logo

التكافل


بتاريخ : الأربعاء ، 22 ذو الحجة ، 1438 الموافق 13 سبتمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
التكافل

يحرص الإسلام أشد الحرص على تماسك الأسرة فيما بينها, وإشاعة العطف بين كل أفرادها, ويدعوهم إلى أن يكمل بعضهم بعضًا؛ بأن يعطف الغني على الفقير, وألا ينسوا الفضل بينهم, وأن يكونوا كالبنيان المرصوص يكمل بعضهم بعضًا، ويشد بعضهم بعضًا, وقد رغَّب في الصدقة على المحتاج القريب, وأن أهل البيت أولى بالصدقة, وخصوصًا ما يتعلق منها بصلة الرحم, فحقها أوجب وآكد.

ويتلاءم ذلك مع منهج الإسلام العام في تنظيم المجتمع الإسلامي؛ إذ جعل التكافل الاجتماعي يبدأ من محيط الأسرة، ثم يمتد إلى دائرة الأقربين، ثم ينساح في محيط الجماعة، في سهولة ويسر، وفي تراحم ورضا وود، يجعل الحياة حلوة جميلة شائقة لائقة ببني الإنسان.

والتكافل هو التعاون التام بين الأفراد لتحقيق الصالح العام، ويضمن للناس، في كل زمان ومكان، المعيشة والأخوة والأمان، فمجتمع التكافل هو مجتمع الجسد الواحد، فالتكافل يحقق التضامن والإعالة والرعاية على النحو الذي يجبر القصور الحادث في طرف من أطراف علاقة التكافل، فهو تفاعل بين طرفين أو أكثر، ومما لا شك فيه أن تحقيق التكافل في المجتمع المسلم فريضة وضرورة، فرضتها أحكام الشريعة الإسلامية في آيات قرآنية، وأحاديث نبوية كثيرة.

ويتجلّى التكافل واضحًا في إحساس المسلم بأخيه الفقير المعدم، الذي لا يجد الطعام إلا نادرًا، فيبعثه على التصدق والإحسان، وهذا من التكافل الاجتماعي والمالي معًا، بل إن أجر الصدقة في رمضان مضاعف أكثر من غيره من شهور السنة، ويتجلى أيضًا تسابق الناس على إفطار الصائمين، ومدى الأجر الذي يجده المفطّر لهؤلاء الصائمين، وغير ذلك من اجتماع الناس على صلاة التراويح، وصفاء أنفسهم في هذا الشهر الذي قد غُلِّقت فيه أبواب النيران، وفُتِّحت فيه أبواب الجنة.

هذا وقد أتت عناية القرآن الكريم بالتكافل ليكون نظامًا لتربية روح الفرد وضميره وشخصيته وسلوكه الاجتماعي، وليكون نظامًا لتكوين الأسرة وتنظيمها وتكافلها، ونظامًا للعلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة التي تربط الفرد بالدولة، وفي النهاية نظامًا للمعاملات المالية والعلاقات الاقتصادية التي تسود المجتمع الإسلامي.

ومن هنا فإن مدلولات البر والإحسان والصدقة تتضاءل أمام هذا المدلول الشامل للتكافل.

ولقد وضع القرآن أسسًا نفسيةً وأخرى مادية لإقامة التكافل الاقتصادي والاجتماعي بين أفراد المجتمع الإسلامي.

ولعلَّ من أهمِّ الأسس النفسية هو إقامة العلاقات المادية والمعنوية على أساس الأخوّة، لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وربط الإيمان باستشعار حقوق الأخ، كما رتَّب على رابطة الأخوّة الحب؛ فلا يؤمن الإنسان المسلم، ولا ينجو بإيمانه، ما لم يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه، ويعيش معه كالبنيان يشد بعضه بعضًا.

وجعل العدل وحفظ الحقوق من قيم الدين الأساسية؛ بل نُدب إلى عدم الاقتصار على العدل، وهو إحقاق الحق، أو إعطاء كلِّ إنسان حقه من دون ظلم، وإنما الارتقاء إلى الإحسان، وهو التنازل له عن بعض الحقوق.

ومن الأسس النفسية أيضًا الإيثار، وهو عكس الأثرة والأنانية(1).

والإيثار تفضيل الآخر على النفس من أجل إشاعة جو العفو والرحمة، وهي الغاية التي جاءت من أجلها الشريعة.

إن الأسرة القوية المتماسكة هي التي يكون بين أفرادها تعاون وتفاهم ومودة ورحمة، ومن الضروري لبقائها وتماسكها أن تظل كذلك؛ وإلا عَدَت عليها عوادي الزمان، وهدمتها نوازل الحياة، وأصبحت عرضة للخراب والدمار.

