاجتماعي، ولإعطاء أصحاب المواهب الفرصة لعرض مواهبهم ومهاراتهم، ولتعزيز الانتماء المجتمعي، وللقضاء على الفراغ الذي يعيش فيه غالبية أفراد المجتمع الذين لا يجدون الفرص الوظيفية.
فثقافة العمل التطوعي بدأت تأخذ في الانتشار والتوسع لكلا الجنسين، فكلًا منهما أصبح مهتمًا بهذا الشأن، ولكن تبقى العقبات التي تقف أمام الكثير ممن يرغب في الانخراط تحت سقف العمل الخيري النبيل، ألا وهي الخصوصية، الخصوصية التي تجعل المرأة تعمل في جو من الأريحية، بعيدة عن أنظار الرجال والاختلاط بهم؛ لتحقيق أعلى مقياس لجودة العمل الاجتماعي بضوابط تتحتم عليها كونها واجبة.
والعمل التطوعي يحتاج إلى شيء من الضوابط في التعامل بين عناصره؛ أي يتحتم علينا إيجاد البيئة التي تحافظ على كلا الجنسين من الاختلاط، وإيجاد التراخيص التي تسمح للمتطوعين بالتطوع؛ وذلك حتى لا يختلط مفهوم التطوع على المفاهيم الأخرى، ولكي نضمن عدم استغلال هذا العمل في الأهداف والأغراض غير المشروعة، كذلك الأخذ بعين الاعتبار الأخلاقيات والتصرفات التي ينبغي أن يكون مُلمًا بها الفرد المتطوع، والتي تنطبق عليه شروط العمل، والتي تأتي استجابة لظروف طارئة للمواقف الإنسانية أو الأخلاقية؛ كالمروءة والشهامة(5).
ومن هذه الضوابط:
1- إخلاص النية لله تعالى:
الأعمال الخيرية أعمال يتقرب بها إلى الله تعالى، فلا بد فيها من نية حتى يؤجر عليها الإنسان، فلو نوى غير وجه الله تعالى وطلب رضاه فلا أجر له عند الله تعالى.
2- لا ضرر ولا ضرار:
لا يسوغ إيذاء أو إضرار أي جهة مسلمة، سواء بالفعل أو بالقول؛ بنشر الشائعات، أو الغيبة، أو انتقاص جهة ما، أو منافستها على موظفيها؛ ولو كان ذلك من باب مقابلة ما فعل، قال صلى الله عليه وسلم: «أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك»(6).
لا يسوغ لأي جهة أن تعمل عملًا خيريًا يلحق بها أو بغيرها الضرر.
3- الأصل في المسلم البراءة:
فيجب التثبت عند الحكم على الأشخاص والهيئات والمؤسسات؛ لأن اليقين أن الأصل في المسلم البراءة والسلامة، فلا يخرج عن هذا الحد إلا بيقين.
ومن ثبت احتياجه واستحقاقه للزكاة فالأصل جواز إعطائه حتى يتيقن زوال هذا الوصف عنه، ومن القواعد الفقهية الدالة على هذا الحكم: (الأصل بقاء ما كان على ما كان)(7).
فلا بد من اعتماد منهجية الحقائق الموثقة في دراسة أي قرار أو إجراء أي تصرف.
إذا صرح المتبرع أو الواقف بمصرف معين، أو اشترط شروطًا خاصة، فلا تسوغ مخالفته استنادًا إلى دلالة الحال، أو عادة المتبرعين؛ لأن اليقين لا يزول بالشك، وللقاعدة الفقهية: (لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح)(8).
الضوابط المتعلقة بجمع الأموال:
1– الأصل في الصدقات أن يُعتَبَر عين المنصوص عليه:
وهذه قاعدة عند جمهور أهل العلم؛ فما ورد به النص في الصدقات والزكاة الواجبة وزكاة الفطر فهو المعتبر؛ أما لو تغير إلى صفة أخرى فلا يقع عن الصدقة أو زكاة الفطر؛ وبناءً عليه لا يسوغ إخراج القيمة في شيء من الزكوات.
أما الحنفية فأجازوا ذلك استنادًا للقاعدة القائلة: (الأصل أن من وجبت عليه الصدقة إذا تصدق على وجه يستوفي به مراد النص منه أجزأه عما وجب عليه)(9).
ومراد النص هو سد خلة الفقير ودفع حاجته، فيجزئ إخراج القيمة لاستيفائها مراد النص.
