logo

صناعة البطولة


بتاريخ : الأحد ، 23 صفر ، 1439 الموافق 12 نوفمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
صناعة البطولة

لقد أُطلقت كلمة البطولة في عصرنا هذا على كثير من المواقف والأعمال والأشخاص، وسمي بها من لا علاقة له بالبطولة، لا من قريب ولا من بعيد، فللتمثيل أبطال وبطلات، وللكرة بطولة، وللرقص بطولة.

وقد شارك في هذا التزييف أكثر وسائل الاعلام؛ لإضفاء صفة البطولة على أعمال تافهة، تصل، في كثير من الأحيان، إلى مستوى السقوط والعهر والرذيلة.

لقد تم ابتذال مصطلح (البطولة)، وتفريغه من مضمونه العظيم والرائع؛ الذي يعني، أول ما يعني، تحقيق المجد والعزة للأمة في ميادين الجهاد والحضارة .

ومنها: سحب البطولة الحقيقة ممن يبنون المجتمع المسلم بالعلم والجهد والجدية.

ومنها: تحقير كل جهد عملي وبنّاء يقوم به أبناء المجتمع لصالح أمة الاسلام؛ إذ يصبح الرقص والغناء والتمثيل هي القيم العليا التي ينبغي السعي وراءها ومن أجلها.

ورحم الله أحمد شوقي؛ إذ نظر إلى البطولة فرآها استعلاءً على متطلبات النفس، وتصعيدًا لغرائز الإنسان:

إن البطولة أن تموت من الظمأ       ليس البطولة أن تعب الماء

وقال آخر، وقد هاله ما وصل إليه هذا المفهوم من تشويه وتحريف عن معناه السليم:

يا عجبًا من غفلة جيل أمسى اللهو لديه فنونًا

فبطولاتي صارت كرة وطموحي أمست بالونًا

إن البطولة ليست محصورة أو مقصورة على المواقف الرائعة الفذة التي يأتي بها الأبطال في ساحات الوغى، وإنما هي ضروب وألوان، لها بواعث يستنبطها المفكر من تاريخنا الغني الثري، وعلى رأس هذه البواعث الإيمان بالله؛ لأنه قوة مبدعة خلاقة، إذا مسَّت القلوب بسحرها اهتزت بأروع الشمائل، وقد عرفها المسلمون منذ الأيام الأولى، التي بزغ فيها فجر الدعوة المحمدية في بطحاء مكة! فمن كانت ستكون سمية أم عمار؛ بل وآل عمار كلهم وبلال الحبشي ...، الذين كانوا قبل الإسلام مجرد عبيد لأمية بن خلف ورءوس الشرك من القرشيين.

ماذا كان هؤلاء لولا الإسلام، الذي كان من خصائصه صنع الأبطال، فصنع منهم آلافًا مؤلفة عبر تاريخه الطويل، الممتد لأكثر من 1400 عام.

فلولا الإيمان لمَا ظهر هؤلاء الأبطال، ولظلوا مجرد عبيد للبشر حتى النهاية، كما حصل مع الملايين من العبيد، الذين لم يؤمنوا بالله، ولم يدخلوا في دين الله.

لقد بات ضروريًا أن نحدد مفهوم البطولة، ونوضح معالمها، ونبرز تطبيقاتها في الحياة، ونزيل الغبش الذي شوه وجهها، ثم نضعها في ميدانها الصحيح، فلا تطلق إلا على من يستحقها حقيقة؛ لأن البطولة والبطولات ليست ترفًا في حياة الأمم، ولا قصصًا تروى للتسلية وتزجية الفراغ، وإنما هي حاجات ضرورية، لا تكتمل حياة الشعوب إلا بها، ولا تُبنى المجتمعات الفاضلة القوية إلا على أساسها، فبالبطولات تجسد قيم الأمة ومُثُلها، وتبرز خصائصها ومقوماتها، وتقوى ثقتها بنفسها.

وبالأبطال تتحقق لأبناء الأمة القدوة والأسوة، وتتحول الخلال والخصال إلى كائنات حية تمشي على الأرض، فالأبطال مشاعل تضيء دروب المجد والسؤدد، ومنارات تشد أعينهم نحو الذرى والقمم(1).