إن كل ما يساهم في صيانة المجتمع المسلم وتقارب أفراده يدخل تحت مظلة التكافل الاجتماعي، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

إن الأسرة التي يعرف كل فرد واجبه ويؤديه حسب قدرته، مهما كان صغيرًا، هي أسرة طيبة نقية، ويشيع التكاتف بين أفرادها، وتسودها الألفة؛ لأن كل فرد فيها له دور إيجابي فاعل.

وفي القرآن الكريم آيات عديدة في بيان هذا الاتجاه والترغيب فيه، وإثارة مشاعر العطف والإحساس في نفوس المسلمين تجاه الآخرين، والدعوة إلى الكرم والإنفاق والتنفير من الشح والبخل، قال تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261]، كذلك السنة النبوية جاءت بتأكيد كل تلك المعاني النبيلة، التي تؤدي إلى أسمى التكافل بين المسلمين، وإلى إقامة أروع نظام اقتصادي ناجح، ومن مميزات التكافل في الإسلام أن له صيغة الشمولية، فهو لا يقف عند جهة أو مجتمع أو شخص؛ وإنما ينظر فيه إلى جميع الأمة على أنها كالجسد الواحد، وأن مضرة الفرد كمضرة الجميع، والعكس، مما يدل على تحقيق جميع أنواع التكافل؛ سواء بين الإنسان ونفسه، أو بين أفراد أسرته أو جماعته، أو بين أمة وأمة، فالتكافل لا حد له في الإسلام، ولا ينحصر في جهة دون أخرى، وهذه المزية لا توجد في أي نظام آخر غير الإسلام.

لقد أكد الإسلام على التكافل بين أفراد الأسرة، وجعله الرباط المحكم الذي يحفظ الأسرة من التفكك والانهيار، ويبدأ التكافل في محيط الأسرة من الزوجين بتحمل المسئولية المشتركة في القيام بواجبات الأسرة ومتطلباتها، كل بحسب وظيفته الفطرية التي فطره الله عليها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته...، والرجل راع في أهله وهو مسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها»(2).

ويأتي تقسيم وتوزيع المسئوليات داخل البيت بين الرجل والمرأة بما يضمن قيام الأسس المادية والمعنوية التي تقوم عليها الأسرة، فالله سبحانه وتعالى يخاطب أرباب الأسر رجالًا ونساءً بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

ولا تتم هذه الوقاية إلا بالتبصر بالحق، وتعليم العلم النافع، والإرشاد إلى أبواب الخير، وهذا هو قوام التكافل العلمي والتثقيفي للأسرة، وهو مسئولية مشتركة بين الزوجين، فكلما وجد أحدهما في الآخر تقاعسًا أو تقصيرًا نبهه وأرشده إلى الصلاح والإصلاح، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

وقد حث الإسلام على تنمية الود والحب الغريزي بين الرجل والمرأة في حياتهم الزوجية، فقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].

وأرسى لتحقيق ذلك مبادئ وضمانات عديدة، منها:

1- حفظ الحقوق بين الزوجين: قال تعالى: {ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ} [البقرة:228].

2- حسن اختيار الزوجة والزوج: ذلك أن الأسرة هي الخلية التي ينشأ فيها الأبناء؛ لذا لزم أن تكون هذه الخلية صالحة من أساسها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك»(3).

وأما فيما يختص باختيار المرأة لزوجها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض»(4).

3- حسن التعامل بين الزوجين: حث الإسلام على المعاملة الحسنة بين الزوجين، وثبت ذلك بنصوص الكتاب والسنة، فقد قال الله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم»(5).

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس معاشرة لأزواجه، وأحسن الناس رفقًا بهم، وكان يمازحهن ويساعدهن في أعمالهن، ويسامحهن فيما يبدر منهن من أخطاء، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»(6).

4- الإنفاق على الأسرة: ذلك أن المال قوام الحياة المادية، والمرأة داخلة في ولاية زوجها، فهو مسئول عنها بالنفقة، قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7].

بل إن الإسلام قد أوجب النفقة للزوجة على الزوج حتى لو كانت مطلقة، فإن النفقة والسكن واجبة عليه طوال فترة العدة، كما أنه يدفع لها ثمن إرضاعها لابنه منها حال طلاقها، قال الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6].

