الداعية في زمن الاستضعاف
قال تعالى: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:26]، لقد نزلت الآيات على سيد البشر صلى الله عليه وسلم ترشده إلى فقه المرحلة الدعوية، {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل:1-5]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7)} [المدثر:1-7]، وقوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]، إلى أن وصل إلى مرحلة: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94]، لقد كان لكل مرحلة فقهها الذي يميزها على حسب الجهر والسرية، وعلى حسب الإعداد الداخلي والصدع الخارجي، أو بمعنى آخر على حسب التربية الذاتية وتربية الآخرين.
ففي مرحلة الاستضعاف لا بد من التركيز، في بناء الشخصية الإسلامية الداعية لهذا الدين، على العامل النفسي والعلمي؛ كي يقوى الداعية إلى الله على تحمل مشاق الدعوة ولوازمها؛ من التعذيب والأسر والتهجير والقتل.
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله، على أيدي جميع رسل الله، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم، لم يقع في مرة واحدة، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة؛ أي الدين، وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها؛ أي نظام حياتها، وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعًا(1).
ولكي ندرك فقه المرحلة الدعوية، خاصة في وقت الضعف الذي يسبق التمكين؛ لا بد من الرجوع للمنهج العملي في الدعوة، والممارسة الواقعية في حياة الدعاة الربانيين من الأنبياء والصالحين.
إبراهيم عليه السلام:
فهذا خليل الرحمن ظل حينًا من الدهر مع ربه لا يتعرض لقومه ولا لآلهتهم المزعومة، وفي الوقت ذاته لا يهمل نفسه إيمانيًا ولا تربويًا، فيظل يعبد ربه بمفرده، حتى إذا بلغ أشده واستوى على أمره، وتجهز للصدع بالحق كان الحال أبلغ من المقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء:51-57].
متى تعلّم هذا؟ وكيف تكلم بهذا؟ إن لم تكن هناك فترة إعداد على صعيد الدعوة والتربية، إن العقل الرشيد المكتمل هو الذي يدرك كيف يتحرك، وما هي متطلبات الوقت وفقه المرحلة.
فمتى كان ذلك؟ إن الجواب بقرائن الأحوال، التي تثبت أنه عليه السلام كان في مرحلته السابقة في مرحلة إعداد وتربية، بعيدًا عن الأنظار ومواجهة الطوفان البشري الذي يعيق سيره، ولا يقوى هو على مجابهته، حتى إذا اشتد ساعده جابههم بالقول والحجة، وصدع فيهم بالحق والخير.
إن مَثَل الطير، الذي ضربه الله لإبراهيم عليه السلام، ليعطي لنا مدى الجهد التربوي الذي كان يعانيه إبراهيم عليه السلام للوصول للحالة الإيمانية التي يريدها.
قال تعالى: {وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
لقد كان ينشد اطمئنان الأنس إلى رؤية يد الله تعمل، واطمئنان التذوق للسر المحجب وهو يجلى ويتكشف.
ولقد كان الله يعلم إيمان عبده وخليله، ولكنه سؤال الكشف والبيان، والتعريف بهذا الشوق وإعلانه، والتلطف من السيد الكريم الودود الرحيم، مع عبده الأواه الحليم المنيب! ولقد استجاب الله لهذا الشوق والتطلع في قلب إبراهيم، ومنحه التجربة الذاتية المباشرة:{قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260].
لقد أمره أن يختار أربعة من الطير، فيقربهن منه، ويميلهن إليه، حتى يتأكد من شياتهن ومميزاتهن التي لا يخطئ معها معرفتهن، وأن يذبحهن ويمزق أجسادهن، ويفرق أجزاءهن على الجبال المحيطة، ثم يدعوهن، فتتجمع أجزاؤهن مرة أخرى، وترتد إليهن الحياة، ويعدن إليه ساعيات، وقد كان طبعًا، ورأى إبراهيم السر الإلهي يقع بين يديه، وهو السر الذي يقع في كل لحظة، ولا يرى الناس إلا آثاره بعد تمامه، إنه سر هبة الحياة، الحياة التي جاءت أول مرة بعد أن لم تكن، والتي تنشأ مرات لا حصر لها في كل حي جديد.
رأى إبراهيم هذا السر يقع بين يديه، طيور فارقتها الحياة وتفرقت، مزقها في أماكن متباعدة، تدب فيها الحياة مرة أخرى، وتعود إليه سعيًا! كيف؟ هذا هو السر الذي يعلو على التكوين البشري إدراكه، إنه قد يراه كما رآه إبراهيم، وقد يُصَدِّق به كما يصدق به كل مؤمن، ولكنه لا يدرك طبيعته ولا يعرف طريقته، إنه من أمر الله، والناس لا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وهو لم يشأ أن يحيطوا بهذا الطرف من علمه، لأنه أكبر منهم، وطبيعته غير طبيعتهم، ولا حاجة لهم به في خلافتهم(2).