ومما اتخذه القرآن وسيلة لتربية الشجاعة في النفوس عقيدة القضاء والقدر، فقال تعالى، في الرد على قوم يظنُّون أن من لا يخرجون إلى القتال تمتدُّ آجالهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154]، وقال تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168].

فالإنسان مطالب بالحذر من مواقع الخطر والتهلكة، ولكن الإقدام في الدفاع عن العزة والكرامة لا يعدُّ من قبيل الإلقاء بالنفس في تهلكة، وإنما هو قيام بواجب، فإن قضاه وعاد سالمًا فقد استحق الحمد، وعرف أن أجله لم يجئ بعدُ، وإن أُصيب فقُتل فإنما هو أجله المقدور، الذي لا يتأخَّر ساعة ولا يتقدم، قد أدركه في أشرف حالة، هي المسابقة إلى دفع يدٍ عادية عن نفوس بريئة، أو أعراض مصونة، وأموال محترمة.

يبث القرآن الكريم في النفوس روحًا عسكرية قوية صادقة، فلا جرم أن يكون المؤمن بحقٍّ قويَّ الجأش، محافظًا على نُظُم الدفاع، آخذًا بوسائله ما استطاع، وكذلك كان الناس في عهد الأمراء المظفرين.

ومن أسباب قوة الروح العسكرية، فيما سلف، أنَّ رؤساء الجند يُقدِّرون عمل الجندي، ويعرفون أثره الخطير في سلامة الوطن، ورفعة شأن الأمة، فلا يكون منهم إلا أن يرعوا الجنود برفق، ويذيقوهم حلاوة التمتع بالكرامة في دائرة الحزم، ويرفعوا درجاتهم على قدر كفاياتهم لجلائل الأعمال، وملاقاة الأخطار.

كانت الروح العسكرية مظهرًا من مظاهر التقوى، ومعدودة في الخصال التي يرتفع بها أفاضل القوم درجات، وكان العلماء يحرصون على أن يكون لهم منها أوفر نصيب، وإذا رجعنا إلى تاريخ العلماء الأجلاء وجدنا كثيرًا منهم كانوا يسابقون في ميادين الحروب، وكان كثير من القضاة يقودون الجيوش؛ مثل: أسد بن الفرات قاضي القيروان وفاتح صقلية، ويحيى بن أكثم قاضي بغداد، ومنذر بن سعيد البلوطي قاضي قرطبة.

ونجد في تراجم كثير من العلماء أنهم توفوا في غزوات، أو مرابطين في الثغور، وكان تقدير العلماء للروح العسكرية واتصالهم بها من أسباب قوة هذه الروح، وسريانها في الأمة قاطبة.

وإذا بدا لنا أن نبحث عن أسباب ضعف هذه الروح، بعد تلك القوة، تراءت لنا أسباب شتى، منها: أن التعليم الديني اتجه إلى النظر أكثر من اتجاهه إلى العمل، كأن إدراك أصول الدين وأحكامه هو الغاية الأخيرة من تعلمه.

ومنها: انحدار الناس في الشهوات، والتنافس في الزينة، والملاذِّ الجسمية؛ من نحو: الإسراف في الملابس والمطاعم، وقضاء الوقت في لهو ونوم(2).

قال تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} [طه:41]، الاصطناع: صنع الشيء باعتناء، واللام للأجل؛ أي: لأجل نفسي، والكلام تمثيل لهيئة الاصطفاء لتبليغ الشريعة بهيئة من يصطنع شيئًا لفائدة نفسه، فيصرف فيه غاية إتقان صنعه.

فقوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} يؤذن بأنه اختاره وأعده لأمر عظيم؛ لأن الحكيم لا يتخذ شيئًا لنفسه إلا مريدًا جعله مظهرًا لحكمته، فيترقب المخاطب تعيينها(3).

أي اخترتك لتكون لنفسي، والاصطناع افتعال من الصنع، وهو اختياره بالصنع مشددًا في اختباره، وهذا موضح بقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}، يقال: اصطنع الرجل فلانًا لنفسه: جعله في موضع التكريم عنده، وهذا فيه استعارة؛ إذ شبه اختيار الله تعالى له نبيًا كليمًا بحال من يصطنعه الأمير لنفسه من الناس؛ ليكون في موضع الكرامة والشرف، وأي شرف أعلى من أن يكون كليمه، وأن يكلمه تكليمًا(4).

وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام، ولهذا قال: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}؛ أي: أجريت عليك صنائعي ونعمي، وحسن عوائدي، وتربيتي؛ لتكون لنفسي حبيبًا مختصًا، وتبلغ في ذلك مبلغًا لا يناله أحد من الخلق، إلا النادر منهم، وإذا كان الحبيب إذا أراد اصطناع حبيبه من المخلوقين، وأراد أن يبلغ من الكمال المطلوب له ما يبلغ، يبذل غاية جهده، ويسعى نهاية ما يمكنه في إيصاله لذلك، فما ظنك بصنائع الرب القادر الكريم، وما تحسبه يفعل بمن أراده لنفسه، واصطفاه من خلقه؟(5).

وأما قوله: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:13] إنه اختيار واصطناع وصناعة، إنه اصطناع رباني لموسى عليه السلام، والاختيار تم بِناءً على تحقيق هدف منشود، فالمهمة خطيرة وحيوية، تحتاج إلى رجل عظيم، فالمقابل معاند جبّار متغطرس، فلا بد أن يكون المُرسَل بمواصفات خاصة، ليس هذا فقط؛ بل فبعد الاختيار يأتي الاصطفاء والاختصاص وتحديد الخصوصية (لنفسي) لأداء رسالتي، ثم جاءت العناية والرعاية والتربية (الصناعة)، والصُنعُ: إجادة الفعل، فكل صُنعٍ فِعْل، وليس كل فعل صُنعًا، ولا يقال صَنعَ إلا للحاذق المُجيد، وبهذا يتضح أن الصنع فيه إرادة تجويد الشيء وتحسينه واتقانه وحذقه، فلا يصح أن ينسب لغير العاقل، وما ذاك، والله أعلم، إلا لكون موسى عليه السلام عليه مهمة جسيمة، وهي دعوة فرعون إلى الإيمان، وانتشال بني اسرائيل منه وإخراجهم إلى مكان آخر، وكلا الأمرين أصعب من الآخر، ففرعون طغى وتجبر، وبني إسرائيل فيهم من الذل والهوان ما لا يعلمه إلا الله، فكان لا بد من اصطناع رجل عظيم لهذه المهمة، وتربيته بعناية، وقد تم ذلك بعناية ربانية، فحصل المقصود وتم المراد.

والاصطناع يختلف بحسب الهدف أو المهمة المطلوبة، اقرأ هذه الآية: {قَالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:247]، إنها تتحدث عن طالوت، وذلك حين طلب بنو إسرائيل من نبيهم عليه السلام أن يبعث الله لهم ملكًا ليقاتلوا في سبيل الله، فالمهمة هي القتال، فينبغي اختيار عظيم بمواصفات تنفع في القتال، فلم يتم اختيار النبي لهذا القتال وإنما تم اصطفاء شخص آخر هو طالوت، بيّن سبب الاختيار بأنه صاحب {بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}.

والاصطفاء الرباني ليس خاصًا بالبشر، اقرأ هذه الآية: {اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج:75].

كما أن الاصطفاء والاصطناع ليس خاصًا بالذكور: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:42].

ولا تزال سنة الاصطفاء والاصطناع الرباني مستمرة، ولكنا لا نجزم من هو الذي تم له ذلك، وإنا على يقين أن قيادة الأمة وتقدمها إنما يكون عبر عظمائها، فالله أودع في الإنسان من القدرات والإمكانات ما لا يتصوره البشر، فعلينا أن نستثمر ذلك في تحقيق أهدافنا وريادتنا.

تبقى لدينا مشكلة عالقة، وهي أن خروج هؤلاء ربما لا نتوقعه، قد يأتي في وقت مبكر من حياتنا، وربما يتأخر ويأتينا في وقت مزدحم، ويكون تأثيره قوي؛ لذلك سوف نجد صعوبة في تقبله من الآخرين، بعكس أن يكون في البدايات.

