رمضان بين الواقع والواجب
إن افتقار المخلوق إلى أن يكون عبدًا لله تبارك وتعالى هو افتقار ذاتي فطري، وهو حاجة رجوعة لا يسدها حقًا إلا عبادة الله وحده لا شريك له، وهو الذي أودع في العبد هذه الحاجة الفطرية، وهذا الافتقار الذاتي؛ كي يعبده وحده تبارك وتعالى، ولذلك مدح الله سبحانه نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في أعظم مقامات التشريف، وهو: مقام الإسراء والمعراج الذي لن يبلغه قبله بشر ولم يبلغه أحد بعده، فقال تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1]، فوصفه بالعبودية؛ لأنها أشرف مقام، ولأنها أعظم ما تطمح إليه النفس البشرية؛ فبتحقيق العبودية لله تبارك وتعالى يرتقي العبد إلى أعلى درجات الكمال الإنساني الذي يمكن أن يبلغه أي بشر، وأعظم الناس عبودية هم: الملائكة، والأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل من البشر، ممن انتهج منهجهم، وسار على طريقهم.
ولقد خص الله عز وجل شهر رمضان بالكثير من الخصائص والفضائل، فهو شهر نزول القرآن، وهو شهر التوبة والمغفرة وتكفير الذنوب والسيئات وفيه العتق من النار، وفيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران وتصفد الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، وهو شهر الجود والإحسان وهو شهر الدعاء المستجاب.
فرمضان شهر الخيرات الذي امتن الله تعالى به على عباده، ليقوى إيمانهم، وتزداد فيه تقواهم، وتتعمَّقَ صِلَتُهم بِربِّهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
لكن المشاهد لحال المسلمين في هذا الزمان يجد أن واقع الكثير منهم مخالف للمأمول منه بصفته الإسلامية، فقد تحولت العبادة عند الكثير من المسلمين إلى عادة، فهو يصلي عادة لا عبادة، ويصوم لأن المجتمع من حوله يصوم، وهذا لم يصم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (1).
وتحولت المنافسة في هذا الشهر من منافسة على الخيرات إلى منافسة على التنويع في المآكل والمشارب والملاهي، فتجد الناس في رمضان يفدون إلى الأسواق بأنواعها لاقتناء حاجيات رمضان، فهؤلاء يذهبون إلى أسواق المواد الغذائية، وأولئك يذهبون إلى المطاعم، بل وتجدهم يقفون أمامها بالصفوف في انتظار الدور؛ والآخرون يذهبون إلى محلات الأواني المنزلية.
ثم إذا أتيت إلى المنازل تجد النساء في البيوت ينهمكن طوال الليل والنهار في إعداد الأكلات المختلفة والأصناف المتنوعة، ويتنافسن فيما بينهن في ذلك.
أمسى الكثير من المسلمين يضيع وقته في رمضان فيما لا يعود عليه بالنفع في الدنيا ولا في الآخرة، بل ربما انهمك في المحرمات.
ومن ذلك: أن الكثيرين يتسمرون أمام القنوات الفضائية لتلقف السموم التي تبثها تلك المحطات الشيطانية في هذا الشهر المبارك، فينتقل من تمثيلية مليئة بالصور المحرمة والأفكار الهدامة إلى أغنية ماجنة، ومباريات رياضية، وبرامج ترفيهية وأخبار محلية ودولية، إلى غير ذلك من البرامج السيئة.
فتفوته صلاة التراويح، وتفوته قراءة القرآن، وتفوته الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك، بل تفوته ليلة هي خير من ألف شهر، بل ربما قصر بعضهم في أداء الواجبات التي أوجبها الله عز وجل، ولا شك أنه بفعله هذا قد جرح صومه ونقص ثوابه.
ومنهم من يمضون أوقاتهم التي لو كانت تباع لاشتراها العقلاء بأغلى من الذهب والفضة يمضونها في التسكع في الأسواق، لفعل ما يغضب الله عز وجل من النظر المحرم، والكلام الحرام، والعلاقات المحرمة.
