logo

عام مضى وانقضى


بتاريخ : الخميس ، 29 ذو الحجة ، 1443 الموافق 28 يوليو 2022
بقلم : تيار الاصلاح
عام مضى وانقضى

إن في سير الأيام آية لكل معتبر، آية لكل متعظ، آية لكل لبيب مدكر، آية {لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37].

تمر الشهور بعد الشهور، والأعوام بعد الأعوام، ونحن في سبات غافلون، فطوبي لعبد اغتنم حياته فيما يقربه إلى ربه ومولاه، وطوبى لعبد شغلها بالطاعات، واتعظ بما فيها من العظات وانقضاء الأعمار، قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: 5- 6].

واعلم أن الليل والنهار مراحل تطوى وتنقضي، فيوم أمس شاهد عليك، ويومك الحاضر محل عملك، وغدًا قد لا تدركه، فلا تدري أتكون فيه من الأحياء أم من الأموات؟

منازل الليل والنهار تطوى وتنقضي، والمسافرون أنا وأنت وهو وهي قاعدون لا نشعر بهذا السفر، ومن الغريب العجيب أن الله سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورًا، والواقع أن تعاقب الليل والنهار أصبح غشاء عند كثير من الناس، ينسيه النهار ما كان في الليل، ويلهيه ليله عما كان في نهاره، وهلم جرًا، أصبح تعاقب الليل والنهار فتنة له، لا ذكرى ولا عبرة.

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلنا: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: «ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها» (1)، هذه حال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الدنيا، وهذا الحديث يبين لنا بيانًا واضحًا أن الحياة قليلة مهما كانت في الغاية من السعادة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أسعد الخلق، أسعد الناس، أسعد بني آدم، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعد هذه الدنيا كالظل الذي يستظل به السائر في طريقه، يحتمي به من الشمس ثم يخرج بعد أن قال واستراح لمواصلة سيره، وهذا يبين لنا أن الدنيا مهما طابت فهي سريعة الرحيل، سريعة الزوال، هي دار قليلة المكث، فالواجب على من نصح نفسه أن يجتهد في مرضاة ربه، وأن يبالغ في تحقيق العبودية لله عز وجل جهده وطاقته، على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الدنيا وما فيها، مهما بلغت من النعيم، ومهما كان فيها من البهرج بقوله صلى الله عليه وسلم: «ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع!» (2).

هذه هي الدنيا بما فيها من الملذات، وما فيها من أنواع التنعمات، شأنها شأن الذي وقف على اليم ثم غمس يده في اليم وأخرجها، فما الذي يعلق في يده مقارنة بما بقي في اليم؟! لا يذكر، وهذا وصف لما يمكن أن يحصله الإنسان في هذه الدنيا من النعيم الذي يفوته في الآخرة إذا كان ممن حصل لهم الغاية في التنعم في هذه الدنيا (3).

والإنسان دائرٌ بجهده ونِيَّاتِهِ في دروب العاجلة يسير ويسير ويضنيه المسير، لا تتوقف حركته ولا تنطوي صفحته إلا بعد بلوغ أجله المقدور، ولا بد له في دنياه من عمل وكدح ونصب، إما بالخير والمنفعة، وإما بالشر والأذى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق: 6].

فكل لحظة تمر على العبد إما أن يكون فيها من الرابحين، وإما أن يكون من الخاسرين، ولا منزلة بينهما على الإطلاق.

سرعة الأيام والأعوام تستدعي المحاسبة:

وعلى الإنسان في وداع العام أن ينتبه قبل فوات الأوان إلى عجلة الأيام وكر السنين، فما فتئ العالم يستقبل العام الفائت حتى انصرم من بين أيدينا سراعًا كأنه لحظات خاطفة، ودارت أطواره متلاحقة بعضها من وراء بعض، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54].

وإن هذه الأطوار التي لا يفلت منها أحد من أبناء الفناء، والتي لا تتخلف مرة فيمن يمد له في العمر، ولا تبطئ مرة فلا تجيء في موعدها المضروب، إن هذه الأطوار التي تتعاور تلك الخليقة البشرية لتشهد بأنها في قبضة مدبرة، تخلق ما تشاء، وتقدر ما تشاء، وترسم لكل مخلوق أجله وأحواله وأطواره، وفق علم وثيق وتقدير دقيق: {يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (4).

