حاجة الداعية للصبر
كما هو مشاهد في الحياة العملية حاجة المسافر للصبر, فإن الداعية في سفره أيضًا، في قافلة الدعاة، بحاجة إلى صبر أخص من صبر المؤمن, فهو يحتاج إلى مراتب أعلى من الصبر الاعتيادي؛ إذ هو بحاجة إلى الصبر على عموم التكاليف، والسعي في مصالح الإسلام, والتنازل عن الكثير من حقوقه, وأن يصبر على رغائب النفس وشهوات الهوى, وعلى انحراف طبائع الناس وغرورهم وأثرتهم والتوائهم, ويصبر على وقاحة الطغيان, وانتفاشة الباطل, وقلة المعين, مع طول الطريق وكثرة العقبات, ووسواس الشيطان.
وكذلك الصبر على هداية الناس وعلى الابتلاء والفتن, وعلى التكذيب بالدعاة, والصبر على مشقة الالتواء والعناد, ومشقة إمساك الناس عن الخير وترددها, وفوق ذلك كله, فالداعية يحتاج الصبر حتى مع أقرانه من الدعاة؛ إذ إنهم من البشر لا يخلو أحدهم من جفوة, وانقطاع ود, وقلة الإنصاف غالبة في طبع البشر, مع أن الداعية لا بد له من الخلطة والصبر عليها, وقد قيل: لا يزهدنك في رجل حمدت سيرته, وارتضيت وتيرته, وعرفت فضله, وبطنت عقله, عيب خفي تحيط به كثرة فضائله, أو ذنب صغير تستغفر له قوة وسائله(1).
فالدعوة الى دين الله عز وجل مهمة عظيمة، علينا أن نعطيها حقها من الصبر والثبات حتى تظهر نتائجها، فليس من السهل ازاحة الركام الهائل من الجاهلية والعادات والتقاليد والأعراف بيوم وليلة، أو بجهد يسير؛ بل هو بحاجة الى مجاهدة ومثابرة وصبر، وعلى الداعية أن يتحلى بقدر كبير من الصبر والتحمل والاحتساب؛ ليواجه ما يراه من استخفاف وازدراء ومحاربة لدعوته.
وإذا كان الصبر ضروريًا لأي إنسان، لا سيما للمسلم؛ فإن الصبر للداعي المسلم أشد ضرورة له من غيره؛ لأنه يعمل في ميدانين:
- ميدان نفسه، يجاهدها ويحملها على الطاعة، ويمنعها من المعصية.
- وميدان خارج نفسه، وهو ميدان الدعوة إلى الله، ومخاطبة الناس في موضوعها.
فيحتاج إلى قدر كبير من الصبر في المجالين؛ مجال النفس ومجال الدعوة، حتى يستطيع تجاوز العقبات وتحمل الأذى؛ فإن فقد الصبر قعد أو انسحب من الميدان، وحق عليه الحساب، وفاته الثواب؛ فالصبر خلق رفيع جليل، به يأتي الفرج، وينال المراد، وهو خلق الأنبياء جميعًا عليهم السلام، والله عز وجل خاطب الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرًا موصيًا إياه بالصبر، فقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127].
واصبر أيها الرسول على ما أصابك مِن أذى في الله حتى يأتيك الفرج, وما صبرك إلا بالله, فهو الذي يعينك عليه ويثبتك, ولا تحزن على مَن خالفك ولم يستجب لدعوتك, ولا تغتم مِن مكرهم وكيدهم; فإن ذلك عائد عليهم بالشر والوبال.
وقال عز وجل: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77].
فاصبر أيها الرسول, وامض في طريق الدعوة, إن وعد الله حق, وسيُنْجِز لك ما وعدك, فإما نرينَّك في حياتك بعض الذي نعد هؤلاء المشركين من العذاب, أو نتوفينَّك قبل أن يحلَّ ذلك بهم, فإلينا مصيرهم يوم القيامة, وسنذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون.
وقال عز من قائل: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج:5]، فاصبر أيها الرسول على استهزائهم واستعجالهم العذاب, صبرًا لا جزع فيه, ولا شكوى منه لغير الله، قال الإمام أحمد: إن الله ما عظَّم شيئًا في كتابه كما عظَّم الصبر، فقد ذكر في أكثر من تسعين موضعًا، فمنها ما ذكر الله من مضاعفة الأجر للصابرين كما في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص:54]، ومنها ما ذكر فيه من توفيتهم أجرهم بغير حساب: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، ومنها ما ذكر من الاستعانة بالصبر على ما يواجه الإنسان: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، وكما في الوصية به في قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}
[العصر:1-3](2).
