logo

شعبان بين الاتباع والابتداع


بتاريخ : الأربعاء ، 23 شعبان ، 1444 الموافق 15 مارس 2023
بقلم : تيار الاصلاح
شعبان بين الاتباع والابتداع

كانت تسمية هذا الشهر كباقي الشهور في عصر ما قبل الإسلام، وسُمِّيَ هذا الشهر بشعبان لتشعب القبائل العربية وافتراقها للحرب بعد قعودها عنها في شهر رجب؛ حيث كانت محرمة عليهم.

وقيل: كانوا يتشعبون فيه لطلب المياه، وقيل: لأنه شَعب أي ظهر بين شهري رجب ورمضان.

قال ابن حجر: سمي شعبان لتشغيلهم في طلب المياه، أو الغارات بعد أن يخرج شهر رجب الحرام، وقيل غير ذلك (1).

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في شهر شعبان:

عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله لم أرك تصوم شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم» (2).

وقوله صلى الله عليه وسلم: «شعبان شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان» يشير إلى أنه لما اكتنفه شهران عظيمان -الشهر الحرام وشهر الصيام- اشتغل الناس بهما عنه، فصار مغفولًا عنه، وكثير من الناس يظن أن صيام رجب أفضل من صيام شعبان لأن رجب شهر حرام، وليس كذلك.

فبين وجه صيامه دون غيره برفع الأعمال فيه وأنه يغفل عنه، لأنه لما اكتنفه شهران عظيمان الشهر الحرام وشهر الصيام اشتغل الناس بهما فصار مغفولًا عنه (3).

وقد أشار ابن حجر في الفتح: إلى أن صيامه صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يتأسى به فيه إلا من أطاق ما كان يطيق، وأن من أجهد نفسه في شيء من العبادة خشي عليه أن يمل فيفضي إلى تركه، والمداومة على العبادة وإن قلت أولى من جهد النفس في كثرتها إذا انقطعت، فالقليل الدائم أفضل من الكثير المنقطع غالبًا (4).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شهرًا أكثر من شعبان، فإنه كان يصوم شعبان كله(5).

قوله: كله أي: غالبه، وقيل: كان يصومه كله في وقت وبعضه في وقت آخر، وهذا أنسب باللفظ، قال العلماء: وإنما لم يستكمل غير رمضان؛ لئلا يظن وجوبه، وقيل: في قولها كله أي: يصوم في أوله وفي وسطه وفي آخره، ولا يخص شيئًا منه بل يعمه بصيامه (6).

قال المهلب: فيه من الفقه أن أعمال التطوع ليست منوطة بأوقات معلومة، وإنما هي على قدر الإرادة لها والنشاط فيها، وقد روى في بعض الحديث أن هذا الصيام الذي كان يصوم في شعبان كان لأنه عليه السلام يلتزم صوم ثلاثة أيام من كل شهر، كما قال لعبد الله بن عمرو، لأن الحسنة بعشر أمثالها، فذلك صيام الدهر فكان يلتزم ذلك، فربما شغل عن الصيام أشهرًا فيجمع ذلك كله في شعبان ليدركه قبل صيام الفرض (7).

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يصوم حتى نقول لا يفطر، ويفطر حتى نقول لا يصوم، وما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر إلا رمضان، وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان (8)، وفي رواية لمسلم: كان يصوم شعبان كله، كان يصوم شعبان إلا قليلًا (9).

وقد رجح طائفة من العلماء منهم ابن المبارك وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستكمل صيام شعبان، وإنما كان يصوم أكثره، ويشهد له ما في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: ما علمته -تعني النبي صلى الله عليه وسلم- صام شهرًا كله إلا رمضان (10).. وفي رواية له أيضًا عنها قالت: ما رأيته صام شهرًا كاملًا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان (11)..

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال: ما صام رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملًا غير رمضان (12)، وكان ابن عباس يكره أن يصوم شهرًا كاملًا غير رمضان.

