logo

ضوابط التعامل مع الصراعات العقدية


بتاريخ : الأربعاء ، 2 شعبان ، 1444 الموافق 22 فبراير 2023
بقلم : تيار الاصلاح
ضوابط التعامل مع الصراعات العقدية

إن الصراعات الفكرية تبدو في ظاهرها سلمية ومسالمة، فلا ترى فيها إشعال نار، ولا تسمع إطلاق قذائف، ولا تفوح منها رائحة دماء، إلا أنها في نتائجها وعواقبها أشد فتكًا وأكثر دمارًا من الحروب التقليدية؛ لأن الحروب التقليدية نهايتها خراب ودمار وزوال حكم أو نظام حكومة، وتبقى أحوال الناس ودياناتهم كما هي.

وأما الصراعات الفكرية العقدية فهي صراعات من أجل تغيير فكر وتغيير مبدأ وعقيدة؛ بل تغيير دين.

على الرغم من أن المشترك الأسمى "العقيدة" هو أوثق وأقوى الروابط بين البشر، فهي كذلك أخطر وأشرس أنواع الصراعات.. وهذا شيء بدهي يسوق إليه المنطق العقلي: فأقوى أنواع الترابط لا بُدَّ أن ينشأ عن محاولات كسرها أشرس أنواع الصراعات، كما يسوق إليه حديث التاريخ: فأشد الحروب الإنسانية ضراوة وأطولها عمرًا هي الحروب التي اشتعلت بسبب الاعتداء على هذا المشترك الأسمى.. الدين؛ الحروب التي نشأت بسبب العقيدة كانت أشد من الحروب الناشئة على أي سبب آخر، حتى الحروب التي نشأت على الطعام والشراب والموارد الاقتصادية، أو نشأت لتوسيع النفوذ وزيادة رقعة الدولة أو الإمبراطورية، لا شيء أكثر إلهامًا وإثارةً وتحفيزًا للطاقات في النفس الإنسانية من العقيدة والدين.

وإدراكًا لحقيقة أن الدين هو أقوى الروابط، وأكثر العناصر الفعالة لإثارة الطاقات وتفجير المواهب الإنسانية، فإن كثيرًا من الزعماء يستعملونه غطاءً لمصالحهم الذاتية العاجلة، التي تقتضي أن يحشدوا الناس إلى حربٍ تضيع فيها أرواحهم ودماؤهم؛ لذا فإن كثيرًا من المعارك تتحول من حرب لأهداف غير عقدية إلى معارك عقدية بعد مرور وقت، فتأخذ بُعْدًا أكبر من بعدها الأصلي، فلا تنتهي حتى لو تحقَّقَت المصلحة (1).

وإن أكثر ما يهدر بعض الدعاة وطلبة العلم فيه أوقاتهم من الصراعات والمناكفات، من المراء المذموم شرعًا، الذي يمرض القلوب ويضيع نفيس الأوقات؛ وأن المطلوب منهم نشر الخير بين الناس وعدم الالتفات إلى المجادلين ومرضى القلوب.

أسباب احتداد الصراعات العقدية:

من أهم أسباب احتداد الصراعات العقدية الداخلية، في هذه الأيام التي لم يُعرف لها نظير في خطورة التحديات الخارجية:

مشاركة العامة في مناقشة الدقائق العقدية، بسبب مرض التعالم، وهوس الثرثرة، وما أكثر الخنفشاريين، والمتعالمين، والمتفيقهين وأدعياء العلم في عصرنا هذا.

وصدق ابن حزم رحمه الله عندما قال: لا آفة على العلوم وأهلها أضر من الدخلاء فيها وهم من غير أهلها، فإنهم يجهلون ويظنون أنهم يعلمون، ويفسدون ويقدرون أنهم يصلحون (2).

والحال أن أكثر هؤلاء لا قدرة لهم على تمييز الحق من الباطل بالدليل العلمي المعتبر، وإنما هو الميل مع كل ريح، واتباع كل ناعق، والتخندق بالهوى، والتعصب بالرأي الفطير، والحكم بالتصنيف المبتسر.