2– التقديرات بابها التوقيف:
وهذه القاعدة في مقادير العبادات؛ كالزكاة والكفارات ونحوها، فما دام قد وُجِد لها تقديرٌ شرعي فلا يجوز تغيير هذا التقدير، وقد يعبر عن القاعدة بلفظ: (الشيء إذا ثبت مقدرًا في الشرع فلا يعتبر أي تقدير آخر)، وهذا بالنسبة لمقدار الواجب، وقد يسوغ الزيادة أحيانًا إذا زيدت باعتبارها نفلًا.
3– فرض العين لا يُترَك بالنافلة، أو بما هو من فروض الكفاية:
وتفيد القاعدة أن ما كان فرضًا عينيًا على كل مكلف فإنه لا يجوز تركه بنافلة، وبناءً عليه فإن الكماليات التي تبذل للمحتاج لها لا تقدم على بذل ما يحفظ حياة المضطرين من المسلمين.
4– شرط الواقف يجب العمل به:
بمعنى أن من وقف وقفًا واشترط أن يصرف على وجه معين فإنه يجب احترامه وتنفيذه ما لم يخالف الشرع، ومثل الواقفِ المتبرعُ والمتصدقُ، وقد تقدم أنه قد يسوغ مخالفته في حالات الضرورة.
5– للوسائل أحكام المقاصد:
الوسائل هي الطرق الموصلة للمقصود، وهذه الطرق تأخذ حكم ما هي وسيلة إليه؛ ولذا قرر المجمع الفقهي أنه يجوز أن يُعطى العاملون من التبرعات التي يخصصها أصحابها لجهة معينة أجرة لهم على جمع وتنظيم هذه التبرعات وتوصيلها لأصحابها، سواء كان ذلك رواتب أو أجورًا أو نفقات شحن أو تذاكر المسافرين، ما دامت لمصلحتها ولا يمكن بدونها وصول التبرعات إلى أصحابها المخصصة لهم، لكن يلاحظ أن تكون بقدر العمل الذي يقوم به الموظف، وبقدر النفقات الضرورية لصالح أعمال هذه التبرعات، وأن تكون هذه الأجور والنفقات مؤقتةً بانتهاء العمل.
وكذلك قرر أنه لا مانع من إنفاق بعض التبرعات المخصصة للأيتام على جمعها وترتيبها والقيام بأعبائها الإدارية؛ لأن هذا من خدمة الأيتام، وهو وسيلة إلى بقائه واستمراره، ولكن يجب أن تكون الرواتب بقدر حاجة العمل، وألا يوجد من يقوم به احتسابًا(10).
ضوابط متعلقة بصرف الأموال واستثمارها:
1– المساواة في العطاء:
بمعنى ألا يقدم أحد من المسلمين على غيره إلا بمسوغ خارجي ما داما مسلمين، والمسوغات كزيادة الحاجة، مثلًا، وغيرها.
2– إذا تعارض الإعطاء والحرمان قُدِّم الإعطاء:
فإذا وجد سبب يقتضي الإعطاء وآخر يقتضي المنع ولم يوجد مرجح قدم الإعطاء على الحرمان، ويتصور ذلك أيضًا فيما إذا كان لفظ المتبرع أو الواقف يحتمل منع شخص أو إعطاءه.
3– الضرورات تبيح المحظورات:
فحالات الاضطرار والحاجة الشديدة تجيز ارتكاب المنهي عنه؛ فكل ممنوع في الإسلام يستباح فعله عند الضرورة إليه، قال تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ} [الأنعام:199]، وهذا التخفيف التشريعي لا يقتصر على الضرورة الملجئة؛ بل يشمل حاجات الجماعة مما هو دون الضرورة؛ فيؤثر هذا الاحتياج في تغيير الحكم، ويوجب تخفيفًا يبيح المحظور ويجيز ترك الواجب، ففي القاعدة الفقهية: (الحاجة تنزل منزلة الضرورة، عامةً كانت أو خاصة)(11).
وبناءً على هذه القاعدة فإنه وإن كان الأصل عدم جواز صرف ما عُيِّن لجهة من الجهات في غيرها، إلا أنه يستثنى من ذلك إذا ما حدث في بعض المسلمين ضرورة قصوى لا يمكن تلافيها بدون ذلك؛ فحينئذ لا مانع شرعًا من صرف التبرع لجهة أخرى، فقد أباح الله تعالى للمضطر أكل لحم الميتة، كما أباح الانتفاع بمال الغير بغير إذنه، ولكن يعتبر هذا التصرف بحال الضرورة، وتحدد الاضطرارَ جهةٌ مؤهلةٌ(12).
