الرموز الدعوية وفقد التوازن
التوازن والاعتدال ظاهرة كونية وحقيقة شرعية لا مراء في ذلك، أما التوازن الكوني فيقول سبحانه: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك:3].
وأما التوازن الشرعي، أي في أحكام الله وتشريعاته، فيقول الحق تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153]، ودين الإسلام دين وسط معتدل في كل أحكامه وتشريعاته: العقدية، والعبادية، والخلقية، والمعاملات، والعلاقات، ففي الحديث: «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعط كل ذي حق حقه»(1).
إن الإسلام دين التوازن والوسطية، ودين الاعتدال والاستقامة، وذلك ما يتفق مع الفطرة السليمة والعقل الصحيح، فإن أخذ الإنسان بهذا المنهج استقام أوده، وانتظمت حياته.
وإن عدل عنه يمنة أو يسرة عصفت به الأهواء في كل واد، واختل من ثم نظام حياته.
والإنسان كائن ضعيف، تستهويه الملذات، وتغريه المغريات، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وقلما يعرف التوازن والاعتدال في سلوكه ومطالبه؛ بل إنه متى استغنى طغى وبغى {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7)} [العلق:6]، وفقد توازنه، ونسي ربه، واستغل عطاء الله الواسع في المزيد من المعاصي والسيئات، لا في المزيد من الحسنات والطاعات.
قد كانوا في الجاهلية شديدي الحماسة، يستجيبون لأول ناعق، ولا يصبرون على الضيم...، وبناء الأمة المسلمة التي تنهض بالدور العظيم، الذي نيطت به هذه الأمة، يقتضي ضبط هذه الصفات النفسية، وتطويعها لقيادة تقدر وتدبر، وتطاع فيما تقدر وتدبر، حتى لو كانت هذه الطاعة على حساب الأعصاب، التي تعودت الاندفاع والحماسة والخفة للهيجاء عند أول داع.
ومن ثم، استطاع رجال من طراز عمر بن الخطاب في حميته، وحمزة بن عبد المطلب في فتوته، وأمثالهما من أشداء المؤمنين الأوائل، أن يصبروا للضيم يصيب الفئة المسلمة، وأن يربطوا على أعصابهم في انتظار أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يخضعوا لأمر القيادة العليا وهي تقول لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ} [النساء:77]، ومن ثم وقع التوازن بين الاندفاع والتروي، والحماسة والتدبر، والحمية والطاعة، في هذه النفوس التي كانت تعد لأمر عظيم.
والدعاة مجموعة من البشر وليسوا ملائكة، بشر فيهم ميول ونزعات، وفيهم نقص وضعف، وفيهم ضرورات وانفعالات، ولهم عواطف ومشاعر، وإشراقات وكثافات.
ومن ثم كان لا بد من هذا التوازن بين التكليف والطاقة، وبين الأشواق والضرورات، وبين الدوافع والكوابح، وبين الأوامر والزواجر، وبين الترغيب والترهيب، وبين التهديد الرعيب بالعذاب عند المعصية والإطماع العميق في العفو والمغفرة، والتوازن في حركاته وأعماله، والضبط في أفكاره وأقواله(2).
والتوازن بالنسبة للإنسان هو أن يستطيع أن يأخذ من مادية الحياة ما يقوم بأمره، كما يأخذ من الروحانية ما يربطه بربه، فالوجود، كما نعلم، خاضع لقوة إلهية عليا، تلك القوة خلقت الكون متوازنًا، فجعلت الليل والنهار، الدفء والبرودة، المطر والجفاف، النجوم والأفلاك، كل هذه المخلوقات، مع عظمتها وجبروتها، متوازنة، لو اختل شيء منها فسدت الحياة، وربما ضاع هذا الكون كله.
والإنسان وحده، دون هذه المخلوقات كلها، هو صاحب الإرادة الحرة، وله الكثير من الاختيار؛ لذلك نراه في مواضع متعددة غير متوازن، فهذا عبد للمادة، وذاك أسير لشهواته، وغيرهما منعزل عن الحياة، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن كلًا من هؤلاء لم يعرف حقيقة الدين(3).
فمما ينبغي أن ينتبه له، في هذه المرحلة الدعوية، هو الهبوط الملحوظ في أسهم كثير من الرموز الدعوية، التي كان لها رنين وطنين، بعد سلسلة متصلة من معارك هدم الرموز، ومباريات تصفية الآخرين معنويًا.
