logo

الغزو الشهواني لإفساد الأعراض وتدمير الأخلاق


بتاريخ : الاثنين ، 29 رجب ، 1444 الموافق 20 فبراير 2023
بقلم : تيار الاصلاح
الغزو الشهواني لإفساد الأعراض وتدمير الأخلاق

يواجه العالم اليوم تيار شهواني جارف مستغلًا ثورة التكنولوجيا وتعدد وسائل التواصل الاجتماعي والتقني، ولقد عزز من انتشاره العوائد المادية الهائلة التي تجنى منه، والتي تقدر بملايين الدولارات، والتي فاقت العوائد التي تجنيها هوليود نفسها بأضعاف مضاعفة.

وهذا التحدي الشهواني الرهيب يعتمد المتعة الكامنة في النفس، والتي إذا أثيرت تطغى على العقل فتخمده حتى تفرغ شحنتها العاطفية، ومن ثم فإن المتعة لا تقاوم بالعقل، والشهوة لا تخمد بالفكر، فالمتعة لا تقاوم إلا بالمتعة، والشهوة لا تخمد إلا باللذة.

أما عن جذور هذا الغزو فإننا نجد أنَّ أصحابه قد سقطوا فريسة سهلة لبعض الفلسفات الغربية، التي غلفت أفكارَها الهدامة في ثوب أدبي امتلأ بالإباحية والعبث بالقيم الأخلاقية، والتي عبر عنه الفيلسوف الفرنسي سارتر بقوله: "إنَّه لا التزام في الشعر"، بهدف التحرر الكامل من الضَّوابط الأخلاقية، وتدمير الشخصية الإنسانيَّة، وإسقاطها في بحور اللذة والشهوات، ونَسِيَ هؤلاء الذين تَمَسَّكوا بأهداب هذه الفلسفات الواهية تحت دعاوى الحريَّة المريضة، والبوح عن مكنونات النَّفس؛ أن هناك فريقًا من أدباء ومفكري الغرب قد وقفوا أمام غول الإباحية موقف المناهض لها.

فها هو الأديب الروسي الشهير تولستوي يقف مصرحًا: أن الفن الذي يستهلك جزءًا كبيرًا من نشاط الإنسان لا ينبغي أن يضيع في وصف الشهوات الآثمة.

وأيضًا الأديب الفرنسي الشهير رومان رولان ينتقد الأدب الإباحي بقوله: إن الأمم الضعيفة الأخلاق، الماجنة التفكير في أدبها وحياتها يتسرب إليها الخمول والاستسلام تسرب الانحلال في الشجرة النخرة، فإذا لم تتلافَ الأمم هذا الداء الوبيل قاضية على جراثيمه الفتاكة، سارت إلى الانقراض (1).

إن خطورة الانحلال وفساد الأخلاق والأعراض هي باب من أبواب التبعية للغرب الكافر، فإذا انحلت أخلاق الأمة سهل تغريبها، ومن ثم سهل غزوها، ذلك أن في ذهاب الأخلاق مدعاة للذّلة والمهانة، وعدم القدرة على المقاومة، والانحلال من أقوى الأسباب التي تُسَهل للعدو الغازي احتلال البلاد والعباد.

إثارة الشهوات:

يتمثل أغلب وسائل هذا الغزو فيما يقوم به الإعلام المعاصر بشتى صوره وتقنياته المقروء منه والمسموع والمرئي في فتح باب الشهوات على مجتمعات المسلمين، والتوصل بذلك إلى إفساد أخلاق المسلمين وأعراضهم وقيمهم، وبث الرذيلة والانحلال في أوساطهم، لا سيما أوساط الشباب والفتيات، ويتولى كبر ذلك القنوات الفضائية وشبكات (الانترنت) التي دخلت بيوت المسلمين دون استئذان، ولم يكتف المفسدون بذلك، بل وصلت تقنياتهم الشيطانية إلى أن تكون هذه الفضائيات والشبكات ووسائل الإفساد في متناول أيدي الأطفال والشباب والنساء في أي مكان، وليس البيت وحده، وذلك بما أنتجوه من الحواسب والجوالات المسماة بالذكية، والإحصائيات والتقارير الآتية تثبت ذلك.

خارطة الإعلام الفضائي:

في دارسة تحليلية قامت بها مؤسسة ريادة بالتعاون مع الهيئة الإسلامية للإعلام بعنوان: (خارطة الإعلام الفضائي العربي)، ذكروا فيها جدول توزيع القنوات الفضائية العربية للمضمون المتخصص، يظهر لنا تصدر المضمون الفني (أغاني وموسيقى) على بقية المضامين الأخرى، كما يظهر أيضًا كثرة المواقع الإباحية.