4– الضرورة تقدَّر بقدرها:
ما تدعو الضرورة لارتكابه من المحظورات إنما يرخَّص منه القدرُ الذي تندفع به الضرورة فقط، فليس له أن يتوسع أكثر، والقاعدة الفقهية تقول: (ما جاز لعذر بطل بزواله).
وهاتان القاعدتان قيد للقاعدة السابقة؛ فإنه ما دام أخذ نسبة للقائمين بأعمال الإغاثة في المبالغ المرصودة لغرض محدد سائغ للضرورة، فإنه لا بد أن يحصر ذلك بقدر العمل فعلًا؛ لأن الضرورة تقدر بقدرها.
ومن تطبيق هذه القاعدة وما قبلها ما تضمنته توصيات الندوة الرابعة لقضايا الزكاة؛ إذ جاء فيها: يستحق العاملون على الزكاة عن عملهم من سهم العاملين ما يفرض لهم من الجهة التي تعينهم، على ألا يزيد عن أجر المثل ولو لم يكونوا فقراء، مع الحرص على ألا يزيد مجموع ما يدفع إلى جميع العاملين والتجهيزات والمصاريف الإدارية عن ثمن الزكاة.
ويجب مراعاة عدم التوسع في التوظيف إلا بقدر الحاجة، ويحسن أن تكون المرتبات كلها أو بعضها من خزانة الدولة؛ وذلك لتوجيه موارد الزكاة إلى المصارف الأخرى.
تزويد مقار مؤسسات الزكاة وإداراتها بما تحتاج إليه من تجهيزات وأثاث وأدوات إذا لم يمكن توفيرها من مصادر أخرى؛ كخزينة الدولة والهبات، والتبرعات يجوز توفيرها من سهم العاملين عليها بقدر الحاجة، شريطة أن تكون هذه التجهيزات ذات صلة مباشرة بجمع الزكاة وصرفها، أو أثر في زيادة موارد الزكاة.
5– الأصل عند اجتماع الحقوق أن يُبدَأ بالأهم:
وهذا ضابط كما يراعى في الحقوق التي في مال الشخص الواحد، فإنه يراعى في واجبات المؤسسات الخيرية إذا لم يمكن تعميم المستحقين، وقد يقع الخلاف فيما هو الأهم؟ لكن المقصود ألا يقدم أحد دون وجه يقتضي تقديمه؛ ولذا كانت القاعدة: (تزاحم الحقوق لا يقدم فيها أحد على أحد إلا بمرجح)؛ كالسبق، وشدة الحاجة.
6– الإنفاق لا يحتمل التأخير:
والأصل في هذه القاعدة أنها في النفقات الواجبة على الشخص نحو زوجته وأولاده الصغار؛ فإنه يجب عليه أن يعطيهم نفقتهم في موعد محدد وبمقدار يفي بالغرض، وليس له أن يؤخرها لتجدد الحاجات، وكذلك المستحقون في المؤسسات الخيرية لا يؤخر صرف استحقاقهم.
7– تأخير العبادة المؤقتة عن وقتها يكون تفويتًا لأدائها:
كل عبادة مؤقتة بوقت يفوت الأداء بفوات هذا الوقت، ويكون فعلها بعد ذلك قضاءً لا أداءً؛ مثل الزكاة عند حولان الحول فيما يشترط له الحول، أو صدقة الفطر قبل صلاة العيد، أو ذبح الأضاحي بعد وقت صلاة العيد إلى آخر وقتها.
8– الفضيلة المتعلقة بهيئة العبادة أولى من المتعلقة بمكانها:
وعلى هذا فلو تردد أحد في الإنفاق على فقراء محاويج لضرورات الحياة، أو أن يُفَطِّر صائمين بالمسجد الحرام فإنفاقه على المحاويج أولى؛ لأن الفضيلة تتعلق بالعبادة نفسها وليس بمكانها.
9– التصرف على الغير منوط بالمصلحة:
أي أن كل من يتصرف عن غيره، سواء بالوكالة أو الولاية تطوعًا أو وجوبًا، فعليه أن يتحرى مصلحة المتصرف عنه، وبناءً عليه فإن الإنفاق على الأعمال الإدارية في المؤسسات الخيرية واستثمار أموالها لا يجوز أن يخالف مقتضى المصلحة؛ بل يبحث المتصرف عنها ويتحرى التصرف على وفقها.
10– الإحسان إلى الأبرار أولى من الإحسان للفجار:
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يأكل طعامك إلا تقي»(13)، الصدقة والإحسان وإن كانا يجوزان للبر والفاجر، والمسلم والكافر، إلا أن المسلم مقدم على الكافر، والمسلم البر أولى من الفاجر.