يتدخل في موضوعات علمية معقدة لا ناقة له فيها ولا جَمل، ويشرق ويغرب، ويطلق التعميمات، ويظهر نفسه بمظهر أهل العلم، ويتشدد في مسائل فقهية، كان الأصل فيها التيسير، ويحيل إلى كتب لم يشم رائحتها، وعند التتبع يتضح أنه يعمل في مجال بعيد عن العلم، ولا يحسن قراءة النص الشرعي، والفرق بين أصول العلم وفروعه، يا أخي.. كما أن مزاولة المهن العلمية تحتاج إلى تخصص وتعمق، فكذلك الشأن في المسائل الشرعية؛ بل هي أجدر بذلك؛ تفاديًا للقول على الله تعالى بدون علم، وقديمًا قيل: من تكلم في غير فنه أتى بالعجائب (3).

وتبني المواقف الحدية، فشغله الشاغل وهوايته المفضلة تتبع زلات العلماء وهفواتهم للتشهير بهم، والتنفير عنهم، ونبذهم بألقاب ومسميات عديدة، وإسقاط هيبتهم ومكانتهم، ولم يدرك أنه (كواو عمرو) أمام هؤلاء العلماء، وأنه لم يصل إلى مدهم ولا إلى نصيفهم في خدمة الإسلام؛ حيث أفنوا حياتهم وزهرة شبابهم في العلم والعمل، وأن لحوم العلماء مسمومة.

وإن لسان المرء ما لم تكن له        حصاة على عوراته لدليل

الموقف الصحيح من الصراعات العقدية:

هل هذا يعني أن نكون محايدين مطلقًا في مثل هذه الصراعات؟

أما العامي (وأغلب أهل مواقع التواصل “عوام” في صورة “علماء مجتهدين”): فحقه ألا يدخل في هذه الصراعات أصلًا، بل يعتقد الأصول العامة التي جاءت صريحة في الوحي، دون تدقيق لا تطيقه مؤهلاته العلمية والعقلية، وهذه الأصول الكبرى تكاد تكون محل اتفاق بين الطوائف العقدية كلها.

وأما العالم وطالب العلم الجاد: فعليه أن يحرر هذه المسائل بميزان العلم والعدل، فالحق في أكثرها واحد لا يتعدد.

ولا إشكال في أن يسمي البدعة بدعة، والسنة سنة، ما دام منطلقًا من هذا الميزان الصحيح، لكن عليه أن يرقب الله في قوله، فلا يكون متفكهًا بهذه الألقاب، فرحًا بإطلاقها وعرضها على العوام؛ بل عليه أن يكون مشفقًا على المتلبس بها ناظرًا إليه بنظر القدر بعد الحكم عليه بنظر الشرع، ويرى أنه إنما يصدر هذه الأحكام تسننا وحماية لجناب الدين.

قواعد يجب مراعاتها عند احتداد الصراعات العقدية:

1- التفريق بين القول والقائل، والفعل والفاعل، فقد يكون الفعل كفرًا لكن صاحبه ليس بكافر.

ومن الأقوال المأثورة والمؤثرة، تلك الحكمة القائلة: العقول العظيمة تناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول التافهة تناقش الأشخاص (4).

المفكر الناصح أو المصلح الصادق مثل الطبيب يهتم بمحاربة "المرض" لا محاربة "المريض" لأنه يحاول إنقاذه وعلاجه لا أن يقتله، لهذا أرى أن هناك فرقًا بين نقدنا للفكرة واحترامنا للمفكر، أو بمعنى آخر يجب أن نفصل بين نقدنا للقول ورفضنا له، وبين تقديرنا لشخص القائل من إخواننا وأصدقائنا وأقاربنا (5).

في الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه» (6)، فهنا لعن عليه الصلاة والسلام شارب الخمر مطلقًا، وهذا بلا شك ذم وتجريم لهذا الفعل، ولكنه عليه الصلاة والسلام في حديث صحيح آخر؛ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارًا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إنه يحب الله ورسوله» (7)، فنهى عن لعن الشخص بعينه مع كونه ارتكب كبيرة ملعون مقترفها.

وقد أدرك ابن تيمية رحمه الله هذا الفرق القائم على الفصل والتمييز بين مشروعية لعن الفعل بصورة عامة، والنهي عن لعن الفاعل المعين، فقال: فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر، وشهد له بأنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، مع لعنه شارب الخمر عمومًا، فعُلم الفرق بين العام المطلق، والخاص المعين (8).

2- حفظ المقامات والأقدار، والتريث في تخطئة من اجتمعت كلمة المسلمين على تعظيمه والاحتفاء بكبير غنائه في العلم والدعوة، فضلًا عن تبديعه أو تكفيره.

قال الشيخ السعدي: ومن أعظم المحرمات وأشنع المفاسد إشاعة عثراتهم والقدح فيهم في غلطاتهم، وأقبح من هذا وأقبح إهدار محاسنهم عند وجود شيء من ذلك، وربما يكون –وهو الواقع كثيرًا – أن الغلطات التي صدرت منهم لهم فيها تأويل سائغ ولهم اجتهادهم فيه، معذورون والقادح فيهم غير معذور؛ وبهذا وأشباهه يظهر لك الفرق بين أهل العلم الناصحين والمنتسبين للعلم من أهل البغي والحسد والمعتدين، فإن أهل العلم الحقيقي قصدهم التعاون على البر والتقوى، والسعي في إعانة بعضهم بعضًا في كل ما عاد إلى هذا الأمر، وستر عورات المسلمين وعدم إشاعة غلطاتهم والحرص على تنبيههم بكل ممكن من الوسائل النافعة، والذب عن أعراض أهل العلم والدين، ولا ريب أن هذا من أفضل القُرُبات، ثم لو فرض أن ما أخطأوا أو عثروا ليس لهم تأويل ولا عذر، لم يكن من الحق والإنصاف أن تهدر المحاسن وتمحى حقوقهم الواجبة بهذا الشيء اليسير، كما هو دأب أهل البغي والعدوان، فإن هذا ضرره كبير وفساده مستطير، أي عالم لم يخطئ وأي حكيم لم يعثر؟ (9).

إن من حسن خلق المؤمن أن ينزل الناس منزلتهم، ويعطيهم قدرهم؛ ففيه ترقيق للقلوب، وتأليف للأفئدة، وترقية للسلوك، وتقريب المسافات، واعتراف بفضل أهل الفضل... فكما أن الإنسان مطالب بنسبة الفضل إلى الله -صاحب الفضل والإنعام-؛ كما قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53]، وكما قال سبحانه: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ} [هود: 88]، ويقول عز وجل: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40]، فكما أن العبد مطالب بنسبة الفضل إلى الله تعالى، فعليه أن لا ينسى الفضل لأهله من البشر، ويعمل على إنزال الناس منازلهم.

عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: لما كان عام الفتح ونزل النبي صلى الله عليه وسلم ذا طوى قال أبو قحافة لابنة له كانت من أصغر ولده: أي بنية، أشرفي بي على أبي قبيس، وكان قد كف بصره، فأشرفت به عليه... فذكر الحديث بطوله، وفيه: فلما دخل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المسجد خرج أبو بكر رضي الله عنه حتى جاء بأبيه يقوده، فلما رآه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «هلا تركت الشيخ في بيته حتى آتيه»! فقال: يمشي هو إليك يا رسول الله، أحق من أن تمشي إليه، وأجلسه بين يديه، ثم مسح على صدره، فقال: «أسلم تسلم»، ثم قام أبو بكر (10).

