الجدية في التربية
من الواجب اللازم على المربين اتخاذ أسلوب الجدية في تربية الأبناء؛ لكي ينشأ جيل قوي متحمل للمسئولية، ولديه إحساس بواجبه نحو إخوانه المسلمين في الداخل والخارج؛ من أمر بمعروف ونهي عن منكر، أو نصح وتعليم وتوجيه، وتقديم يد العون لهم بالمساعدات الحسية؛ إما بالمال أو بالنفس، أو بالدعم المعنوي؛ بالدعاء والاهتمام بشأنهم، والحث على الإحساس بمشكلاتهم أو تقديم الحلول العاجلة لهم، أو طرح مشاكلهم، والحرص كل الحرص في تنمية الشعور لدى أبنائنا أنهم جزء من الأمة الإسلامية وعضو منها، ويلزمهم واجبات تجاه هذه الأمة لكي تنهض، وتستعد لمواجهة الأعداء الذين يتربصون بها.
ولكن الذي نراه، في هذا الوقت، هو التساهل والتهاون عند الكثير من المربين في توجيه الأبناء الوجهة السليمة، وإحياء الشعور لديهم بواجبهم ليكون بهم عز الإسلام ورفعة شأنه، فلا نجد من الأولياء إلا محاولة إشباع رغبات أبنائهم من الأكل والشرب والملبس، وغير ذلك من الحاجات الدنيوية، والمبالغة في صرف الأموال لتوفيرها، ولا نقول إن ذلك محرم، ولكن المبالغة فيه تخرج جيلًا لا يحس ولا يهتم إلا بنفسه، وتلبية رغباتها، فيصير عبدًا لشهواته، لا يشعر بمسئولية ولا بواجب تجاه إخوانه.
نحن بحاجة إلى التربية التي تهيئ المرء ليكون عبدًا حقًا لله سبحانه وتعالى، ليكون أهلًا أن يتحمل هذه الرسالة، وأن يحمل هذا الدين، ومن ثم كان لا بد من الحديث عن التربية الجادة.
والتربية الجادة هي تلك التربية التي تحتوي على برامج جادة، وعلى برامج طموحة، تهدف إلى الارتقاء بالمتربي إلى منازل عالية، وإلى منازل الرجال.
وهي إعداد الرجل الجاد، الرجل الجاد ليس هو قليل الدعابة والهزل، الرجل الجاد هو صاحب الهدف، الذي يسري في أعماقه وروحه، الرجل الجاد هو من يتوجه بالعبادة الحقة لله سبحانه وتعالى، هو الجاد في طلبه للعلم الشرعي، هو الجاد في دعوته إلى الله عز وجل، هو الرجل القادر على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب، هو الرجل الشجاع.
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجر لم يطب
إننا مع حرصنا على تكثير سواد الصحوة، وعلى سواد المنتمين لهذا الطريق والخير، ينبغي أن لا نخدع بهذه الجماهير، وينبغي أن نشعر ونوقن أن هذه الجماهير بحاجة إلى تربية، تربية جادة، تربية عميقة، تربية طويلة تحتاج إلى جهود يتضافر عليها الجميع.
أهمية التربية الجادة:
هناك معان لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التربية، معاني الصبر والوفاء والكرم والشجاعة...، إلى غير ذلك.
ثقل التبعة وعظم المهمة:
علينا أن نعلم أن المهمة جسيمة، وأن التبعة ثقيلة، ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة ألا يخلو منها الفضلاء، ولا تعدم النجباء، ففي كل زمان رجال شرفاء، وعلماء أجلاء، ومربون عظام؛ ينهضون بالأمة، ويحملون المهمة، ويربون للأمة أبناءها، ويحافظون على خيرها وثمرها، يجاهدون من أجل الوصول لأسمى معاني الرجولة، وأعلى معاني الكمال، لكنهم قليلون، ويحارَبون من الداخل والخارج، مع ضعف ذات أيديهم، وقلة مواردهم، وبساطة وسائلهم، لكنهم يستشعرون الخطر، ويعرفون قدر ما هم عليه من ثغور الإسلام؛ فيبذلون الغالي والنفيس، ويستعذبون الآلام في تحقيق آمال الأمة.