لقد اختلطت الأوراق الدعوية والتربوية في قضايا الولاء والبراء، والحكم والتحاكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، واتسع الخرق على الراقع بشأن الخلافات العلنية والسرية بين زعامات العمل الدعوي، وهذه الظاهرة تؤدي، بصورة متكررة، إلى تصدع في بنيان العلاقات والصلات، التي لا بد منها لاستمرار أي عمل ناجح متواصل.
وهذا بدوره أدى إلى اكتشاف كثير من العاملين للإسلام أنهم كانوا يقعون، بشكل منتظم، ضحية العمل الارتجالي الذي لا يُدرى إلى أين وصل، كما لم يكن يعلم من قبل من أين بدأ، وافتقاد بعض آخر لتوازنهم الفكري نتيجة صدمات واقعية، أفاقوا منها بعدما اكتشفوا أنهم كانوا يكمّلون النقص الخطير في معالم لوحة الصراع من مخيلاتهم، ويملئون فراغاتها بظنونهم.
وبدلًا من إعادة النظر في محاولة تقريب هذا البون، كان اللجوء إلى الهروب هو الحل الأسهل والأمثل، لدى بعض من تعتمد الجماهير على توجيهاتهم، وتنتظر تنظيراتهم.
وعندما تحل المناطحة محل المناصحة، والجدال بالتي هي أخشن بدلًا من التي هي أحسن، فإن نزغات الشيطان وتحريشاته تتسوَّد الموقف، وتتصيد الفرص للإيقاع في انتكاسات، لا يفرح الشيطان بشيء فرحه بها في صفوف المؤمنين، وإذا كانت الحزبية صفةً قبيحةً مقيتةً، فالعنصرية أقبح وأشد مقتًا، ولهذا لا ينبغي أن يكون لهما موضع شبر على بساط النقاش والتقويم.
وبينما تُقطع الأواصر والوشائج مع العلماء، في بعض الأماكن، بما يحرم الدعوة من خير ما عندهم، فإن هناك أماكن أخرى تبالغ في ربط الدعوة الإسلامية كلها بفرد أو ببضعة أفراد من العلماء، بحيث تُرهن قضايا الأمة كلها بكلمات منهم، قد لا تأخذ حقها من النظر والتدقيق، أو قد تكون خارج نطاق تخصصهم أصلًا(4).
فعندما تهب عاصفة قوية على الرموز الدعوية، فإن ذلك يشكل ثَلْمًا واضحًا في صفوف الدعاة والمجتمع ككل؛ بل قد يؤدِّي إلى حدوث إبادة كلية لأيِّ عمل دعوي، وهذا أمر طبيعي عند حدوثه مباشرةً، والمطلوب من الصف الدعوي أن يصنعوا التوازن عند حدوث الحدث، وكذلك التعامل معه في قالب يشكل الاستمرار في العمل الدعوي، وعدم الانحناء أو الفتور.
وهذا بدوره أدى إلى إثارة البلبلة في الصف الإسلامي، وإيجاد حالة من الانهزامية النفسية لدى المسلمين، وذلك من خلال الانسياق في بحر الأزمات؛ مما يولد حالة من عدم الثقة بين المسلمين، فهذا يرمي بالتهمة، والآخر يصدق، ويكون صراع داخلي، وهذا الصراع يزيد من الفرقة بين الأمة؛ مما يسهل تسلط الأعداء، والابتعاد عن القيادة الدعوية، وذلك يولد حالة من الإحباط النفسي بين الصفوف، والضعف والاستكانة أمام العدو(5).
عن الحارث بن يزيد البَكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة، وهي قرية قريبة من المدينة، فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها الطريق؛ أي: ليس معها من يحملها إلى ما تريد، فقالت: يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة؛ فهل أنت مُبَلّغِي إليه؟ قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وبلال متقلد السيف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ قالوا: يريد أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهًا.
قال: فجلست، قال: فدخل منزله أو قال رحلَهُ، فاستأذنتُ عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، فقال: «هل كان بينكم وبين بني تميم شيء»، قال: فقلت: نعم، قال: وكانت لنا الدَّبْرَةُ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالباب، فأذنَ لها، فدخلت.
فقلت: يا رسول الله، إن رأيت أن تجعل بيننا وبين بني تميم حاجزًا فاجعل الدهناء، وهي صحراء معروفة في الجزيرة العربية، فحميت العجوز واستوفزتْ، قالت: يا رسول الله، فإلى أين تضطر مُضرك؟ أين تذهب قبيلة مضر إذا أعطيتَ الدهناء لقبيلة ربيعة؟ وهي القبيلة التي أوفدت الحارث.