وسئل ابن تيمية عن إعطاء الزكاة للمبتدع فقال: «المزكي عليه أن يتحرى بزكاته أهل الدين الملتزمين بالشريعة، أما أهل الفجور فلا ينبغي أن يعانوا على فجورهم بالزكاة»(14).
ضوابط متعلقة بتنظيم الجمعيات وأخلاقيات العمل الخيري:
1– التنزه عن مواطن الريبة أولى:
بمعنى أن الجدير بالمسلم أن يبتعد عن مواضع التهم التي تسبب الشك فيه أو اتهامه.
ويمكن أن يستشهد على القاعدة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(15).
2– الخروج من الخلاف أولى:
فعند وجود خلاف بين العلماء في مسألة اجتهادية فيستحب أن يخرج المكلف من الخلاف بفعل ما هو أحوط لدينه.
3– الخطأ لا يستدام ولكن يُرجَع عنه:
فالخطأ إذا اكتشف يجب الرجوع عنه ولا يجوز الاستمرار عليه؛ لأن المخطئ مرفوع عنه الإثم، ولكنه إذا عرف خطأه وأصر عليه واستمر ولم يرجع عنه فلا يكون خطأً؛ بل يكون عمدًا يؤاخذ عليه، وبناءً عليه فإذا تصرف القائم على الجمعية الخيرية باجتهاد ثم تبين خطؤه فعليه الرجوع.
4– خير الأمور أوساطها:
ومعنى القاعدة أن الخير في الاعتدال في كل شيء؛ فالفضيلة وسط بين رذيلتين، وهذا مرجع تقدير القيمة، وما يبذل لكل محتاج، وغيرها.
5– طالب الولاية لا يولى:
فمن طلب أن يكون واليًا، إما برئاسة أو إدارة أو غيرها من المناصب، فإنه لا يولى؛ لأنه بطلبه للمنصب دال على أن له غرضًا دنيويًا، وليس مقصده إقامة شرع الله وأداء حقوق العباد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لا نولي هذا من سأله، ولا من حرص عليه»(16).
6– الفتوى في حق غير المجتهد بمنزلة الاجتهاد:
فمن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يستفتي عالمًا ليعرف حكم الله، ويجب عليه العمل بالفتوى، وإذا كانت الفتوى خاطئة فإنه لا تثريب عليه، كما لا تثريب على المجتهد إذا أخطأ، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، وهذا يدلنا على أهمية أن يكون للجمعيات الخيرية هيئةٌ شرعيةٌ تحيل إليها ما يشكل مما يحتاج لفتوى.
7– كل طاعة لا تصل إليها إلا بمعصية لا يجوز الإقدام عليها:
فلا يجوز غصب ماء للوضوء به، ولا سرقة مال للحج به، وكذلك ليس لجمعية خيرية سلوك طريق محرم لتحقيق مقصد نبيل، فلا يجوز لها استثمار أموالها أو التبرعات التي لديها بالطرق المحرمة؛ كالربا مثلًا.
8– لا طاعة للمخلوق في معصية الله:
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الطاعة في المعروف»(16)، فلا يجوز لأحد أن يطيع أحدًا في معصية الله سبحانه وتعالى.
9– المسلم ملتزم بأحكام الإسلام حيثما يكون:
فلا يجوز للمسلم أن يقدم على فعل مخالف لأحكام الإسلام إذا كان في غير بلاد المسلمين؛ بل يمتثل أحكام الشرع في كل بلد.
10– يقدَّم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها:
وهذه القاعدة توضح الشرط الذي لا بد من توفره في كل من يراد توليته أو إسناد عمل إليه، وهذا يختلف باختلاف المهام والأعمال؛ إذ كل عمل يحتاج لمهارة معينة، فيقدم في كل عمل من كان أدرى وأقوم بمصالحها(18).
إن العمل التطوعي تحتاج إليه الأمم الناهضة، التي تضع في خططها أهدافًا عظيمة تسعى إليها، ولا يتحقق ذلك إلا إذا تعاونت كل فئات الأمة وطوائفها، لكن النظرة الذاتية الضيقة، المعبرة عن الأنانية والطموح الخادع تجعل الكثيرين لا يفكرون إلا في أنفسهم، ويغفلون عن الطوائف التي تلهث إلى رغيف الخبز، ولا تسعفهم أعمالهم البسيطة على سد احتياجاتهم الضرورية، فلا بد أن تكون النظرة عمومية شاملة؛ كالأشعريين الذين جمعوا ما كان لديهم في رداء واحد واقتسموه بالسوية فيما بينهم، فإذا ما انخرط الناس في الأعمال التطوعية فإن التقارب سوف يشمل الكثيرين، وتتلاشى الكراهية والبغض، الذي ينتاب المحتاجين في ظلال الحياة الاجتماعية المكشوفة بكل وسائل الإعلام(19).