إن الأمر يحتاج إلى أن يؤخذ بجدية، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ(1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا(2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا(3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا(4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا(5)} [المزمل:1-5].
لا بد لأي روح يراد لها أن تؤثر في واقع الحياة البشرية فتحولها وجهة أخرى، لا بد لهذه الروح من خلوة وعزلة بعض الوقت، وانقطاع عن شواغل الأرض، وضجة الحياة، وهموم الناس الصغيرة التي تشغل الحياة.
لا بد من فترة للتأمل والتدبر والتعامل مع الكون الكبير وحقائقه الطليقة، فالاستغراق في واقع الحياة يجعل النفس تألفه وتستنيم له، فلا تحاول تغييره، أما الانخلاع منه فترة، والانعزال عنه، والحياة في طلاقة كاملة من أسر الواقع الصغير، ومن الشواغل التافهة، فهو الذي يؤهل الروح الكبير لرؤية ما هو أكبر، ويدر به على الشعور بتكامل ذاته بدون حاجة إلى عرف الناس، والاستمداد من مصدر آخر غير هذا العرف الشائع(1).
لقد كان هذا القول الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم ثقيلًا، هل كان ثقيلًا بألفاظه وحروفه؟ أبدًا فهو ميسر؛ {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، لكنه كان ثقيلًا بتبعاته، كان ثقيلًا يحتاج إلى نفس جادة، إلى نفس تَربَّت تربية تؤهلها لأن تحمل هذه الرسالة.
إن الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، ولكنه يعيش صغيرًا ويموت صغيرًا، فأما الكبير الذي يحمل هذا العبء الكبير... فماله والنوم؟ وماله والراحة؟ وماله والفراش الدافئ، والعيش الهادئ؟ والمتاع المريح؟!
إن قيام الليل والناس نيام، والانقطاع عن غبش الحياة اليومية وسفسافها، والاتصال بالله، وتلقي فيضه ونوره، والأنس بالوحدة معه والخلوة إليه، وترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما هو يتنزل من الملأ الأعلى، وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل، بلا لفظ بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي...، إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ، والجهد المرير، الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل! وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير(2).
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:142-143]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
إن هذه النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى تعطينا دلالة واضحة على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى نفوس عالية، وإلى همم تربت تربية جادة عميقة، تحتمل هذا الأمر وتحمل هذا الدين.
وحين نقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من النصوص التي تؤيد ما نقول، فهو صلى الله عليه وسلم يقول: «حُفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»(3)، إن طريق الجنة طريق محفوف بالمكاره، فلن يوصل إلى الجنة إلا من خلال سلوك هذا الطريق، الطريق المليء بالمكاره والأشواك، إذًا فلن يسلك هذا الطريق إلا الرجل الجاد، إذًا الرجل الذي سيتربى ليصل إلى هذه المنزلة، وليحقق هذا الهدف، بحاجة إلى أن يتربى تربية جادة ليتأهل لبلوغ وتجاوز هذه المكاره.
إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف»(4)، فهو يخاطب كل مسلم في هذه الأرض أن يستعين بالله ولا يعجز، أن يكون رجلًا همامًا، رجلًا صاحب قرار، يستعين بالله سبحانه وتعالى ولا يعجز، ويدع الكسل.
الجدية أصل الحياة:
إن الحياة أصلًا لا يعيش فيها إلا الرجل الجاد، تأمل في تاريخ الدول والأمم ترى الأمة التي سادت وكونت حضارة لا بد أن تكون أمة جادة، لا بد أن يملك أفرادها قدرًا من الجدية، يؤهلهم إلى أن يصلوا إلى هذه المنزلة، وإلا لن يصنعوا شيئًا.
