الداعية بين التيسير والتشديد
من أهم المميزات التي تميزت بها شريعتنا الغراء رفع الحرج عن المكلفين والتيسير عليهم، وهذه ميزة ميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع الأخرى السابقة، التي ضمَّنها الله عز وجل من الأعمال الشاقة، ما يتناسب وأحوال وأوضاع تلك الأمم التي جاءت لها تلك الشرائع، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: اشتراط قتل النفس للتوبة من المعصية والتخلص من الخطيئة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]،ومثله أيضًا بطلان الصلاة في غير موضع العبادة المخصوص، وغير ذلك من الأمور التي كلّف بها من نزلت عليهم تلك الشرائع السابقة .
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «لا تشدِّدوا على أنفسكم فيشدِّد الله عليكم، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار؛ رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم»(1).
قال شيخ الإسلام: ففيه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التشدد في الدين بالزيادة عن المشروع، والتشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات، وتارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه في الطيبات، وعلل ذلك بأن الذين شددوا على أنفسهم من النصارى شدد الله عليهم لذلك، حتى آل الأمر إلى ما هم عليه من الرهبانية المبتدعة.
وفي هذا تنبيه على كراهة النبي صلى الله عليه وسلم لمثل ما عليه النصارى من الرهبانية المبتدعة، وإن كان كثير من عبادنا قد وقعوا في بعض ذلك متأولين معذورين، أو غير متأولين ولا معذورين.
وفيه أيضًا تنبيه على أن التشديد على النفس ابتداءً يكون سببًا لتشديد آخر يفعله الله؛ إما بالشرع وإما بالقدر، فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم؛ كنحو ما خافه لما اجتمعوا لصلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئًا من الطاعات وجب عليه فعله وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الواجبة بأسباب.
وأما القدر: فكثيرًا ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى أيضًا بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم؛ مثل كثير من الموسوسين في الطهارات، إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب حقيقة عليهم أشياء فيها عظيم مشقة ومضرة»(2).
وقال ابن القيم: «نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التشديد في الدين، وذلك بالزِّيادة على المشروع، وأخبر أن تشديد العبد على نفسه هو السبب لتشديد الله عليه، إما بالقدر، وإما بالشرع، فالتشديد بالشرع كما يشدد على نفسه بالنذر الثقيل، فيلزمه الوفاء به، وبالقدر كفعل أهل الوسواس؛ فإنهم شددوا على أنفسهم، فشدد عليهم القدر، حتى استحكم ذلك، وصار صفة لازمة لهم»(3).
وقال الشيخ ابن عثيمين: «وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك؛ لأنه مخالف للشرع، ولإهلاكه للأمم السابقة؛ فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:
الوجه الأول: تحذيره صلى الله عليه وسلم، والتحذير نهي وزيادة.
الوجه الثاني: أنه سبب لإهلاك الأمم كما أهلك من قبلنا، وما كان سببًا للهلاك كان محرمًا.
والناس في العبادة طرفان ووسط؛ فمنهم المفرِط، ومنهم المفرِّط، ومنهم المتوسط.
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه، وكون الإنسان معتدلًا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة، ولا التهاون وعدم المبالاة؛ بل كن وسطًا بين هذا وهذا»(4).
التشدد المذموم في الدِّين هو جعل المستحب واجبًا، أو جعل المكروه محرَّمًا، وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو في الدين، كما أنه حذَّر من التشدد فيه، وليس معنى الغلو والتشدد تطبيق السنة؛ بل تغيير أحكامها، والتشدد في إيجاب الأمر أو تحريمه وليس هو كذلك.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أُخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فقال: «أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»(5).
قال ابن تيمية معلقًا على هذا الحديث: «والأحاديث الموافقة لهذا كثيرة في بيان أنَّ سنته التي هي الاقتصاد في العبادة، وفي ترك الشهوات خير من رهبانية النصارى، التي هي ترك عامة الشهوات من النكاح وغيره، والغلو في العبادات صومًا وصلاة»(6).
وقال ابن حجر: «قوله: «إني لأخشاكم لله وأتقاكم له»، فيه إشارة إلى رد ما بنوا عليه أمرهم، من أن المغفور له لا يحتاج إلى مزيد في العبادة بخلاف غيره، فأعلمهم أنَّه مع كونه يبالغ في التشديد في العبادة أخشى لله وأتقى من الذين يشددون، وإنما كان كذلك لأنَّ المشدد لا يأمن من الملل، بخلاف المقتصد فإنه أمكن لاستمراره، وخير العمل ما داوم عليه صاحبه»(7).
