logo

الغش الدعوي


بتاريخ : الاثنين ، 6 جمادى الآخر ، 1440 الموافق 11 فبراير 2019
بقلم : تيار الاصلاح
الغش الدعوي

جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «من غشنا فليس منا، والمكر والخداع في النار»(1)، الغش هنا عام، يشمل كل صور الغش، والتي من أخطرها الغش الدعوي، حين تفقد الدعوة حرارتها في قلب الداعية، عندما تتحول لمكسب مادي وغنيمة باردة، عندما يهمل نفسه فلا يأخذها بما يأمر به ويتساهل معها فيما يحذر غيره منه، عندما يُخْضِع الدعوة لأهوائه الشخصية وطموحاته الدنيوية.

عندما يبيع دينه بعرض من الدنيا، ويبيع كرامته بما لا يساويها، وأي شيء يساوي كرامة المرء.

ذكر الشيخ أحمد شاكر أن طه حسين كان طالبًا في الجامعة المصرية القديمة، وتقرر إرساله في بعثة إلى أوروبا، فأراد حضرة السلطان فؤاد رحمه الله أن يكرمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالًا كريمًا، وحباه هديةً قيمة المغزى والمعنى.

وكان هناك خطيب من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيب فصيح متكلم مقتدر، وكان السلطان فؤاد رحمه الله مواظبًا على صلاة الجمعة.

فصلى الجمعة يومًا ما، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لذلك اليوم، وأراد الخطيب أن يمدح عظمة السلطان، وأن ينوه بما أكرم به طه حسين، ولكن خانته فصاحته، وغلبه حب التعالي في المدح، فزل زلة لم تقم له قائمة من بعدها؛ إذ قال أثناء خطبته: «جاءه الأعمى فما عبس في وجهه وما تولى»، وكان من شهود هذه الصلاة والده الشيخ محمد شاكر، وكيل الأزهر سابقًا رحمه الله، فقام بعد الصلاة يعلن الناس في المسجد أن صلاتهم باطلة، وأمرهم أن يعيدوا صلاة الظهر فأعادوها؛ ذلك أن الخطيب كفر بما شتم صلى الله عليه وسلم تعريضًا لا تصريحًا؛ لأن الله سبحانه عتب على رسوله صلى الله عليه وسلم حين جاءه ابن أم مكتوم الأعمى، وهو يحدث بعض صناديد قريش يدعوهم إلى الإسلام، فأعرض عن الأعمى قليلًا حتى يفرغ من حديثه؛ فأنزل الله عتاب رسوله في هذه السورة الكريمة.

ثم جاء هذا الخطيب الأحمق الجاهل، هداه الله، يريد أن يتملق عظمة السلطان رحمه الله، وهو عن تملقه غني والحمد لله، فمدحه بما يوهم السامع أنه يريد إظهار منقبة لعظمته، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، وأستغفر الله من حكاية هذا، فكان صنع الخطيب المسكين تعريضًا بمحمد صلى الله عليه وسلم لا يرضى به مسلم، وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه.

يقول الشيخ أحمد شاكر: «ولكن الله جازى هذا المجرم في الدنيا قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأقسمُ بالله، لقد رأيته بعيني رأسي، بعد بضع سنين، وبعد أن كان عاليًا منتفخًا، مستعزًّا بمَن لاذ بهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينًا ذليلًا، خادمًا على باب مسجد من مساجد القاهرة، يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصغار، حتى لقد خجلت أن يراني، وأنا أعرفه وهو يعرفني، لا شفقة عليه؛ فما كان موضعًا للشفقة، ولا شماتة فيه؛ فالرجل النبيل يسمو على الشماتة، ولكن لما رأيتُ من عبرة وعظة»(2).

قال صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة»(3)، أهلك في بيتك، الناس من حولك رعية تحتك أنت أيها الداعية، ترعاهم بالدعوة والتعليم والتبليغ، فهل رعيت هذه الرعية حق الرعاية؟

الغش الدعوي هو من أقبح أنواع الغش؛ لارتباطه بالعلم والعقيدة والفقه والسلوك والمنهج، وذهاب الأمانة في الدعوة أو الخلل فيها.