ضوابط متعلقة بنجاح العمل:
أولًا: التطاوع:
إذا أراد المجتمعون في أي جماعة من الجماعات التوفيق والسداد والاستمرار فعليهم بالتطاوع، وليحذروا التنازع والاختلاف، فهو شر لا خير فيه.
فالتطاوع أمر في غاية الأهمية لاستمرار العمل الجماعي، وللقضاء على تهويشات الشيطان.
ثانيًا: الصراحة والوضوح وعدم المداهنة:
إذا أراد المجتمعون على أي عمل من الأعمال استمرار هذا العمل ونجاحه فعليهم بالصراحة والوضوح والمناصحة، وليحذروا المداهنة؛ فإن عاقبتها وخيمة، وعلى الجميع أن يقبل ذلك بصدر رحب وبتجرد تام.
فلا ينبغي لأحد أن يستنكف ويستكبر على المحاسبة، ويرفض الصراحة والوضوح.
فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحاسب عماله، وقد حاسب عمر خيار أهل بدر؛ عميرَ بن سعد، وسعدَ بن أبي وقاص، على الرغم من كامل ثقته فيهما.
ثالثًا: اتهام الرأي:
من الأسباب الرئيسة للتفرق والاختلاف الاستبداد بالرأي والاعتداد به، فإذا أراد القوم الاستمرار في العمل فينبغي لكل منهم أن يتهم رأيه، ولا يعتد به إن لم يجد قبولًا عند الآخرين؛ ليكون منصفًا لنفسه وللآخرين، ورضي الله عن سهل بن حنيف عندما قال بصفين: «اتهموا رأيكم على دينكم، فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم»(20)؛ أي لرددته.
رابعًا: الخلاف شر:
لا بد أن يستصحب العاملون في العمل التطوعي هذه المقولة الصادقة التي خرجت من فِيِّ عالمٍ من علماء الصحابة رضي الله عنهم، وهو عبد الله بن مسعود، وذلك عندما أتم عثمان رضي الله عنه الصلاة الرباعية بمنى، فأتم معه عبد الله بن مسعود، فقيل له: «لم اتممت وقد صليتها ركعتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؟»، فعلل ذلك بأن الخلاف شر(21).
فإذا استصحب كل العاملين في العمل التطوعي هذه القاعدة تعافوا عن كثير من أسباب الخلافات الواهية.
فابن مسعود على الرغم من أنه يملك الدليل القاطع على قصر الصلاة الرباعية بمنى، حتى بالنسبة لأهل مكة ومنى، أتم مع عثمان، خشية أن يؤدي خلافه إلى مفسدة أعظم ويحدث ضررًا أكبر.
خامسًا: الحذر من المراء والجدل:
المراء والجدل لا يأتيان بخير قط؛ بل يقسيان القلب ويولدان الإحن والضغائن؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما ضل قوم قط بعد هدًى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل»، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58](22).
قال الأوزاعي رحمه الله: «إذا أراد الله بقوم شرًا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل»(23).
سادسًا: حسن الظن بمن حولك:
والثقة المتبادلة بينهم، وحمل ما يصدر منهم على أحسن المحامل، ومعاملتهم بما تحب أن يعاملوك به صمام أمان للجماعة من الفرقة والاختلاف.
لقد أمرنا ربنا أن نحسن ظننا بجمع إخوة العقيدة، فكيف بمن يربطنا بهم رابط ويجمعنا بهم جامع؟
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وقال صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث»(24).
سابعًا: الحذر من طغيان الغوغائية والغثائية:
لا شك أن الشر يعم والخير يخص، من ذلك تأثر العاملين في مجال الدعوة بما أفرزته الديموقراطية من ممارسات غوغائية غثائية، وطغيانها على حقوق الإمارة الشرعية في الطاعة في المعروف، حيث عد الشارع الحكيم طاعة الأمير من طاعة الله عز وجل فقال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني»(25).
فطاعة الأمير في المسائل التي ليس فيها نص صحيح صريح، وكذلك في تأويل بعض النصوص من أوجب الواجبات على الجماعة، والأدلة على ذلك من السنة وفي عهد الخلافة الراشدة أكثر من أن تحصى، من ذلك:
- ما حدث في صلح الحديبية.
- عزم أبي بكر رضي الله عنه على جمع المصحف، وإمرة أسامة بن زيد، وقتال المرتدين، حيث لم يوافقه عليه أحد قط في أول الأمر(26).