قال: قلت: إنما مثلي ما قال الأول: معزاء حملت حتفها، حملتُ هذه ولا أشعرُ أنها لي خصمًا، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوافد عاد، قال: «هيه! وما وافد عاد؟» وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستَطْعِمُهُ.
قلتُ: إن عادًا قحطوا، أي أصابهم القحط والكرب، فبعثوا وافدًا لهم يقال له: قَيْلٌ، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرًا يسقيه الخمر، وتُغَنِّيه جاريتان، يقال لهما: الجرادتان، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال تهامة، فنادى: اللهم إنك تعلم أني لم أَجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه، اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه.
فمرت به سحابات سود، فنودي منها: اختر، فأومأَ إلى سحابةٍ منها سوداء، فنودي منها: خذها رمادًا رِمْدِدًا، لا تبقي من عاد أحدًا.
قال: فما بلغني أنه بُعِثَ عليهم من الريح إلا قَدْر ما يجري في خاتمي هذا، حتى هلكوا.
قال أبو وائل: وصدق، قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم، قالوا: لا تكن كوافد عادٍ(6).
فعندما نتدبر القصة حول قضية حيوية؛ وإشكالية مؤسسية، وظاهرة دعوية، لها من الأسباب والمظاهر، ثم من الآثار السلبية الخطيرة إذا لم تؤخذ بعين الاعتبار؛ لذا، فإن من الأهمية بمكان أن تراعى وتدرس؛ ألا وهيظاهرة سوء سلوك بعض الرموز.
وتخيل هذا الخطأ البسيط الذي يؤكد أن خطأ الفرد يؤدي إلى ضرر المجموع، وتدبر ما فعله الحارث، وما فعله وافد عاد، فكيف إذا كان هذا الفرد رمزًا من رموز الدعوة.
وتدبر كيف اختارت قريش عمرو بن العاص ليكون وافدهم إلى النجاشي؛ ليرد المهاجرين من الحبشة، فما كان من هذه الجالية المسلمة المهاجرة إلا أن اختارت جعفر بن أبي طالب ليحاور، ويرد على محاورات عمرو، حتى نجح في كسب القضية لصالح المهاجرين(7).
ومن الطبيعي أن يشكل المجتمع، الذي يبجِّل هؤلاء الرموز، نوعًا من الحماس، وذلك للمكانة التي يحملها في نفسه تجاه هؤلاء، ولكن من الحكمة أن يفعل هذا الحماس فعلًا إيجابيًا؛ من أجل أن ينصر الحدث، أو يقلِّل من استمراره؛ لأنه في حال فقد التوازن في التعامل مع أي حدث دعوي، يجعل هناك خسائر دعوية على جميع الأصعدة؛ سواء كان ذلك من النشء الدعوي، أو من الأعمال والترتيبات الدعوية، أو ذهاب فترة زمنية لم تُحقَّق فيها مصالح دعوية، أو تبدد المكاسب والإنجازات من ذي قبل، أو حدوث الفجوات بين الرموز الدعوية باختلاف أعمالهم وشخصياتهم.
ومن الأهمية أن لا يفقد التوازن مهما استمرَّ التيار المقاوم، وأن يستمر سلّم العمل الدعوي باختلاف أساليبه(8).
وراعي الشاه يحمي الذئب عنها فكيف إذا الرعاةُ لها الذئاب
مظاهر فقدان التوازن:
إن شأن العمل الإسلامي يختلف مع غيره من الأعمال الحزبية والفئوية، ومن أهم تلك الاختلافات أن الداعية إلى الله أو العالم لا يصح أن يكون عنصرًا تائهًا، أو إضافيًا، أو زيادة عدد فحسب، كما لا يصح أن يكون خافت الأثر أو باهت اللون، إن دور العالم والداعية إلى الله ليظهر في التأثير الإيجابي للإصلاح، والدعوة للبناء دائمًا، والعمل على تجفيف منابع الآلام التي تصيب المؤمنين.
-الاضطراب في المواقف من النظم العلمانية:
إن فصل الدين عن الدولة في الإسلام يؤدي إلى انحراف الدين عن وضعه الصحيح، ووقوع هذا الفصل سوف يؤدي إلى جر الإسلام والمسلمين إلى البلاء والشقاء، وإذا كان ربط الدين بالدولة في أوربا أدى إلى اضطهاد الفكر وخنق الحريات، فإن الإسلام كان في أزهى عصوره عندما قامت فيها الدولة على مبادئ شريعته، وما حدث الجفاء بين الدين والدولة في الإسلام إلا وحدث الضعف، والجمود، والفوضى.