5- الاعتناء بالأولاد رعاية وتربية: لقد أكد الإسلام على حق الأولاد الصغار في الرعاية والتربية، وجعل ذلك أهم واجبات الأبوين؛ أي أن الإسلام لم يكتف بالدافع الفطري لقيام الأبوين بواجبهما؛ بل عزز ذلك بقواعد محددة، تضمن للأولاد النشوء في صورة مثلى تكفل لهم حقوقهم كاملة، فمنذ الولادة نص القرآن الكريم على استكمال الرضاعة، قال الله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُواْ اللهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة:233]، كما جعل التربية حقًا له على وليه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع»(7).

التكافل داخل الجماعة:

لقد أقام الإسلام تكافلًا مزدوجًا بين الفرد والجماعة، فأوجب على كل منهما التزامات تجاه الآخر، ومازج بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة، بحيث يكون تحقيق المصلحة الخاصة مكملًا للمصلحة العامة، وتحقيق المصلحة العامة متضمنًا لمصلحة الفرد، فالفرد في المجتمع المسلم مسئول تضامنيًا عن حفظ النظام العام، وعن التصرف الذي يمكن أن يسيء إلى المجتمع، أو يعطل بعض مصالحه، قال الله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].

كما أن الفرد مأمور بإجادة أدائه الاجتماعي بأن يكون وجوده فعَّالًا ومؤثرًا في المجتمع الذي يعيش فيه، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»(8).

وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم حال أفراد المجتمع في تماسكهم وتكافلهم بصورة تمثيلية رائعة، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»(9).

وقد صور الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الصورة التكافلية في مثال رائع بقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا»(10)، والقائم على حدود الله يدخل فيه القائم على حفظ النظام العام للمجتمع وأفراده.

مظاهر التكافل:

من العرض السابق تتجلى الخطوط العامة لهذا التكافل، وإذا أردنا أن نتلمس بعض المظاهر التفصيلية لهذا التكافل نجد اهتمام الإسلام بالفئات الاجتماعية الأكثر تضررًا، والتي هي المستهدفة غالبًا بالتكافل الاجتماعي في مفهومه الضيق:

كفالة كبار السن: لقد وجه الإسلام عناية خاصة لكبار السن، واعتبرهم مستحقين للكثير من الرعاية مقابل التضحيات التي قدموها من أجل إسعاد الجيل الذي ربوه ورعوه، والعناية بكبار السن والمسئولية عنه قد أنيطت في الإسلام بالأبناء أولًا، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15].

ويقول تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23]، فمسئولية الأبناء عن بر الآباء ورعايتهم مسئولية إلزامية ديانة وقضاءً، بمعنى أن أوامر الدين توجب على الأولاد وتلزمهم بها، فإذا قصروا فيها ألزمهم بها القضاء، ولو كان دينهما مختلفًا عن الأبناء، فإن ذلك لا يسقط حقهم ولا يلغي تلك المسئولية، قال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا (15)} [لقمان:14-15]، وإذا لم يكن لهم أبناء انتقلت المسئولية عنهم إلى المجتمع، ممثلًا في الدولة بصورة إلزامية.

والرعاية لكبار السن لا تقف عند الجانب المادي؛ بل يدخل فيها الجانب النفسي والعاطفي، الذي هم أشد حاجة إليه، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء:23-24].

وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا»(11).

كفالة الصغار والأيتام:

الإسلام يهتم بالطفولة، ويُلزِم الآباء برعاية الأبناء وتربيتهم حتى بلوغ سن الرشد مع القدرة على استقلالهم بالمسئولية.

فإذا فقد هؤلاء الأبناء آباءهم فإن المسئولية تنتقل بشكل متدرج إلى الأقارب القادرين، فإذا انعدموا قامت على المجتمع بأسره.

وقد ورد في الحث على كفالة الأيتام والعناية بهم ما يبعث في نفس المؤمن دافعًا قويًا إلى ذلك، قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى:9].

وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:215]، وهناك العديد من الآيات التي تحض على رعاية اليتيم والإحسان إليه، ورعاية ماله إن كان له مال.

وإذا تصفحنا تاريخ الإسلام وجدنا أن كثيرًا من عباقرة الإسلام والمبدعين، على أكثر من صعيد، كانوا قد فقدوا آباءهم وهم صغار، وما ذلك إلا نتاج ملموس للتوجيهات والسياسات الإسلامية في هذا الصدد، والتي أصبح المجتمع يقوم بها بشكل طوعي وتلقائي، حتى في الأوقات التي تتخلى فيها الدولة عن واجبها؛ فإن هذه العناية لم تغب؛ إذ قام بها المجتمع وأقام لها من المؤسسات الخيرية ما يلبي حاجتها.

ومن مظاهر العناية التي أولاها الإسلام للأيتام حفظ أموالهم، والسعي في تنميتها، والابتعاد عن كل تصرف ضار بها، قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152].