يحكي لنا القرآن عن بني إسرائيل، فقد كتب الله عليهم التيه في الأرض أربعين سنة، حتى يذهب هذا الجيل الذي أَلِفَ الذل واعتاده، ويأتي جيل آخر يتربى تربية حقيقية، فيفتح الله لهم.
فلقد جربهم موسى في مواطن كثيرة في خط سير الرحلة الطويل؛ جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر، وحررهم من الذل والهوان، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر، وأغرق لهم فرعون وجنده، فإذا هم يمرون على قوم يعكفون على أصنام لهم، فيقولون: {يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهًا كَما لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138]، وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي، التي سرقوها معهم من نساء المصريين، عجلًا ذهبًا له خوار، ثم إذا هم عاكفون عليه يقولون: إنه إله موسى الذي ذهب لميقاته!
وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء، وأنزل عليهم المن والسلوى طعامًا سائغًا، فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر، أرض الذل بالنسبة لهم، فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها، ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص، والهدف الأسمى، الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون!
وجربهم في قصة البقرة، التي أمروا بذبحها، فتلكئوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ، {فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71]!
وجربهم وقد عاد من ميقات ربه، ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده، فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم، بعد كل هذه الآلاء، وكل هذه المغفرة للخطايا، ولم يعطوا الميثاق حتى وجدوا الجبل منتوقًا فوق رؤوسهم، {وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف:171].
ثم نهاية المطاف بموسى عليه السلام، نهاية الجهد الجهيد، والسفر الطويل، واحتمال الرذالات والانحرافات والالتواءات من بني إسرائيل! نعم ها هي ذي نهاية المطاف، نكوصًا عن الأرض المقدسة، وهو معهم على أبوابها، ونكولًا عن ميثاق الله، وهو مرتبط معهم بالميثاق.
{قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ} [المائدة:26].
حرمها الله على هذا الجيل منهم حتى تنبت نابتة جديدة، وحتى ينشأ جيل غير هذا الجيل؛ جيل يعتبر بالدرس، وينشأ في خشونة الصحراء وحريتها صلب العود، جيل غير هذا الجيل الذي أفسده الذل والاستعباد والطغيان في مصر، فلم يعد يصلح لهذا الأمر الجليل! والذل والاستعباد والطغيان يفسد فطرة الأفراد كما يفسد فطرة الشعوب(5).
فلما جاء الجيل الذي تربى التربية الجادة كان الفتح على يديه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها، ولمَّا يبن بها، ولا أحدٌ بنى بيوتًا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنمًا أو خلفات وهو ينتظر ولادها، فغزا فَدَنا من القرية صلاة العصر أو قريبًا من ذلك، فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا، فحبست حتى فتح الله عليه»(6).
إنه رجل، فِعْلًا، ربى أصحابه تربية جادة، فليس لديه مجال للذي يذهب للغزو وهو يفكر في زوجته، أو يفكر في البيت والأغنام والإبل والماشية، في التجارة، في المؤسسات، فهذا ليس له مكان، فهو يريد رجلًا جادًا فعلًا، ولذلك فتح الله على أيديهم.
صورة ثانية أيضًا من نتائج التربية الجادة: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249].
وهي القصة التي نقرأها جميعاً في سورة البقرة: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] جيش يسيرون ويصيبهم الظمأ، ومع ذلك أمامهم النهر، من شرب منه فليس منه، إلا من اغترف غرفة بيده؛ لأنه لا يريد إلا رجلًا جادًا، فالإنسان الذي لا يصبر، ولا يتحمل، ليس له مكان معه.
وهي تلك الصورة التي نقرأها في غزوة بدر، حين استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فتنوعت مقولاتهم، فمنهم من قال: لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد.
وآخر: لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا وراءك، والله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
إلى غير ذلك من تلك العبارات القوية، التي نقرأها في سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين تربوا التربية الجادة.
