logo

أوصني


بتاريخ : السبت ، 15 صفر ، 1439 الموافق 04 نوفمبر 2017
بقلم : تيار الاصلاح
أوصني

الوصية: قول حكيم صادر عن مجرب، يوجهه إلى من يحب لينتفع به، وهي من ألوان النثر التي عرفها العرب في الجاهلية.

أجزاء الوصية:

أ- المقدمة: وفيها تمهيد وتهيئة لقبولها.

ب- الموضوع: وفيه عرض للأفكار في وضوح وإقناع هادئ.

ﺠ- الخاتمة: وفيها إجمال موجز لهدف الوصية.

خصائص أسلوب الوصية:

أ- وضوح الألفاظ.

ب- قصر الجمل.

ﺠ- الإطناب بالتكرار والترادف والتعليل.

د- تنوع الأسلوب بين الخبر والإنشاء.

ﻫ- الإقناع بترتيب الأفكار وتفصيلها وبيان أسبابها.

و- الإيقاع الموسيقي الجميل.

وهناك فرق بين الوصية والخطبة، ألا وهو:

أن الخطبة هي فن مخاطبة الجماهير لاستمالتهم واقناعهم.

أما الوصية فهي قول حكيم لإنسان مجرب، يوصي به من يحب لينتفع به في حياته.

وميزة الوصية أنها تكون دائمًا مصدر خير، ويكون هدفها الخير والمنفعة، والعمل الصالح المثمر، حين يكون مصدرها الله تعالى أو أحد الأنبياء، أما حين يتواصى الطاغوت والظالمون فوصيتهم تصب دائمًا في مصلحة طغيانهم وظلمهم؛ لذلك يقول القرآن في معرض الاستنكار: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} [الذاريات:52-53].

هذا وقد وردت كلمة وصية ومشتقاتها في عدد من الآيات، ويمكن حصرها تحت ثلاثة عناوين عريضة:

أولها: وصايا الأنبياء إلى الناس لتوحيد الله تعالى وإقامة الدين، وتكريس عبودية الإنسان لله وحده.

ثانيًا: الوصايا التي تؤسس لصناعة التقوى والشخصية المؤمنة.

ثالثًا: وصايا الإرث.

فمن وصايا إقامة الدين وتوحيد الله ما جاء في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13].

وهذه العبودية المطلقة والتسليم المطلق لله الواحد ستكون وصية إبراهيم لمن يأتي من ذريته، كما يخبرنا القرآن الكريم: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].

والوصية لا تحمل أي معنى يمكن أن يؤول أو يبدل، وبالتالي تخرج الوصايا المدرجة تحت هذا العنوان عن كونها اقتراح شيء، أو تحبيذه أو الدعاية له، أو ترويجه على وجه الاختيار أو الاستحباب: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، لم يقل لا تموتوا؛ بل أردف الأمر بالتوكيد: {فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}.

إن وصية إبراهيم عليه السلام دعوة فيها أمر بالتمسك بوحدانية الله، وهذه الوصية كانت هي الأساس لبرامج دعوات جميع الأنبياء والرسل، وستظل هي الأساس إلى قيام الساعة.

أما وصايا الله لنا للانتقال بإيماننا إلى مرحلة الورع والتقوى، فإن سورة الأنعام تقدم نموذجًا؛ إذ توصينا بتحريم عشرة عناوين من الأعمال، تبدأ بالوصية الأساسية، وهي تحريم أي شرك بالله، وتتابع الوصايا لتعدد أوامر أو نواهي أو محرمات، يحول تجنبها دون وقوع الإنسان في شراك الهوى والفساد والظلم والأنانية والغدر والخيانة والتفرقة والاختلاف والتنازع.

فالهدف هو بناء شخصية مؤمنة متوازنة، وامتلاك التقوى كحصن، واذا امتلكت القدرة على تجنب هذه المحرمات العشر، فذلك يعني أنك بدأت طريق الهداية، ويوصينا الله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].