وقال المناوي: احفظوا حرمة كل واحد على قدره، وعاملوه بما يلائم حاله في عمر ودين وعلم وشرف؛ فلا تسووا بين الخادم والمخدوم، والرئيس والمرؤوس، فإنه يورث عداوة وحقدًا في النفوس، والخطاب للأئمة أو عام (11).

قال الذهبي: إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وروعه واتباعه، يغفر له زلله، ولا نضلله ونطرحه، وننسى محاسنه، نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك (12).

ومن سبل تحقيق احترام الذات عدم التطاول على الآخرين، فمن تطاول على الناس تطاولوا عليه، ومن نال منهم نالوا منهم، والعكس بالعكس، وهذه قاعدة قررها أهل العلم استنباطًا من قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].

قال النووي في شرح مسلم: قال العلماء: فالله نهى عن سب آلهة الكفار وهو أمر مباح ومندوب إليه شرعًا لما فيه من إغاظة الكافرين وإغاظتهم قربة لله جل جلاله، ومع ذلك نهى الله عن ذلك السب وجعله محرمًا لكونه يفضي إلى سب الله جل جلاله، ومن هذا قالوا إن سد الذريعة في هذا واضح (13).

3- إعمال الموازنة بين السيئات والحسنات، بالتسامح مع قليل الأولى لأجل كثير الثانية، فإن الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.

قال ابن تيمية: إذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة، فيجتمع له من هذا وهذا، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة، وخالفهم الخوارج والمعتزلة ومن وافقهم عليه، فلم يجعلوا الناس لا مستحقًا للثواب فقط ولا مستحقًا للعقاب فقط (14).

الإصلاح العقدي للأمة:

لا يمكن أن يحدث في حياة الأمة الإسلامية انتعاش معتبر إلا بإصلاحٍ عقدي يرشـد تحمل الأمة لعقيدتـها لتقع في النفوس من جديد موقع الدفع إلى العمل الصالح المعـمـر في الأرض والمنتمي للـحياة.

وتحمل العقيدة يكون على درجات:

أولها الفهم؛ وذلك بتـصور العقيدة على حقيقتـها كما ورد بـها الـوحي، وثانـيها التصديق بحقيقتـها سواء في نسبتها إلى مصدرها أو قيمتها الذاتية في تأسيس الخير والصلاح، وثالـثها صيرورتها موجهًا للفكر في كل ما يتوجه إليه بالبحث، ورابعـها صيرورتها دافعـة للإرادة كي تنطـلق في العمل والإنجاز، وفي كل واحدة من هذه الدرجات في تحمل الأمة لعقيدتها اليوم خلل يستوجب الإصلاح لتعود العقيدة عامل نهضة حضارية كما كان عند إنشاء التحضر الإسلامي في دورته الأولى.

1ترشيد الفهم:

ويعني أن يكون تصور العقيدة مطابق لما هي في حقيقتها التي جاءت عليها في الوحي خالصة من الزيادة والنقصان والـتغير والاضطراب، ويشمل ذلك ثلاثة عناصر:

أ. مصادر الفهم:

جاءت العقيدة الإسلامية بينة في نصوص القرآن والحديث، وكان فهم نصوص الوحي قدرًا مشتركًا بين جميع المسلمين بحيث يمتنع أن يدعي أحد احتكار فهم تلك النصوص وتفسيرها ونصب نفسه الناطق الرسمي باسمها لتصبح أفهامه وشروحه ملزمة للناس، واتفق المسلمون على مفاهيم العقيدة التي وردت النصوص بشأنها قطعية الثبوت والدلالة، واختلفت أفهامهم في بعض القضايا التي وردت ظنية في الثبوت أو الدلالة أو فيهما معًا.