وهذه الروايات تدل على أن الاختلاف في مدار ما كان يصومه صلى الله عليه وسلم في شعبان؛ كله، أغلبه، وليس في أصل أو مشروعية صيامه.

قال ابن حجر رحمه الله: كان صيامه في شعبان تطوعًا أكثر من صيامه فيما سواه وكان يصوم معظم شعبان (13).

وفي رواية لأبي داود قال: كان أحب الشهور إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصومه شعبان ثم يصله برمضان (14).

قال ابن رجب رحمه الله: صيام شعبان أفضل من صيام الأشهر الحرم، وأفضل التطوع ما كان قريب من رمضان قبله وبعده، وتكون منزلته من الصيام بمنزلة السنن الرواتب مع الفرائض قبلها وبعدها، وهي تكملة لنقص الفرائض، وكذلك صيام ما قبل رمضان وبعده، فكما أن السنن الرواتب أفضل من التطوع المطلق بالصلاة فكذلك يكون صيام ما قبل رمضان وبعده أفضل من صيام ما بَعُد عنه (15).

فضل العبادة في وقت الغفلة:

وفي الحديث السابق إشارة إلى أن بعض ما يشتهر فضله من الأزمان أو الأماكن أو الأشخاص قد يكون غيره أفضل منه، وفيه دليل على استحباب عِمارة أوقات غفلة الناس بالطاعة، كما كان طائفة من السلف يستحبون إحياء ما بين العشائين بالصلاة ويقولون هي ساعة غفلة، ومثل هذا استحباب ذكر الله تعالى في السوق لأنه ذكْر في موطن الغفلة بين أهل الغفلة.

وفي إحياء الوقت المغفول عنه بالطاعة فوائد منها:

أن يكون أخفى للعمل، وإخفاء النوافل وإسرارها أفضل، لا سيما الصيام فإنه سرّ بين العبد وربه، ولهذا قيل إنه ليس فيه رياء، وكان بعض السلف يصوم سنين عددا لا يعلم به أحد، فكان يخرج من بيته إلى السوق ومعه رغيفان فيتصدق بهما ويصوم، فيظن أهله أنه أكلهما ويظن أهل السوق أنه أكل في بيته، وكان السلف يستحبون لمن صام أن يُظهر ما يخفي به صيامه، فعن ابن مسعود أنه قال: إذا أصبحتم صيامًا فأصبِحوا مدَّهنين (16)، وقال قتادة: يستحب للصائم أن يدَّهِن حتى تذهب عنه غبرة الصيام (17).

وكذلك فإن العمل الصالح في أوقات الغفلة أشق على النفوس، ومن أسباب أفضلية الأعمال مشقتها على النفوس؛ لأن العمل إذا كثر المشاركون فيه سهُل، وإذا كثرت الغفلات شق ذلك على المتيقظين، وعند مسلم من حديث معقل بن يسار: «العبادة في الهرْج كالهجرة إليّ» (18)، أي العبادة في زمن الفتنة؛ لأن الناس يتبعون أهواءهم فيكون المتمسك يقوم بعمل شاق.

فأهل الغفلة في غفلتهم لا يلتفتون لمن يطيع الله ولا غيره، ومعلوم أنه كلما كان العمل أخفى وأبعد عن عيون الناس كلما كان أحب إلى الله وأدعى إلى الإخلاص، وفضل عمل السر على عمل العلن كفضل صدقة السر على صدقة العلانية، وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» (19).

وقد كان السلف يحبون ستر أعمالهم ويجتهدون في إخفائها، ويعملون على أن لا يطلع عليها أحد، فكان أحدهم إذا صام أدهن وتطيب حتى لا يرى عليه أثر الصيام، وصام أحدهم أربعين سنة لا يعلم به أحد، كان يأخذ رغيفين من بيته ويخرج إلى سوقه فيتصدق بالرغيفين، فيظن أهله أنه يأكل الرغيفين، ويظن أهل السوق أنه يأكل في بيته.

ويأبى الله إلا أن ينشر عبير صدقهم وعبق مراقبتهم حتى يتعلم الناس.. يقول عثمان: ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية.