حتى إذا جاء الصدع بالحق، والجهر بالدعوة، كان على أهبة الاستعداد، وقمة الجاهزية لإفحام الخصوم، ورد المبطلين والمجادلين، ومحاربة المفسدين، {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام:83].
دعوة سيد البشرية صلى الله عليه وسلم:
لقد مرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بمرحلتين مختلفتين دعويًا؛ فالفترة المكية تشكل الجزء الأعظم في تاريخ الدعوة النبوية، حيث امتدت ثلاثة عشر عامًا من أصل ثلاثة وعشرين عامًا، هي عمر الدعوة في العهد النبوي، فقد كانت الأجواء في بداية الدعوة لا تسمح بنجاح الدعوة العلنية الجهرية، فأهل مكة كانوا جفاة، لا دين لهم إلا عبادة الأصنام والأوثان، ولا حجة لهم إلا أنهم ألفوا آباءهم على ذلك، ولا أخلاق لهم إلا الأخذ بالعزة والأنفة، ولا سبيل لهم في حل المشاكل إلا السيف، وكانوا مع ذلك متصدرين للزعامة الدينية في جزيرة العرب، ومحتلين مركزها الرئيس، ضامنين حفظ كيانها، فقد كان من الحكمة تلقاء ذلك أن تكون الدعوة في بدء أمرها سرية؛ لئلا يفاجأ أهل مكة بما يهيجهم.
ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم أولًا بدعوة ألصق الناس به، من أهل بيته وأصدقائه، فدعاهم إلى الإسلام، ودعا إليه كل من توسم فيه الخير ممن يعرفهم ويعرفونه، يعرفهم بحب الحق والخير، ويعرفونه بتحري الصدق والصلاح.
وبالفعل أجابه من هؤلاء، الذين لم تخالجهم ريبة قط في عظمة الرسول صلى الله عليه وسلم وجلالة نفسه وصدق خبره، جَمْعٌ عُرِفوا في التاريخ الإسلامي بالسابقين الأولين، وفي مقدمتهم زوجة النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، ومولاه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي، وابن عمه علي بن أبي طالب، وصديقه الحميم أبو بكر الصديق، وقد أسلم هؤلاء في أول يوم للدعوة.
ولا يعني كون هذه الدعوة سرية أنه لم يعلم بها أحد، وأنها ظلت في طي الكتمان؛ فقد عرفت لدى قريش، وانتشر ذكر الإسلام بمكة رويدًا رويدًا، وبدأ الناس يتحدثون عن هذه الدعوة، وقد رفضها بعضهم وانتقد المؤمنين بها، لكنهم في الجملة لم يهتموا بها كثيرًا؛ حيث لم يتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة لدينهم، ولم يتكلم في آلهتهم، لحرصه على توفير الأجواء الهادئة الآمنة لأصحابه؛ حتى يمكنه تربيتهم وتزكيتهم، وإعدادهم للمراحل التالية.
وسار المنهج التربوي النبوي في العهد المكي بشكل متدرج، يسير بالناس سيرًا لطيفًا دقيقًا، حيث بدأ بمرحلة الاصطفاء والتأسيس، والدعوة السرية، فقد أخذت الدعوة في الثلاث سنوات الأولى طابع السرية حفاظًا عليها، ووجهت الدعوة في هذه المرحلة إلى المقربين والمأمونين الموثوقين، ولم يحدث خلال هذه المرحلة أي صدام مع المجتمع الجاهلي، ولم تدخل هذه الثلة المؤمنة في صراع ومواجهة مع أعدائها من الكفار(3).
لقد كانت هذه مرحلة حصل فيها المؤمنون جملة من الدروس التربوية، والقواعد المنهجية، والسمات الخلقية، مشفوعة بشق عملي تطبيقي في أعلى المستويات.
لقد حصلوا دروسًا في إنكار الذات، والاعتماد على الله، والعفو، والحلم، والصبر على البلاء، وحب الخير للناس في أحلك الظروف.