نجد أن الكثير من الناس ثقلت عليهم العبادات، وأصبحوا يطلبون الراحة منها، لا بها، ولا تحصل لهم بها أي لذة.
وقد كان عبد الواحد بن زيد يبكي كثيرًا ويقول: فرق الموت بين المصلين ولذتهم في الصلاة، وبين الصائمين ولذتهم في الصيام (2).
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن للصائم فرحتين، أما هؤلاء ففرحهم لسقوط حمل الصيام عنهم ومشقته، والذي لا يجدون له أي لذة.
وهذا يرجع إلى الذنوب التي طمست القلوب، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد سئل وهيب بن الورد: هل يجد طعم الإيمان من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من هَمَّ بالمعصية.
وقال ذو النون: كما لا يجد الجسد لذة الطعام عند سقمه كذلك لا يجد القلب حلاوة العبادة مع الذنوب (3).
شهر شرع صيامه للاقتصاد في المآكل والمشارب، لما في ذلك من الفوائد الحسية والمعنوية، ولكن واقع الكثير من الناس اليوم بضد ذلك، فتجدهم يسرفون في المآكل والمشارب فيه أكثر من بقية الشهور، وقد قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
والمتأمّل في النصوص الشرعية الواردة في الصيام، التي تتحدث عن حِكَم الصيام وغاياته في الشريعة وفي واقعنا معاشر المسلمين يجد بونًا كبيرًا لدى أكثر عامة الأمة وكثير من شباب الصحوة بين الواقع والواجب.
الأسباب التي غيرت معاني الصوم:
هناك أسباب كثيرة من أبرزها:
1- الجهل بأهداف وحِكَم الصيام وغاياته: يعد الجهل بأهداف وحكم الصيام وغاياته في الشريعة لدى كثير من المسلمين، وقيامهم بالتطبيق تقليدًا ومسايرة للمجتمع من دون التأمل والدراسة من أبرز أسباب هذا التباين، يقول الشيخ الدوسري: فإن لم يكن البشر واعين لحكمة التشريع الإلهي وثمراته في الدنيا قبل الآخرة، فإنَّهم لن يطبقوه على تمامه، أو على الوجه الصحيح.
يقول الرازي: إن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى؛ فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش، ويهون لذات الدنيا ورياستها، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج، فمن أكثر منه هان عليه أمر هذين، وخفت عليه مؤونتهما، فكان ذلك رادعًا له عن ارتكاب المحارم والفواحش، ومهونًا عليه أمر الرياسة في الدنيا، وذلك جامع لأسباب التقوى (4).
وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شهر الصيام بشهر الصبر، إذ في الصوم تربية لقوة الإرادة على كبح جماح الشهوات وأنانية النفوس، ليقوى صاحبها على ترك مألوفاته أكلًا أو شربًا أو متاعًا، فيكون قوي الإرادة في الإقدام على أوامر الله، صلى الله عليه وسلم التي من أعظمها حمل الرسالة المحمدية والدفع بها إلى الأمام، ساخرًا بما أمامه من كل مشقة وصعوبة، والصوم يمثل ضربًا من ضروب الصبر، الذي هو الثبات في القيام بالواجب في كل شأن من شؤون الحياة، إذ يُصَبّر فيه الإنسان نفسه على طاعة الله تعالى بالوقوف عند حدوده فعلًا وتركًا، قال تعالى بعد أن ذكر شيئًا من أحكام الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187]، كما يضبطها ويمنعها عن لذاتها طواعية وامتثالًا لأمر الله تعالى وطلبًا لثوابه، وفي ذلك من التربية على قوة العزيمة والإرادة ما يجعل الإنسان متحكمًا في أهوائه وشهواته.
الصيام عبادة خالصة بين العبد وربه، ولذا فإنه يربي في المسلم الخوف من الله تعالى ومراقبته والتطلع لثوابه، إذ بإمكانه أن يُظهر الصيام أمام الخلق وهو غير صائم أصلًا، سواء أكان عن طريق تناول شيء من المفطرات، أو بمجرد فقدان النية، وإن أمسك عنها طوال النهار، وفي ذلك من ظهور صدق الإيمان وكمال العبودية وقوة المحبة لله تعالى ورجاء ما عنده ما جعل جزاء الصيام عند الله تعالى أعظم من جزاء جل العبادات، قال الله تعالى في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله عز وجلّ، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي» (5).