قال زهير:

ومهما تكن عند امرئ من خليقة      وإن خالها تخفى على الناس تعلم

قال ابن رجب: كم ستر الصادقون أحوالهم، وريح الصدق ينم عليهم، ريح الصيام أطيب من ريح المسك تستنشقه قلوب المؤمنين وإن خفي، وكلما طالت المدة ازداد قوة ريحه (20).

العلة من كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان:

اختلف أهل العلم في أسباب كثرة صيامه صلى الله عليه وسلم في شعبان على عدة أقوال:

- أنه كان يشتغل عن صوم الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره فتجتمع فيقضيها في شعبان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل بنافلة أثبتها وإذا فاتته قضاها.

- وقيل إن نساءه كن يقضين ما عليهن من رمضان في شعبان فكان يصوم لذلك، وهذا عكس ما ورد عن عائشة أنها تؤخر قضاء رمضان إلى شعبان لشغلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم.

- وقيل لأنه شهر يغفل الناس عنه؛ وهذا هو الأرجح لحديث أسامة السالف الذكر والذي فيه: «ذلك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان» (21).

- ولأنه شهر ترفع فيه الأعمال إلى الله تعالى، فكان يحب أن يرفع عمله على طاعة فيختم له بها، وأفضل الطاعات ما كان قربة لله وحده لا يشاركه فيها غيره، والصيام عبادة خاصة بالجليل سبحانه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به» (22).

فالصوم لم يعبد به غير الله، فلم تعظم الكفار في عصر قط آلهتهم بالصوم وإن عظموها بالسجود وغيره، قاله ابن الأثير (23).

وثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: «هل صمت من سرر هذا الشهر شيئًا؟» قال لا، قال: «فإذا أفطرت فصم يومين»، وفي رواية البخاري: أظنه يعني رمضان وفي رواية لمسلم: «هل صمت من سرر شعبان شيئًا؟» (24).

وقد اختلف في تفسير السرار، والمشهور أنه آخر الشهر، يقال سِرار الشهر بكسر السين وبفتحها وقيل إن الفتح أفصح، وسمي آخر الشهر سرار لاستسرار القمر فيه (أي لاختفائه).

فإن قال قائل قد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقدموا رمضان بيوم أو يومين، إلا من كان يصوم صومًا فليصمه» (25)، فكيف نجمع بين حديث الحثّ وحديث المنع؟

والجواب: قال كثير من العلماء وأكثر شراح الحديث: إن هذا الرجل الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن له عادة بصيامه، أو كان قد نذره فلذلك أمره بقضائه، وقيل في المسألة أقوال أخرى، وخلاصة القول أن صيام آخر شعبان له ثلاثة أحوال:

- أن يصومه بنية الرمضانية احتياطًا لرمضان، فهذا محرم.

- أن يصام بنية النذر أو قضاء عن رمضان أو عن كفارة ونحو ذلك، فجوّزه الجمهور.

- أن يصام بنية التطوع المطلق، فكرهه من أمر بالفصل بين شعبان ورمضان بالفطر؛ منهم الحسن -وإن وافق صومًا كان يصومه- ورخص فيه مالك ومن وافقه، وفرّق الشافعي والأوزاعي وأحمد وغيرهم بين أن يوافق عادة أو لا.

وبالجملة فحديث أبي هريرة -السالف الذكر- هو المعمول به عند كثير من العلماء، وأنه يكره التقدم قبل رمضان بالتطوع بصيام يوم أو يومين لمن ليس له به عادة، ولا سبق منه صيام قبل ذلك في شعبان متصلًا بآخره.

كراهة الصيام قبل رمضان مباشرة:

فإن قال قائل لماذا يُكره الصيام قبل رمضان مباشرة (لغير من له عادة سابقة بالصيام)؟

فالجواب أنّ ذلك لمعانٍ منها:

المعنى الأول: لئلا يزاد في صيام رمضان ما ليس منه، كما نهي عن صيام يوم العيد لهذا المعنى، حذرًا مما وقع فيه أهل الكتاب في صيامهم، فزادوا فيه بآرائهم وأهوائهم، ولهذا نهي عن صيام يوم الشك، قال عمار: من صامه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم (26).