إن الوصايا التي يضعها القرآن بين أيدينا ليست مجرد مواعظ أو حكم؛ إنها مشاعل هداية لسلوك الصراط المستقيم: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104]، وهذه الوصية هي برنامج عمل حياتي في كيفية وضع إيماننا موضع الفعل والعمل.

من وصايا القرآن الكريم: الوصايا العشر:

قال الله تعالى في سورة الأنعام:

{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} [الأنعام:151-153].

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكل من يدعو إلى الله: {قُلْ} لكل الناس، {تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} تحريمًا عامًا شاملًا لكل أحد، محتويًا على سائر المحرمات، من المآكل والمشارب والأقوال والأفعال.

 الوصايا العشر هي:

الوصية الأولى: {أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا}:

أي: لا قليلًا ولا كثيرًا، وحقيقة الشرك بالله أن يُعبَد المخلوق كما يُعبَد الله، أو يُعظَّم كما يعظم الله، أو يُصرف له نوع من خصائص الربوبية والإلهية، وإذا ترك العبد الشرك كله صار موحدًا، مخلصًا لله في جميع أحواله، فهذا حق الله على عباده، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا.

فمن زعم أن لله شريكًا فقد استنقص ملك الله وعزة الله وقهر الله، وأما من لم يشرك بالله فقد آمن بأن الله هو الواحد القهار الملك العزيز، قال الله سبحانه: {قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [سبأ:27].

الوصية الثانية: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}:

بدأ بآكد الحقوق بعد حقه سبحانه وتعالى، وهو حق الوالدين؛ فأمر بالإحسان إليهما بالأقوال الكريمة الحسنة، والأفعال الجميلة المستحسنة، فكل قول وفعل يحصل به منفعة للوالدين أو سرور لهما فإن ذلك من الإحسان، وإذا وجد الإحسان انتفى العقوق، فهنيئًا لمن بر والديه، وليحذر من عق والديه.

الوصية الثالثة: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ}:

من ذكور وإناث {مِنْ إِمْلاقٍ} أي: بسبب الفقر وضيقكم من رزقهم، كما كان ذلك موجودًا في الجاهلية القاسية الظالمة، وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال، وهم أولادهم، فنهيهم عن قتلهم لغير موجب، أو قتل أولاد غيرهم، من باب أولى وأحرى.

{نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}؛ أي: قد تكفلنا برزق الجميع، فلستم الذين ترزقون أولادكم؛ بل ولا أنفسكم، فليس عليكم منهم ضيق.

الوصية الرابعة: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ}:

وهي: الذنوب العظام المستفحشة، {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}؛ أي: لا تقربوا الظاهر منها والخفي، والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها، فإنه يتناول النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها.

الوصية الخامسة: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ}:

وهي: النفس المسلمة، من ذكر وأنثى، صغير وكبير، بر وفاجر، والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق، {إِلّا بِالْحَقِّ} كالزاني المحصن، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.

{ذَلِكُمْ} المذكور {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} عن الله وصيته، ثم تحفظونها، ثم تراعونها وتقومون بها، ودلت الآية على أنه بحسب عقل العبد يكون قيامه بما أمر الله به.

الوصية السادسة: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}:

بأكل أو معاوضة على وجه المحاباة لأنفسكم، أو أخذ من غير سبب، {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي: إلا بالحال التي تصلح بها أموالهم، وينتفعون بها، فدل هذا على أنه لا يجوز قربانها، والتصرف بها على وجه يضر اليتامى، أو على وجه لا مضرة فيه ولا مصلحة، {حَتَّى يَبْلُغَ} اليتيم {أَشُدَّه} أي: حتى يبلغ ويرشد، ويعرف التصرف، فإذا بلغ أشده أعطي حينئذ ماله، وتصرف فيه على نظره.

الوصية السابعة: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}:

أي: بالعدل والوفاء التام، فإذا اجتهدتم في ذلك، فـ {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: بقدر ما تسعه، ولا تضيق عنه، فمن حرص على الإيفاء في الكيل والوزن، ثم حصل منه تقصير لم يفرط فيه، ولم يعلمه، فإن الله عفو غفور.

