logo

شمول السيرة النبوية لكافة الأدوار الدعوية


بتاريخ : السبت ، 13 ذو الحجة ، 1436 الموافق 26 سبتمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
شمول السيرة النبوية لكافة الأدوار الدعوية

إن من أحق ما يعتني به الدارسون لعلوم الشريعة عامة، والمهتمون بالدراسات الدعوية خاصة، النظر في سيرة رسول رب العالمين، ورحمته إلى الناس أجمعين؛ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، نظر تفقه واستنباط واعتبار.

فهو سيد الدعاة وإمامهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46)} [الأحزاب:45-46].

وهو عليه الصلاة والسلام القدوة والأسوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الأحزاب:21].

ومن لوازم ذلك لزوم سبيله صلى الله عليه وسلم في الدعوة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي... } [يوسف:108].

ولم تضل دعوة من الدعوات المنتسبة إلى الإسلام عن مسار النبوة إلا لضعف العلم أو العمل بسيرة قدوتها وأسوتها عليه الصلاة والسلام.

والدعوة إلى الله في واقعها الحاضر تحتاج إلى ذلك أيما حاجة؛ بل إن كثيرًا من الإجابات للأسئلة، التي ترد كثيرًا في هذا العصر عن قضايا الدعوة ومناهجها، يمكن الحصول عليها من هذا النظر المتخصص في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه السيرة التي تمثل المنهج الأمثل للدعوة إلى الله تعالى، والتي يلتقي عند تبجيلها وتوقيرها والوقوف عندها كل من صح إيمانه، وصدق في اتباعه لمحمد عليه الصلاة والسلام، فيكون ذلك سببًا في وحدة الدعوة والمؤسسات والجماعات الدعوية، وبحيث يكون اختلافهم بعد ذلك، إن وجد، اختلاف تنوع لا تضاد.

فمن الأمور البدهية عند المسلمين أن محمدًا عليه الصلاة والسلام هو القدوة والأسوة لكل مسلم، ولذلك فسيرته محل عنايتهم واهتمامهم منذ صدر الإسلام، وهي جديرة بمزيد العناية وحسن العلم بها، والفهم لدقيقها وجليلها، ثم تطبيقها بقدر الطاقة والوسع.

فمتابعته صلى الله عليه وسلم علامة محبة الله، وطريق مرضاته تعالى، قال سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].

وإن من أحق الناس بحسن المتابعة وصدق التأسي به، عليه الصلاة والسلام، أولئك القائمون برسالته من الدعاة إلى دين الله، فهم ليسوا مجرد أتباع فحسب، وإن كان الأتباع مطالبون بالاقتداء والتأسي كذلك، لكنهم ورثته عليه الصلاة والسلام فيما ابتعثه الله تعالى لأجله؛ وهو الدعوة إلى دين الله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].

وهم أتباعه وورثته في إخراج الناس من الظلمات إلى النور: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد:9].

وهم المحققون لخيرية هذه الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110].

ولذلك كان من الأهمية بمكان معرفة سيرته صلى الله عليه وسلم من منظور دعوي، يتعمق فيها بالنظر والدراسة والاستنباط لجوانب دعوية متعددة؛ تمثل في مجموعها استجلاء منهاج النبوة في سيرته عليه الصلاة والسلام، فهو المثل الذي يحتذى ويقتدى.

والداعية يحتاج إلى معرفة ما في سيرة القدوة والأسوة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، من أحوال ومواقف؛ لتكون دعوته على بصيرة، كما هي دعوة القدوة والأسوة سيد الدعاة، وإمام المرسلين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وتتمثل أهمية الدراسة الدعوية للسيرة النبوية في أنها تنتج العلم بأمور تهم الدعوة والقائمين بها، ومن أبرز تلك الأمور ما يأتي:

أولًا: معرفة ما ينبغي أن تكون عليه شخصية الداعي؛ بما يحمله معنى الشخصية من مواصفات واعتبارات متعددة، والتي منها: المواصفات السلوكية والخلقية، أو العلمية والعملية، أو الذاتية والخارجية أو غير ذلك، من مواصفات هذه الشخصية، وطرق إعدادها، وكيفيات إكمال ما ينقصها، وعوامل ثباتها، ومعرفة حدودها وإمكاناتها ومسئولياتها.