إن هذا الدين مبني على اليسر لا على العسر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة»(8).
عن الأزرق بن قيس قال: «كنا على شاطئ نهر بالأهواز قد نضب عنه الماء، فجاء أبو برزة الأسلمي على فرس فصلى وخلى فرسه، فانطلقت الفرس، فترك صلاته وتبعها حتى أدركها فأخذها، ثم جاء فقضى صلاته، وفينا رجل له رأي، فأقبل يقول: انظروا إلى هذا الشيخ! ترك صلاته من أجل فرس، فأقبل فقال: ما عنفني أحد منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: إن منزلي متراخ، فلو صليت وتركته لم آت أهلي إلي الليل، وذكر أنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم فرأى من تيسيره.
فقوله: «فرأى من تيسيره» أي: رأى من التسهيل ما حمله على ذلك؛ إذ لا يجوز له أن يفعله من تلقاء نفسه دون أن يشاهد مثله من النبي صلى الله عليه وسلم»(9).
عن غاضرة بن عروة الفُقَيْمِي عن أبي عروة رضي الله عنه قال: كنا ننتظر النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج يقطر رأسه من وضوء أو غسل فصلى، فلما قضى الصلاة جعل الناس يسألونه: يا رسول الله، أعلينا حرج في كذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «لا، أيها الناس، إن دين الله في يسر»، ثلاثًا يقولها، وقال يزيد مرة: جعل الناس يقولون: يا رسول الله، ما تقول في كذا؟ ما تقول في كذا؟(10).
كان معاذ رضي الله عنه يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى ذات ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أتى قومه فأمهم فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتين رسول الله فلأخبرنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنا أصحاب نواضح نعمل بالنهار، وإن معاذًا صلى معك العشاء ثم أتى فافتتح بسورة البقرة، فأقبل صلى الله عليه وسلم على معاذ، فقال: «يا معاذ، أفتّان أنت؟! اقرأ بكذا»، وعن جابر أنه قال: «اقرأ والشمس وضحاها، والضحى، والليل إذا يغشى، وسبح اسم ربك الأعلى»(11).
وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أتأخر عن صلاة الصبح من أجل فلان مما يطيل بنا، يقول راوي الحديث وهو أبو مسعود الأنصاري، فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة أشد مما غضب يومئذ، فقال: «أيها الناس، إن منكم منفرين، فأيكم أمّ الناس فليوجز، فإن وراءه الكبير والضعيف وذا الحاجة»(12).
وتوجيهاته صلى الله عليه وسلم في هذا مما يجل عن الحصر في مثل هذا المقام، فالسهولة والرفق والأخذ بالأيسر ومراعاة أحوال الناس ديدنه عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا»(13).
قال النَّووي: «جمع في هذه الألفاظ بين الشَّيء وضدِّه؛ لأنَّه قد يفعلهما في وقتين، فلو اقتصر على «يسِّروا»لصدق ذلك على مَن يسَّر مرَّةً أو مرات، وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: «ولا تعسِّروا» انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه، وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في: «بشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا ولا تختلفا»؛ لأنَّهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء.
وفي هذا الحديث الأمر بالتَّبشير بفضل الله، وعظيم ثوابه، وجزيل عطائه، وسعة رحمته، والنَّهي عن التَّنْفِير بذكر التَّخويف، وأنواع الوعيد محضة مِن غير ضمِّها إلى التَّبشير.
وفيه تأليف مَن قَرُب إسلامه، وترك التشديد عليهم، وكذلك مَن قارب البلوغ مِن الصبيان ومَن بلغ، ومَن تاب مِن المعاصي، كلهم يُتَلطَّف بهم، ويُدرَجون في أنواع الطاعة قليلًا قليلًا، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة، أو المريد للدخول فيها، سَهُلَت عليه، وكانت عاقبته، غالبًا، التزايد منها، ومتى عَسُرت عليه أوشك ألَّا يدخل فيها، وإن دَخَل أوشك ألَّا يدوم، أو لا يَسْتَحْلِيَها.
وفيه أمر الوُلَاة بالرِّفق، واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها، وهذا مِن المهمات؛ فإنَّ غالب المصالح لا يتمُّ إلَّا بالاتِّفاق، ومتى حصل الاختلاف فات، وفيه وصية الإمام الوُلَاة، وإن كانوا أهل فضل وصلاح؛ كمعاذ وأبي موسى؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين»(14).