والناظر في الساحة الدعوية بنظر المؤمن المشفق يجد أن في البناء خرقًا لا بد من تداركه قبل أن يسقط البناء، والداعية إلى الله بحاجة أن تكون له وقفات مراجعة، يراجع فيها مواقفه وسيره؛ لينظر أين محط قدمه.

مظاهر الغش الدعوي:

- تغيير الحقائق الشرعية، فالعدول عن الأسماء والمصطلحات الشرعية التي جاءت في كتاب الله عز وجل، وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إلى أسماء ومصطلحات بشرية غامضة، ونحاتات أفكار واهية، أفرزتها عقول مهزومة، فاستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتركت ما أسماه الله عز وجل من الأسماء المنطبقة على مسمياتها في كتابه سبحانه وتعالى، حيث قسم الناس إلى حزبين: حزب الله المؤمنين، وحزب الشيطان الكافرين، قال الله عز وجل: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257].

ففي هذه الأيام صرنا نقرأ ونسمع ونشاهد من يتنكر للدين، ويرفض ألفاظ القرآن وعباراته، ولا أدل على ذلك من اعتراض من ينتسبون للدعوة على لفظ الكافر، ويستبدله بلفظ غير مسلم، أو يقال الآخر، وغير ذلك من المصطلحات الوافدة علينا والتي تتعارض مع مسلمات ديننا الحنيف؛ مثل: قبول الآخر، والتعددية، وغيرها من المفاهيم الضبابية، التي يراد من خلالها إذابة هوية الأمة، وفتحًا لأبواب التغريب داخل المجتمع.

وهل معنى ذلك أن نترك ما ورد في القرآن والسنة وكتب العقيدة الإسلامية من لفظ الكفر والشرك والكفار والمشركين؛ فيكون هذا استدراكًا على الكتاب والسنة؛ فيكون هذا من المحادة لله ولرسوله؟ ومن تغيير الحقائق الشرعية، فنكون من الذين حرفوا كتاب ربهم وسنة نبيهم، ثم ما هو الدافع لذلك؟ هل هو إرضاء الكفار، فالكفار لن يرضوا عنا حتى نترك ديننا.

قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89].

ثم إنه لا يجوز لنا إرضاء الكفار والتماس مودتهم لنا وهم أعداء لله ولرسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].

وإن كان مراد هؤلاء المنادين بتغيير هذه المسميات الشرعية التلطف مع الكفار وحسن التعامل معهم؛ فهذا لا يكون على حساب تغيير المسميات الشرعية؛ بل يكون ذلك بما شرعه الله نحوهم(4).

- التنكر للطريقة الأثرية: عن حذيفة بن اليمان قال: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقلت: (يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟)، قال: (نعم)، قلت: (وهل بعد ذلك الشر من خير؟)، قال: (نعم، وفيه دخن)، قلت: (وما دخنه؟)، قال: (قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر)، قلت: (فهل بعد ذلك الخير من شر؟)، قال: (نعم، دعاة إلى أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها)، قلت: (يا رسول الله، صفهم لنا؟)، فقال: (هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا)، قلت: (فما تأمرني إن أدركني ذلك؟)، قال: (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم)، قلت: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟)، قال: «فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)»(5).

وقال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي»(6)، وقال أيضًا: «اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكر وعمر»(7).

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدي المستقيم»(8).

أما ما سمعناه من بعض السفهاء الجهال أنهم إذا جودلوا في مسألة من مسائل العلم، وقيل لهم: هذا قول الإمام أحمد بن حنبل، أو هذا قول الشافعي، أو قول مالك، أو قول أبي حنيفة، أو قول سفيان، أو ما أشبه ذلك قال: نعم، هم رجال ونحن رجال، لكن فرق بين رجولة هؤلاء ورجولة هؤلاء، من أنت حتى تصادم بقولك وسوء فهمك وقصور علمك وتقصيرك في الاجتهاد، وحتى تجعل نفسك ندًا لهؤلاء الأئمة رحمهم الله؟

فإذا استهان الناس بالعلماء كل واحد يقول: أنا العالم، أنا النحرير، أنا الفهامة، أنا العلامة، أنا البحر الذي لا ساحل له، وصار كل يتكلم بما شاء، ويفتي بما شاء، لتمزقت الشريعة بسبب هذا الذي يحصل من بعض السفهاء(9).