ولما كانت شخصية محمد عليه الصلاة والسلام هي الشخصية البشرية الأكمل في مجال القيام بالدعوة، فإن دراسة سيرته، دراسة دعوية من هذه المنطلق، جديرة بإبراز النموذج الدعوي الأكمل.

ثانيًا: معرفة المضمون الذي يدعو إليه الداعية نوعًا وكمًا وقدرًا، وما يستلزم ذلك من مراعاة ظروف تقديم ذلك المضمون بحسب الحال والمناسبة، ولا شك أن معرفة هديه صلى الله عليه وسلم قبل الإقدام على تقديم مضامين الدعوة، وخصوصًا في الأحوال المتغيرة والبيئات الجديدة؛ سبب بإذن الله تعالى للتوفيق والتسديد، والخروج من مزالق الاجتهاد غير المهتدي بسيرته عليه الصلاة والسلام.

ثالثًا: معرفة الكيفيات التي يدعو بها الداعية، والوسائل والأساليب المناسبة، وضوابط تلك الوسائل التي لها حكم الغايات، ومدى المسئولية تجاه ما يستجد من وسائل الاتصال والتأثير، وأهمية الإعداد لمعرفة الوسيلة كما يستعد لمعرفة المضمون؛ كل ذلك وغيره يجد له الداعية في سيرة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام جوابًا يجعله يقدم على بصيرة، أو يحجم عن بينة.

رابعًا: معرفة أصناف المدعوين وخصائص دعوة كل منهم؛ فدعوة النصارى فيها ما يختلف عن دعوة المشركين، ودعوة المسلم العاصي فيها ما يميزها عن دعوة الكافر، ودعوة المجادل المعاند غير دعوة الباحث عن الحق، الراغب في الوقوف على الدليل، وهذا كله يُعلَم من سيرته عليه الصلاة والسلام؛ بل إنك لتجد شواهد الكتاب والسنة في ذلك مسائل رئيسة فيما سجلته كتب السيرة ومصنفاتها.

خامسًا: في دراسة السيرة دراسة دعوية معرفة لتطور الدعوة إلى الإسلام، منذ بدايتها إلى أن عمت وانتشرت، وكيف أن هذه الدعوة كانت تنتشر ضمن إمكانات البشر وحدود قدراتهم(1)، وأن توفيق الله تعالى يحوط الصادقين المؤمنين، كما أن بلاءه قد يصيبهم في مواضع ومواقف متعددة اختبارًا وامتحانًا، وما يتبع ذلك من معرفة عوامل النجاح والفشل بالمقياس الرباني، فلا اغترار بقوة، ولا تقصير في بذل سبب وعُدَّة.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى حال العرب في الجاهلية، وبين طفولته عليه الصلاة والسلام، وبعثته، ودعوته لقومه، وجهاده وصبره عليهم في مكة، بأساليب شتى من الحوار والنصيحة والترغيب والترهيب.

وتناول هجرته، وحياته في المدينة، وأحوال مجتمعها الذي شمل المؤمنين والمنافقين وأهل الكتاب ومن حولهم من المشركين، بأسلوب عميق يبين دخائل النفوس وخفاياها.

وتحدث القرآن الكريم عن غزواته وأيامه مع أعداء الدعوة ومناوئيها، وبَيَّن الظروف التي أحاطت بهذه الوقائع، وأسباب النصر والهزيمة فيها؛ لتكون تربية للجيل الأول، ودرسًا لمن يأتي من بعدهم.