وبهذه الآية ونحوها استدل العلماء، بأن الله لا يكلف أحدًا ما لا يطيق، وعلى أن من اتقى الله فيما أمر، وفعل ما يمكنه من ذلك، فلا حرج عليه فيما سوى ذلك.

الوصية الثامنة: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}:

قولًا تحكمون به بين الناس، وتفصلون بينهم الخطاب، وتتكلمون به على المقالات والأحوال {فَاعْدِلُوا} في قولكم، بمراعاة الصدق في من تحبون ومن تكرهون، والإنصاف، وعدم كتمان ما يلزم بيانه، فإن الميل على من تكره بالكلام فيه أو في مقالته من الظلم المحرم.

وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين، في لحظه ولفظه.

الوصية التاسعة: {وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا}:

وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد من القيام بحقوقه والوفاء بها، ويشمل العهد الذي يقع التعاقد به بين الخلق، فالجميع يجب الوفاء به، ويحرم نقضه والإخلال به.

{ذَلِكُمْ} الأحكام المذكورة {وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ما بينه لكم من الأحكام، وتقومون بوصية الله لكم حق القيام، وتعرفون ما فيها، من الحكم والأحكام.

ولما بين كثيرًا من الأوامر الكبار، والشرائع المهمة، أشار إليها وإلى ما هو أعم منها فقال في الوصية العاشرة: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فاتَّبِعُوهُ}.

أي: هذه الأحكام وما أشبهها، مما بينه الله في كتابه ووضحه لعباده، صراط الله الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المعتدل السهل المختصر.

{فَاتَّبِعُوهُ} لتنالوا الفوز والفلاح، وتدركوا الآمال والأفراح، {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} أي: الطرق المخالفة لهذا الطريق {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} أي: تضلكم عنه وتفرقكم يمينًا وشمالًا، فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم فليس هناك إلا طرق توصل إلى الجحيم.

{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علمًا وعملًا صرتم من المتقين، وعباد الله المفلحين، ووحد الصراط وأضافه إليه لأنه سبيل واحد موصل إليه، والله هو المعين للسالكين على سلوكه(1).

من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم:

توجيهات ونصائح نبوية أنقلها لكم كما هي؛ فمهما بلغت بلاغتنا وتسجعت كلماتنا وقويت مفرداتنا فلن نصل لمواعظ ولا نصائح من أوتي جوامع الكلم والوحي الإلهي؛ فهو النبي المصطفى المعصوم صلوات ربي وسلامه عليه، وما نحن إلا بشر خطاءون.

فإلى بعض وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه، وهي أيضًا وصايا للمسلمين في كل زمان ومكان.

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: «أوصني»، قال: «لا تغضب» فردد مرارًا، قال: «لا تغضب»(2).

قال البيضاوي: «لعله لما رأى أن جميع المفاسد التي تعرض للإنسان إنما هي من شهوته، ومن غضبه، وكانت شهوة السائل مكسورة، فلما سأل عما يحترز به عن القبائح نهاه عن الغضب، الذي هو أعظم ضررًا من غيره، وأنه إذا ملك نفسه عند حصوله كان قد قهر أقوى أعدائه»(3).

عن جابر بن سليم الهجيمي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب ببردة له قد تناثر هدبها على قدمه، فقلت: يا رسول الله، أوصني، قال: «اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تكلم أخاك ووجهك منبسط إليه، وإياك وإسبال الإزار، فإن إسبال الإزار من المخيلة، وإن الله لا يحب المخيلة»(4).

فعل المعروف للخلق خلق جميل، وسلوك نبيل، ينبئ عن نفس كريمة تزخر بحب الخير للناس، وإرادة سعادتهم، وزوال ما يؤلمهم ويضرهم.

والحديث فيه فوائد عظيمة، بداية من الحث على فعل الطاعات مهما قل شأنها في عين البشر، فهذا يعطي أخاه كوب ماء، ويُؤْثره على نفسه فيكتب الله له الأجر لمعروفه هذا.