قال ابن القيم: والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وذلك حقيقة الصوم (6).
ولما كان فضول الطعام والشراب والكلام والمنام ومخالطة الأنام مما يزيد القلب شعثًا ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوقه ويوقفه، اقتضت رحمة الله تعالى بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، ويستفرغ من القلب أخلاط الشهوات، وشرع لهم من العبادات أثناءه؛ من اعتكاف وقيام ودعاء وتلاوة قرآن ما يذهب فضول الكلام والمنام ومخالطة الأنام.
ولذا صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «خِصاءُ أمَّتي الصيام» (7)، وقال: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (8).
ومضيقًا على الشيطان مجاريه بتضييق مجاري الطعام والشراب قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» (9)، فتسكن بذلك وساوس الشيطان.
كما أنَّ القلب في حال الصيام يتفرغ للتَّفَكُّر في آيات الله تعالى وملكوته؛ لأنَّ الإفراط في تناوُل الشهوات يستوجب الغفلة، وربما يقسي القلب ويعمي عن الحق، قال ابن رجب: وخلوّ الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر والفكر (10).
2- تعليق الصيام بالتروك فقط: يعتقد كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله تعالى شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتظافر لتحقيق غايات الصوم وآثاره المرجوة منه، ولعلَّ من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص:
قيام الليل، قال: «مَنْ قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه» (11).
تفطير الصائمين، قال: «من فطر صائمًا كان له مثل أجره، غير أنه لا ينقص من أجر الصائم شيئًا» (12).
قراءة القرآن وختمه: قال: «الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان» (13)، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقاه جبريل في كل سنة في رمضان، فيعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن.
الصدقة: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان (14).
قال الشافعيُّ: أحب للرجل الزيادة بالجود في شهر رمضان اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغُلِ كثيرٍ منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم (15).
الاعتكاف: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان (16).
قال الزهري: عجبًا للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه مُنْذُ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل (17).
الدعاء: حيث ذكر الله تعالى في ثنايا آيات الصيام قوله: {وَإذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]، ليرغب الصائم في كثرة الدعاء.
التوبة: رمضان موسم التوبة والعودة إلى الله عز وجل وذلك لعظيم جوده تعالى وفضله في كل وقت، وفي هذا الشهر خاصة، حيث تصفد الشياطين، وله سبحانه في كل ليلة من رمضان عتقاء من النار بالإضافة إلى تهيؤ الإنسان بالصوم وسائر العبادات لذلك، ولذا قال: «ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له» (18).
الاجتهاد في العمل مطلقًا في العشر الأواخر: عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل، وأيقظ أهله وجَدَّ وشَدَّ المئزرَ (19)، وقالت رضي الله عنها أيضًا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره (20).
والأفعال المشروعة في رمضان كثيرة، فالمفترض في حق المسلم أن يحرص على شغل وقته بما يعود عليه بالنفع أكثر عند لقاء الله عز وجلَّ.
3- عدم استشعار أثر المعاصي على الصيام: الذنوب سبب حرمان الله للعبد من الاستفادة من الصيام وتحقيقه التقوى فيه، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30]، ولذا فإن: الصوم ينقص ثوابه بالمعاصي وإن لم يبطل بها، فقد لا يحصل الصائم على ثواب مع تحمله التعب بالجوع والعطش لأنه لم يصم الصيام المطلوب.
وقد وردتْ عدَّةَ أحاديث تبيّن ذلك المعنى وتُجَلّيه منها قوله: «رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورُبَّ قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر» (21)، وقال: ليس الصيام من الأكل والشرب، إنما الصيام من اللغو والرفث، فإن سابك أحد، أو جهل عليك، فقل: إني صائم، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لم يَدَعْ قَوْلَ الزُّور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامَهُ وشرابه» (22).