وهكذا العمر بين أطوار الولادة والصبا والشباب والشيخوخة والهِرَمِ ثم الموت، فإذا الطفل من مَيْعَةِ الصبا إلى سن الشباب، وإذا الشيخ الفاني قد واراه التراب، كأننا زرع يحصد، ومن وراء ذلك حساب يشيب من هوله الرضيع ويستولي الهول على الجميع، قال الله تعالى: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17]، وقال الله تعالى بيانًا لهذه الملحمة التي غفل عنها الغافلون وذكرها قليل من الذاكرين: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24]، وقال الله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا} [الكهف: 45].

ذكر الإمام الطبري تعقيبًا على هذه الآية المباركة: فلا يفخر ذو الأموال بكثرة أمواله، ولا يستكبر على غيره بها، ولا يغترنّ أهل الدنيا بدنياهم، فإنما مَثَلُها مثل هذا النبات الذي حَسُن استواؤه بالمطر، فلم يكن إلا رَيْثَ أن انقطع عنه الماء فتناهى نهايته، عادَ يابِسًا تذروه الرياح فاسدًا تنبو عنه أعين الناظرين، ولكن ليعمل للباقي الذي لا يفنى، والدائم الذي لا يبيد ولا يتغير (5).

وقال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20]،

والمعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء، وعن علي قال لعمار رضي الله تعالى عنهما: لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوبٌ ومنكوحٌ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة، وأكثرُ شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها (6).

وعلى هذا يجب الاعتبار بتعاقب الليل والنهار، وما يقلبهما الله على الخلق إلا للوقوف على بدائع قدرته ولطائف صنعته، قال الله تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44]، وقال الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 160]، وسبحان الله، جعل في مرِّ الأيام وتوالي السنين عبرةً لأصحاب الحِجا وأهل النظر، قال الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62].

فقسم الله تعالى جهود البشر إلى طريقين حيال تتابع الليل والنهار، إما استلهام العبر وحسن التذكر، وإما مقابلة النعمة وتقييدها بالشكر، وكما يقول العارفون: الشكر قيد النعم.

يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]، فهذه دعوة من الله عز وجل لي ولك؛ أن ننظر في مستقبل أعمارنا، وما قدمناه لغدنا، فإن غدًا لناظره لقريب، فهل ستقبل الدعوة، وتحيا أنفاسك في يقظة من الغفوة، فوالله قد طال السبات، وقرب الفوات، وأناخت بجوارك السكرات يا أسير الغفلات، فاغتنم العمر، وبادر بالتقى قبل الممات، قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: أدركت أقوامًا كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه (7).

أيها الساهي، الحياة قصيرة وإن طالت في نظرنا، والكل منا يعلم أن الحياةَ الدنيا لها أشكال كثيرة، وألوان عديدة، ويريد البعض منا أن ينال من لذائذها، ويستمتع بشهواتها، ويحظى بساعاتها، وغفل أن حياتنا الدنيوية متعتها زائلة، وشهواتها رخيصة فانية، مهما بذل الإنسان في سبيلها، وسعى في تعميرها، وتربع على عروشها، وجال في قصورها، فهي ساعات قصيرة يوشك أن تنقصي، ولحظات بسيطة تكاد أن تنتهي، ثم بعد ذلك سيلقى كل منا حتفه، ويعاين مصيره ورمسه.

قال مطرف بن عبد الله: إن هذا الموت قد أفسد على أهل النعيم نعيمهم، فالتمسوا نعيمًا لا موت فيه (8).

ولا ندري من يعيش يومًا آخر أو عامًا جديدًا؛ بل لو تأملنا أعمارنا على اختلاف فيما بيننا لوجدنا أن عمرنا المنصرم سواء أكان أربعين سنة أم ثلاثين أم عشرين؛ أشبه بدقائق مرت مرور الكرام، وهكذا الحياة الدنيا قصيرة؛ فالحذر من التقصير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابرُ سبيل»، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك (9).

فالحذر الحذر من الاغترار بالدنيا، والانغماس في شهواتها، قال أحد السلف: لو فارق ذكر الموت قلبي ساعة لفسد (10)، فالإنسان المسلم يُؤمن بما بعد هذه الحياة الدنيا فيُدرك قيمة الزمن، ويُسخر ساعات هذه الحياة للبِرِّ والتقوى، وللعمل بما يُرضى الله تعالى: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88- 89].