وفيه نهي عن الكبر والخيلاء لما فيه من عبودية للمظاهر.

قال المناوي: «إنه لا ينبغي للعبد أن يحقر شيئًا من المعروف في الإحسان إلى الناس؛ بل إلى خلق الله، ولا يحتقر ما يتصدق به وإن قل، وندب لقاء الأخ المؤمن بالبشر وطلاقة الوجه، وأنه يقوم مقام فعل المعروف إذا لم يمكنه فعل المعروف معه، وغير ذلك»(5).

عن أبي هريرة أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد سفرًا، فقال: «يا رسول الله، أوصني»، قال: «أوصيك بتقوى الله، واذكر الله على كل شرف»، فلما ولى قال: «زوى الله لك الأرض، وهون عليك السفر»(6).

هذا الحديث فيه فوائد عظيمة تتعلق بالسفر.

وقد اشتملت هذه الأدعية على طلب مصالح الدين، التي هي أهم الأمور، ومصالح الدنيا، وعلى حصول المحاب، ودفع المكاره والمضار، وعلى شكر نعم الله، والتذكر لآلائه وكرمه، واشتمال السفر على طاعة الله، وما يقرب إليه.

ومتى كان السفر على هذا الوصف، فهو السفر الرابح، وهو السفر المبارك(7).

عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن معاذ بن جبل أراد سفرًا، فقال: «يا نبي الله، أوصني»، قال: «اعبد الله لا تشرك به شيئًا»، قال: «يا نبي الله، زدني»، قال: «إذا أسأت فأحسن»، قال: «يا رسول الله، زدني»، قال: «استقم وليحسن خلقك»(8).

والاستقامة: هي سلوك الصراط المستقيم، وهو الدين القيم من غير تعريج عنه يمنة ولا يسرة، ويشمل ذلك فعل الطاعات كلها، الظاهرة والباطنة، وترك المنهيات كلها كذلك، فصارت هذه الوصية جامعة لخصال الدين كلها(9).

قال بعض العارفين: «من عدم القناعة لم يزده المال إلا فقرًا».

عن جرموز الهجيمي قال: قلت: «يا رسول الله، أوصني»، قال: «أوصيك ألَّا تكون لعانًا»(10).

أي: ألَّا تلعن معصومًا، فيحرم لعن المعصوم المعين، فإن اللعنة تعود على اللاعن.

وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة، وإطلاق اللسان بها، والمؤمن ليس بلعان، فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين، فالاشتغال بذكر الله أولى؛ فإن لم يكن ففي السكوت سلامة.

عن معاذ أنه قال: «يا رسول الله، أوصني»، قال: «اتق الله حيثما كنت أو أينما كنت»، قال: «زدني»، قال: «أتبع السيئة الحسنة تمحها»، قال: «زدني»، قال: «خالق الناس بخلق حسن»(11).

لما كان العبد مأمورًا بالتقوى في السر والعلانية، مع أنه لا بد أن يقع منه أحيانًا تفريط في التقوى، إما بترك بعض المأمورات، أو بارتكاب بعض المحظورات، فأمره بأن يفعل ما يمحو به هذه السيئة وهو أن يتبعها بالحسنة، قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114](12).

وفيه إرشاد إلى منهج الإصلاح والتقويم، وتدارك النهوض بالنفس بعد سقوطها بارتكاب السيئة، وهذا المنهج ترسمه هذه القاعدة أضبط رسم، فمن سقط بارتكابه السيئة في حالة من حالات الضعف الإنساني؛ فعليه أن يتبع هذه السيئة حسنةً مستمدة من منابع الضمير الأخلاقي؛ فإن للحسنات قوة سبق عجيبة بفضل الله تعالى، إذ تمر على السيئات التي قد انطلقت قبلها فتردها، وتمحو أثرها عند الله تعالى، وتعود نفس المؤمن بالله إلى براءتها ونقائها الخلقي بعد أن أصابها ما أصابها من أدناس السيئات(13).