ليست المسألة رجل ورجل، وبين الرجال فروق عظيمة في العلم والإيمان والدين، فالواجب أن يعرف الإنسان قدر نفسه، ولا يستهين بغيره؛ لأنه إذا استهان بغيره عوقب بأن يستهين الناس به، لا يظن أنه الآن إذا قطف ثمرة الاستعلاء أنها ستبقى له أبدًا؛ لأن من استهان بغيره بغير حق فإن الله تعالى يسلط عليه من يهينه ويذله(10).

- تحريف التصورات الدينية، كثير من الدعاة غاب عنهم التصور السليم للدين، ولمهمته في الحياة، فاضطربت تصورات الناس أو بعض الناس اضطرابًا واسعًا، فمنهم من جعل من الدين ومن معنى العبادة الطقوس والشعائر فقط، ومنهم من نادى بعزل الدين عن السياسة والحكم، أو عزل السياسة والحكم عن الدين، ومثل هذه التصورات ابتدأت في الغرب على إثر اصطدام النصرانية بالوثنية، ثم اصطدام الكنيسة برجال العلم وبالدولة والحكام، ثم أخذت تمتد إلى العالم الإسلامي بين المسلمين، حين انتشر الجهل بالكتاب والسنة واللغة العربية، وقويت دعاية الغرب وغزوه الفكري والعسكري.

ومن أهم التصورات الدينية التي غابت عن الناس معرفة الإنسان لمهمته في الحياة الدنيا، وللتكاليف الربانية التي أمره الله بالوفاء بها، والتي سيحاسب عليها بين يدي الله يوم القيامة، نسي الناس هذه المهمة الحقيقية، ولهثوا وراء مصالحهم الدنيوية حتى يوافيهم الأجل وهم لم يوفوا بعهدهم مع الله، ولا بالأمانة، ولا بالعبادة، ولا بحق الخلافة في الأرض.

وإذا كان القرآن الكريم قد أوجز مهمة الإنسان، التي خلقه الله للوفاء بها في الحياة الدنيا، بمصطلحات أربع: العبادة والأمانة والخلافة والعمارة، فإنه مع هذا الإيجاز فصل المهمة تفصيلًا كاملًا، ثم جمعت المهمة كلها في نشر دين الله في الأرض، ودعوة الناس كافة إليه، حتى تكون كلمة الله هي العليا وشرعه هو الأعلى، ومن أجل تحقيق ذلك شرع الله القواعد والوسائل والأساليب، وفصلها حتى يتيسر للإنسان الوفاء.

فمعرفة الدين وفهمه، وفهم تصوراته كاملةً سليمةً من مصدره الحق، المنهاج الرباني، أمر أساسي في حياة الإنسان، وبغير هذا الفهم والعلم والالتزام يهلك الإنسان.

إنها مهمة الإنسان المؤمن، الإنسان الداعية الصادق، أن يوفي بالأمانة بالتبليغ والتعهد وإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ومن الهلاك إلى النجاة، وإن أي امتداد للفتنة وسوء فهم هذا الدين يحمل المسلمون مسئوليته عن ذلك، ويحمل الدعاة والعلماء مسئولية أكبر(11).

- قلب الموازين المرعية، أسلوب قلب الموازين وعكس المفاهيم أسلوب قديم، استخدمه أهل الكفر والشرك مع أنبيائهم، فكانوا يرمونهم بالبهتان والكذب، ويرمونهم بما هو فيهم أنفسهم وهم أولى به، ثم استخدم هذا الأسلوب أهل الباطل والبدع مع أهل السنة، فتراهم يأتون بالباقعة والداهية الدهياء، التي لا يسترها ليل ولا يغطيها ذيل، ثم بعد ذلك يرمون بها أهل الحق بأسلوب سمج، وبرودة وسخافة، فلا هم بالذين استقاموا على الحق، ولا هم بالذين سكتوا عن الآخرين.