ولكن اختلاف المسلمين في فهم بعض القضايا التي وقع فيها الاختلاف لم يقف عند ما تقتضيه الحجة العلمية في التعامل مع النص وثبوته أو دلالته؛ بل داخلته ملابسات متعددة (سياسية واجتماعية واقتصادية وحضارية ثقافية) ليتحول إلى صراع تجاوز حدود العدالة والقسط، ووصل إلى تحكميات المكابرة والأهواء التي لا تستند إلى الأدلة والـحـجج، والناظر اليوم في كتب العقيدة ودواوين الفرق يجد أنها فيما هو مختلف فيه ينأى كثير منها عن مقتضيات نصوص الوحي والروح العامة والمقاصد الكلية للقرآن والسنة، ويعبر عن الـتشبث بالتمايز في سياق التعصب المذهبي.

ب. مدلول العقيدة:

كان مدلول العقيدة في أذهان المسلمين يمتد على مساحة تمثل الأسس الكبرى من المعاني مثل الوحدانية والنبوة والبعث والجزاء وما تنطوي عليه من المعاني الجزئية؛ ولكن مدلول العقيدة في مساحة أخرى من المعاني قد تعرض للتقلص والانحسار بعد أن كان جزءًا من حقيقة التصديق والتحمل، ولكن المتأمل في الموضوعات التي تناولها علم العقيدة بالبحث يجد أنها لم تستوعب كل مساحة مدلول العقيدة؛ بل اقتصرت على قضايا كانت مورد شبهة وتساؤل في عصر التدوين الذي شهد مواجهات ومدافعات أثبت العلماء ما يختص بها ولم يتطرقوا إلى مسائل لم تدع الحاجة للدفاع عنها، وبمرور الزمن أصبح كثير من متأخري المسلمين يظن أن مدلول العقيدة ينحصر فيما دونه العلماء من قضايا، وأن غيرها من مسائل الفكر والعمل هي مسائل شرعية وليست عقدية.

فانحسرت من مدلول العقيدة في الأفهام مسائل أخرى ذات معانٍ عقدية يـدخل التصديق بها في دائرة الإيمان ويـخرج التكذيب بها إلى دائرة الكفر، ومن أمثلة هذه القضايا حاكمية الشريعة الإسلامية، وموالاة الكفار، ومهمة الخلافة في الأرض كغاية لحياة الإنسان، والعدالة الاجتماعية كقاعدة لبناء المجتمع، فهذه القضايا وأمثالها رغم ما لها من مدخل في تحقيق الإيمان وعدمه؛ إلا أنها لا تدخل اليوم ضمن دائرة العقيدة عند كثير من المسلمين، فقضايا العقيدة لا تنحصر في عالم الغيب دون وصل له بعالم الشهادة من واقع الحياة، وهذا يقودنا إلى النقطة الثالثة:

ج. مفردات العقيدة:

إن ترشيد مدلول العقيدة يستلزم إدراج عدد من المفاهيم في الوعي الاعتقادي للأمة بحيث تصبح هذه المفاهيم مفردات اعتقادية وأسس في الدين، ويصبح الإخلال بها إنما هو إخلال في الدين، وذلك لإرجاع المفاهيم إلى نصابها الحقيقي على الوضع الذي جاءت به في نصوص الوحي، وكما كانت عليه في أذهان أوائل المسلمين، وترشيد مفردات العقيدة يمكن أن يتناول قضايا متنوعة؛ منها ما هو ذو بعد استخلافي، وبعضها ذو بعد اجتماعي، وآخر ذو بعد كوني، ورابع ذو بعد تشريعي، وهي في عمومها متصلة متداخلة.

وهذه القضايا جميعًا وكثير مما يتصل بها ليس غائبة عن دائرة الوعي الاعتقادي فحسب، بل إنها تتعرض –في نفس الوقت– لتحديات كبيرة من قِـَبل الثقافة الغربية بمذاهبها الفكرية وامتداداتها في الفنون والآداب والقانون والسياسة، فضلًا عما تتعرض له عقيدة الحاكمية من هجوم مباشر من المذهب العلماني وأنصار القانون الوضعي.