وقال تعالى: {وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء:2].

ويقول تعالى في نفس السورة: {وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا} [النساء:6].

وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:10]، كما دعا إلى استثمارها والإنفاق عليهم، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاء اللهُ لأعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:220].

وسائل الإسلام في تحقيق التكافل:

لقد شرع الإسلام من الوسائل والنظم ما يحقق التكافل الاجتماعي، وبعض هذه الوسائل منوط بالأفراد، والبعض الآخر منوط بالدولة.

الوسائل المنوطة بأفراد المجتمع:

أناط الإسلام بالأفراد عددًا من هذه الوسائل، وجعل بعضها إلزاميًا، وترك البعض الآخر للتطوع، ومن هذه الوسائل الفردية الإلزامية التي شرعها الإسلام لتحقيق التكافل ما يلي:

1- فريضة الزكاة:

وهي من أهم هذه الوسائل، وهي فريضة إلزامية فرضها الله على المسلم دينًا، وجعل للدولة الحق في أخذها منه قهرًا إذا هو امتنع عن أدائها.

وتأتي أهمية الزكاة من حيث شمولها لمعظم أفراد المجتمع، ومن حيث أهمية المقدار الذي تمثله من الثروة العامة؛ حيث تمثل 2.5% من مجموع الأموال، وهي نسبة كفيلة، لو نظمت، بأن تحل كثيرًا من المشاكل الاجتماعية الناتجة عن الفقر، وأن تسهم في الحد منه، ومن ثم كان لها تأثيرها الحيوي في إشاعة التكافل، هذا فضلًا عن آثارها المعنوية؛ حيث تنفي من المجتمع الأحقاد والبغضاء الناتجة عن انقسام الناس إلى مالكين لا يعبئون بغيرهم، ومحرومين لا يُعبأ بهم.

2 -الكفارات:

وهي ما فرضه الإسلام على المسلم لارتكابه بعض المحظورات أو تركه بعض الواجبات؛ ككفارة اليمين إذا حلف المسلم بالله فحنث، وكفارة الفطر عمدًا بدون عذر مقبول شرعًا في نهار رمضان وغيرها، ومن بعض مصارف هذه الكفارات إطعام الطعام لعدد من المساكين، ومن هنا كانت وسيلة لتحقيق التكافل، قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:89].

3- صدقة الفطر:

وهي صدقة يجب إخراجها قبل صلاة عيد الفطر، ومقدارها صاع من غالب قوت البلد، وهي واجبة على كل مسلم؛ الرجل والمرأة، والصغير والكبير(12).

4- إغاثة المحتاج:

حيث يلزم على من عَلِم بأن جاره جائع، ولا يجد ما يأكل، أن ينقذه إذا كان ذلك في استطاعته، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعانًا وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به»(13).

إن التراحم بين الخلق فطرة ربانية، تحمل صاحبها على الإحسان للآخرين، والتلطف معهم، والترفق بهم، والتألم لمصابهم، والسعي في رفع الضر عنهم، فالتراحم دليل على رقة القلب، وسمو النفس، وله ثمرات عظيمة في العاجل والآجل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول يوم القيامة: يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب، وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟، يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب، كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي»(14).

وقال صلى الله عليه وسلم :«من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة فلينفس عن معسر، أو يضع عنه»(15)، فلنحرص على التراحم في أمورنا كلها.

ويجب على الداعية أن يُعرَف بالمواقف المشرفة وعلاج الأزمات، وليس فقط بالوعظ والإرشاد، ويحسن أن يقوم الداعية بتلمس احتياجات أفراد العائلة، والمبادرة بمساعدتهم قبل أن يُطلب منه ذلك، مع الحذر من التطفل عليهم في أمورهم الخاصة.

***

______________

(1) تحقيق التكافل الاجتماعي مصدر قوة الفرد والأسرة والمجتمع، موقع: الجزيرة.

(2) أخرجه البخاري (853)، ومسلم (1829).

(3) أخرجه البخاري (4802)، ومسلم (1466).

(4) أخرجه ابن ماجه (1967).

(5) أخرجه الترمذي (1162).

(6) أخرجه الترمذي (3895).

(7) أخرجه أحمد (6756).

(8) أخرجه البخاري (467)، ومسلم (2585).

(9) أخرجه مسلم (2586).

(10) أخرجه البخاري (2361).

(11) أخرجه الترمذي (1919).

(12) وسائل تحقيق التكافل الاجتماعي، شبكة: المنبر.

(13) صحيح الجامع (5505).

(14) أخرجه مسلم (2569).

(15) أخرجه مسلم (1563).