نحن ندفع مليارات الدولارات من أجل البحث والتنقيب عن النفط، واستخراجه قبل بيعه؛ وذلك لأنننا على يقين أنا سنجني الأرباح الكبيرة من ذلك، فهو ثروتنا الاقتصادية الأولى، إن لم تكن الوحيدة، في المقابل كم ندفع ونستثمر في التنقيب عن العظماء والعناية بهم وصناعتهم؟ إن كان البترول هو الهبة الربانية تحت الأرض، فثمة هبة أعظم وهي البشر فوق الأرض، فهذا هو الاستثمار المنتج والمستمر وغير المنقطع بإذن الله.

إن على الوالدين في المنزل أن يقوما بغرس البطولة في قلوب أبنائهم، فها هي أم سفيان الثوري حين لمحت في ابنها نبوغًا وحبًا للعلم قالت له: «يا بُني، اطلب العلم، وأنا أكفيك من مغزلي، يا بني، إذا كتبت عشرة أحاديث فانظر هل ترى في نفسك زيادة في مشيتك، وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك».

وهؤلاء الشيوخ المعلمون والمربون يجب أن يكون لهم الدور الريادي في صناعة البطولة، وهذا كثير في سير سلفنا الصالح، فمن ذلك ما حكاه الإمام أبو يوسف، صاحب الإمام أبي حنيفة، قال: «في بعض الأيام قُدِّم إلى هارون فالوذج وكنتُ عنده، فقال لي هارون: (يا يعقوب، كُلْ منه فليس كل يوم يعمل لنا مثله)، فقلت: (وما هذا يا أمير المؤمنين؟)، فقال: (هذا فالوذج بدهن الفستق)، فضحكت، فقال لي: (مم ضحكت؟)، فقلت: (خيرًا، أبقى الله أمير المؤمنين)، قال: (لتخبرني)، فقال: (توفي أبي إبراهيم بن حبيب وخلفني صغيرًا في حجر أمي، فأسلمتني إلى قصار [خياط] أخدمه، فكنت أدع القصار وأمر إلى حلقة أبي حنيفة فأجلس أستمع، فكانت أمي تجيء خلفي إلى الحلقة فتأخذ بيدي وتذهب بي إلى القصار.

وكان أبو حنيفة يعنى بي لما يرى من حضوري وحرصي على التعلم، فلما كثر ذلك على أمي وطال عليها هربي، قالت لأبي حنيفة: ما لهذا الصبي فساد غيرك، هذا صبي يتيم لا شيء له، وإنما أطعمه من مغزلي، وآمل أن يكسب دانقًا يعود به على نفسه.

فقال لها أبو حنيفة: مرِّي يا رعناء، هو ذا يتعلم أكل الفالوذج بدهن الفستق، فانصرَفَت عنه، وقالت له: أنت شيخ قد خرفت وذهب عقلك)، فعجب هارون الرشيد من ذلك وقال: (لعمري، إن العلم ليرفع وينفع دينًا ودنيا)، وترحَّم على أبي حنيفة، وقال: (كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه)»(6).

العظماء ليس لهم شكل محدد ولا رمز واضح، ولكنهم يمتلكون خصائص وهبات يسهل تنميتها وصقلها، نعم يمكن التدريب على كثير من السلوكيات واكتسابها، ولكن لو كانت هذه مغروسة في العبد لكان أجدى وأولى وأسرع، ففي الحديث أن النبي قال لأشج: «إن فيك خَلَّتَين يحبهما الله؛ الحلم والأناة»، قال: «يا رسول الله، أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟»، قال: «بل الله جبلك عليهما»(7).

وهذا ما تحرص عليه كثير من الدول المتقدمة، وذلك عن طريق استقطاب الطاقات البشرية واحتضانها وتقديم كل ما تحتاجه.

وبعد مرحلة الاكتشاف تأتي مرحلة أخرى من الاصطناع، وهي الصناعة أو الرعاية والاستثمار، وهذه القضية طويلة وشائكة، لكنها ممكنة إذا وفقنا الله بتطبيق مثلث الرعاية (الصناعة).