يصدر عن بدائية وتخلف، وقصور عقل وضعف نظر، ويؤدي إلى قلب الموازين، وتغيير المفاهيم، وإضاعة الجهد، وحصر الفكر في غير طائل، ولا دليل عليه من حس أو منطق، وإنما هو مجرد أوهام وخرافة وتأملات فارغة المحتوى.

- استبدال العلم بالسخافات الصحفية؛ حيث تحول بعض الدعاة إلى مذيعي أخبار، ثم تدور الخطبة بأكملها حول إنجازات المسئولين، وتبرير أفعالهم وقراراتهم، وما شأن الخطبة بهذه السخافات، وماذا أبقى الخطيب لمذيعي النشرات الإخبارية، فهؤلاء الدعاة تكرر منهم تدخلهم في ما هم في غنى عنه، فضلًا عما فيه من التنافي مع ما يقتضيه التقى والورع من وجوب استبراء العبد لدينه وعرضه، فليكفوا عما هم عليه، ولا يفسدوا على الناس دينهم لإصلاح دنيا غيرهم.

- نشر الأقوال الشاذة، من عجائب هذا الزمان، وهو مليء بالعجائب، أننا أصبحنا نسمع من غرائب الفتاوى ما يشيب له الرأس، تُنْسب لدين الله من غير تحرير ولا تدقيق، حتى لبَّست على العامة دينهم، وفتحت الباب أمام المختص وغير المختص أن يدلي بدلوه ويقول ما يشاء، وأن يجتهد في إثبات أو نفي الفتوى من غير علم.

ولو كان الذي يتسابق في إطلاقها في وسائل الإعلام ممن هم مولعون بغريب القول من  أحداث الأسنان، أو ممن ليس لهم في العلم ناقة ولا جمل، لَمَا أسفنا عليهم بقدر ما نأسف على  بعضٍ ممن أوتوا نصيبًا من الكتاب، يسارعون في الفتوى، غير مراعين للضوابط الشرعية والمسالك العلمية في الإفتاء؛ مما تكون لفتواهم تبعات سلبية أكثر بكثير من المصلحة التي كانت في ظنهم.

ولا شك أن هذا نتيجة لمؤامرة يعمد أعداء الإسلام فيها إلى استكتاب ناس ليسوا من أهل العلم ليقولوا أقوالًا شاذة، ثم تروج الأقوال الشاذة في وسائل الإعلام، ويقيض لها من المنافقين من أصحاب المقالات والأقلام، أو المقابلات والبرامج والأفلام من ينشر هذه الفتاوى الشاذة، ويستميلون بعض المتخرجين من تخصصات شرعية ليدبِّجوا لهم بعض الأشياء المناصرة للقول الشاذ، من أدلة منسوخة يدعم بها ذلك القول الشاذ، أو أدلة ضعيفة لم تثبت يدعم بها القول الشاذ، أو أدلة ليس هذا موضعها أصلًا؛ بل هي في مجال آخر ليدعموا بها القول الشاذ، وهكذا يلبس على الناس في دينهم.

- حمل الناس على المصادمات في الميادين الدعوية، قد ينشأ خلاف وتباين في وجهات النظر بين داعية وآخر، أو مجموعة دعوية وأخرى، فتحمل كل فئة على غيرها، وتظهر السلبيات في كل داعية أو مجموعة دعوية، ويصبح هناك أهداف بعيدة عن الصواب؛ مما يؤثر على نفسية الداعية أو مجموعة الدعاة المنتمين لهذه المؤسسة سلبًا(12).