4- أخطاء بعض الصائمين: يقع بعض الصائمين في أخطاء منها:
الإسراف في الإنفاق: الأصل في الصيام أنه مدرسة عملية للاقتصاد وتعويد النفس الجلد، وقوة التحمل عند الأزمات، وضبط النوازع والرغبات، ولكن الذي يحصل في واقع الكثير من المسلمين في وقتنا الحاضر العكس، حيث تزداد النفقات وتتجاوز حد الاعتدال إلى التبذير والإسراف.
التوسع في تناول الأطعمة والأشربة وسائر الملذات: صار موسم الصيام في حياة أناسٍ موسمًا لتنْويع المآكل والمشارب وتناوُلِ الملذَّات، ولا يَخْفَى ما في ذلك من منافاةٍ لِغَرَضِ الصيام ومراميه.
السهر في الليل والنوم في النهار: ينقلب الحال في رمضان في حياة الكثيرين، فيصبح الليل نهارًا والنهار ليلاً؛ بحيث يصبح الليل وقتًا للاجتماع والسهر، والنهار وقتًا للنوم والكسل، هذا إذا لم يُصَاحِبْ ذلك اجتماع على مُحَرَّماتٍ وتضييعٍ للواجبات، وعدم القيام بالعبادات كما يجب.
التعلق بالدنيا وعدم الاهتمام بشأن الآخرة: مع دخول رمضان يزداد انشغال كثيرين بتجاراتهم وبيعهم وشرائهم، ويأخذ ذلك منهم جل الليل والنهار، ومع أن البيع والشراء حلالان في الإسلام، إلا أنَّ المذموم من ذلك، هو تعلق القلب بمتاع الدنيا، وإعطاء كل جهدِه ووقته لذلك مع إغفال المرء لحظ نفسه في الآخرة وحاجتها إلى أعمال صالحة تهذبها، وتزيل عنها درنها وشوائِبَهَا.
مخالطة البطالين: وهم مضيعو أوقات العباد فيما لا يعود عليهم بنفع ديني أو دنيوي وليس من شرطهم الإفساد والانحراف عن جادة الحق الصواب ومخالطة العبد لهم وإكثاره من ذلك يعود عليه بالندم والحسرة في كل وقت فكيف في مواسم الخيرات؟!
أخطاء في أداء بعض العبادات:
يحرص بعض الموفقين للخيرات على القيام ببعض العبادات، ولكن يعتري تطبيقهم بعض الأخطاء، ومن ذلك:
أ- التأخر عن الصلاة: وذلك للتأخر في الخروج من المنزل لصلاة العشاء والتراويح والذهاب إلى مسجدٍ بعيدٍ ليُصَلِّيَ مع إمامٍ يُجِيدُ القراءة، وقد يؤدي ذلك التَّأَخُّرُ إلى فوات صلاة الجماعة أو بعضها، مع أنَّ صلاة الجماعة واجبة على الأرجح، وصلاة التراويح نافلة.
ب- تشدد بعض الحريصين على الاتباع في تحديد عدد صلاة التراويح، مما يؤدي ببعضهم إلى ألا يصلي مع إمامه حتى ينصرف إذا كان يزيد على الحد المعروف عنده، وأحسب أن هذا اجتهاد مأجور إن شاء الله، لكن أخشى أن يفوته أجر قيام ليلة مع ما يُصاحِبُ ذلك عند بعضهم من البغضاء والشحناء بين المختلفين في العدد.
جـ- حرص بعض المسلمين على ختم القرآن في رمضان مرة أو أكثر: ولا إشكال في ذلك لثبوت مشروعيته، ولكن الإشكال في كيفية تلاوتهم إذ يهذّ بعض القُرَّاءِ في التراويح وغيرها القرآن هذًّا كهذِّ الشعر بدون تدبر لمعانيه وتفهُّمٍ لأحكامه، وقد قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
صحيحٌ أنَّه ثَبَتَ عن بعض السلف أنه كان يختم القرآن في رَمَضَانَ كُلَّ ليلة، حتى قال الزهري: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، ولكن خير الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «لا يفقه من قرأ القرآن في أقلَّ مِنْ ثلاث» (23).