كما حوى الكتاب الكريم كثيرًا من التفصيلات التي تبين عن أخلاقه عليه الصلاة والسلام، وصفاته، وتعاملاته مع الفئات المتعددة من المؤمنين والمنافقين والكفار، وغير ذلك مما يدخل في مفهوم السيرة النبوية، وهو كثير في الكتاب الكريم(2).

فقه السيرة الدعوية:

يعد ابن القيم رحمه أول من ألف في فقه السيرة، في كتابه زاد المعاد، وتظهر استنباطاته في فقه السيرة لما يتصل بموضوع الدعوة أكثر مما يتصل بالداعية والمدعو والوسيلة.

وباستقراء استنباطاته المتصلة بالسيرة في كتابه نجد أن موضوع الأحكام يأتي أكثر من غيره، ثم يليه موضوع العقيدة، ثم الأخلاق، وذلك عائد إلى المنحى الفقهي الذي بنى عليه المؤلف رحمه الله كتابه.

ومع ذلك نجده يذكر في مواضع عديدة دروسًا وفوائد تتصل بالأنواع الأخرى، فنجد فوائد تتصل بالداعية، وفوائد تتصل بالمدعو، وفوائد تتصل بالوسائل والأساليب، ومن الأمثلة ما يلي:

1- قال رحمه الله في فقه قصة الحديبية:

ومنها أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة إذا طلبوا أمرًا يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى أجيبوا إليه، وأعطوه، وأعينوا عليه، وإن منعوا غيره، فيُعَاوَنون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوب لله تعالى مُرْضٍ له أجيب إلى ذلك، كائنًا من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس؛ ولذلك ضاق عنه من الصحابة من ضاق، وقال عمر ما قال حتى عمل له أعمالًا بعده، والصديق تلقاه بالرضى والتسليم حتى كان قلبه فيه على قلب رسول الله، وأجاب عمر عما سأل عنه من ذلك بعين جواب رسول الله، وذلك يدل على أن الصديق رضي الله عنه أفضل الصحابة وأكملهم وأعرفهم بالله(3).

2- وقال في فقه غزوة تبوك:

ومنها أن رسول الله كان يقبل علانية من أظهر الإسلام من المنافقين، ويكل سريرته إلى الله، ويجري عليه حكم الظاهر، ولا يعاقبه بما لم يعلم من سره(4).

3- وقال في فقه قصة الثلاثة الذين خلفوا:

وفيه دليل أيضًا على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب، ويكون هجرانه دواءً له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه؛ إذ المراد تأديبه لا إتلافه(5).

4- وقال في فقه قصة قدوم وفد دوس:

ومنها التأني والصبر في الدعوة إلى الله، وأن لا يعجل بالعقوبة والدعاء على العصاة(6).

5- وقال في فقه قصة وفد نصارى نجران:

ومنها جواز مجادلة أهل الكتاب ومناظرتهم؛ بل استحباب ذلك؛ بل وجوبه إذا ظهرت مصلحته من إسلام من يرجى إسلامه منهم، وإقامة الحجة عليهم، ولا يهرب من مجادلتهم إلا عاجز عن إقامة الحجة، فليول ذلك إلى أهله، وليخل بين المطي وحاديها، والقوس وباريها(7).

وقال أيضًا في الموضع نفسه:

ومنها أن السنة في مجادلة أهل الباطل إذا قامت عليهم حجة الله ولم يرجعوا؛ بل أصروا على العناد، أن يدعوهم إلى المباهلة، وقد أمر الله سبحانه بذلك رسوله، ولم يقل إن ذلك ليس لأمتك من بعدك، ودعا إليه ابن عمه عبد الله بن عباس لمن أنكر عليه بعض مسائل الفروع، ولم ينكر عليه الصحابة، ودعا إليه الأوزاعيُ سفيانَ الثوريَ في مسألة رفع اليدين ولم يُنكَر عليه ذلك، وهذا من تمام الحجة(8).