ضوابط العمل التطوعي وسط الأزمات السياسية:
الخلافات والتناحر السياسي من الأزمات الكبيرة التي تعوق المجتمع، بكافة هيئاته ومؤسساته، وتؤثر تأثيرًا سلبيًا على كل المنظومات، خاصة إذا وصلت الأمور إلى مرحلة الفتن التي يحدث فيها الالتباس بين الحق والباطل.
والعمل الخيري، في شكليه الفردي والمنظم، يتأثر بشكل أكبر وسط هذه الأزمات، ولكن التاريخ الإسلامي يزخر بصور للتعامل مع هذه الأزمات والتغلب عليها، وإعلاء قيم فعل الخيرات وإشاعتها وسط هذه الأجواء الملتبسة؛ ليكون العمل الخيري وإعلاء القيم الإنسانية أحد أهم أدوات التغلب على هذه الأزمات والقضاء عليها، والدليل على ذلك ما ورد في الأثر عن معاوية رضي الله عنه أنه قال: «لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت»، قيل: «وكيف؟»، قال: «لأنهم إن مدوها خلّيتها، وإن خَلُّوا مددتها»(27).
وهذه المقولة مع كونها نبراسًا في أحكام السياسة فهي تدخل في كل سياسة، حتى في سياسة الإنسان مع نفسه, فلو طبق الإنسان هذه القاعدة لصار من أعقل الناس، كيف لا وهو يعطي كل شيء حجمه، ويتلافى عما لا يستحق النظر؟
ولكن ثمة ضوابط أخرى يرجى العمل بها ليحقق العمل التطوعي أفضل النتائج، في ظل الأزمات السياسية، ومنها:
المهنية في العمل:
لتحقيق نتائج متميزة وسط كافة الأزمات، لا سيما الأزمات السياسية، فإنه من الأفضل أن تتغلب المهنية بصورتها القصوى على منظومة العمل الخيري، ويهتم القائمون عليه بضرورة عزل العاملين عن كل المؤثرات الخارجية التي تعوق أداءهم أو تؤثر عليه فتجعله دون المستوى المطلوب، وسط أحداث من المفترض أنها أكثر تأثيرًا على الفئات المحرومة، ويجب أن يتحلى العاملون، من الموظفين والمتطوعين، بروح المسئولية والعمل تحت الضغط، والانعزال أو عزل أنفسهم بأنفسهم عن الأحداث كلما كانت حادة ومتوترة؛ من أجل إنجاح مسيرة العمل الخيري، فكلما كانت الأحداث متوترة أثر ذلك على تركيز العاملين، وشتت جهودهم، وذلك في الوقت الذي قد تكون فيه المنظومة الخيرية بحاجة للجهود كاملة؛ بل بزيادة دون نقصان.
الحيادية وعدم الانحياز:
الوضع الطبيعي في الكثير من الجمعيات الخيرية أنها جمعيات لها هدف واضح ومحدد تعمل من أجله، دون أن يكون للقائمين عليها الحق في الشطط والجنوح نحو أهداف غير مدرجة في خطة عملها، وفي ميثاق العمل الخيري والإنساني، الذي يحمل رسالتها التي تقوم عليها.
والحيادية وعدم الانحياز لفئة معينة أو تيار أو جهة أمر يفترضه حسن النية وحسن التقدير، لا سيما في أوقات الأزمات السياسية الداخلية التي قد تتعرض لها إحدى الدول، فالانحياز أمر يعطل مسيرة العمل الخيري، ويحول بين تقديم خدمات فعلية تصب في نهر الإنسانية المجردة المتدفق في دولة الإسلام، التي ينحاز إليها على الدوام، وهو ما يجعل الأمر أشبه بالقبلية والشللية، وهي من أدوات إفشال أي عمل، لا سيما العمل الخيري، في كافة الأوقات، بما فيها أوقات الأزمات، وذلك إذا اقتصر الأمر على فئات وأفراد معروفين ومحددين سلفًا.
عدم خلط العمل الخيري بالعمل السياسي:
السياسة عمل في ظاهره الرحمة، لكنه في باطنه من قبله العذاب، والعمل الخيري عمل إنساني، يجب أن يظل إنسانيًا، يهتم بالإنسان مجردًا، دون البحث في توجهاته السياسية أو أفكاره ومبادئه الحياتية.
والتدخل الخيري بناءً على توجهات ومعتقدات سياسية من الأعمال البغيضة التي تشتت الجهود الخيرية؛ بل هي ما تعوقها، وتُحَوِّل القائمين على منظومتها، إذا كانت لهم توجهات سياسية متطابقة تسيرهم، إلى مجموعة من النفعيين، الذين لا يهمهم سوى تحقيق مصالح شخصية أو مكاسب شخصية.