حيث بلغ عدد القنوات الفنية (146) قناة، منها: (72) قناة تخصصت في تقديم المضمون المتعلق بالأغاني والموسيقى، و(41) قناة تخصصت في تقديم المضمون الدرامي من أفلام ومسلسلات، و(32) قناة تقدم المنوعات؛ وذلك في مقابل قناة وحيدة فقط هي قناة «شدا» الفضائية التي تخصصت في تقديم الأناشيد الدينية الإسلامية.

والنتيجة السابقة تشير بجلاء إلى حالة التردي الأخلاقي التي يعاني منها الإعلام الفضائي الموجه إلى المجتمعات العربية، وتعرض هذه المجتمعات لنوع من غسيل الدماغ.

كما أن تقديم هذه القنوات لمضمونها الهدام باللغة العربية من شأنه توسيع القاعدة الجماهيرية لها؛ مما يعطي مؤشر بأن هناك أيد خفية تخطط لاستدراج الشباب نحو الثقافات الهدامة؛ وذلك بنشر قيم الإباحية، والتهوين من شأن المحرمات، وتسويغ العلاقات المحرمة بين الجنسين التي من أهم آثارها: تفكك العلاقات والروابط الأسرية، انتشار الجرائم في المجتمع كالاغتصاب، القتل، تجارة المخدرات، وزرع قيم مغايرة عن تلك الذي نشأ الفرد المسلم في ظلها؛ مما يشعره في نهاية الأمر بالاغتراب عن محيطه الاجتماعي، ويفقده الشعور بالانتماء إلى هذا المجتمع مع مرور الوقت (2).

ولا يخفى على أحد أن ما تقدمه هذه القنوات من نماذج وقدوة يعبر عن الثقافة النصرانية الأمريكية، والإنجليزية، وغيرها من الثقافات الغربية.

ومن خلال الكوميديا وأفلام "ديزني" تظهر شخصية التلميذ والطالب في المرحلة الإعدادية والثانوية التي تعد نموذجًا للشاب المتحرر من كل شيء؛ فالفصول مختلطة، والعلاقات الجنسية مع الجنس الآخر مباحة، والصليب يظهر على الصدور في مشاهد ترمز إلى الرحمة والروحانية من وجهة نظرهم.

أما مجموعة قنوات المنوعات الفنية المختلفة من أفلام ومسلسلات وإعلانات؛ فإنها تعرض للنموذج الأمريكي، بقيمه ومبادئه، فهي تعرض الجنس بشكل فاضح، كما تعرض العلاقات الشاذة (3).

التربية التلفازية بين الإيجابيات والسلبيات:

أحكم التلفزيون قبضته على الأسرة، واحتل صدر المجالس في البيوت بلا منازع ولا منافس، وتربع فيها بشموخ منقطع النظير، وتشير أحدث الإحصاءات إلى أنه فيما بين 600-700 ساعة على الأقل من عمر الإنسان تضيع سنويًا في مشاهدة التلفزيون، ويشكل الأطفال الذين لم يبلغوا سن الدخول إلى المدرسة أوسع شريحة من مشاهدي التلفزيون؛ حيث تبلغ ساعات مشاهدتهم حوالي 22.9 ساعة في المتوسط أسبوعيًا، بينما يمضي أطفال المجموعة العمرية من 6-11 سنة حوالي 20.4 ساعة مشاهدة أسبوعيًا، بل إن دراسات مسحية أخرى بينت أن هناك أوقات مشاهدة أطول تصل إلى 24 ساعة أسبوعيًا لأطفال لم يصلوا إلى السن المدرسية بعد.

وتتمثل الآثار السلبية للتلفاز على النشء الإسلامي والعربي في اتجاهين أساسيين:

الاتجاه الأول: يتعلق بهذه البرامج ودورها في نشر بعض المفاهيم التي تصطدم مع العقيدة الإسلامية الصحيحة والأسس الاجتماعية والأخلاقية لمجتمعاتنا العربية.

أما الاتجاه الثاني: فيتعلق بالتأثير السيئ الذي تحدثه ساعات المشاهدة الطويلة في التكوين النفسي والسلوكي للمشاهد.