يقول العلامة عبد الرحمن السعدي رحمه الله: «إن الله عقد الأخوة الإيمانية والموالاة والمحبة بين المؤمنين كلهم, ونهى عن موالاة الكافرين كلهم, من يهود ونصارى ومجوس ومشركين وملحدين ومارقين وغيرهم, ممن ثبت في الكتاب والسنة الحكم بكفرهم, وهذا الأصل متفق عليه بين المسلمين, وكل مؤمن موحد، تارك لجميع المكفرات الشرعية، فإنه تجب محبته وموالاته ونصرته, وكل من كان بخلاف ذلك فإنه يجب التقرّب إلى الله ببغضه, ومعاداته, وجهاده باللسان واليد بحسب القدرة»(9).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك, فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله, فيكون الحب لأوليائه, والبغض لأعدائه»(10).
- التغير المتردد في المواقف بين القبول والرفض وطرق التعامل معها:
فما كان حلالًا بالأمس أصبح حرامًا اليوم، وما كان حرامًا بالأمس أصبح من المستحبات, إن لم يكن من الواجبات، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال:«إذا أحب أحدُكم أن يعلم أصابته الفتنة أم لا؟ فلينظر؛ فإن كان رأى حلالًا كان يراه حرامًا فقد أصابته الفتنة، وإن كان يرى حرامًا كان يراه حلالًا فقد أصابته»(11)!
وعن محمد بن سيرين قال: «قال عدي بن حاتم رضي الله عنه:إنكم لن تزالوا بخيرٍ ما لم تعرفوا ما كنتم تُنكرون، وتنكروا ما كنتم تعرفون، وما دام عالِمكم يتكلم بينكم غير خائف»(12)!
عن محمد بن كعب القرظي أنه سئل: ما علامة الخذلان؟ قال: «أن يستقبح الرجل ما كان يستحسن، ويستحسن ما كان قبيحًا»(13).
- التخلي المتزايد عن مبادئ وقيم أساسية في رحلة العمل الدعوي:
قال الإمام الآجري رحمه الله:«قد ذكرت هذا الباب في (كتاب الفتن) في أحاديث كثيرة، وقد ذكرت هاهنا طرفًا منها، ليكون المؤمن العاقل يحتاط لدينه، فإن الفتن على وجوه كثيرة، وقد مضى منها فتن عظيمة، نجا منها أقوام، وهلك فيها أقوام باتباع الهوى، وإيثارهم للدنيا، فمن أراد الله به خيرًا فتح له باب الدعاء، والتجأ إلى مولاه الكريم، وخاف على دينه، وحفظ لسانه، وعرف زمانه، ولزم المحجة الواضحة السواد الأعظم، ولم يتلون في دينه، وعبد ربه تعالى، فترك الخوض في الفتنة، فإن الفتنة يفتضح عندها خلق كثير، ألم تسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحذر أمته الفتن؟ قال: «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا»(14).
- التميع الطارئ في التعامل مع كثير من المسائل الكبرى:
مثل:السعي إلى الوحدة الإسلامية، أو توحيد فصائل أهل السنة، أو السعي لإقامة كيان حقيقي لهم؛ تمهيدًا لإقامة أو إعادة دولة الخلافة.
- التراجع المستمر أمام هجمة الإعلام الشرسة ضد الإسلاميين:
إلى حد تحرج بعضٍ من الانتساب لمنظومة العمل الإسلامي، أو الخجل من استعمال المصطلحات الشرعية التي تزعج أعداء الدين؛ مثل: الموالاة والمعاداة، والإيمان والكفر، والمعروف والمنكر، والتحاكم لله، والجهاد في سبيل الله، ونحو ذلك(15).
ذكر ابن خلدون في كتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر) أن عبيد الله بن مروان فر هاربًا إلى النوبة، بعد زوال ملك بنى أمية, فدخل عليه يومًا ملك النوبة فجلس على الأرض، فقال له عبيد الله: ما يمنعك أن تجلس على ثيابنا؟ فقال: إني ملك! وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذا رفعه الله.
ثم قال: لم تشربون الخمر وهى محرمة عليكم في كتابكم؟ فقلت: اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم، فقال: فلم تطئون الزرع بدوابكم, والفساد محرم عليكم؟ قلت: فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم، قال: فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم؟ قلت: ذهب منا الملك، وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا، فلبسوا ذلك على كره منا.