ويمكن القياس على دور المنظمات الإغاثية العالمية، التي تتدخل في أماكن معينة ولا تتدخل في أماكن أخرى؛ لإيصال رسائل معينة لصالح جهات ترغب في إحكام سيطرتها وتمكنها منها، وهذا ما يلوث العمل الخيري، ويخرجه عن شكله الإنساني المجرد، ويحوله إلى العمل السياسي المقنع، وهو مرفوض في كل الأعراف الإنسانية والأخلاقية، وفي العقيدة الإسلامية التي تستوعب في طبيعتها الخيرية حتى غير المسلمين.
ضوابط العمل الخيري وسط الأحداث الطارئة والكوارث:
السرعة والإنجاز:
السرعة والإنجاز، وضرورة التدخل الفوري، يعتبر هو الأمر الفاصل الذي يحول بين الوصول للأسوأ ودفع البلايا والأخطار المحيقة، التي قد تسلب الإنسان حياته أو إنسانيته إذا تزايدت المشكلة ووصلت إلى الطريق المسدود، الذي تتصاعد فيه الأمور الطارئة، فالعمل الإغاثي هو محاولة لمحاصرة الأخطار ومواجهتها باستعادة التوازن الذي تخلخله الأزمة على كافة المستويات، والتي يكون خسارتها الكبرى هي الأنفس البشرية.
والعمل الإغاثي وسط الأخطار والطوارئ هو أصدق أنواع العمل الخيري؛ لأنه يجبر المغيث بذاته أو بذاته وماله، أو من خلال مؤسسته الخيرية والإغاثية، على خوض تجربة فيها من الخطورة والمجازفة ما قد يعوق أناسًا ومؤسسات وجهات لا متناهية، ومن ثم فإن ضرورة السرعة والإنجاز أمر لا يمكن إغفاله من أجل تحقيق الأهداف الإنسانية الإغاثية القصوى.
المحافظة على الأرواح:
المحافظة على الأرواح هو الهدف الأسمى للعمل الخيري وللعمل الإغاثي، والإغاثة تكون قد حققت أفضل الأهداف على الإطلاق إذا استطاعت أن تتغلب على الأخطار المهلكة، وتحول بين أن يفقد المرء الذي أحاطته النوائب عمره وحياته، والمحافظة على الأرواح، أيضًا، بين المتقدمين للإغاثة، من أفراد ومؤسسات، أمر ضروري لإنجاح منظومة العمل الخيري، فمن الأشياء التي تؤثر سلبًا على العمل الإغاثي هو أن يفقد الشخص المغيث حياته وعمره، وإن كانت تزيد روحه رفعة وذويه من بعده شرفًا ورفعة، وترفع مكانه ومكانته بعون الله في الحياة الآخرة.
الواقع التطبيقي للعمل التطوعي في القرآن الكريم:
قصة ذي القرنين:
ذو القرنين ملك من الملوك الذين ملكوا الدنيا كلها، فدانت له البلاد وخضع له العباد، ذكره الله تعالى لنا في القرآن الكريم ليقدم للأمة مثالًا للحاكم العادل، الذي يجوب الأرض ويمشي في قضاء حوائج الخلق، ولقد كان للعمل التطوعي دور بارز في حياته ودعوته.
فبينما ذو القرنين يجوب في الأرض إذ وقف على يأجوج ومأجوج، وهم قوم طبيعتهم الإفساد في الأرض، وعندها طلب منه مَن يجاورهم أن يبني بينهم وبينهم سدًا، يقول الله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)} [الكهف:93-98].
فكان بناء السد نعمة عظمى للبشرية، وسببًا من أسباب هناء العيش على الأرض، {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا}، قال ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس: {خَرْجًا}؛ أي: أجرًا عظيمًا، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالًا يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدًا.
قال: {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ}؛ أي: إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تجمعونه، ولكن ساعدوني بقوة؛ أي بعملكم وآلات البناء {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}، والزبر: جمع زبرة، وهي القطعة منه.
موسى عليه السلام وتطوعه لسقي الأنعام:
ومن أمثلة العمل التطوعي، الذي قصه علينا الرب العلي جل جلاله، ما قام به نبي الله موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين، مشهد يفيض بالمروءة والشفقة، يقول تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)} [القصص:23-24].