إنَّ التعقيب بالصبر بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في وصية لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17]، فيه إشارة إلى أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر هو أحوج من غيره إلى الصبر؛ وأن كل من دعا إلى الله وآمن بالله لا بد أن يبتلى وأن يمتحن، ولا بد أن يعادى كما قال سبحانه: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1-2] أي لا يمكن ذلك، ويقول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان:31].
فالصبر هو أساس النصر، حتى عند من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، وقد سُئل الفارس الجاهلي المشهور عنترة بن شداد، فقيل له: كيف تغلب الخصوم إذا بارزتهم؟
قال: كلما قالت نفسي: فر واهرب سيقتلك، قلت لها: اصبري قليلًا لعله يفر قبلي، وما أزال بها حتى يفر.
هكذا الإنسان؛ كلما آتاه الله ابتلاءً فليصبر قليلًا لعل الله أن يكفيه شره، ولعله هو الذي يذهب؛ وبهذه الطريقة يحصل النصر، والله تعالى يقول: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186]؛ أي أن الصبر والتقوى من عزم الأمور، وأهل العزائم معدودون، لكن هؤلاء الأفراد المعدودين هم الذين يعيدون المسيرة كلها؛ لأن هذا الفرد يضع العلامة على الطريق، وهو مثل الذي يتقدم تحت وابل من الرصاص من الأعداء لكي يضع علامة على الطريق ويموت، ثم يأتي الآخر ويضع علامة حتى يمشي عليها الناس، فهذا هو الابتلاء الذي يلاقيه الدعاة والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لأنهم يرسمون طريق العودة لهذه الأمة كلها.
فكل نبي وكل صاحب دعوة له أعداء من المجرمين، وكل آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر له أعداء من المجرمين، فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يُصادم الناس في رغباتهم، وفي شهواتهم، وفي مطامعهم، وفي مآربهم وملذاتهم؛ والناس يتهافتون عليها كما مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بأنهم يتهافتون في النار كما يتهافت الفراش والذباب، ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: «فأنا آخذ بحجزكم عن النار»(3)، وهذا العمل لا يقوم به من بعده صلى الله عليه وسلم إلا العلماء والدعاة، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لأن الناس يتهافتون على ما يضرهم(4).
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3].
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة، أو الجماعة المسلمة، ذات الكيان الخاص، والرابطة المميزة، والوجهة الموحدة، الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها، والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح، الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعمل الصالح، فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى.
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة، فالقيام على الإيمان والعمل الصالح، وحراسة الحق والعدل، من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة، ولا بد من الصبر، لا بد من الصبر على جهاد النفس، وجهاد الغير، والصبر على الأذى والمشقة، والصبر على تبجح الباطل، وتنفج الشر، والصبر على طول الطريق، وبطء المراحل، وانطماس المعالم، وبعد النهاية، والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة، بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف، ووحدة المتجه، وتساند الجميع، وتزودهم بالحب والعزم والإصرار، إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها، ولا تبرز إلا من خلالها، وإلا فهو الخسران والضياع(5).
ورد في صحيح البخاري عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، أو يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصده ذلك عن دينه، والله، ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء الى حضرموت لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»(6).
إن الابتلاء على طريق الدعوة هو من سنن الله سبحانه وتعالى الكونية التي جرت على الرسل والأنبياء والدعاة والصالحين، فلا يستوحش من طريق سبقه عليه هؤلاء القدوات، ثم يوقن الداعية أنه إذا صبر على البلاء بأنواعه لله تعالى فإنه موعود بعظيم الأجر والجزاء من الكريم الوهاب، ثم يحرص الداعية على تعميق عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر، وأن يدرك أن ما أصابه لم يكن ليخطئه؛ بل هو مقدَّر عليه قبل أن يخلق، وليس له إلا الرضا والتسليم.
إن من يريد أن يدعو إلى الحق عليه أن لا يصاب بالملل والضجر؛ فإنه لن يصل في الدعوة إلى ما وصل إليه نبي الله نوح عليه السلام، الذي أمضى الألف سنة إلا خمسين عامًا في دعوته لقومه، لم يكل ولم يمل من دعوتهم إلى طريق الله، رغم أنه لم يجد نتيجة بعد كل هذه السنين، وقد صبر الخليل إبراهيم عليه السلام على كل ما نزل به، فجمع له الحطب الكثير، وأوقدت فيه النار فألقي فيها، فكانت بردًا وسلامًا، وموسى الكليم عليه السلام يصبر على أذى فرعون وجبروته وطغيانه، وصبر عيسى عليه السلام على تكذيب بني إسرائيل له، فصبر على كيدهم ومكرهم، حتى أرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، ولكن الله نجاه من شرهم، وقد جاء التوجيه الرباني لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو خير الدعاة وإمامهم، فقال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35].