وبعد ترشيد الفهم للعقيدة ومفرداتها لا بد من ترتيب هذه المفردات لتحديد حجم الاهتمام بها وأقدار حضورها في الوعي ومدى استخدامها في الإيقاظ والتوجيه والدفع، وذلك ضمن رؤية كلية وفهمٍ للاعتبارات العملية في وافع الأمة وحاجاتها في مواجهة التحديات المعاصرة، فالتحديات القديمة والاعتبارات التاريخية والنزاعات بين الفرق والمذاهب لا تصلح معيارًا لتحديد حجم الاهتمام والحضور لأية قضية، إذ أن أكثرها لم يبق منه اليوم شيء ذو قيمة عملية واقعية.

2التـصديق:

وحينما ينتظم فهم العقيدة على الأسس التي بيناها فيما يتعلق بمصدر العقيدة ومدلولها ومفرداتها، فإن ذلك لا محالة سينعكس رشادًا في تصور العقيدة التصور الصحيح كما عليه في مصادرها، وكما كانت عليه في عهد السلف من الصحابة والتابعين، حين اندفعوا بتصورهم ذاك يعمرون الأرض تعميرًا شاملًا ويبنون حضارة إنسانية، فالعقيدة الإسلامية ليست مفاهيم تنحصر قيمتها في التصديق القلبي بها، وإنما ذلك هو جزء من الإيمان بها فحسب، والشطر الثاني من تلك القيمة هو ما يحدثه الإيمان بالعقيدة من أثر شامل في حياة الإنسان الفكرية والعملية، وتلك هي النقطة الفارقة بين العقيدة الإسلامية وسائر العقائد الأخرى.

ولو تأملت حال المسلمين اليوم لرأيتهم يصدقون بالقلب ولكنهم لا يعملون بمقتضى تصديقهم في السلوك، فيجري السلوك على غير مقتضى الاعتقاد، ولعل هذا الوضع هو النتيجة لما انتهى إليه أهل السنة من تقرير أن الإيمان هو التصديق بالقلب، وأن العمل بمقتضاه كمالًا من كمالاته فحسب، والحال أن سلف الأمة من الصحابة والتابعين لم يكونوا إلا معتبرين الإيمان تصديقًا وإقرارًا وعملًا في غير تفصيل ولا فصل قد يؤول إلى ما وصل إليه المسلمون اليوم.

3استقامة الفكر:

الفكر يسبق العمل، وليس العمل إلا نتاجًا للفكر، ولا يكون الفكر سديدًا رشيدًا إلا إذا كان موصولًا بالاعتقاد، صادرًا عنه، ويتم ذلك حين يكون المسلم في كل ما يفكر فيه لإنتاج الرؤى والأفكار والمخططات والمشاريع العملية مستحضرًا للعقيدة، لا مجرد مفردات يحملها في ذهنه؛ بل حال يحمله على تكييف الفكر ابتداءً من القصد والدافع والعزم، وانتهاءً بالمعاني والمقاصد في كل أمر يتوجه للبناء فيه حتى تكون العقيدة هي الروح السارية والإطار الجامع في كل فكرة وفي كل محاولة لبناء نظرية أو تفسير ظاهرة أو تطبيق قاعدة وقانون.

ويمكن أن يتم هذا الترشيد بصورتين متكاملتين:

الصورة الأولى: أن يعمد الفكر الشرعي إلى كل محور من محاور الشريعة فيقدم بين يديه مبحثًا عقديًا يتعلق به، ويكون كالسند لقضايا المحور يوجه بناءها وترتيبها والاجتهاد فيها عن قرب، فمحور الاقتصاد والمعاملات يتقدمه بحث عقدي عن حقيقة المال وحقيقة الملكية ووظيفة المال والثروة في المفهوم الإسلامي، ومحور أحكام الأسرة كذلك يتقدمه مبحث في التصور الإسلامي للمرأة والرجل وطبيعة العلاقة بينهما وقداسة الروابط الاجتماعية، وهكذا، بحيث لا يخلو باب من أبواب الأحكام الشرعية إلا ويستند إلى مبحث تأصيلي من مباحث العقيدة.