ويوم الشك: هو اليوم الذي يشك فيه هل هو من رمضان أم لا؟ وهو الذي أخبر برؤية هلاله من لم يقبل قوله، وأما يوم الغيم: فمن العلماء من جعله يوم شك ونهى عن صيامه، وهو قول الأكثرين.

المعنى الثاني: الفصل بين صيام الفرض والنفل، فإن جنس الفصل بين الفرائض والنوافل مشروع، ولهذا حرم صيام يوم العيد، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن توصل صلاة مفروضة بصلاة نافلة حتى يفصل بينهما بسلام أو كلام، وخصوصًا سنة الفجر قبلها، فإنه يشرع الفصل بينها وبين الفريضة، ولهذا يشرع صلاتها بالبيت والاضطجاع بعدها.

ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا يصلي وقد أقيمت صلاة الفجر، فقال له: «آلصُّبح أربعًا» (27)، وربما ظن بعض الجهال أن الفطر قبل رمضان يراد به اغتنام الأكل؛ لتأخذ النفوس حظها من الشهوات قبل أن تمنع من ذلك بالصيام، وهذا خطأ وجهل ممن ظنه، والله تعالى أعلم.

 فضل ليلة النصف من شعبان:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (28).

البدع المشتهرة في شعبان:

يحتفل بعض المسلمين بيوم النصف من شعبان، فيصومون نهاره، ويقومون ليلته، وقد ورد في ذلك حديث لا يصح، ولهذا عد العلماء إحياء هذه اليوم بالاحتفال بدعة.

قال الشاطبي رحمه الله: فالبدعة إذن عبارة عن طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ... ومنها التزام الكيفيات والهيئات المعينة، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا، وما أشبه ذلك.

ومنها التزام العبادات المعينة، في أوقات معينة، لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان، وقيام ليلته (29).

صلاة الألفية: وهي تخصيص قيام ليلة النصف من شعبان بصلاة معينة تؤدى بطريقة معينة.

وقال محمد عبد السلام الشقيري: قال الإمام الفتني في تذكرة الموضوعات: ومما أحدث في ليلة النصف الصلاة الألفية، مائة ركعة بالإخلاص عشرًا عشرًا بالجماعة، واهتموا بها أكثر من الجمع والأعياد، ولم يأت بها خبر ولا أثر؛ إلا ضعيف أو موضوع، ولا يغتر بذكره لها صاحب القوت والأحياء وغيرهما، ولا بذكر تفسير الثعلبي أنها ليلة القدر.

وقال العراقي: حديث صلاة ليلة النصف باطل، وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات.

الذي صرح به النووي في المجموع أن صلاة الرغائب وهي ثنتا عشرة ركعة بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة من شهر رجب، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة بدعتان قبيحتان مذمومتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب، وفي إحياء علوم الدين، ولا بالحديث المذكور فيهما؛ فإن كل ذلك باطل، ولا ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما؛ فإنه غالط في ذلك، وقد صنف ابن عبد السلام كتابًا نفيسًا في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد، وأطال النووي أيضًا في فتاويه في ذمهما وتقبيحهما، وإنكارهما (30).

صلاة ست ركعات: بنية دفع البلاء وطول العمر والاستغناء عن الناس.

قال شارح الإحياء: وهذه الصلاة مشهورة في كتب المتأخرين من السادة الصوفية، ولم أر لها ولا لدعائها مستندًا صحيحًا في السنة، إلا أنه من عمل المشايخ، وقد قال أصحابنا: إنه يكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي المذكورة في المساجد وغيرها.

وقال النجم الغيطي في صفة إحياء ليلة النصف من شعبان بجماعة: إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز، منهم عطاء وابن أبي مليكة، وفقهاء المدينة وأصحاب مالك، وقالوا: ذلك كله بدعة، ولم يثبت في قيامها جماعة شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه؛ وقال النووي: صلاة رجب وشعبان بدعتان منكرتان قبيحتان (31).