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، فقال: «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا بني عبد المطلب، لا أغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئًا، يا فاطمة بنت رسول الله سليني ما شئت من مالي، لا أغني عنك من الله شيئًا»(9).

هذه الصيحة العالية هي غاية البلاغ، فقد فاصل الرسول عليه الصلاة والسلام قومه على دعوته، وأوضح لأقرب الناس إليه أن التصديق بهذه الرسالة هو حياة الصلة بينه وبينهم، وأن عصبية القرابة، التي يقوم عليها العرب، ذابت في حرارة هذا الإنذار الآتي من عند الله.

لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام كبير المنزلة في بلده، مرموقًا بالثقة والمحبة، وها هو ذا يواجه مكة بما تكره، ويتعرض لخصام السفهاء والكبراء، وأول قوم يغامر بخسران مودتهم هم عشيرته الأقربون، لكن هذه الآلام تهون في سبيل الحق الذي شرح الله به صدره، فلا عليه أن يبيت بعد هذا الإنذار ومكة تموج بالغرابة والاستنكار، وتستعد لحسم هذه الثورة التي اندلعت بغتة، وتخشى أن تأتي على تقاليدها وموروثاتها.

وبدأت قريش تسير في طريقها، طريق اللدد ومجانبة الصواب، ومضى محمد صلى الله عليه وسلم كذلك في طريقه، يدعو إلى الله، ويتلطف في عرض الإسلام، ويكشف النقاب عن مخازي الوثنية، ويسمع ويجيب، ويهاجم ويدافع، غير أن حرصه على هداية آله الأقربين جعله يجدد مسعاه، محاولًا عرض الإسلام عليهم مرة أخرى، فإن منزلتهم الكبيرة في العرب تجعل كسبهم عظيم النتائج.

وهم، قبل ذلك، أهله الذين يود لهم الخير، ويكره لهم الوقوع في مساخط الله(10).

قال عبد الله بن مسعود: «من كان مستنًّا فليستنّ بمن مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على أثرهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم...»(11) .

ولا شك أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يَرْجحون أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام.

فإن تاريخهم في الإيمان والجهاد وإبلاغ الدعوة إلى الأخلاف كاملة مضبوطة غير منقوصة، ولا محرفة، لا يشبه أي تاريخ آخر(12).

عن عبد الله بن سلام قال: أول ما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما تأملت وجهه واستثبتّه علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب، قال: وكان أول ما سمعت من كلامه أن قال: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام»(13).

إن أضواء الباطن تنضح على الوجه، فتقرأ في أساريره آيات الطهر، وقد ذهب عبد الله يستطلع أخبار هذا الزعيم المهاجر، فنظر إليه يحاول استكشاف حقيقته، فكان أول ما اطمأن إليه بعد التثبت من أحواله أن هذا ليس بكاذب، والملامح العقلية والخلقية لشخص ما لا تُعرَف بنظرة خاطفة، ولكن الطابع المادي الذي يضفي على الروح الكبير كثيرًا ما يكون عنوانًا صادقًا على ما وراءه.

على أن الذين عاشروا محمدًا صلى الله عليه وسلم أحبوه إلى حد الهيام، وما يبالغون أن تندق أعناقهم ولا يخدش له ظفر.

وما أحبوه كذلك إلا لأن أنصبته من الكمال الذي يعشق عادة لم يرزق بمثلها بشر(14).

وقد كان صلى الله عليه وسلم أوسع الناس صدرًا، وألينهم عريكة، وأكرمهم عشيرة، وكان يمازح أصحابه، ويخالطهم ويحادثهم، ويداعب صبيانهم، ويجلسهم في حجره، ويجيب دعوة الحر والعبد، والأمة والمسكين، ويعود المرضى في أقصى المدينة، ويقبل عذر المعتذر، ولم يُرَ مادًا رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد.