والصورة الثانية: أن تقرن القضايا والأحكام المندرجة في محاورها العامة بمغازيها العقدية القريبة.

وبالتكامل بين هذين الصورتين يكون الفكر الشرعي وهو يعالج واقع الأمة بأحكام الشريعة موجهًا بالعقيدة في كل حال.

فما من حكم يتقرر إلا وقد توجه بمغزى عقدي كلي عام، فتصبح الشريعة موصولة بالعقيدة فتسري روح العقيدة في كل خاطرة فكر أو كل حكم شرعي.

4استقامة العمل:

ربما كان الخلل الأفدح الذي يصيب المسلمين منذ زمن هو انقطاع الأعمال عن موجاتها العقدية أكثر مما هو انقطاع فكرهم عنها، ولعل هذا هو أحد معاني الحديث النبوي الذي تعوّذ فيه النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، فهو تعوذ من صورة ذهنية صحيحة في ذاتها مبنية على مقتضيات عقدية ولكن العمل عند حاملها لا يجري على حسبها؛ بل يجري منحرفًا عنها مقطوع الصلة بموجبها العقدي فلا يكون للعلم حينئذ نفع، ولا ينصلح هذا الخلل إلا بتعدية التوجيه العقدي إلى العمل أيضًا بعد تعديته إلى الفكر، وذلك بحضور المعاني العقدية حضورًا دائمًا في ضمير المسلم حال مباشرته العمل سواء كان تعبديًا بالمعنى الخاص أو عملًا تعميراي عامًا على مستوى الفرد والمستوى الجماعي العام.

وربما عُـبّر عن هذا المعنى من التأطير العقدي للعمل بتعبير جريان الأعمال على مقتضى مقاصد الشريعة، والتي ترجع في مجملها إلى المقصد الأعلى؛ وهو تحقيق خير الإنسان وصلاحه بالتزام أوامر الله ونواهيه، وهو حقيقة عقدية كـلية، فيكون جريان الأعمال على تحقيق مقاصد الشريعة تعبيرًا عن الصلة بين العمل والعقيدة، ودوران العمل على مقاصد الشريعة بوصفها رابطًا بينه وبين العقيدة يقتضي أن نلحظ في الأعمال كلها مالاتها في الواقع الإنساني من المصلحة والمفسدة فتبنى بحسب تلك المالات وتتعدل وتتكيف بحسبها أيضًا.

إن من عناصر الرشاد في الاعتقاد إذن أن تصبح العقيدة التي يتحملها المسلمون إطارًا مرجعيًا وحيدًا وشاملًا، منه يصدرون بـدءً ومعادًا في التفكير كله لتحصيل صور الرؤى والأفكار والحقائق، وفي التطبيق العملي السلوكي لتلك الأفكار والصور والرؤى، واعتقاد لا يكون له هذا الدور التوجيهي الشامل الملزم هو اعتقاد مخـتل لا يأتي بثمار ولا يحرك إلى خير.

5التفعيل الإرادي للاعتقاد:

جاءت العقيدة الإسلامية بمفهوم عملي للاعتقاد، فأصبح التصديق الذهني ليس معتبرًا في ذاته إلا قليلًا وإنما تكتمل قيمته بما يؤدي إليه من أعمال، وهذا ما أشار إليه ابن خلدون حيث قرر أن المعتبر في التوحيد ليس هو الإيمان فقط الذي هو تصديق حكمي؛ وإنما الكمال فيه حصول صفة منه، تتكيف بها النفس، والمقصود بهذه الصفة ذلك السلطان الذي يكون للعقيدة على الإرادة فيوجهها في طريق الأعمال.