ولا يخفى أن معظم الخلاف بين العاملين للإسلام يكون في فروع الدين وجزئياته؛ أي في الأحكام الفقهية العملية، ولو تفقه هؤلاء بمقاصد الأحكام الفرعية، وعلموا أنه متى اتضح المقصد فلا بأس من تعدد الصور وتنوعها؛ لزالت إشكالات كبيرة، وتوفرت طاقات هائلة، ونقلنا معاركنا إلى ساحاتها الحقيقية.

- عدم الصدق في تحمل مهمة الدعوة إلى الله، والتخاذل عن واجبات الدعوة المنوطة به، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].

هكذا أوصى الله تعالى عباده المؤمنين، والدعاة إلى الله أولى الناس باتباع هذا الأمر، والإسراع إلى امتثاله، والتخلق به؛ لما له من أثر عليهم وعلى دعوتهم، ومدى قبول الناس لهم ولها.

غير أن هذا الخلق أو هذا الحال لا يتأتى إلا بالتزام أسبابه، والتمسك بأهدابه، واستعمال مفاتيح أبوابه.

إن من لوازم الصدق ومقتضياته أن تكون الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله لأجل الله عز وجل وابتغاء مرضاته، فلا تكون لأجل مال أو منصب أو جاه أو كسب شهرة أو تعصب لشيخ أو حزب أو طائفة؛ لأن كل ذلك ذاهب وضائع وممحوق البركة في الدنيا والآخرة، فحري بنا أن نحاسب أنفسنا ونحن في طريق الدعوة والجهاد في سبيل الله، ونتبين مدى صدقنا في دعوتنا إلى الله سبحانه، وهل هي خالصة لله وحده، أم يشوبها ما يشوبها من أعراض الدنيا الفانية؟!

وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يبادر الداعية إلى تصديق قوله وما يدعو إليه بفعله، وألا يقول بلسانه ما ليس في قلبه، أو يرغب في فعل ولا ينوي القيام به، أو يظهر للناس حرقة وغيرة على هذا الدين والأمر لا يتعدى شقشقة اللسان، والقلب مشحون بأمر الدنيا وشهواتها وغارق في وديانها، إن كل ذلك مما ينافي الصدق في الدعوة إلى الله عز وجل.

الصدق مرتبط بالإيمان، وقد سأل الصحابة فقالوا: «يا رسول الله أيكون المؤمن جبانًا؟»، قال: «نعم»، فقيل له: «أيكون المؤمن بخيلًا؟»، قال: «نعم»، قيل له: «أيكون المؤمن كذَّابا؟»، قال: «لا»(13).

- عدم وضوح المنهج منذ البداية (العشوائية والارتجالية):

وأقصد بالمنهج طريقة السير القائمة على الدراسة المتأملة للكتاب والسنة والمعرفة بالسنن الإلهية، والتخطيط الواقعي في تحقيق أهداف الدعوة.

بل أعظم من ذلك: عدم التزام الدعوة المنهجية في ذاته، فلا يسعى إلى تربيتها وتزكيتها والرقي بها في منهجية واقعية، تتحقق نتائجها بإيجاد أسبابها ومقدماتها، والسبب في هذا المظهر أحد أمرين:

أ- عدم اقتناعه بالمنهجية.

ب- عدم معرفته بالمنهجية أصلًا.

فمن الأَولى أن يمتاز الداعية بالصدق عن غيره؛ حيث اجتمعت فيه صفة الإيمان والدعوة، وليكون له قبولًا وإيجابًا بين الناس، وبالذات المدعوين، ونلاحظ ذلك بارزًا في دعوة المصطفى عليه السلام، من حيث نشأتها وما لاقته من قبول عند المشركين لصدقه صلى الله عليه وسلم، فعلى الداعية التحلي بالصدق في جميع الأحوال والأوقات، وأن يكون هو ديدنه وسياسته العامة، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)} [الأحزاب:23-24].

والأسف كل الأسف حين يفهم الكثير أن الصدق صدق اللسان فقط، وهذا فهم قاصر؛ لأن الصدق أوسع من ذلك وأعم، فالصدق قابلَ النفاق في القرآن، وهذا دليل على أنه يشمل معنى الإيمان، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24].