فالمؤسسة التي تريد أن تحقق نجاحًا لا بد أن تكون مؤسسة جادة، الفرد الذي يريد أن يحقق النجاح في حياته الخاصة؛ في دراسته، في تعلمه، في أي شأن من شئون الحياة لا بد أن يكون رجلًا جادًا.
الأمة والدولة لا يمكن أن تنجح، ولا يمكن أن تحقق الإنجازات إلا عندما تكون جادة، تعمل أكثر مما تتكلم، تحمل رجالًا صادقين، جادين، عاملين أكثر من مجرد مهرجين وأناس يجيدون فن النفاق والحديث، ومن هنا فعندما تتأمل في التاريخ القديم والحديث ترى أن هذا سر من أسرار نجاح الجميع.
ثمار هذه الجدية:
1- الاستمرارية في العمل:
إن الذي تربى تربية جادة هو ذاك الرجل الذي يعمل عملًا مستمرًا مثمرًا، قد تجد الكثير من الناس عنده استعداد أن يعمل، ويضحي، ويتعب، ويعمل عملًا يتطلب منه تضحية، لكنه عمل متقطع، أما الإنسان الذي يتحمل عملًا يحتاج إلى برنامج طويل، ووقت طويل، ونفس طويل، هؤلاء عملة نافعة، ولا يتحمل هذا العمل إلا من تربى تربية جادة.
يسهل جدًا على الإنسان أن يتحمس فتكون عنده مبادرة، ويعمل أعمالًا ضخمة وكبيرة جدًا، لكنها أعمال متقطعة، سرعان ما يتركها.
أما الإنسان الذي يتحمل عملًا يتطلب وقتًا طويلًا وبرنامجًا فهؤلاء قلة، هؤلاء الذين تربوا تربية جادة هم الذين عندهم استعداد ليتحملوا؛ فإنه تأتي عليه حالات ضعف، وحالات قوة، وحالات...،
وتأتي صوارف، وتأتي...، فعندما يتربى تربية جادة يصير أمامه طريق واضحة، وهدف يسعى إليه، لكن إنسانًا قد يستجمع حماسًا ويعمل عملًا ثم يفتر؛ لأنه لم يتربَّ فعلاً تربية حقيقية، وتربية جادة؛ فهو لا يشعر أن هذا الطريق أمامه إلى أن يموت.
2- الجدية في التعامل مع الوقت:
أن يكون المرء جادًا في تعامله مع وقته، في تحكمه في وقته، في استغلاله لوقته، انضباطه في مواعيده، تنظيمه لأوقات الراحة، لا يمكن أن يكون الإنسان جادًا في ذلك إلا الرجل الذي أمامه هدف جاد، لكن الإنسان الذي أموره عنده سهلة، الذي أموره عنده هينة ليس بحاجة أصلًا إلى أن ينظم وقته، ولا إلى أن يستغل وقته.
ومن هذه النماذج أيضًا أسد بن الفرات، حينما جاء إلى الإمام مالك فتعلم عنده، ثم رحل إلى محمد بن الحسن فطلب أن يعطيه درسًا خاصًا، فكان يدرس مع الطلاب في النهار، ثم يأتي إلى محمد بن الحسن في الليل فيدرس عنده، فكان إذا أتاه النوم وهو في الدرس أخذ محمد بن الحسن ماءً فينضح في وجهه، فكان يجاهد ويكابد السهر حتى أصاب علمًا كثيرًا.
3- الجدية في الاهتمامات:
الرجل الذي تربى تربية جادة اهتماماته عالية، واهتماماته طموحة، ومن ثم لا يجد وقتًا للأمور الدونية، حتى عندما تقرأ في تراجم بعض أهل الحديث يقول أحدهم: بقي شهرًا لا يجد وقتًا يغسل ثوبه.