وقال الفتني رحمه الله بعد كلامه المنقول أعلاه: وكان للعوام بهذه الصلاة افتتان عظيم حتى التزم بسببها كثرة الوقود، وترتب عليه من الفسوق وانتهاك المحارم ما يغني عن وصفه، حتى خشي الأولياء من الخسف وهربوا فيها إلى البراري، وأول حدوث هذه الصلاة ببيت المقدس سنة ثماني وأربعين وأربعمائة، وقال زيد بن أسلم: ما أدركنا أحدًا من مشايخنا وفقهائنا يلتفتون إلى ليلة البراءة وفضلها على غيرها، وقال ابن دحية أحاديث صلاة البراءة موضوعة، وواحد مقطوع، ومن عمل بخبر صح أنه كذب فهو من خدم الشيطان (32).

اعتقادهم أن ليلة النصف من شعبان هي ليلة القدر، قال الشقيري: وهو باطل باتفاق المحققين من المحدثين (33)، وذلك لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185]، وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] وليلة القدر في رمضان وليس في شعبان.

قال المقدسي: وأول ما حدثت عندنا سنة 448هـ قدم علينا في بيت المقدس رجل من نابلس يُعرف بابن أبي الحميراء، وكان حسن التلاوة، فقام يصلي في المسجد الأقصى ليلة النصف من شعبان، فأحرم خلفه رجل ثم انضاف ثالث ورابع، فما ختمها إلا هو في جماعة كثيرة.. (34).

قال النجم الغيطي: إنه قد أنكر ذلك أكثر العلماء من أهل الحجاز منهم عطاء وابن أبي مُليكة وفقهاء المدينة وأصحاب مالك وقالوا: ذلك كله بدعة (35).

قال الحافظ ابن دحية: قال أهل التعديل والتجريح: ليس في حديث النصف من شعبان حديثٌ يصح، فتحفّظوا عباد الله من مُفترٍ، يروي لكم حديثًا يسوقه في معرض الخير، فاستعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا صح أنه كذب خرج من المشروعية، وكان مستعمله من خدم الشيطان لاستعماله حديثًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يُنزل الله به من سلطان (36).

الاحتفال والاحتفاء بليلة النصف من شعبان، وليلة النصف من شعبان ليس فيها حديث صحيح.. كل الأحاديث الواردة فيها موضوعة وضعيفة لا أصل لها، وهي ليلة ليس لها خصوصية، لا قراءة ولا صلاة خاصة ولا جماعة.. وما قاله بعض العلماء أن لها خصوصية فهو قول ضعيف فلا يجوز أن تخص بشيء.

ويدخل أيضًا في الابتداع إيقاد المساجد في هذا اليوم واتخاذ البخور، واجتماع الناس على دعاء مخصوص، فالعبادات توقيفية تؤخذ دون زيادة ودون نقصان، وكما قال عمر: كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة (37)، وقال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم، عليكم بالأمر العتيق (38).

إن أعمالنا التي قليلها صالح ترفع إلى الغفور الرحيم ليلة النصف من شعبان، فيغفر اللهُ لكل عبد إلا لمشرك أو مشاحن، كما ورد في الحديث عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» (39).

وهذا إن دلَّ فإنما يدلٌّ على خطورة الشحناء والبغضاء بين الناس، وأن الله لا يغفر للمتشاحنَين، والشحناء هي: حقد المسلم على أخيه المسلم بُغضًا له لهوى في نفسه، لا لغرض شرعي ومندوحة دينية، فهذه تمنع المغفرة في أكثر أوقات المغفرة والرحمة، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: « تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين، ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا» (40).

أين نحن من هؤلاء؟!