قال بعضهم: «الخلق الحسن: كف الأذى، وبذل الندى، والصبر على الأذى [أي على أذى الغير] والوجه الطلق».

هذا الحديث اشتمل بجمله الثلاث على ما هو مطلوب من المسلم لربه ولنفسه ولغيره.

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: «أوصني», قال: «أوصيك بتقوى الله, فإنه رأس كل شيء, وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن, فإنه روحك في السماء, وذكرك في الأرض»(14).

إن الرهبان وإن تخلوا عن الدنيا وزهدوا فيها, فلا تخلي ولا زهد أفضل من بذل النفس في سبيل الله, فكما أن الرهبانية أفضل عمل أولئك, فالجهاد أفضل عملنا(15).

عن سعيد بن يزيد قال: قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوصني», قال: «أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك»(16).

قال ابن جرير: «هذا أبلغ موعظة وأبين دلالة بأوجز إيجاز وأوضح بيان؛ إذ لا أحد من الفسقة إلا وهو يستحي من عمل القبيح عن أعين أهل الصلاح وذوي الهيئات والفضل أن يراه وهو فاعله، والله مطلع على جميع أفعال خلقه، فالعبد إذا استحى من ربه استحياءه من رجل صالح من قومه تجنب جميع المعاصي الظاهرة والباطنة، فيا لها من وصية ما أبلغها، وموعظة ما أجمعها».

قال الراغب: «حق الإنسان إذا هَمَّ بقبيح أن يتصور أَجَلَّ مَن في نفسه كأنه يراه، فالإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه؛ ولذلك لا يستحي من الحيوان ولا من الأطفال ولا من الذين لا يميزون، ويستحي من العالم أكثر مما يستحي من الجاهل، ومن الجماعة أكثر مما يستحي من الواحد، والذين يستحي منهم الإنسان ثلاثة: البشر ثم نفسه ثم الله تعالى، ومن استحيا من الناس ولم يستح من نفسه فنفسه عنده أخس من غيره، ومن استحيا منهما ولم يستح من الله فلعدم معرفته بالله، ففي ضمن الحديث حث على معرفة الله تعالى»(17).

عن أسود بن أصرم المحاربي رضي الله عنه قال: قلت: «يا رسول الله، أوصني»، قال: «هل تملك لسانك؟», فقلت: «فما أملك إذا لم أملك لساني؟», قال: «أفتملك يدك؟», فقلت: «فماذا أملك إذا لم أملك يدي؟», قال: «فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير»(18).

يقول الفضيل بن عياض: «لم يُدْرك عندنا ما أُدرك إلا بسخاء النفس وسلامة الصدر والنصح للمسلمين».

بمعنى أن الدرجة العليا من الإيمان لا تنال إلا بهذه الثلاثة، إنها وصية غالية لمن أراد سلوك الطريق الآمنة التي يتحصل فيها الإيمان، وتغسل فيها الخطايا والذنوب العظام.

فاتق الله يا عبد الله، ولا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير، كف عما لا يعنيك، ودع فضول الكلام والنظر، اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا ترتفع عنك نعمته، واجعل طاعتك لمن لا غنى لك عنه، واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.

***

____________

(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان.

(2) رواه البخاري (6116).

(3) فتح الباري (10/ 520).

(4) رواه النسائي (9611).

(5) فيض القدير (1/ 121).

(6) رواه النسائي (10266).

(7) بهجة قلوب الأبرار، ص195.

(8) رواه ابن حبان (524).

(9) جامع العلوم والحكم (1/ 510).

(10) رواه أحمد (20678).

(11) رواه أحمد (22059).

(12) جامع العلوم والحكم (1/ 412).

(13) الحديث الموضوعي، ص262.

(14) صحيح الجامع (2543).

(15) فيض القدير (3/ 97).

(16) صحيح الجامع (2541).

(17) فيض القدير (3/ 74).

(18) صحيح الجامع (1393).