خالد بن الوليد رضي الله عنه كان في العراق، واستنجد المسلمون الذين كانوا في الشام أبا بكر رضي الله عنه، فأمر خالدًا أن يسير إليهم، فسار خالد رضي الله عنه بأصحابه مسرعًا في 9500، ودليله رافع بن عميرة الطائي، فأخذ به حتى انتهى إلى قراقر، وسلك به أراض لم يسلكها قبله أحد، فاجتاب البراري والقفار، وقطع الأودية، وتصعد على الجبال، وسار في غير مهيع، أي: في غير طريق بين، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق، وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عللًا بعد نهل، يعني: شربة ثانية، والنهل أول الشراب، يعني: يسقيها تارة ويتركها تارة، وقطع مشافرها حتى لا تحتز رحل أدبارها واستاقها معه، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، ويقال: بل سقاه الخيل، وشربوا ما كانت تحمله من الماء، وأكلوا لحومها، ووصل، ولله الحمد والمنة، في 5 أيام، وكانت طريقه في صحراء قاحلة، حتى أشار عليه كثير من الناس أن لا يقطعها.
إنها صورة من تلك التربية الجادة، التي تتخذ القرار الحاسم في ذاك الموقف، ولم يكن خالد وحده؛ بل كان الجيش معه كلهم على هذا المستوى، وإلا لقالوا له كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون.
4- تحمل المسئوليات:
المسئوليات لا يتحملها إلا الرجل الجاد؛ لأنه يعرف تبعاته، ويعرف ما يترتب عليها، ويعرف أنه لا بد أن يتحملها؛ لأن هذا عمل ومسئولية وأمر يجب أن نبادر جميعًا إلى تحمله، وإلى التسابق عليه؛ لأن هذه قضية دين، وقضية مستقبل أمة، ليست قضية مجرد التخلي عن المسئوليات والتبعات.
وفي حديث جابر، سرية الخبط، عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا قِبل الساحل، وأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم 300، قال: فخرجنا وكنا ببعض الطريق، ففني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمعت، ثم صار يقوتهم، فكان يقوتنا كل يوم قَليلًا قليلًا حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، ومع ذلك واجهوا عدوهم، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ قال: لقد وجدناها حين فنيت.
5- المبادرة الذاتية:
الرجل الجاد لا ينتظر التكليف؛ بل يبادر، ويفكر، ويعمل، يكون صاحب مبادرة ذاتية، لا ينتظر أن يُكلَّف ويوجَّه.
والتربية الجادة تنتج، فيما تنتج، تنمية المبادرة الذاتية، فيعمل صاحبها ابتداءً دون انتظار التكليف أو التوجيه، ويرى أن جدية الهدف وصدق العمل يتطلب منه ألا تكون الاستشارة، والاستفادة من آراء الآخرين، حاجزًا وهميًا وعائقًا دون أي عمل، فينطلق ويعمل ويبادر ويفكر، محيطًا ذلك كله بأسوار الاستشارة، جاعلًا إياه في دائرة الانضباط والالتزام(7).
لقد كانت التربية الجادة، على منهج القرآن الكريم، عاملًا مهمًا من عوامل الصمود والتحدي أمام الباطل وأهله، ولقد كانت تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه على الصبر مقصودة في حد ذاتها؛ لأنه يعلم، ويريد أن يعلمهم، أن النصر مع الصبر، وأن البلاء سُنَّة ماضية، وأن أهل الإيمان لا بد أن يتعرضوا للفتن تمحيصًا وإعدادًا، قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2](8).
_________________________________________________
(1) في ظلال القرآن، (المزمل).
(2) المصدر السابق.
(3) رواه مسلم (2822)، عن أنس بن مالك.
(4) رواه مسلم (2664)، عن أبي هريرة.
(5) في ظلال القرآن، (المائدة:12).
(6) رواه البخاري (3124).
(7) التربية الجادة ضرورة، للشيخ محمد الدويش.
(8) دراسات تربوية، المبادرات الذاتية وتنميتها، محمد بن سعد الخالدي، مجلة البيان، العدد:130.