ففي الجانب العقائدي: نجد أن بعض الأفلام تفسر الكون تفسيرًا وثنيًا؛ فتارة تتحدث عن العقل المركزي، وتارة تصور الكون على أنه مخلوق بقوة شريرة وأخرى خيرة تتصارعان، كما نجد في بعضها الإيحاء بقدرة بعض الخلق على مضاهاة الله في الخلق والإحياء والإماتة.

أما في الجانب الاجتماعي والأخلاقي: فلقد أدى الإسراف في عرض الأفلام الغربية، وما سار على نهجها من أفلامنا المحلية إلى تسرب كثير من المفاهيم الاجتماعية والأخلاقية الخاطئة إلى المجتمع الإسلامي، کشرب الخمر والمخدرات، وعقوق الآباء، والحرية الشخصية دون قيد ولا شرط، وحب الذات، والتفكك الأسري، والاختلاط المريب بين الرجال والنساء، والحب بين الشباب، وذهاب الغيرة المحمودة من استمرار النظر إلى مشاهد الاختلاط، وكشف الزوجة على الأجانب، وسفور النساء والتأثر بالفهم الخاطئ لتحرير المرأة، هذا فضلًا عن تغير المعايير عن القدوة، حتى صارت تطلعات بعض الشباب ومنتهى آمالهم أن يكون كلاعب كرة أو مغني.

كما لعبت أفلام العنف بعقول الصغار؛ مما أدى إلى ظهور بعض التصرفات العدوانية والشاذة بينهم (4).

ألعاب الفيديو وآثارها السلبية الإفسادية:

بمرور الوقت صارت ألعاب الفيديو بمنزلة ثقافة قائمة بذاتها، فكما أن أغلب الأعمال الأدبية التي تنال شهرة واسعة تتحول إلى أفلام، صار كل فيلم ناجح يتحول إلى لعبة إلكترونية، تستلهم رواجها من رصيد شهرة الفيلم، وأحيانًا يحدث العكس، لعبة فيديو تلقى رواجًا فتتحول إلى فيلم يلقى نفس الرواج والنجاح.

بل إن الأمر أخطر من هذا؛ حيث إن تلك الألعاب لا تشكل –فقط– جزءًا مهمًا من ثقافة الشباب المعاصر، بل صارت جزءًا من عالمه ومحيطه، وأصبحت تؤثر بشكل مباشر في مكونات شخصيته، مما جعلها تشكل عنصرًا مهما من عناصر توازنه النفسي، بل ربما تلهمه ببعض ردود الأفعال في بعض الحالات التي يواجهها في الواقع.

مفاسد أخرى للغزو الشهواني:

بالإضافة إلى ما سبق ذكره مما ينشره الإعلام بوسائله المختلفة من إفساد للأخلاق والأعراض، أذكر هنا سردًا مجملًا لأخلاق وسلوكيات أخرى فاسدة، يقوم بها أعداء الإسلام من كفرة ومنافقين في غزوهم لبلدان المسلمين سلوكيًا وأخلاقيًا، ومنها:

1- الإغراق في الترف والدعة والركون إلى الدنيا وزينتها والإسراف في التمتع بها، وتكثيف الدعاية لذلك في وسائل الإعلام المختلفة، حتى أصبح التنافس في التوسع في المطاعم والمساكن والملابس والكماليات المختلفة وأنواع الزينة للمرأة سائدة بين أكثر الناس، فصارت أكبر همهم، ومبلغ علمهم.

2- شيوع الحسد والمظالم والتناجش والتقاطع والتباغض بين كثير من المسلمين والقرابات بسبب التنافس على الدنيا وتجارتها، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: «ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم» (5)، هذا إذا كان حلالًا، فكيف إذا كان أكثر كسب الدنيا بطرق محرمة كما هو شائع الآن.

3- تضخيم حقوق المرأة وكأنها مهضومة الحق، وتحريضها على التمرد على زيها وزوجها وأسرتها، واستهانتها بحجابها ولباسها وجرأتها على الاختلاط بالرجال، فكثرت المشكلات الزوجية، وكثرت حالات الطلاق وفساد الأعراض، وضعفت الغيرة عند كثير من الرجال على نسائهم.

4السعي في تغريب مجتمعات المسلمين بتغيير أنماط الحياة الإسلامية فيها، وتحويلها إلى أنماط الحياة الغربية المنبتة عن العقيدة والأخلاق النبيلة والسلوك النظيف، وتسخير جميع الوسائل الإعلامية والدعائية والأسفار والسياحة، واستخدام المخدوعين من أبناء المسلمين بالغرب وسلوكياته وأفكاره في نشر التغريب والدعاية له، واستخدام أصحاب القرار في حكومات المسلمين في تنفيذ ذلك، وإصدار القوانين والأنظمة التي تسهل العملية التغريبية في مجتمعات المسلمين.