كيف نتعامل مع الزمان:

إذا كان من علامات الساعة تقارب الزمان؛ فيحسن بالمرء المسلم أن يكون ضنينًا بوقته، فالزمان من أبرز خصائصه سرعة انقضاء وقته، فهو يمر مر السحاب، ويجري جري الرياح، وفي هذا يقول أحد الشعراء:

مرت سنين بالوصــال وبالهنا             فكأنها من قصرها أيام

ثم انثنت أيامُ هجــرٍ بعـدها             فكأنها من طولها أعوام

ثم انقضت تِلك السنونُ وأهلُها              فكأنها وكأنهم أحلام

فالواجب استغلال تلك الأنفاس التي لا تعود، واغتنام ساعات العمر ولحظات الحياة بما ينفع العبد يوم الوقوف بين يدي ربه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ» (11)، وليكن لك في استغلال الوقت مثل ابن عقيل الحنبلي؛ إذ كان إذا أراد أن ينام جمع عنده رزمة من أوراق، فيكتب أفكاره، وعصارة عقله قبل أن ينام، هذا فقط الوقت الفارغ، وللوقت الذي ليس فيه كدٌ وتعب، وقد ترك من هذا الوقت قبل النوم وبعد النوم سبعمائة مجلد اسمه كتاب الفنون.

واستغلال الوقت أن تكون كالخطيب البغدادي الذي كان يذهب إلى المسجد وكتابه في يده، ويعود من المسجد وكتابه في يده، وسواءً أكان كتابًا، أو تسبيحًا بأصابعك، أو قراءة شيء من القرآن؛ المهم أن دقيقة واحدة لا تفوت من عمرك هباء منثورًا.

استغلال الوقت أن تكون مثل جد شيخ الإسلام أحمد بن تيمية؛ إذ كان حينما يدخل المرحاض يقول لابنه: اقرأ وارفع صوتك حتى أسمعك وأنا هناك لئلا يضيع الوقت (12).

واستغلال الوقت يكون مثل الإمام البخاري الذي كان يقول: أنام فأتذكر الحديث فأقوم خمس مرات، أو ست مرات، فأضيء السراج في الليل، وأكتب شيئًا من الحديث وأنام، فيتذكر فيضيء السراج فيكتب، ويتذكر ويضيء السراج فيكتب، فلا يزال كذلك طول الليل.

استغلال الوقت يكون كما كان الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله يحمل المحبرة وعمره سبعين سنة؛ قد شَاخ، ودنا أجله، ورقَّ عظمه، فقيل له: تحمل المحبرة وأنت في السبعين، قال: مع المحبرة إلى المقبرة.

وهكذا هو السمو:

همةٌ تنطح الثريا وعزمٌ               نبويٌ يزعزع الجبالَ

خذ العبرة:

فلنا في الراحلين آية وأي آية، كانوا بالأمس معنا، نآكلهم، نشاربهم، نضاحكهم، نمازحهم، وسبحان الله ها نحن اليوم نودعهم، وفي باطن الأرض نواريهم، فارقوا الأهل والأحباب، واستبدلوا بالقصر المنيف، والمسكن الهانئ؛ بيت الدود والتراب، وأنت يا عبد الله اليوم على ظهر هذه الدنيا، وغدًا أنت في جوفها، فماذا أعددت للرحيل، نسأل من الله لنا ولك النجاة يوم الدين.

وبعد انتهاء الحراك الدنيوي الذي كان لأجل نِيَّاتٍ شتى يقف الإنسان بين مفارق الطرق، وقد ضعف بدنه وتضاءلت قوته وظهرت عليه مخايلُ الفِراقُ العاجلِ أو المتأخر قليلًا.

وكلما مر الزمن وتناءت الذكريات كلما اقترب الوعد الحق وآذنت الدنيا من ابن آدم بوداعٍ منها للقاء الملك الأعلى بعد انتهاء رحلة العمر، يقول الحسن البصري عليه رحمة الله: يا بن آدم إنما أنت أيام مجموعة كلما ذهب يوم ذهب بعضك (13).

ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت يومًا مثل ما ندمت على يوم غربت فيه شمسه نقص فيه عمري ولم يزد فيه عملي (14).

وقال لقمان الحكيم لولده في إحدى وصاياه: يا بُنَيَّ: لا تركن إلى الدنيا ولا تشغل قلبك بها فإنك لم تخلق لها، وما خلق الله خلقًا أهون عليه منها، فإنه لم يجعل نعيمها ثوابًا للمطيعين، ولا بلاءها عقوبة للعاصين، يا بُنَيَّ: إن الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيه ناس كثير، فلتكن سفينتُك فيه تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله عز وجل لعلك تنجو وما أراك ناجيًا (15).