وعن أبي هريرة قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأريقوا على بوله سجلًا مِن ماء، أو ذَنُوبًا مِن ماء، فإنما بُعِثتُم ميسِّرين، ولم تُبْعَثوا معسِّرين»(15).
التصوير الفني لسماحة الإسلام ويسره بأسلوب القصر والتوكيد في قوله: «إنما بعثتم ميسرين»، وذلك في صورتين أدبيتين:
الأولى: التصوير الفني المؤكد بـ(إنما).
والثانية: التوكيد بقصر التيسير والسماحة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فالمعنى أن التيسير مقصور على أمتكم أنتم وحدكم لا على غيركم، وذلك في قوله: «إنما بعثتم ميسرين»، وفي هذا أيضًا توجيه للأمة كلها؛ ليبلغوا عنه في حضوره وفي غيابه، كما جاء في حديث آخر: «يسروا ولا تعسروا»، وفي قوله: «هلك المتنطعون»؛ أي: المتشددون.
وكذلك بلاغة التعبير في صورة النفي بعد الإثبات: «ولم تبعثوا معسرين»، بعد قوله: «إنما بعثتم ميسرين»، وفي هذا التصوير الفني تأكيد على القيم الأخلاقية والتشريعية السابقة في سماحة الإسلام ويسره؛ لذلك كرر أسلوب النفي بعد الإثبات، لإثبات هذه القيم بالحجة والدليل؛ حتى يقتنع المتلقي بنفي العسر، وهو النقيض لإثبات اليسر، في الإسلام، على سبيل المبالغة بتصوير اليسر بصور متعددة؛ كالرفق بالجاهل، وتقديم أخف الضررين، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125]، وقال أيضًا: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، وأولى الناس بالتيسير الداعية إلى الله؛ اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك المفتي عليه أن يراعي التيسير ورفع الحرج عن الناس(16).
قال ابن القيم عنهما: «أحدهما يميل إلى التشديد، والآخر إلى الترخص، وذلك في غير مسألة، وعبد الله بن عمر كان يأخذ من التشديدات بأشياء لا يوافقه عليها الصحابة، فكان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي من ذلك، وكان إذا مسح رأسه أفرد أذنيه بماء جديد، وكان يمنع من دخول الحمام، وكان إذا دخله اغتسل منه، وابن عباس كان يدخل الحمام، وكان ابن عمر يتيمم بضربتين؛ ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، وكان ابن عباس يخالفه، ويقول: التيمم ضربة للوجه والكفين، وكان ابن عمر يتوضأ من قبلة امرأته ويفتي بذلك، وكان إذا قبل أولاده تمضمض ثم صلى، وكان ابن عباس يقول: ما أبالي قبلتها أو شممت ريحانًا، وكان يأمر من ذكر أن عليه صلاة وهو في أخرى أن يتمها، ثم يصلي الصلاة التي ذكرها ثم يعيد الصلاة التي كان فيها، والمقصود أن عبد الله بن عمر كان يسلك طريق التشديد والاحتياط»(17).
كان للتيسير موضعه في جميع مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم، وكان يختار الأيسر على أمَّته من كل الأمور، وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بالتيسير في الأمور كلها، ويلتزم عمليًّا بما يأمر به الآخرين، لا سيما في دعوة الناس إلى الإسلام وترغيبهم فيه، وكان الوضوح والبيان وسهولة الألفاظ والمعاني سببًا في إسلام مَن أسلم من الصحابة رضي الله عنهم، فكان صلى الله عليه وسلم يوجز دعوته في كلام يسير، يفهمه العامةُ والخاصة، وعندما كانت الوفود تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يحبسهم طويلًا؛ بل يعرض عليهم الإسلام، ويعلمهم قواعد الدين وأصوله؛ ولذا فليس من حكمة الداعية أن يضع الدين كله جملة واحدة أمامَ المدعو؛ لئلا يشق عليه، وهذا هو الذي يتَّفق مع التيسير في الدعوة والتبشير بها، وعدم التنفير عنها.
وإنَّ فهم التيسير على حقيقته من البصيرة في الدعوة، وهو من الحكمة التي أمر الله بالدعوة بها، والتيسير لا يعني فعْلَ ما يهوى؛ بل اتباع الأسهل على المدعو بما يوافق الشرع.
يقول الإمام ابن القيم: «فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها.
فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلي الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها.
وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل.