5- السعي في نشر المنكرات المختلفة في المجتمعات الإسلامية ومحاولة تطبيعها وفرضها بقوة السلطان، وعدم الاكتراث بإنكار المنكرين، حتى يتحول المنكر مع الوقت إلى أمر مألوف غير مستنكر، ومن مکرهم في هذا الشأن اعتمادهم على بعض الأقوال الشاذة والمهجورة لبعض أهل العلم في القديم والحديث في إضفاء الشرعية على مثل هذه المنكرات.

6- نشر الفرقة بين المسلمين وإذكائها، ولا سيما في أوساط الدعاة العاملين للإسلام، حتى لا يكونوا يدًا واحدة في مواجهة الفساد والمفسدين، واستخدام بعض المنتسبين إلى العلم في تغطية هذا الخلاف بغطاء شرعي، يزعمون فيه الغيرة على الدين والوقوف في وجه أهل الغلو والبدع (6).

لماذا يشاهد المسلم المواد الإباحية؟

دوافع وقوع المسلم في هذه المعصية كثيرة، أساسها خلوُّ القلب من الخوف من الله تعالى وضعف مقام المراقبة، ومن ذلك أيضًا:

- الغفلة: فالغفلة من أسباب الوقوع في تلك المحرمات، والملتزم المستقيم يسير إلى الله عز وجل كالماشي في طريق فيه شوك يحذره ويترقب مخاطره، فالتعامل مثلًا مع شبكة الإنترنت بغفلة تقود إلى ما حرم الله تعالى تدريجيًّا.

- مشاهدة هذه المحرمات قبل الالتزام، فلا يستقوي الالتِزام بعد ذلك عليها، أو مع ضعف الالتِزام وحضور الفتور، تستسلم النفس للمغريات فتعاود المشاهدة مرة أخرى، والنفس بطبيعتها تحن لعاداتها الحسنة أو القبيحة بين الفَيْنَة والأخرى.

- كثرة التعرض للفتن، كمطالعة المواقع التي تحوي صور نساء، وإطلاق البصر في الشوارع والطرقات، وقراءة الأخبار المُثِيرة للغرائز... وهكذا، فالتعرض للمغريات يفتح باب الخواطر للشيطان، ويملأ النفس والقلب فتنة، فيتصور المفتون أنه بمشاهدة الأفلام والصور الإباحية يرتوي؛ فيقع فريسة الإباحية، ومع قليل من الوقت يدمنها، وحتى بعد أن يعفه الله بالزواج أو بتجنب المغريات، فإن تعلق نفسه بمشاهدة تلك الإباحيات يخلق فيه حنينًا وشوقًا إليها من وقت لآخر.

ويحك لا تفتحه:

يقول صلى الله عليه وسلم: «ضرَب الله تعالى مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعًا ولا تتعوَّجوا، وداعٍ يدعو من فوق الصراط، فإذا أَراد الإنسان أن يفتح شيئًا من تلك الأبواب قال: ويحك لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلِجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله تعالى والأبواب المُفَتَّحة محارم الله تعالى وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق واعِظ الله في قلب كلِّ مسلم» (7).

فمَحارِم الله هي ما حرمه الله عز وجل على عباده، وما أن يفتح العبد أبواب هذه المَحارِم على نفسه إلا ويلجها، فيدخلها ولو تدريجيًّا، فيقع مع الوقت في المحرم الذي سهل طريقه بدل أن يغلق أبوابه، وهذه نتيجة حتمية لا تَتغيَّر، وشرط حاضر جوابه لا يتخلف «إن تفتحه تلجه».

ويقول ربنا تبارك وتعالى: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14]، فالمنافقون فتَنُوا أنفسهم بأنفسهم، وكل عاص لله تعالى له نصيب من معنى {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}، وذلك بفتحه أبواب المعاصي على نفسه.

نلحظ في خِطاب من ابتُلِي بهذه المعصية شكواه من شعوره بالنِّفاق أو الكذب، والخداع والتلوُّن، وهذا الشعور مع كونه علامة لوجود الحياة في قلب صاحبه، ومع كونه كذلك أحيانًا دافعًا للتوبة والرجوع عنه، إلا أن هذا الشعور في الحقيقة من التصور الخاطئ عن طبائع النفس البشرية، وعن حدود الالتزام ومعنى الاستقامة، كما أن هذا الشعور كثيرًا ما يقود لترك الأعمال الصالحة بدعوى رفض النفاق، والمؤمن يحزن إذا عصى الله تعالى كما يفرح إذا أطاعه؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سرَّتْك حسنَتُك وساءَتك سيِّئتُك، فأنت مؤمن» (8)، وهذا السُّرور بالطاعة يحفز على المزيد منها، كما أن الحزن من وقوع السيئة يقود لتركها.