يقول عبد الله بن الحارث رضي الله عنه: ما رأيت أكثر تبسمًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: جالست رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مئة مرة، فكان أصحابه يتناشدون الشعر، ويتذاكرون أشياء من أمر الجاهلية وهو ساكت، وربما تبسم معهم(15) .

وكان شديد الرأفة بالمسلمين، كثير المراعاة لاختلاف أحوالهم، وما يعتري النفوس من فتور وملل.

وكان حنونًا ودودًا، تجلت فيه العواطف الإنسانية، والمشاعر اللطيفة في أسمى مظاهرها وأجملها(16).

وقد خلقه الله في أتم خلق وخُلُق، وإليه المنتهى، عبر القرون والأجيال، في اعتدال الفطرة، وسلامة الذوق، ورقة الشعور، والسداد، والاقتصاد، والبعد عن الإفراط والتفريط، تقول عائشة رضي الله عنها: «ما خُيِّر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه»(17).

وكان أبعد الناس عن التكلف، والمغالاة في الزهد، وحرمان النفس حقوقها.

روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدُّلْجَة»(18) .

وقال: «مه! عليكم بما تطيقون، فوالله ما يمل الله حتى تَمَلّوا»(19).

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أعباء النبوة والدعوة، وهمّ الإنسانية والأحزان والأثقال، التي لا تحملها الجبال الراسيات، قد تجلى فيه الشعور الإنساني الرقيق، والعاطفة الإنسانية النبيلة، في أجمل مظاهرهما، فمع صرامته وقوة عزيمته التي يمتاز بها الأنبياء، والتي كانت لا تقيم في سبيل الدعوة وإعلاء كلمة الله، وامتثال أوامره لشيء قيمة أو وزنًا، لم ينس أصحابه الأوفياء الذين لبوا دعوته، وبذلوا في سبيل الله مهجهم وأرواحهم، واستشهدوا في معركة أحد إلى آخر يوم من أيام حياته، فكان يذكرهم، ويدعو لهم، ويزورهم(20).

لقد مثلت حياة النبي صلى الله عليه وسلم أعمالًا كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيها الأسوة الصالحة، والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها؛ لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة، والعواطف النبيلة المعتدلة، والنوازع العظيمة القويمة.

إذا كنت غنيا مثريًا فاقتد بالرسول صلى الله عليه وسلم عندما كان تاجرًا، يسير بِسِلَعِه بين الحجاز والشام، وحين ملك خزائن البحرين.

وإن كنت فقيرًا معدمًا فلتكن لك أسوة به وهو محصور في شعب أبي طالب، وحين قدم إلى المدينة مهاجرًا إليها من وطنه وهو لا يحمل من حطام الدنيا شيئًا.

وإن كنت ملكًا فاقتد بسننه وأعماله حين ملك أمر العرب، وغلب على آفاقهم، ودان لطاعته عظماؤهم وذوو أحلامهم.

وإن كنت رعية ضعيفًا، فلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة أيام كان محكوًما بمكة في نظام المشركين.

وإن كنت فاتحًا غالبًا فلك في حياته نصيب أيام ظفره بعدوه في بدر وحنين ومكة.

وإن كنت منهزمًا، لا قدر الله ذلك، فاعتبر به في يوم أحد وهو بين أصحابه القتلى ورفقائه المثخنين بالجراح.

وإن كنت معلمًا فانظر إليه وهو يعلم أصحابه في صحن المسجد.

وإن كنت تلميذًا متعلمًا فتصور مقعده بين يدي الروح الأمين جاثيًا مسترشدًا.

وإن كنت واعظًا ناصحًا ومرشدًا أمينًا، فاستمع إليه وهو يعظ الناس على أعواد المسجد النبوي.

وإن أردت أن تقيم الحق وتصدع بالمعروف، وأنت لا ناصر لك ولا معين، فانظر إليه وهو ضعيف بمكة، لا ناصر ينصره، ولا معين يعينه، ومع ذلك فهو يدعو إلى الحق ويعلن به.