د- يحْرِصُ بَعْضُ المسلمين على الاعتكاف، ولكن قد يعتكفون جماعات، فيحلو بينهم الحديث وتتَّسع أبوابه، ويكون الاعتكاف موضع عشرة ومجلبة للزائرين، يقول ابن القيم بعد ذكره لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف: كل هذا تحصيل لمقصود الاعتكاف وروحه، عكس ما يفعله الجهال من اتخاذ المعتكف موضع عشرة، ومجلبة للزائرين وأخذهم بأطراف الأحاديث بينهم، فهذا لون والاعتكاف النبوي لون.
تتفتح أبواب الخير وطرقه على الصالحين في رمضان بشكل لا يمكن العبد الإحاطة بها جميعًا، مما يتطلب منه المفاضلة بين الأعمال واختيار ما يكون أصلح لقلبه وأكثر نفعًا لأهله ومجتمعه، والملاحظ في واقع كثير من الصالحين أنه يريد الإحاطة بكل خير يمكنه القيام به فلا يقوم بشيء منها، أو يقوم بأعمال خيرة يمكنه أن يقوم بأفضل منها، أو يوكل القيام بها إلى شخص حوله لا يمكن أن يقوم بشيء منها بدون ذلك ويقوم هو بغيرها.
5- الوسائل الإعلامية والعلاقات الاجتماعية: لوسائل الإعلام سواء أكانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة دور كبير في تشتيت أذهان كثير من الصائمين وبالأخص الشباب والنساء، وبالتالي إشغالهم عن استيعاب غايات الصيام ومراميه، والاستفادة منها في إصلاح النفوس والمجتمعات بالشكل المطلوب، وذلك من خلال المواد التي تُقَدِّمُها تلك الوسائل والتي تَصُبُّ غالبًا في الجانب الترويحي، وما تبقى من مجالات تكون في الغالب سطحية مع اشتمال كثير منها على جوانب محرمة.
كما أن للتوسع في العلاقات الاجتماعية بين الأسر والأصدقاء دورًا ملحوظًا في إضاعة الأوقات، ولذا فإني أرى أن الخير للمسلم أن يقلل من علاقاته تلك في هذا الشهر ما أمكن، وأن يجعلها مقصورة على الصِّلَةِ أوِ المواساة والدعوة إلى الله تعالى، وتدارُس أحكام الإسلام وتعاليمه (24).
العلاج:
منهج عملي لاستقبال رمضان:
كثيرًا ما يتكرر هذا المشهد كل عام، عندما يتفاجأ الناس بتهيّؤ المساجد لاستقبال المعتكفين، ترى بعض المسلمين وكأنّه لم يعلم أن ثلثي الشهر قد انقضى، وأنّه ما فعل في رمضان شيئًا غير الصيام، ومع عِظم أجر الصائم إلا أنه قد ضاع عليه الكثير من الفضل وأكثر من عشرين فرصة للمغفرة والعتق من النيران، غير ما لا يُحصى من أجر قراءة القرآن وعمارة النفوس بالقرب من ربها في السَحَر.
رسم خطّة حتى لا يسرقك الوقت:
وإن كان من سنن الله في النجاح أنّ من أراده لا بد له من تحديد هدفه، فإنك إن لم تضبط هذا سُرق منك الشهر قبل أن تستفيد منه، وتُفاجَأ بأنّك قد غُبنت ومرّ الشهر قبل أن يُغفر لك وقبل أن تغتنمه؛ فاستعدّ لموسم الأجر والخيرات ليبتهج قلبك بقدومه وتفرح بتوفيق الله لك وفضله عليك، وتتخلص روحك من مثقلاتها، وتسكن نفسك، ويأنس قلبك بآيات الله تُذكر، وشعائر الله تُرفع، وتتهيّأ لأن تخرج بزاد يكفيك حتى يمنّ اللهُ عليك برمضان آخر.
معرفة أحكام الصيام:
وإنه لمن مقصود الصيام تحقيق التقوى، كما جاء في تعريف التقوى: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله (25)، فكان لازمًا علينا معرفة الأحكام التي تتعلق بالصيام وصحته ومبطلاته لننال الأجر بصيام صحيح، ونحقق التقوى التي هي خير الزاد.