والملتزم أو المستقيم على أمر الله تعالى وارد عليه المعصية، أي معصية كانت؛ يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتنًا توابًا نسيًّا، إذا ذُكِّر ذَكَر» (9).

فالمؤمن يقع منه الذنب وربما اعتاده، وإذا ذكر بالله ونظره إليه، والموت والنار وأهوال القيامة، تذكر فتاب ورجع، وربما عاد للذنب وجدد التوبة ثانية منه... وهكذا، فالعبد لا يزال بخير ما كان رجاعًا إلى الله من أخطائه، والجمع بين الحسنة والسيئة -أي سيئة كانت- ليس من النفاق؛ بل من طبيعة كل أحد، والعبرة عدم استمراء المعصية؛ إذ السيئة لا تعقب إلا سيئة بعدها.

ثم من مداخل الشيطان على العبد العاصي أن يُسَوِّل له أنه ينافق بفعل الحسنة بعد السيئة، أو السيئة ثم الحسنة، فيوسوس إليه بترك الحسنة حتى لا يكون منافقًا ومخادعًا، فيصر الإنسان على المعصية ويترك العمل الصالح (10).

فمشكلة الفتن هي في الخطوات الأولى، وفتح الباب المؤدي إليها، والذي من ولجه تاه وتخبط، وسقط في بئر لا قرار لها، أو بحر هائج إذا نزل فيه من لا يحسن العوم خطفته الأمواج وصار من المغرقين.

ومهما تكلم المتكلمون عن وسائل النجاة منها، فتبقى الوسيلة الأنجح والأقوى هي البعد عن الفتن وأبوابها ووسائلها، والمجانبة التامة لها بكل طريق ممكن، وعدم اغترار المرء بنفسه، وألا يظن أحد قط أنه قوي على الفتنة، ومحصن من الوقوع فيها.

وهذا المعنى العظيم دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ومن لطائف الاستنباطات في تفسير قوله تعالى: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} [يوسف: 25]، أنه ينبغي للعبد إذا ابتلي بالوقوع في محل فيه فتنة، وأسباب معصية، أن يفر ويهرب غاية ما يمكنه؛ ليتمكن من التخلص من ذلك الشر، كما فر يوسف عليه السلام هاربًا للباب، وهي تمسك بثوبه وهو مدبر عنها (11).

وفي فتنة الدجال -وهي أعظم فتنة تواجهها البشرية- قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من سمع بالدجال فلينأ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن، فيتبعه مما يبعث به من الشبهات، أو لما يبعث به من الشبهات» (12)، وكم من مغرور بنفسه، أو من استدرجه شيطانه وهواه، فخاض لجج الفتن من باب الفضول، أو حب الاستطلاع، أو التجربة العابرة، ظنًا منه أن الخطب يسير، وأن العاقبة مأمونة، وأن خط الرجعة سهل، فسقط في الوحل، وتشرب الفتن حتى أدمنها، وحيل بينه وبين الرجوع {أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة: 49] (13).

وسائل العلاج لمواجهة هذا الداء الخطير:

1- استشعارنا بوجود هذا الداء في جسد الأمة، وبخطره الشديد إذا بقي دون علاج، ثم يلي ذلك تشخيص المرض تشخيصًا دقيقًا، والإحاطة بكل جوانبه وتحديدها بدقة، وهذه أولى مراحل العلاج.

2- العودة إلى الإيمان الحقيقي بالله سبحانه وتعالى، وبث ذلك في نفوس المسلمين، ولا سيما الشباب فهم أكثر طوائف الأمة استهدافًا من جانب أعدائنا، ولا شك أن بث المعاني الإيمانية في قلوبنا؛ من الخشية لله سبحانه وتعالى ومراقبته والحياء منه والتوكل عليه واليقين به؛ سيحدث نوعًا من المناعة لدينا تجعلنا ننأى بأنفسنا عن تلك القاذورات التي تعرض علينا ونقذف بها من كل جانب.