فهي قرة العيون، وحياة القلوب، ولذة الأرواح، فهي بها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة،وكل خير في الوجود فإنما هو مستفاد منها، وحاصل بها، وكل شر ونقص في الوجود فسببه إضاعتها، ولولا رسوم قد بقيت لخربت الدنيا وطوي العالم، وهي عصمة للناس وقوام للعالم، وبها يمسك الله السماوات والأرض أن تزولا، فإذا أراد الله خراب الدنيا وطي العالم رفع إليه ما بقي من رسومها.
فالشريعة التي بعث الله بها رسوله هي قطب العالم، وقطب الفلاح، والسعادة في الدنيا والآخرة»(18).
قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:28]، وقال: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:178].
لهذا كانت هذه التكاليف أقرب إلى التيسير على المسلمين منها إلى التعسير والتشدُّد، وفي المواقف التي استدعى فيها بعضُ المسلمين، بالسؤال أو بالرغبة، الحدَّ الأقصى من العبادة، أعلَمَهم الرسول عليه السلام أنهم لا يستطيعون، والله لا يريد عنَتَهم، فعندما قال صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس، قد فرَضَ الله عليكم الحجَّ فحُجُّوا»، قال رجل: أكل عامٍ يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو قلت: نعم، لوجبت، ولَمَا استطعتم»، ثم قال: «ذَرُوني ما تركتُكم؛ فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سُؤَالِهم واختلافِهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيءٍ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيءٍ فدَعُوه»(19).
هكذا تكون رحمة الله بعباده، وهكذا يكون إشفاق رسوله صلى الله عليه وسلم على أمَّته، فالإلحاح من السائلين ورغبتهم في التشدد قد تنعكس عليهم تشديدًا في الأحكام؛ «ذَرُوني ما تركتكم»، فلا تُكثِروا من الأسئلة، وقد ضرب الله تعالى في القرآن الكريم للمسلمين مَثَلًا من إلحاح بني إسرائيل في السُّؤال وتشديد الله عليهم، حتى كادوا لا يجدون البقرة من كثرة الشروط والقُيُود التي كانوا يستدعونها بكثرة أسئلتهم، ولكنهم لَمَّا شدَّدوا شدَّد الله عليهم، فلهذا ضيقوا على أنفسهم فضيق عليهم.
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرفض التشدُّد حتى يُسمِّيه فتنةً أو تنفيرًا من الدين، فإنه دعا إلى ما يقابله وهو التيسير، فهو في اختياراته عليه السلام كان يتوجَّه إلى أيسر الأمور ما لم يكن إثمًا؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها»(20).
أسباب التشدد في الدين:
أولًا: الجهل بالدين؛ لأن العالم بالدين لا يشدد على الناس فيما لم يشدد الله به عليهم، ويعلم أن قضية التيسير والتشديد ليست بالهوى ولا بالرغبة، ولا بمراعاة الطبائع؛ إنما هي باتباع النصوص، فالله تبارك وتعالى لم يجعل في هذا الدين مقالًا لقائل؛ بل أنـزل الدين وأتمه وأحكمه، وبيَّن فيه الحلال من الحرام، فما حرم الله فهو الحرام، وما أحل فهو الحلال، وما سكت عنه فهو عفو، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول حين سمع أن عليًا بن أبي طالب يريد أن يتزوج ابنة أبي لهب، وكانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: «لا تجتمع ابنة نبي الله وابنة عدو الله في بيت واحد، ثم قال: أما إني لا أحرم الحلال»(21).
أي: إن أمر تعدد الزوجات أمر أباحه الله ورسوله، فلا يحرمه أحد بعد ذلك، وهكذا شأن البشر من الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم، لم يكن من شأنهم أن يتدخلوا في تحريم حلال أو تحليل حرام؛ إنما كان شأنهم نقل الدين كما أنـزله الله، ولو تدخلوا فيه بأهوائهم تيسيرًا أو تشديدًا لما كان هو الدين المنـزل من عند الله، وللعبت به أهواء البشر، وإنما كان شأنهم أن ينقلوا هذا الدين إلى الناس كما أنـزله الله، وكما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم.
السبب الثاني: فهو تأثير البيئة، فنحن نجد كثيرًا من البيئات متفاوتة فيما بينها تفاوتًا شديدًا؛ سواء في قدر فهمها للأمور، أو في انفتاحها على المجتمعات الأخرى، أو انغلاقها عنها، أو في تأثرها بما حولها، أو في غير ذلك، فبعض البيئات توحي بالتيسير الذي قد يتعدى حدوده، وبعض البيئات توحي بالتشديد الذي قد يتعدى حدوده، والحق الوسط هو ما أنـزل الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم.