وأهم عنصر هو المعلم الحاذق، وإليك هذا الموقف وأرجو تأمله:

عن أبي هريرة أن رجلًا شتم أبا بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم، فلما أكثر رد عليه بعض قوله، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام، فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله؛ كان يشتمني وأنت جالس فلما رددتُ عليه بعض قوله غضبتَ وقمت، قال: «إنه كان معك ملك يرد عنك، فلما رددتَ عليه بعض قوله وقع الشيطان، فلم أكن لأقعد مع الشيطان»(8).

لو كان غير أبي بكر رضي الله عنه هل ممكن أن يتغير تصرف الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم؟

وقبل أن تفكر وتتأمل في الآخرين، انظر لنفسك، فأنت عظيم، ولديك من المواهب والقدرات ما تحتاج إلى معرفته، يجب توظيفه واستثماره في الدنيا والآخرة.

وهذا أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، الذي ولي الأندلس وهي ولاية تميد بالفتن، وتشرق بالدماء، فما لبثت أن قرت له، ثم خرج في طليعة جنده، فافتتح سبعين حصنًا في غزوة واحدة.

ثم أمعن بعد ذلك في قلب فرنسا، وتغلغل في أحشاء سويسرا، وضم أطراف إيطاليا، حتى راض كل أولئك له، ورجف لبأسه، وبعد أن كانت قرطبة دار إمارة إسلامية، يُذكر اسم الخليفة على منابرها، وتمضي باسمه أحكامها، أصبحت مقر خلافة يحتكم إليها عواهل أوروبا وملوكها، ويختلف إلى معاهدها علماء الأمم وفلاسفتها(9).

أتدرى ما سر هذه العظمة، وما مهبط وحيها؟

إنها المرأة وحدها، فقد نشأ عبد الرحمن يتيمًا؛ إذ قتل عمُه أباه؛ فتفردت أمه بتربيته، وإيداع سر الكمال وروح السمو في ذات نفسه، فكان من أمره ما علمت.

والإمام الثقة الثبت إمام أهل الشام وفقيههم، أبو عمرو الأوزاعي، يقول فيه أبو إسحق الفزاري: «ما رأيت مثل رجلين: الأوزاعي، والثوري؛ فأما الأوزاعي فكان رجل عامة، والثوري كان رجل خاصة، ولو خيرت لهذه الأمة لاخترت لها الأوزاعي؛ لأنه كان أكثر توسعًا، وكان، والله، إمامًا».

قال النووي رحمه الله: «وقد أجمع العلماء على إمامة الأوزاعي وجلالته وعلو مرتبته، وكمال فضله، وأقاويل السلف رحمهم الله كثيرة مشهورة، مصرحة بورعه وزهده وعبادته وقيامه بالحق وكثرة حديثه، وغزارة فقهه، وشدة تمسكه بالسنة، وبراعته في الفصاحة، وإجلال أعيان أئمة عصره من الأقطار له، واعترافهم بمرتبته»(10).

 ذلك الحبر البحر كان أيضًا ثمرة أُمٍّ عظيمة، قال الذهبي: «قال الوليد بن مزيد البيروتي: (وُلِد الأوزاعي ببعلبك، وربي يتيمًا فقيرًا في حجر أمه، تعجز الملوك أن تؤدب أولادها أدبه في نفسه، ما سمعت منه كلمة فاضلة إلا احتاج مستمعها إلى إثباتها عنه، ولا رأيته ضاحكًا يقهقه، ولقد كان إذا أخذ في ذكر المعاد أقول: تُرى في المجلس قلب لم يبك؟)»(11).

وهذه أم (ربيعة الرأي)، شيخ الإمام مالك، أنفقت على تعليم ولدها ثلاثين ألف دينار خلفها زوجها عندها وخرج إلى الغزو، ولم يعد لها إلا بعد أن استكمل ولده الرجولة والمشيخة، فحمد الرجل صنيعها، وأربح تجارتها، في قصة ساقها ابن خلكان قال: «وكان فروخ أبو ربيعة خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلف عند زوجته (أم ربيعة) ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة، وهو راكب فرسًا، وفي يده رمح، فنزل ودفع الباب برمحه، فخرج ربيعة، وقال: (يا عدو الله، أتهجم على منزلي؟).