لقد كان لزامًا عليهم أن يتحملوا كل الصعوبات، ويستوعبوا كل الاعتداءات، وأن يمارسوا الدعوة لأعدائهم، فيردون الاعتداء بالحلم والصبر، ويقابلون رغبة الكفار بالفتك بهم، وحرصهم على فتنتهم عن دينهم بالرغبة في هدايتهم، وإنقاذهم مما هم فيه، وليس أدل على ذلك من فرحتهم بإيمان أي كافر، حتى إن كان من الذين يغلظون عليهم، ويشتدون في تعذيبهم.
فقد كان عمر بن الخطاب، على سبيل المثال، من الذين يؤذون المسلمين ويشتدون عليهم، حتى قال سعيد بن زيد، ابن عمه وزوج أخته: «والله، لقد رأيتني وإن عمر لموثقي على الإسلام قبل أن يسلم»(4).
فالفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة.
ومن أهداف التربية والإعداد، في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم، يقع على شخصه أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محورًا لحياة في نظره، ودافع الحركة في حياته، وتربيته كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر، كما هي طبيعته، ولا يهتاج لأول مهيج، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته، وتربيته على أن يتبع مجتمعًا منظمًا، له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره، مهما يكن مخالفًا لمألوفه وعادته، وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء (المجتمع المسلم)، الخاضع لقيادة موجهة، المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي.
إن هذا التعامل الأخلاقي في أسمى صوره يحتاج أن يتوقف أمامه كل منصف؛ ليعلم كيف تشكلت نفوس المؤمنين الأوائل، وليعرف كيف تربى هؤلاء الذين جاهدوا وقاتلوا بعد أن تخرجوا من أرقى مدرسة أخلاقية في التاريخ.
لقد كان البعد التربوي في هذه المرحلة مزدوج التوجيه، حيث اتجه في شقه الأول نحو المؤمنين في ذات أنفسهم، في حين اتجه في شقه الثاني إلى المؤمنين في تعاملهم مع الأعداء الكافرين.
فالشق الأول كان تربية لعباد الله المؤمنين على أرقى وأسمى المعانى الأخلاقية؛ من الاعتماد على الله، والثقة في وعده ونصره، والصبر على البلاء، واحتساب الأجر، والحلم وعدم الغضب للنفس، وإنكار الذات، والرغبة في هداية الناس في أحلك الظروف وأشدها، والإخلاص الكامل لله سبحانه بالتخلي عن حظوظ النفس الدنيوية، والترفع عن الملذات، والتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل إقامة الدين، وتعبيد الناس لرب العالمين.
أما الشق الثاني فقد أسس قواعد وأصولًا تربوية رفيعة في التعامل مع الخصوم، لم تعرف البشرية له مثيلًا إلا في سير الأنبياء والمرسلين، لقد انطلقت هذه العلاقة من الحرص على هدايتهم، وحب الخير لهم، والرغبة في إنقاذهم، وكان نتاجًا لتلك المشاعر الصادقة أن تقابل إساءاتهم بالإحسان، وجهالاتهم بالحلم، والعربي لا يصبر عادة على ضيم يقع عليه أو على من يلوذون به.
لقد كان المؤمنون في سلوكهم مع خصومهم، وأخلاقهم في التعامل معهم، يفسحون أمامهم السبل، ويمهدون لهم الطريق للدخول في الدين، لم ينشغلوا مع أعدائهم بمعارك جانبية ينتقمون فيها لأنفسهم، ويشعلون فيها نار الثأر؛ بل آثروا التضحية بحظوظ أنفسهم، وتحمل الأذى والصبر؛ حتى يوفروا لجلادهم أجواء يمكنه أن يتأمل فيها ويفكر، وأن يقف مع نفسه، بعيدًا عن مشاعر العداوة والرغبة في الانتصار، فلا بأس بالصبر إن كان سبيلًا للهداية، ولا ضير بالحلم إن كان معينًا على انشراح الصدور للحق، ولا غضاضة أن تكون أجسادهم قنطرة يطؤها الناس ويعبرون فوقها إلى الجنة(5).
لقد صارت هذه الثلة المؤمنة، التي تربت على تلك المعانى الإيمانية السامية، هي الطليعة التي قادت المؤمنين في المرحلة اللاحقة، وكان طبيعيًا أن تأتي سلوكياتهم على ذات النسق الأخلاقي الرفيع، بعد أن صارت هذه الأخلاق ركيزة في نفوسهم، وسجية في تصرفاتهم، وطبيعة عنها يصدرون، وإلى غيرها لا يميلون، لقد شكلت جزءًا أساسيًا في ثقافتهم، وكونت قدرًا أصيلًا في أذهانهم وأفئدتهم، بحيث يكون من المستبعد أن يتصرفوا بمنأى عنها، أو يعملون بما يخالفها، لا سيما مع ارتباط تلك المعاني بالتوجيهات الربانية والإرشادات النبوية، التي تمنحها قداسة، وترفعها إلى مرتبة العبادة لله عز وجل.