يقول سيد قطب: «لقد انتهى به السفر الشاق الطويل إلى ماء لمدين، وصل إليه وهو مجهود مكدود، وإذا هو يطلع على مشهد لا تستريح إليه النفس ذات المروءة، السليمة الفطرة، كنفس موسى عليه السلام؛ وجد الرعاة الرجال يوردون أنعامهم لتشرب من الماء؛ ووجد هناك امرأتين تمنعان غنمهما عن ورود الماء، والأولى، عند ذوي المروءة والفطرة السليمة، أن تسقي المرأتان وتصدرا بأغنامهما أولًا، وأن يفسح لهما الرجال ويعينوهما.
ولم يقعد موسى الهارب المطارد، المسافر المكدود، ليستريح، وهو يشهد هذا المنظر المنكر المخالف للمعروف؛ بل تقدم للمرأتين يسألهما عن أمرهما الغريب: {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23].
فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما وذودهما لغنمهما عن الورود؛ إنه الضعف، فهما امرأتان وهؤلاء الرعاة رجال، وأبوهما شيخ كبير، لا يقدر على الرعي ومجالدة الرجال، وثارت نخوة موسى عليه السلام وفطرته السليمة، فتقدم لإقرار الأمر في نصابه.
تقدم ليسقي للمرأتين أولًا، كما ينبغي أن يفعل الرجال ذوو الشهامة.
وهو غريب في أرض لا يعرفها، ولا سند له فيها ولا ظهير، وهو مكدود قادم من سفر طويل بلا زاد ولا استعداد، وهو مطارد، من خلفه أعداء لا يرحمون، ولكن هذا كله لا يقعد به عن تلبية دواعي المروءة والنجدة والمعروف، وإقرار الحق الطبيعي الذي تعرفه النفوس: {فَسَقَى لَهُمَا} مما يشهد بنبل هذه النفس التي صنعت على عين الله، كما يشي بقوته التي ترهب حتى وهو في إعياء السفر الطويل، ولعلها قوة نفسه التي أوقعت في قلوب الرعاة رهبته أكثر من قوة جسمه، فإنما يتأثر الناس أكثر بقوة الأرواح والقلوب»(28).
قصة الخضر وموسى عليهما السلام وبناء الجدار:
ومن مشاهد العمل التطوعي الذي يقوم به المسلم وهو يرجو به وجه الله ما قام به الخضر وموسى عليهما السلام، عندما دخلا القرية وطلبا الضيافة، ولكن القوم كانوا بخلاء، لم يقدموا لهم واجب الضيافة، وبينما هما يسيران إذ بجدار أوشك على الانهدام، فقام الخضر ليصلحه، يعاونه في ذلك موسى الكليم عليهما السلام، يقول الله تعالى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف:82].
فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته، ولم يطلب عليه أجرًا من أهل القرية، وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما، كان يخبئ تحته كنزًا، ويغيب وراءه مالًا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة، ولو ترك الجدار ينقض لظهر مِن تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه، ولما كان أبوهما صالحًا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته(29).
***
____________
(1) أخرجه الطبراني في المعجم الصغير (861).
(2) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 21).
(3) مكانة العمل التطوعي في الإسلام، السيد محمد الديب.
(4) أخرجه مسلم (1119).
(5) العمل التطوعي النسائي ضوابط وحدود، المركز الدولي للأبحاث والدراسات، موقع: مداد.
(6) أخرجه أبو داود (3534).
(7) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص251، وابن نجيم، ص75.
(8) الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص339.
(9) تأسيس النظر، ص74.
(10) قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، شهر صفر عام 1408ه.
(11) قواعد الأحكام (2/ 4)، الفروق (2/ 139).
(12) قرار المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، شهر صفر عام 1408ه.
(13) أخرجه أبو داود (4832).
(14) مجموع الفتاوى (25/ 87).
(15) أخرجه الترمذي (2518).
(16) أخرجه البخاري (7149).
(17) أخرجه البخاري (7145).
(18) القواعد والضوابط الفقهية المؤثرة في أحكام العمل الخيري، اتحاد الجمعيات المغاربية.
(19) مكانة العمل التطوعي في الإسلام، مجلة الداعي (العدد:12).
(20) أخرجه مسلم (1785).
(21) أخرجه أبو داود (1960).
(22) أخرجه الترمذي (3253).
(23) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 164).
(24) أخرجه مسلم (2563).
(25) أخرجه البخاري (2957).
(26) ضوابط العمل الجماعي، موقع: رابطة علماء المسلمين.
(27) التفسير الواضح (1/ 799).
(28) في ظلال القرآن (5/ 2686).
(29) العمل التطوعي في الإسلام، المجلس العلمي لموقع الألوكة.