فأطرق ينكث بيده في الأرض ويقول: عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا, ثم رفع رأسه إليه وقال: ليس كما ذكرت؛ بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم, وأتيتم ما عنه نهيتم, وظلمتم فيما ملكتم, فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم, ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم, وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم, وإنما الضيافة ثلاث، فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي(16).
وهذا هو سبب انحطاط أمتنا، وما نراه الآن؛ من التخبط والعشوائية والتخوين والتكفير، بين أبناء الأمة لأنهم لم يراجعوا دينهم، وصارت أمورهم إلى أهواءهم، فصارت الأمة في مؤخرة الأمم، بعد أن كانت لها القيادة والريادة للعالم بأسره.
يقول شيخ الإسلام: «قال: والعجب من قوم أرادوا بزعمهم نصر الشرع بعقولهم الناقصة وأقيستهم الفاسدة، فكان ما فعلوه مما جرأ الملحدين أعداء الدين عليه، فلا الإسلام نصروا ولا الأعداء كسروا، ثم من العجائب أنهم يتركون أتباع الرسل المعصومين الذين لا يقولون إلا الحق، ويعرضون عن تقليدهم، ويقلدون ويساكنون مخالف ما جاءوا به، من يعلمون أنه ليس بمعصوم، وأنه يخطئ تارة ويصيب أخرى، والله الموفق للصواب»(17).
وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام وصفًا دقيقًا، كما في حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة»، قيل: وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: «السفيه يتكلم في أمر العامة»(18).
إن التجمعات الإسلامية المعاصرة لبنات في بنيان جماعة المسلمين،وخطوات عملية في الطريق إلى إقامتها بمفهومها العام والشامل، ما استقامت على منهج أهل السنة، وبرئت من عقدة التعصب الحزبي أو الطائفي، وأنه لا بأس بتعدد هذه الكيانات الدعوية على أساس التخصص والتكامل، مع الاتفاق في الأصول الاعتقادية، والتغافر والتناصح في المسائل الاجتهادية، والتقائها على وحدة الموقف في المهمات والمسائل العظام، وبهذا يصبح تعددها تعدد تنوع وتخصص، وليس تعدد تنازع وتضاد.
ولا بد من التأكيد على دعم العمل الإسلامي العام، الذي يدور في فلك الأمة بمفهومها الواسع؛ ليتكامل مع العمل الإسلامي المؤسسي، الذي جرت عليه الجماعات الدعوية في واقعنا المعاصر، استيعابًا لطاقات الرموز الدعوية الكبرى، التي يعسر حسبانها على فصيل معين من فصائل العمل الإسلامي، ولا يجمل إلا أن تكون ملكًا لكل الأمة.
والكيان الدعوي الذي لا يلتزم سنن الرشد في دعوته لا يكون بحال مؤهلًا للاستخلاف والتمكين؛ بل يقضي على نفسه بالتهافت والاضمحلال، وسبيله إلى التراجع والانكسار لا محالة! {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17](19).
_______________
(1) رواه البخاري (1968).
(2)في ظلال القرآن، سيد قطب (2/641).
(3) طرق تدريس التربية الإسلامية، د. عبد الرشيد عبد العزيز سالم، ص51.
(4) العمل الإسلامي بين ضرورة المراجعة وخطورة التراجع، عبد العزيز كامل، مجلة البيان، (العدد: 155).
(5) إدارة الأزمات في حياة الدعاة، دراسة على حادثة الإفك، محمد بن علي شماخ، مجلة البيان (العدد: 162).
(6) رواه أحمد (15954).
(7) فقه الظواهر الدعوية في ضوء السنن الإلهية، ظاهرة سوء سلوك بعض الرموز، حمدي شعيب، مجلة البيان، (العدد: 213).
(8) وقفات في أحوال الدعاة، عبد الله سعيد القحطاني، مجلة البيان، (العدد: 238).
(9) الفتاوى السعدية، ص98.
(10) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (28/208).
(11) أخرجه الحاكم (8443).
(12) الإبانة الكبرى، لأبي عبد الله العكبري المعروف بابن بطة (1/190).
(13) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، لأبي نعيم (3/215).
(14) الشريعة، للآجري (1/393)، والحديث رواه الترمذي (2195).
(15) العمل الإسلامي بين ضرورة المراجعة وخطورة التراجع، عبد العزيز كامل، مجلة البيان، (العدد: 155).
(16) تاريخ ابن خلدون (1/259).
(17) مجموع الفتاوى (9/254).
(18) رواه أحمد (7912)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1887).
(19) هل من طريق إلى تدين هادئ، صلاح الصاوي، موقع مدونة د. صلاح الصاوي.