وهكذا ظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم الصحابة كتاب الله تعالى، ويربيهم على التصور الصحيح, في قضايا العقائد, والنظر السليم للكون والحياة، من خلال الآيات القرآنية الكريمة، بأسلوب حيوي عملي، لا من خلال مجرد نظريات جامدة، لا تسمن ولا تغني من جوع، حتى ارتقت نفوسهم، وظهرت ثمرة هذه التربية في كل المجالات، وقد قدمت هذه التربية العقدية على كل شيء آخر، ومن ذلك يفهم قول ابن عمر رضي الله عنهما: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن»(6).
وكذلك قول عائشة رضي الله عنها: «إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ}[القمر:46]، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده»(7).
فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم، ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة? وكم كانت البشرية كلها تخسر? كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير؛ معنى زهادة الحياة بلا عقيدة, وبشاعتها بلا حرية, وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد! إنه معنى كريم جدًا، ومعنى كبير جدًا، هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض، ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم, وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار؟ وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب, ولأعدائهم الطاغين حساب(8).
إن حركة الإسلام الأولى، التي قادها النبي صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدعوة، وإقامة الدولة، وصناعة الإنسان النموذجي الرباني الحضاري، خضعت لسنن وقوانين، منها:
- اتباع منهج جلي، تستمد منه العقائد والأخلاق والعبادات، والقيم والتصورات، منهج يجب أن يتصف بالصفاء في الفهم وربانية التنزيل، فكتاب الله وسنة رسوله هما المنهج النقي، الذي يجب أن يصدر عنه كل مؤمن.
- سنة التدرج، التي تنطلق من إدراك أن الطريق طويل، لا سيما في العصور التي سيطرت فيها الجاهلية, وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب، واستشرى في كل حدب وصوب، ولا شك أن استئصاله يحتاج إلى تدرج، مع حكمة ورحمة وصبر.
- أن التغيير يبدأ من الداخل، فلن تغير المجتمع قبل أن تغير الفرد، ولن تغير الآخرين قبل أن تغير ما في نفسك، و{إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
ولا غرو أن لكل مرحلة معطياتها ومقتضياتها، فالدعوة في أولها تحتاج إلى الهدوء والاستقرار، والتركيز على تثبيت الإيمان وتعليمه، وتزكية النفوس وتطهيرها من رجس الجاهلية، وهذه المرحلة هي الأساس الذي تبنى عليه المراحل الأخرى(9).
إن المؤمن يحتاج في المرحلة الأولى إلى تعميق الإيمان في النفس، والارتباط بالآخرة والتعلق بها، فإذا تم له ذلك صار من اليسير عليه بعد ذلك القيام بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواه.
وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة، واستئناف حياة إسلامية متكاملة، يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعًا إسلاميًا حقيقيًا فلا نتوهم أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس, أو ملك, أو من مجلس قيادي أو برلماني، إنما يتحقق ذلك بطريق التدرج؛ أي: بالإعداد، والتهيئة العقدية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية.
وهو نفس المنهج الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عامًا في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن, الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين(10).
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام على تنويع أشكال الدعوة، بين سرية وعلنية، فردية وجماعية، داخلية وخارجية، وحاولوا فتح مجالات جديدة، وخلق أجواء مختلفة يمكنهم ممارسة الدعوة من خلالها؛ ليحفظوا استمرار دعوتهم من جهة، وليحققوا لها مزيدًا من الانتشار والعموم من جهة أخرى.
فما أحوج أهل الدعوة في كل زمان ومكان إلى اتباع مثل هذا المنهج الرباني الرشيد في دعوتهم، خاصة في عصور الاستضعاف التي يكثر فيها الزلل.
____________
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب (الأنعام: 65).
(2)المصدر السابق (البقرة: 260).
(3) المنهج الحركي للسيرة النبوية، منير الغضبان (1/3).
(4) أخرجه البخاري (3573).
(5) أخلاقيات الحرب في السيرة النبوية، إيهاب كمال أحمد، ص38.
(6) أخرجه الحاكم (1/91)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
(7) رواه البخاري (4993).
(8) في ظلال القرآن (البروج: 5).
(9) قواعد منهجية وفوائد تربوية من المرحلة المكية في السيرة النبوية، إيهاب كمال أحمد.
(10) الخصائص العامة للإسلام، د. يوسف القرضاوي، ص168.