3- إطفاء الفتنة وإخمادها بتقوى الله سبحانه وتعالى، لأن الناس كلما اعتزلوا الفتن؛ قلَّ أهلها، فَقَلَّ شرها، وكلما تشرَّفوا لها وقاموا وقعدوا فيها، كثَّروا سواد أهلها، فزاد شرها، وعظم خطبها.

4- الابتعاد عن مواطن الفتنة والإثارة وتحريك الغرائز، فهناك حقيقة يجب أن يعلمها الجميع؛ وهي أن الشهوة الجنسية هي الشهوة الوحيدة الساكنة التي تحتاج إلى ما يحركها، فشهوة الأكل والشرب مثلًا لا يتحكم الإنسان فيها، ولا تحتاج إلى ما يحركها، ولذلك فإن المسلم عليه أن يبتعد عن مواطن الشهوة والفتنة، حتى ينأى بنفسه عن اقتراف الفواحش والمعاصي.

5- محاربة العري، وأخذ المجتمع بكافة طوائفه هذا الأمر على عاتقهم وخاصة الشباب، ويجب أن تستخدم كل الوسائل الممكنة في سبيل تحقيق ذلك، سواء عن طريق إقامة الندوات والمؤتمرات، أو تأليف الكتب والكتيبات، أو كتابة المقالات ونشرها في الصحف والمجلات، أو تجميع التوقيعات الرافضة للعري وإرسالها لكل من يبث العري وينشره بين المسلمين، وغير ذلك من الوسائل الممكنة والمتاحة التي تحتاج في تنفيذها إلى الهمة العالية والرغبة الجازمة.

6- تيسير الزواج ومحاولة تخفيض تكاليفه، ولا شك أن تأخير الزواج كان من أهم الأسباب التي دعت إلى انتشار الفاحشة بين المسلمين، ولذلك علينا أن لا نضع القيود التعجيزية في وجوه شبابنا حتى يستطيعوا أن يتزوجوا، وبالتالي يحفظون أنفسهم من الفاحشة، ويقبلون على حياتهم وينفعون أمتهم، ويعيدون حضارة الإسلام من جديد.

7- تعميق معاني غض البصر، وعقوبة إطلاقه على محارم الله في نفوس المسلمين، ولا سيما الشباب، وكذلك تعميق معاني حرمة الخلوة بالأجنبية.

8- منع الاختلاط غير المضبوط بين الشباب بعضهم البعض، ويكفي أن أذكر لكم تلك المقولة الغاية في الخطورة والتي يقول صاحبها فيها: التبرج والاختلاط كلاهما أمنيتان يتمناهما الغرب من قديم الزمان، لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد العالم الغربي من الإسلام والمسلمين (14).

والسبيل الوحيد لكبح هذا التيار الجارف يتمثل في الروحانيات التي تعمل على زيادة الإيمان الذي يضفي على النفس لذة تغني عن الدنيا وما فيها؛ قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].

إن الصلاة حين تقام تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهي اتصال بالله يخجل صاحبه ويستحيي أن يصطحب معه كبائر الذنوب وفواحشها ليلقى الله بها، وهي تطهر وتجرد لا يتسق معها دنس الفحشاء والمنكر وثقلتهما (15).

والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يقم الصلاة فلو أقامها لنهته كما يقول الله ربنا جل وعلا، لذلك جعلت فرض عين يتعاقب آدائها أطراف النهار والليل، والمداومة على ذكر الله أفعل في النهي عن المنكرات لإمكانية استمراريته على كل حال.                       والصيام وسائر العبادات كالصلاة والذكر في دفع تيار الشهوة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء» (16)، أي وقاية من المعاصي.

------------

(1) الأدب الإباحي وهدم قيم المجتمع/ الألوكة.

(2) خارطة الإعلام الفضائي العربي (ص: 43).

(3) المصدر السابق.

(4) التربية التلفازية بين الإيجابيات والسلبيات/ صيد الفوائد.

(5) أخرجه البخاري (2988)، ومسلم (2961).

(6) الغزو الإباحي والسلوكي وإثارة الشهوات/ ناصحون.

(7) أخرجه أحمد (17634).

(8) أخرجه أحمد (22166).

(9) أخرجه الطبراني (11810).

(10) الملتزمون والإباحية/ طريق الإسلام.

(11) تيسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن (1/ 278).

(12) أخرجه أبو داود (4319).

(13) ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه/ طريق الإسلام.).

(14) الجنس يجتاح العالم الإسلامي/ صيد الفوائد.

(15) في ظلال القرآن (5/ 2738).

(16) أخرجه مسلم (1400).