فطريق الحق طريق محفوف بالمكاره، والصبر هو زاد الذين يسلكون طريقه، ويبلغون به غايات الفوز والفلاح.
فمن أراد النصر فعليه بالصبر، قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24].
بالصبر يظهر الفرق بين ذوي العزائم والهمم وبين ذوي الجبن والضعف، ولذلك وَعَى السلف الصالح أهمية الصبر عند وقوع الفتن والحوادث(7).
فلما كان الصحابة رضي الله عنهم يعذبون ويفُتنون في صدر الإسلام بمكة كان يمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم ويذكرهم بالصبر، ومنهم آل ياسر، فإذا مر بهم قال: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»(8).
قال النعمان بن بشير: «إنه لم يبق من الدنيا إلا بلاء وفتن، فأعدوا للبلاء صبرًا».
وقال عليه الصلاة والسلام: «أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على حسب دينه؛ فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه»(9).
وقد ذم الله عز وجل من لم يصبر على الأذى من أجل الدعوة إلى الله، فقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]؛ ولهذا قال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ الله أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، وقال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179](10).
وتبرز أهمية الصبر في الدعوة إلى الله عز وجل في عدة أمور، منها:
أولًا: أن الابتلاء للدعاة إلى الله لا بد منه:
فلو سلم أحد من الأذى لسلم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وعلى رأسهم إمامهم محمد بن عبد الله، عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام، فقد أُوذوا فصبروا، وجاهدوا حتى نصرهم الله على أعداء الدعوة إلى الله تعالى، ولا شك أن كل داعية مخلص يصيبه الأذى، وإن سلم أحد فذلك من أندر النوادر.
ثانيًا: الصبر يحتاجه الداعية في ثلاثة أحوال:
1- قبل الدعوة؛ بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على الوفاء بالواجب.
2- أثناء الدعوة، فيلازم الصبر عن دواعي التقصير والتفريط، ويلازم الصبر على استصحاب ذكر النية، وعلى حضور القلب بين يدي الله تعالى، ولا ينساه في أمره.
3- بعد الدعوة، وذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن يُصبِّر نفسه عن الإتيان بما يُبطل عمله، فليس الشأن الإتيان بالطاعة، وإنما الشأن في حفظها مما يبطلها.
الوجه الثاني: أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها، والتكبر، والتعظم بها.
الوجه الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فإن العبد يعمل العمل سرًّا، بينه وبين الله سبحانه، فيكتب في ديوان السر، فإن تحدث به نُقل إلى ديوان العلانية(11).
ثالثًا: الصبر في الدعوة إلى الله عز وجل بمثابة الرأس من الجسد:
فلا دعوة لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا إيمان لمن لا صبر له، كما أنه لا جسد لمن لا رأس له»(12)، فإذا كان ذلك في الإيمان فالصبر في الدعوة إلى الله تعالى من باب أولى.
رابعًا: الصبر في الدعوة إلى الله تعالى من أعظم أركان السعادة الأربعة:
قال سبحانه وتعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر:1-3]، كما قال ذلك سماحة العلامة ابن باز رحمه الله تعالى.
خامسًا: الدعوة إلى الله سبيلها طويل تحف به المتاعب والآلام:
لأن الدعاة إلى الله يطلبون من الناس أن يتركوا أهواءهم وشهواتهم التي لا يرضاها الله عز وجل، وينقادوا لأوامر الله، ويقفوا عند حدوده، ويعملوا بشرائعه التي شرع، فيتخذ أعداء الدعوة من هذه الدعوة عدوًا يحاربونه بكل سلاح، وأمام هذه القوة لا يجد الدعاة مفرًّا من الاعتصام باليقين والصبر؛ لأن الصبر سيف لا ينبو، ومطية لا تكبو، ونور لا يخبو.
سادسًا: الصبر عليه مدار نجاح الدعاة إلى الله تعالى:
ولا شك أن الداعية إذا فقد الصبر كان كمن يريد السفر في بحر لُجِّي بغير مركب {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60]؛ ولهذا أوصى به الحكماء من أتباع الأنبياء، فهذا لقمان الحكيم عندما أوصى ابنه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قرن ذلك بالصبر {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]، فهو عندما أمره بتكميل نفسه بطاعة الله أمره أن يكمّل غيره، وأن يصبر على ما ينزل به من الشدائد والابتلاء.