والصدق في القول تعبير عن الشخصية الواضحة والمروءة والشهامة والكرم؛ حيث لا يلجأ للكذب إلا لئيم الطبع، خبيث النفس، ضعيف الشخصية، والفطرة السليمة تستعيب الكذب وتستقبحه؛ ولذلك أجمعت الشرائع السماوية على تحريمه وتجريمه، فما بالنا بالدعاة؟!

أيها الداعية، حين يلجئك الموقف إلى كذب فلا تقدم عليه، وتذكر كلمة أبي سفيان أمام هرقل: «والله، لولا أن يؤثروا عني كذبًا لكذبت»، لقد تجنب هذا الرجل، وكان جاهليًا، أن يكذب خشية أن ينقلوها عنه، أو يعيروه بها يومًا من الدهر، مع شدة حاجته إليها.

كذلك الصدق في العمل يدخل تحت هذا المفهوم؛ لقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)} [الإنسان:8-10]، وحديث: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»(14).

فلذا كان الصدق في حمل الدين صدقًا؛ لأنه قد يكمن الشيطان للداعية، ويوحي له بترك بعض الأعمال الصالحة بحجة أن باطنه ليس كذلك، وهذا خطأ كبير، واعلم أن في الدعوة أمورًا مهمة وأمورًا أكثر أهمية، فحيث أن الكلمات المعسولة مهمة، ولكن الصدق أكثر أهمية، وأن يكون الإنسان منسجمًا مع نفسه، وأن يكون حديثه في معناه.

عن أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال: جريء، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأُتِي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كله، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلت ليقال: هو جواد، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه، ثم ألقي في النار»(15).

فما جره لذلك إلا عدم صدق سريرته، فصدق السريرة سلامة من المهالك، واعلم، أخي الداعية، أن الله عز وجل قد وبخ المؤمنين الذين تخالف أقوالهم أفعالهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} [الصف:2-3].

وامتدح في المقابل من وافق قوله عمله في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، فكون المرء وارث للأنبياء فعند ذلك يتعين عليه أن يكون ممن ينتبه بقدر المستطاع مع الجهاد المستمر، وأن يتحلى بما وصف الله به أنبيائه ورسله، وليعلم أنه محاسب على كل صغيرة وكبيرة {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود:7]، وقد فُسر حسن العمل بأنه أخلصه وأصوبه.

أخي الداعية، اعلم أن لهذه الصفة أهمية عظمى؛ حيث إنها جمعت بين صفات عدة تحت مسمى واحد، وإذا اطلع الداعية على أغلب كتب الدعوة لم يكد يراها؛ وذلك لأنها تجزأت تحت مواضع وعناوين مختلفة المسمى.

مع أهمية سلامة قلب الداعية من الغل والحقد والحسد على إخوانه الآخرين من الدعاة، وإنما يُكنّ المحبة لكل مصلح يدعو إلى الخير، ويتعاون معه في طاعة الله عز وجل، ولا يحتقر جهده مهما قل، ولا تراه إلا حريصًا وساعيًا إلى اجتماع الكلمة ووحدة الصف، فالداعية الصادق يكره الفرقة والاختلاف إذا لم يكن في أصول الدين وكلياته، والدعاة الصادقون يرحم بعضهم بعضًا، ويرفق بعضهم ببعض، ويتناصحون فيما بينهم.

كما أن الصدق مع الله سبحانه في الدعوة والجهاد يفرض على المسلم أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه ويجاهد من أجله، وهذا يلزمه التفقه في الدين والتبصرة فيه، بما قال الله عز وجل وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهِمَه الصحابة الكرام رضي الله عنهم.

وإن من لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه الحذر من كيد الأعداء، المتربصين بهذا الدين وأهله، من الكافرين والمنافقين، وبخاصة في زماننا هذا الذي تنوعت فيه أساليب المكر والخبث، فحري بالداعية الصادق أن يتفطن لدسائس الأعداء ودجلهم ونفاقهم، ولو ألبسوا ذلك كله لبوس الحكمة والمصلحة.