العبرة في العبادات كلها بالتقوى، وليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب، أو بمجرد الانحناء في الركوع والسجود، أو بمجرد أن يذبح الإنسان أو يحجَّ أو يتصدق كما في قوله تعالى: {لَن يَنَالَ اللهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37]، فالأساس هو التقوى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21].
معايشة أخبار الصالحين:
ولمن أفضل أنواع التربية هي التربية بالقدوة، فمعايشة أنباء وأخبار الصالحين وكيف كانوا يعيشون تلك الأيام وكيفية استعدادهم لرمضان وتهيئة قلوبهم وأنفسهم لاستقباله، معايشة تلك الأحوال ترفع الهمم، وتزيد من الإصرار على الطاعات اقتداءً بهؤلاء الأخيار، كذلك الاستفادة بهديهم وطرقهم في حسن الاستغلال لهذا الموسم المبارك.
معالجة القلب وتهيئته وتنقيته من الشواغل
وينبه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى حقيقة السبق، ومدار الأمر؛ فيقول: فإن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدًا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض (26).
فكان لا بد من الاهتمام بتهيئة القلب، ولمن أعظم الأسباب المُعينة على تهيئة القلوب زيارة المقابر والاتعاظ بحال الأموات الذين لا يستطيعون دفع دواب الأرض عن أجسادهم، فضلًا عن العودة واكتساب حسنة واحدة قد تعدل لهم الموازين أو تغير الدرجات.
وكذلك زيارة المستشفيات وما فيها من تغير وتبدل الأحوال، فهؤلاء الذين لا يستطيعون تحريك ساكنٍ، كانوا يملؤون الأرض سعيًا، فمنهم من كان مقيمًا على عبادات والآن لا يستطيع حتى الجلوس للصلاة، ومنهم من كان يسعى وألْهتْه الدنيا، ومنهم من كان يظلم ويظن أنّ قوَّته وطاغوته سيدومان.
بيئة رمضانية في الأُسرة:
وإن كان هذا المجهود في الإعداد لرمضان، إلا أنه يصعب جدًا أن تستفيد منه بدون أن يكون الجوّ العام لبيئتك التي تعيش فيها يشجِّع على هذه الخطة والاستعداد؛ وإلا فحتمًا ولا بد أن يُخرجوك لبيئتهم ويشغلونك عن خطتك ويعيدون إليك ما تحاول تفريغ نفسك منه من مشاغل الدنيا وملهياتها، هذا بالإضافة إلى مسئوليتك عن أحوال من حولك وتبليغهم الدينَ ودعوتهم للعبادة، فلا تستأثر بنفسك بعيدًا عمن غفل من حولك (27).
____________
(1) أخرجه البخاري (2014)، ومسلم (760).
(2) مختصر قيام الليل (ص: 106).
(3) فتح الباري لابن رجب (1/50).
(4) مفاتيح الغيب (5/ 240).
(5) أخرجه مسلم (1151).
(6) زاد المعاد في هدي خير العباد (2/ 27).
(7) أخرجه أحمد (6612).
(8) أخرجه مسلم (1400).
(9) أخرجه مسلم (2175).
(10) لطائف المعارف (ص: 290).
(11) أخرجه البخاري (37).
(12) أخرجه الترمذي (807).
(13) أخرجه أحمد (6626).
(14) أخرجه مسلم (2308).
(15) معرفة السنن والآثار (6/ 381).
(16) أخرجه البخاري (2025).
(17) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/ 181).
(18) أخرجه الترمذي (3545).
(19) أخرجه مسلم (1174).
(20) أخرجه مسلم (1175).
(21) أخرجه ابن ماجه (1690).
(22) أخرجه البخاري (1903).
(23) أخرجه أبو داود (1394).
(24) رمضان بين الواقع والواجب/ شبكة الألوكة.
(25) جامع العلوم والحكم (1/ 400).
(26) مجموع الفتاوى (17/ 139).
(27) رمضان فرصتك لإنقاذ قلبك/ تبيان.