فقال فروخ: (يا عدو الله، أنت دخلت على حرمي)، فتواثبا حتى اجتمع الجيران، وبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة، وكثر الضجيج، وكل منهما يقول: لا فارقتك إلا عند السلطان، فلما بصروا بمالك سكتوا، فقال مالك: (أيها الشيخ، لك سعة في غير هذه الدار)، فقال الشيخ: (هي داري، وأنا فروخ)، فسمعت امرأته كلامه، فخرجت وقالت: (هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلفه وأنا حامل به).

فاعتنقا جميعًا وبكيا، ودخل فروخ المنزل، وقال: (هذا ابني؟)، فقالت: (نعم)، قال: (أخرجي المال الذي عندك)، قالت: (قد دفنته، وأنا أخرجه بعد أيام)، ثم خرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، فأتاه مالك والحسن، وأشراف أهل المدينة، وأحدق الناس به.

 فقالت أمه لزوجها فروخ: (اخرج فصل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فخرج، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاها فوقف عليها، فنكس ربيعة رأسه يوهمه أنه لم يره، وعليه قلنسوة طويلة، فشك أبوه فيه، فقال: (من هذا الرجل?)، فقيل: (هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن).

فقال: (لقد رفع الله ابني)، ورجع إلى منزله، وقال لوالدته: (لقد رأيت ولدك على حالة ما رأيت أحدًا من أهل العلم والفقه عليها)، فقالت أمه: (فأيهما أحب إليك، ثلاثون ألف دينار أم هذا الذي هو فيه؟)، فقال: (لا والله، بل هذا)، فقالت: (أنفقت المال كله عليه)، قال: (فوالله، ما ضيعتِه)»(12).

هذه هي الأم المسلمة التي جلست في بيتها، وأنتجت لنا أعظم ثروة، صنعت الرجال العظماء الذين قادوا البشرية إلى الخير والرشاد.

ومن شرف النفس وعلو الهمة ما قالته هند بنت عتبة، زوجة أبي سفيان وأم معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين، حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان، وقال لها بعض المعزين: «إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد»، يواسونها ويعزونها، فقالت: «أومثل معاوية يكون خلفًا من أحد؟! والله، لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيهم لخرج من أي أعراضها شاء».

وقيل لها، أيضًا، ومعاوية وليد بين يديها: «إن عاش معاوية ساد قومه»، فقالت: «ثكلته إن لم يسد إلا قومه»(13).

وهذه العبارة لها معان عظيمة جدًا بعيدة المرمى؛ لأن معنى ذلك أن وليدها بضعة لحم، لا يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا سيكون إنسانًا له شأن، ولكن هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه، حتى إنها لتأنف من أن يسود قومه فقط؛ بل غضبت حينما قالوا لها: «إن عاش معاوية ساد قومه»، فقالت: «ثكلته [أي: الأفضل أن يموت] إن لم يسد إلا قومه».

ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة وسياسة وحكمة، كما عُرف أثناء إمارته في الشام أو أثناء خلافته، يقول معاوية رضي الله عنه: «إني لآنف من أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي».

روى البخاري عن عروة بن الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلًا من الأنصار، قد شهد بدرًا، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، كانا يسقيان به كلاهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك»، فغضب الأنصاري، فقال: «يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟»، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اسق، ثم احبس حتى يبلغ الجَدْر»، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ حقه للزبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأيٍ سعةٍ له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: «قال الزبير: (والله، ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية)»(14).

***

________________

(1) البطولة بين مفهومين، موقع: رابطة أدباء الشام.

(2) موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين.

(3) التحرير والتنوير (16/ 223).

(4) زهرة التفاسير (9/ 4728).

(5) تفسير السعدي، ص506.

(6) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (9/ 73).

(7) أخرجه مسلم (17).

(8) أخرجه أحمد (9624).

(9) الأعلام، للزركلي (3/ 324).

(10) تهذيب الأسماء واللغات (1/ 229).

(11) عودة الحجاب (2/ 205).

(12) من أخلاق العلماء، ص153-154.

(13) علو الهمة، ص103.

(14) رواه البخاري (2708).