إن التنازل اليسير من الداعية إلى الله سبحانه لا يقف عند حد؛ بل تتبعه تنازلات وتنازلات؛ لأن أعداء هذا الدين لا يكتفون بالقليل من الداعية، وقد حذر الله سبحانه نبيه  صلى الله عليه وسلم من هذا الخطر فقال: {فَلَا تُطِعِ المُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَو تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم:8-9]، والحقيقة التي ينبغي أن يعيش فيها أصحاب الدعوة إلى الله هي هذه الحقيقة التي لقنها الله لصاحب الدعوة الأولى صلى الله عليه وسلم، وهي أن التكليف بهذه الدعوة تنزل من عند الله فهو صاحبها، وأن الحق الذي تنزلت به لا يمكن مزجه بالباطل الذي يدعو إليه الآثمون الكفار، فلا سبيل إلى التعاون بين حقها وباطلهم، أو الالتقاء في منتصف الطريق بين القائم على الحق والقائمين على الباطل، فهما منهجان مختلفان، وطريقان لا يلتقيان، فأما حين يغلبه الباطل بقوته وجمعه، على قلة المؤمنين وضعفهم لحكمة قضاها الله، فالصبر حينئذ حتى يأتي الله بحكمه، والاستمداد من الله والاستعانة بالدعاء والتسبيح هما الزاد المضمون لهذا الطريق.

إنها حقيقة كبيرة، لا بد أن يدركها ويعيش فيها رواد هذا الطريق، فكثيرة تلك المحاولات التي حاول المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها المساومة على الدعوة، ولكن الله عصم منها رسوله، وهي محاولات الطغاة مع أصحاب الدعوات دائمًا؛ محاولة إغرائهم لينحرفوا، ولو قليلًا، عن استقامة الدعوة وصلابتها، ويرضوا بالحل الوسط الذي يغرونهم به في مقابل مغانم كثيرة، ومن جملة الدعاة من يفتن بهذا عن دعوته؛ لأنه يرى الأمر هينًا، فأولئك لا يطلبون منه أن يترك دعوته كليًا، إنما يطلبون، فقط، بعض تعديلات طفيفة؛ ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق.

ومن لوازم الصدق في الدعوة أن يحذر الداعية من الكذب على إخوانه المسلمين والدعاة المصلحين، ومن ذلك إشاعة الأخبار قبل التحقق من صحتها، واستخدام الأساليب الملتوية والمراوغات بحجة السياسة والمصلحة، كل هذا لا يتفق وصدق الداعية وسلامة قلبه.

ومن لوازم الصدق في الدعوة إلى الله سبحانه أن يعتني كل مسلم منا بنفسه بالوسائل الشرعية للتربية، وذلك في وسط بيئة صالحة معروفة بصحة الفهم وحسن القصد، يتربى معها، ويعد نفسه للتضحية في سبيل الله عز وجل، وبذل المال والنفس في ذلك، وأن يوطن نفسه لابتلاءات الطريق ومشاقه، التي هي سنة من سنن الله عز وجل لتمحيص الصفوف، قال تعالى: {الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت:2-3]، فلا يتبين الصادق في دعوته من الكاذب إلا بالابتلاء(16).

***

____________

(1) أخرجه ابن حبان (5559).

(2) كلمة الحق، ص176-177.

(3) أخرجه مسلم (142).

(4) من نحن ومن الآخر؟! عبد العزيز الجليل، الموسوعة الشاملة.

(5) أخرجه البخاري (3606).

(6) السلسلة الصحيحة (2918).

(7) أخرجه الترمذي (3662).

(8) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 306).

(9) شرح رياض الصالحين (3/ 232).

(10) فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام (4/ 365).

(11) مفهوم الدين بين الحقيقة والتحريف، موقع: الشبكة الإسلامية.

(12) تحديات العمل الدعوي، موقع: تيار الإصلاح.

(13) أخرجه مالك في الموطأ (19).

(14) أخرجه البخاري (1).

(15) أخرجه مسلم (1905).

(16) الصدق.. الصدق، موقع: لها أون لاين.