وقد كانت الأجيال الأولى من المسلمين تتنزل العقيدة في نفوسهم تنزلًا مباشرًا بما يدفع إرادتهم إلى الأعمال بما تقتضيه العقيدة في الواقع في وجوهه جميعًا، ولكن خلفت أجيال من المسلمين بعد ذلك وقعت العقيدة في نفوسهم موقعًا باهتًا لا يمتد أثره إلى الإرادة ليحركها لتدفع الجوارح إلى العمل، فقد انحدرت إليهم تقليدًا من الآباء ولم يكابدوا فيها معاناة التأمل، وجنحت عند البعض لتكون أقرب إلى ظاهرة عقلية مجردة، فيها مغالاة التفصيل والتقرير والمجادلة وليس فيها ما يؤثر في مجامع النفس وكيان الإنسان كله لتدفعه إلى إنجاز الأعمال.

ولذلك كان لزامًا أن يمتد ترشيد الاعتقاد ليشمل علاقة العقيدة بالإرادة الفاعلة لتثمر إنجاز العمل الصالح المؤسس للنهضة.

وربما يكون هذا الترشيد متمثلًا بالأخص في أمرين أساسيين:

1الجزم الاعتقادي، وذلك أن تكون العقيدة متأتية بالاقتناع الذاتي الحاصل بمعاناة التأمل والتدبر في مفردات العقيدة ومبادئها الأساسية، والمقصود بذلك استنهاض الفطرة الاستدلالية الكامنة في النفوس على قدر مشترك بينها، وهذا الاستنهاض اليوم متوفر الدواعي والآلات والمقدمات أكثر من أي وقت مضى، فقد فـُتحت من كتاب الكون صفحات كثيرة وبانت آيات الله فيه جلية واضحة وبان كذلك خسران وفشل وقصور المذاهب التي وضعتها أهواء الناس، ومن هذه الآيات وتلك يمكن تأليف مادة ذات فعالية تربوية شديدة لاستنهاض فطرة المسلمين في هبة دعوية تربوية شاملة.

2الإحياء الروحي، وذلك أن يتصل التصديق للعقيدة بكافة الطاقات الإنسانية العقلية والروحية والعاطفية، فقد عزز من الوضع المختزل لتحمل العقيدة نشوء علم الكلام علمًا عقلياً لرد الهجوم العقلي على أصول الدين، ثم تطور على ذلك باطراد حيث قام على المقايسة العقلية الصرف في شيء كثير من التجريد والجفاف.

فلا بد من أن يخالط القناعات العقلية معاني الخوف والرجاء والحب والشوق، ولا يخفى أن العواطف وأشواق الروح لها من التأثير على الاندفاع في العمل ما يوازي أو يفوق التصديق العقلي المجرد، فلا بد من إحياء روحي للاعتقاد بحيث تعرض العقيدة في أبعادها العقلية والروحية والعاطفية في آن واحد فتنتشر في جميع حناياها فتجيش إذن بالعزم الذي يدفع الجوارح إلى السعي العملي، استجابة لقناعة العقل وتلبية لنداء العاطفة وأشواق الروح لتتعامل النفس مع مقتضيات وآداب الإيمان بأسماء الله الحسنى وصفاته العليا بتوازن واعتدال (15).

------------

(1) العقيدة أوثق الروابط وأشرس الصراعات– الحضارة- قصة الإسلام.

(2) رسائل ابن حزم (1/ 345).

(3) خطـورة التعالم وسمومه/ منتديات الألوكة.

(4) جواهر العقول (ص: 182).

(5) نقد القول وتقدير القائل/ موقع مداد.

(6) أخرجه أبو داود (3674).

(7) أخرجه البخاري (6780).

(8) منهاج السنة (5/ 101).

(9) الرياض الناضرة (ص: 90).

(10) الإصابة في تمييز الصحابة (4/ 375).

(11) فيض القدير (3/ 57).

(12) سير أعلام النبلاء (5/ 271).

(13) شرح الترمذي للشنقيطي (12/ 17).

(14) مجموع الفتاوي (21/ 209).

(15) دور الإصلاح العقدي في النهضة الإسلامية/ الصفوة للدراسات الحضارية.