سابعًا: الداعية إلى الله عز وجل لا يكون قدوة في الخير مطلقًا إلا بالصبر والثبات عليه:
كما قال سبحانه في صفات عباد الرحمن: {...وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74]، وهذه الإمامة في الدين لا تحصل قطعًا إلا بالصبر، فقد جعل الله الإمامة في الدين موروثة بالصبر واليقين {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]، فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل به لا بد فيه من صبر، والداعية لا بد له من أن يعلم الحق ويعمل به حتى يقوم بالدعوة، ولا يقوم بالدعوة إلا بالصبر على ما أصابه.
ثامنًا: الصبر، مع الأخذ بالأسباب، ينتصر به الداعية على عدوه:
من الكفار والمنافقين، والمعاندين، وعلى من ظلمه من المسلمين، ولصاحبه تكون العاقبة الحميدة، قال عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:120]، وقال تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [آل عمران:186]، وحكى الله عن يوسف عليه الصلاة والسلام قوله، وبأي شيء نال النصر والتمكين، فقال لإخوته حينما سألوه: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90], ولا بد، بعون الله وتوفيقه، من النصر للداعية المتقي الصابر، العامل بما أمره ربه، ومن ذلك الأخذ بجميع الأسباب المشروعة {وَاصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115].
تاسعًا: الصبر من أهم المهمات للداعية:
لأنه لا يكون داعية مُوَفَّقًا إلا إذا كان صابرًا على دعوته وما يدعو إليه، صابرًا على ما يعترض دعوته من معارضات، صابرًا على ما يعترضه هو من أذى.
عاشرًا: الصبر يشتمل على أكثر مكارم الأخلاق:
فيدخل فيه الحلم؛ فإنه صبر عن دواعي الانتقام عند الغضب، والأناة: صبر عن إجابة دواعي العجلة، والعفو والصفح: صبر عن إجابة دواعي الانتقام، والجود والكرم: صبر عن إجابة دواعي الإمساك، والكيس: صبر عن إجابة دواعي الكسل والخمول، والعدل: صبر إذا تعلق بالتسوية بين المتماثلين، وسعة الصدر: صبر عن الضجر، والكتمان وحفظ السر: صبر عن إظهار ما لا يحسن إظهاره، والشجاعة: صبر عن إجابة دواعي الفرار، وهذا يدل على أهمية الصبر في الدعوة إلى الله تعالى، وأن الداعية لا يسعه أن يستغني عنه في جميع أحواله.
الحادي عشر: الصبر سبب حصول كل كمال:
فأكمل الخلق أصبرهم؛ لأن كمال الصبر بالعزيمة والثبات، فمن لم يكن له عزيمة فهو ناقص، ومن كان له عزيمة ولكن لا ثبات له عليها فهو ناقص، فإذا انضم الثبات إلى العزيمة أثمر كل مقام شريف وحالٍ كامل، ولهذا يُرْوَى: «اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد»(13)، وشجرة الثبات والعزيمة لا تقوم إلا على ساق الصبر(14).
الثاني عشر: الصبر يعين الداعية على ضبط النفس:
ضبط النفس عن الاندفاع بعوامل الضجر، والجزع، والسأم، والملل، والعجلة، والرعونة، والغضب، والطيش، والخوف، والطمع، والأهواء، والشهوات، وبالصبر يتمكن الداعية أن يضع الأشياء مواضعها، ويتصرف في الأمور بعقل واتِّزان، وينفِّذ ما يريد من تصرف في الزمن المناسب بالطريقة المناسبة الحكيمة(15).
____________________
(1) أدب الدنيا والدين، للماوردي، ص174.
(2)أهمية الصبر، سفر الحوالي.
(3) رواه البخاري (6483).
(4) حاجة المحتسب للصبر، موقع المحتسب.
(5) في ظلال القرآن، سيد قطب (6/3968).
(6) رواه البخاري (3612).
(7) نماذج في الصبر، موقع طريق الإسلام.
(8) صححه الألباني في فقه السيرة، ص103.
(9) سنن ابن ماجه (4023).
(10) أنواع الصبر ومجالاته، سعيد بن علي بن وهف القحطاني، ص6.
(11) عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين، لابن القيم، ص90.
(12) فتاوى ابن تيمية (10/4).
(13) رواه الترمذي (3407).
(14) طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم، ص440.
(15) أنواع الصبر ومجالاته، ص12، بتصرف شديد.