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه: ألا إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل (16)، ويقول الحسن أيضًا: المؤمن في الدنيا كالغريب لا ينافس في عزها، ولا يجزع من ذلها، للناس حال وله حال، وجهوا هذه الفصول حيث وجهها الله (17).

وعندما تستولي لعاعات الدنيا على قلوب وعقول الخلق فغالبًا ما يؤثرونها على الباقية، قال الله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)} [الأعلى: 16- 17]، وقال يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى: لو كانت الدنيا تبرًا يفنى والآخرة خزفًا يبقى؛ لكان ينبغي للعاقل إيثار الخزف الباقي على التبر الفاني؛ فكيف والدنيا خزف فان والآخرة تبر باقٍ؟ (18).

وفي العام الذي يودعنا الآن كانت علينا لله فيه أمانات ومسئوليات وقد سلمناها وأُودِعَتْ عند خالقنا العظيم وسنراجعها بعين اليقين في يوم يبعثون: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103)} [المؤمنون: 102- 103].

كشف حساب:

وكما مر العام علينا شاهدًا على أعمالنا فكذلك الحياة ستمرُّ بكل أطيافها وأحلامها العجاف، والخوف كله أن نخرج منها مُثْقَلينَ بوصمات الذنوب والمعاصي، وعند مقابلة الله تعالى سيجد كل فردٍ ما عمل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30].

ونحن إذن على مفرق عاميْن نقف وقفةَ الاعتبار والتفكر والاستفادة من الأحداث لا وقفة المهنئين، فما نعلم على الحقيقة إن كنا من الفائزين أم من الخاسرين، ونحن نقدم كشف حسابٍ عن العام الفائت، وأنَّى لنا بعلم الحقائق في بابِ القبول؟

ولهذا ينبغي على كل عاقلٍ أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة يستطلع فيها مرابحَهُ من صالح الأعمال، ويقف على سوءات معاصيه واجتراحها عله أن يصلح في قادم الأيام ما أفسده في فوائت الأيام والأعوام.

ذكر ابن أبي الدنيا: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنّه أهون عليكم في الحساب غدًا، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزيّنوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ} [الحاقة: 18] (19).

ومن حكمة الإنسان أن يحاسب نفسه كل يوم على خمس صلوات مفروضة في بيوت الله تعالى، مع إضافة النوافل والرواتب والسنن حسابًا يوجب عليه بعد ذلك عدم التفريط في المرابح "السنن" ناهيك عن رأس المال "الفرائض"، وعلى زكاته وأعدادها وأوقات وجوبها ودقة مصارفها، وعلى أهل الأرحام والتماس أسمائهم وأعدادهم وضبط مواعيد الزيارة لهم حتى لا يدخل بجفوته لهم في عداد القاطعين لأرحامهم، وأن يحاسب نفسه في ماله من أين يكتسبه وفيم ينفقه، كما صرحت بذلك الأحاديث الشريفة، وأن يحاسب نفسه على عمره الذي يتسرب منه في أتفه المناشط فضلًا عن أن ينفقه في معصية، وأن يراجع نفسه في شئون أسرته ومجتمعه ووطنه وعن واجبه الذي قصر فيه فيما قد سلف، وان ينظم أصحابَ الحقوق عليه من أهل وأبناء وجيران فلا يطغى مرغوبٌ على مرغوبٍ ولا يشغله واجبٌ عن أوجبٍ، وهكذا في جميع المآخِذِ والمَتَارِكِ والشئون حتى تستقيم له حياته ويطمئن بالله قلبه ويكتب اسمه دومًا في ديوان الموَفَّقِينَ.

وكلما حاسب المؤمن نفسه ازداد من صالح العمل فزاد رصيده عند ربه ونما رأس ماله من الطاعات، فتكون الأعوام التي تمر عليه منحةً وعطاءً وزيادةً له من الأجور عند مولاه، قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى: لا خير في الحياة إلا لتائبٍ، أو رجلٍ يعمل في الدرجات، يعني أن التائب يمحو بالتوبة ما سلف من السيئات، والعامل يجتهد في علو الدرجات ومن عداهما فهو خاسرٌ كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر 1- 3]، فأقسم الله تعالى أن كل إنسانٍ خاسرٌ إلا من اتصف بهذه الأوصاف الأربعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر على الحق، فهذه السورة ميزان الأعمال يزن بها المؤمن نفسه فيبين له بها ربحه من خسرانه، ولهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: لو فكر الناس كلهم فيها لكفتهم (20).