لقد كان الصحابة والتابعون يهتمون بهذا الشهر اهتمامًا خاصًّا لِمَا عرفوا من نفحاته وكرماته، فكانوا ينكبٌّون على كتاب الله يتلونه ويتدارسونه، ويتصدقون من أموالهم، ويتسابقون إلى الخيرات وكأنهم يُهيِّئون قلوبَهم لاستقبال نفحات رمضان الكبرى، حتى إذا دخل عليهم رمضان دخل عليهم وقلوبهم عامرة بالإيمان وألسنتهم رطبة بذكر الله، وجوارحهم عفيفة عن الحرام طاهرة نقية، فيشعرون بلذة القيام وحلاوة الصيام، ولا يملون من الأعمال الصالحة؛ لأن قلوبهم خالطتها بشاشة الإيمان وتغلغل نور القين في أرواحهم.

فها هو سلمة بن كهيل يقول: كان يقال شهر شعبان شهر القرَّاء، وكان عمرو بن قيس إذا دخل شهر شعبان أغلق حانوته وتفرغ لقراءة القرآن، وقال أبو بكر البلخي: شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع (41).

وقد روى عن سلفنا أنهم كانوا يخصون رمضان بزيادة الختمات فيه، فمنهم من كان يختم كل يوم ختمة، ومنهم ختمتين، وربما منهم من زاد.

كذلك يستحب للإنسان أن يعود نفسه على كثرة صلاة النوافل، ويحاول الإطالة فيها ما استطاع حتى لا يتململ من التراويح ويستثقلها، بل يكثر النوافل في رمضان، فإن أجور العبادات فيه تضاعف على ما سواه لشرف الزمان.

ثم اعلموا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يدعون الله قبل رمضان ستة أشهر أن يبلغهم رمضان ويدعون بعده ستة أشهر أن يتقبل الله منهم.

فيا من فرط في الأوقات الشريفة وضيعها، وأودعها سوء الأعمال، وبئس ما استودعها، الوحا الوحا، والبدار البدار، والمسارعة المسارعة، وأعيذكم بالله من التسويف والتفريط، وكفانا تفريطًا (42).

------------

(1) فتح الباري (4/ 251).

(2) أخرجه النسائي (2357).

(3) شرح الزرقاني على الموطأ (2/ 289).

(4) فتح الباري لابن حجر (4/ 215).

(5) أخرجه البخاري (1970).

(6) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (7/ 55).

(7) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 115).

(8) أخرجه البخاري (1833)، ومسلم (1956).

(9) أخرجه مسلم (1957).

(10) أخرجه مسلم (1954).

(11) أخرجه مسلم (1955).

(12) أخرجه البخاري (1971)، ومسلم (1157).

(13) فتح الباري لابن حجر (4/ 214).

(14) أخرجه أبو داود (2076).

(15) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 129).

(16) أخرجه ابن أبي شيبة (9757).

(17) أخرجه عبد الرزاق (7912).

(18) أخرجه مسلم (2984).

(19) أخرجه البخاري (1423)، ومسلم (1031).

(20) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 132).

(21) سبق تخريجه.

(22) أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (1151).

(23) فيض القدير (4/ 471).

(24) أخرجه مسلم (1161).

(25) أخرجه البخاري (1983)، ومسلم (1082).

(26) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 144).

(27) أخرجه البخاري (663).

(28) أخرجه ابن ماجة (1390).

(29) الاعتصام (1/37- 39).

(30) الفتاوى الفقهية الكبرى (2/ 80).

(31) السنن والمبتدعات (ص: 144).

(32) تذكرة الموضوعات للفتني (ص: 45).

(33) السنن والمبدعات (ص: 146).

(34) الباعث على انكار البدع والحوادث (ص: 124- 125).

(35) السنن والمبتدعات للشقيري (ص: 145).

(36) الباعث على انكار البدع والحوادث لأبي شامة المقدسي (ص: 127).

(37) الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 339).

(38) الإبانة الكبرى لابن بطة (1/ 327).

(39) أخرجه ابن ماجه (1390).

(40) أخرجه مسلم (2565).

(41) سلسلة علو الهمة - المقدم (18/ 28)، بترقيم الشاملة آليًا.

(42) شعبان نفحة ربانية فلنتعرَّض لها/ مداد.