وإن هزمت عدوك وخضدت شوكته، وقهرت عناده، فظهر الحق على يديك، وزهق الباطل، واستتب الأمر، فانظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل مكة وفتحها.

وإن أردت أن تصلح أمورك، وتقوم على ضياعك، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد ملك ضياع بني النضير وخيبر، وفدك، كيف دبر أمورها، وأصلح شئونها، وفوضها إلى من أحسن القيام عليها.

وإن كنت يتيمًا فانظر إلى فلذة كبد آمنة وزوجها عبد الله، وقد توفيا وابنهما صغير رضيع.

وإن كنت صغير السن فانظر إلى ذلك الوليد العظيم حين أرضعته مرضعته الحنون حليمة السعدية.

وإن كنت شابًا فاقرأ سيرة راعي مكة.

وإن كنت تاجرًا مسافرًا بالبضائع فلاحظ شئون سيد القافلة التي قصدت بصرى .

وإن كنت قاضيًا أو حكمًا فانظر إلى الحَكَم الذي قصد الكعبة قبل بزوغ الشمس ليضع الحجر الأسود في محله، وقد كاد رؤساء مكة يقتتلون، ثم ارجع البصر إليه مرة أخرى وهو في فناء مسجد المدينة يقضي بين الناس بالعدل، يستوي عنده منهم الفقير المعدم، والغني المثري.

وإن كنت زوجًا فاقرأ السيرة الطاهرة والحياة النزيهة لزوج خديجة وعائشة.

وإن كنت أبا أولاد فتعلم ما كان عليه والد فاطمة الزهراء، وجد الحسن والحسين رضي الله عنهما.

وأيًا من كنت، وفي أي شأن كان شأنك، فإنك مهما أصبحت أو أمسيت، وعلى أي حال بت أو أضحيت، فلك في حياة محمد صلى الله عليه وسلم هداية حسنة، وقدوة صالحة تضيء لك بنورها دياجي الحياة، وينجلي لك بضوئها ظلام العيش، فتصلح ما اضطرب من أمورك، وتثقف بهديه أودك، وتُقَوِّم بسننه عوجك.

وإن السيرة الطيبة الجامعة لشتى الأمور هي ملاك الأخلاق، وجماع التعاليم، لشعوب الأرض، وللناس كافة، في أطوار الحياة كلها، وأحوال الناس على اختلافها وتنوعها، فالسيرة المحمدية نور للمستنير، وهديها نبراس للمستهدي، وإرشادها ملجأ لكل مسترشد(21).

_____________

(1) مصادر السيرة النبوية وتقويمها، د. فاروق حمادة، ص17.

(2) اتجاهات الكتابة والتصنيف في السيرة النبوية ودراساتها الدعوية، د. إبراهيم بن صالح الحميدان.

(3) زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن القيم (3/269).

(4) المصدر السابق (3/504).

(5) المصدر السابق (3/506).

(6) المصدر السابق (3/548).

(7) المصدر السابق (3/558-559).

(8) المصدر السابق (3/561).

(9) أخرجه البخاري (2753)، ومسلم (206).

(10) فقه السيرة، للغزالي، ص104-105.

(11) جامع الأصول، لابن الأثير (1/292).

(12) فقه السيرة، للغزالي، ص199.

(13) أخرجه ابن ماجه (1334)

(14) فقه السيرة، للغزالي، ص209.

(15) أخرجه الترمذي (2850).

(16) السيرة النبوية، للندوي، ص573.

(17) أخرجه البخاري (3560)، ومسلم (2327).

(18) أخرجه البخاري (39).

(19) أخرجه البخاري (287).

(20) السيرة النبوية، للندوي (582).

(21) الرسالة المحمدية: المحاضرة الخامسة: السيرة المحمدية من ناحيتها الجامعة، ص117-118.