غربة المؤمنين في الدنيا:

نحن في غربةٍ موحشة من هذه الدنيا ولولا يقين الإيمان لتقطعت نفوسنا حسرات، وما لنا في الدنيا إلا ابتغاء الآخرة بحسن العمل.

ولما خُلِقَ آدم أُسكِن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطهما منها، ووعدا الرجوع إليها وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبدًا يحنُّ إلى وطنه الأول لأنه وارث أبويه في الجنة، كلما ذُكرتْ عنده زاد شوقه وتناهت لوعته لأنه يطمع أن تكون مستقره بعد نقلته من غربة الدنيا إلى نعيم الآخرة.

ومهما طال العمر بالإنسان فإن له مع ربه عز وجل موعد يلقَاهُ فيه ويُفارِقُ الدنيا وأهلها، لأن الله تعالى لم يكتب الخلود لأحدٍ من البشر، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)} [الأنبياء: 34- 35]، فأين قوم عاد الذين بوأهم الله في الخلق بسطة وأطال أعمارهم ومنحهم القوة التي لا تضارع لدرجة أنهم كانوا ينحتون من الجبال قصورًا ومساكن فارهة؟، وأين الأنبياء وقد كانوا نور الدنيا وقفاة هدايتها بعد أن عاش أطولهم عمرًا في دعوته فقط ما يقارب ألف عام، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ} [العنكبوت: 14]، ذهبَ الجميع بعد فناء الأعمار على مدار الأقدار، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68].

وتمضي الحياة:

ستمضي بنا الحياة لا تلوي على شيء كعادتها، ونحن على بساط الأمل في تشاغلٍ مقيتٍ بالتوافه الفانية، بينما يباغتنا القدر في ذواتنا وأحبائنا بالموت أو المرضِ أو الغربة، وهذا شأن الدنيا بأعوامها وأيامها ولياليها، بل نحن الذين نرحل ونمرض ونرضى ونسخط ونعلو ونهبط وتدور علينا مراسيم الحياة.

وما أجمل استدراك الأماني بالرجاء، مع صدق الدعاء أن يغير الله الحال إلى أطيب حال بعد استنفارِ الهمم وعدم النكوص في حفر المعاصي والخطأ، كما كانت للناس في العام الفائت سوابق وخوافي من السيئات، والأولى أن تكون سوابقهم في الطاعات.

تغيروا أنتم فما تتغير الدنيا بحالها إلا من أهلها، أشرقوا على أديم الحياة بنور الأخلاق وطهارة القلوب واجتهدوا بالسعي الحثيث للمجد الحقيقي بحسن استخلاف الله تعالى في أرضه، وعلى الطريق الصحيح الصادق لسيد الأنام صلى الله عليه وسلم لتحسنوا كتابة اسمكم في صفحات التاريخ، لو كان للإنسان فيه ذكر باق (21).

-----------

(1) أخرجه الترمذي (2377).

(2) أخرجه الترمذي (2323).

(3) وصية النبي عليه الصلاة والسلام لابن عمر/ دروس للشيخ خالد المصلح.

(4) في ظلال القرآن (5/ 2777).

(5) جامع البيان في تأويل القرآن (12/ 18).

(6) الجامع لأحكام القرآن (8/ 255).

(7) شرح السنة للبغوي (14/ 225).

(8) حلية الأولياء (2/ 204).

(9) أخرجه البخاري (6416).

(10) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 16).

(11) أخرجه البخاري (6412).

(12) سلسلة علو الهمة - المقدم (11/ 20)، بترقيم الشاملة آليًا.

(13) حلية الأولياء (2/ 148).

(14) موارد الظمآن لدروس الزمان (5/ 622).

(15) الزهد والرقائق لابن المبارك (1/ 190).

(16) صحيح البخاري (8/ 89).

(17) مصنف ابن أبي شيبة (7/ 189).

(18) آداب العلماء والمتعلمين (ص: 2)، بترقيم الشاملة آليًا.

(19) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا (22).

(20) لطائف المعارف (ص: 400).

(21) العبرة من وداع العام وانقضاء العمر والأيام/ منتديات الألوكة.