السبب الثالث: هو طبيعة بعض الناس التي تميل إلى التشديد؛ لأننا نجد الناس خلقوا مختلفين، فعن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ جاء منهم الأحمر، والأبيض، والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب»(22).
وهكذا نجد في الناس القاسي الغليظ، ونجد فيهم اللين الرفيق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلًا رقيقًا رفيقًا، حتى تأتي المرأة فتأخذ بيده إلى أي سكك المدينة شاءت، وحتى يُقَبِّل غلمانه وصبيانه ويضمهم إليه؛ بل ويصلي وأحدهم على كتفه، فيأتي رجل من الأعراب يمثل الطرف الآخر في القسوة والغلظة فيقول: أوتقبلون صبيانكم؟! فوالله، إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدًا منهم، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: «أوأملك لك أن نـزع الله الرحمة من قلبك»(23).
إذًا طبيعة الناس تختلف، فمنهم من يميل بطبعه إلى التيسير، ومنهم من يميل إلى ضد ذلك.
السبب الرابع: هو ردة فعل كثير من الناس ضد الفساد المنتشر، وانفتاح الدنيا على الناس، واستغراق الناس أو أكثرهم في ألوان الترف والنعيم، فإننا نجد كثيرًا من الناس، وخاصة الشباب، تشطح بهم أهواؤهم، فيبتعدون عن الطريق، ويقيض لهم قرناء من رفقة السوء فيضلونهم ضلالًا بعيدًا، فقد يصحو هذا الشاب يومًا من الدهر فيجد نفسه في وضع سيئ، ويذكر أن أمامه الموت والبلى، والجنة والنار والحساب، فيستيقظ ضميره فيقبل على الله ويتوب إليه، وهنا يشعر هذا التائب أنه لا يكفيه أن يكون مثل الناس مستقيمًا على الدين، إنما يشعر أنه لا بد أن يعوض عمَّا فقد، فإن وفق بأهل سنة وطاعة واتباع دلُّوه على الطريق المستقيم، وحذروه من كلا طرفي قصد الأمور، وحذروه أن يكون منتقلًا من التساهل إلى التشدد، وكلاهما شرٌ، وطلبوا منه أن يكون معتدلًا على الجادة؛ التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
السبب الخامس: هو ضيق تفكير كثير من الناس، وكراهيتهم أن يسمعوا ما عند غيرهم من الحق، فيظنون أن الحق هو ما عرفوه وألفوه وآمنوا به، وأن ما عند غيرهم باطل لا شك فيه، ويخافون من فتح آذانهم لسماع ما عند غيرهم، والحق أن صاحب الحق لا يخاف لأنه يعلم أن الحق دائمًا هو المنتصر.
فمما لا شك فيه أن للسماحة والتيسير أثرًا واضحًا في سرعة انتشار الإسلام، ودوام بقائه بين الأمم والشعوب التي اعتنقته، والتاريخ يشهد أن سرعة امتثال الأمم للشرائع ودوامهم على اتِّباعها، إنما كانت على مقدار اقتراب تلك الشرائع من السماحة والتيسير، فإذا بلغت بعض الشرائع من الشدة حدًا يتجاوز أصل السماحة لحقت الشدة والمشقة والعنت بأتباعها، ولا يلبثون إلا أن ينصرفوا عنها أو يفرطوا في بعض تعاليمها.
لقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نُيسر ولا نُعسر، وأن نُبشر ولا ننفِّر، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم قوله: «يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا»(24).
قال الإمام النووي رحمه الله: «لو اقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله على «يسروا» لصدق على من يسَّر مرة وعسَّر كثيرًا، فلما قال: «ولا تعسِّروا»، فلكي نجتنب التعسير في كل الأحوال»(25).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن تكليف الناس ما لا يطيقون ليستمر سيرهم في طريق الإيمان، فالداعية المتبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بالعزائم، ويسمح للمدعوين بالرخص، تخفيفًا عليهم وتيسيرًا لهم، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخًا يُهادى بين ابنيه، قال: «ما بال هذا؟»، قالوا: نذر أن يمشي، قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني»، وأمره أن يركب(26).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: «ما هذا الحبل؟»، قالوا: هذا حبل لزينب، فإذا فترت تعلقت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا، حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد»(27).
وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق»(28).
قال ابن تيمية رحمه الله: «خير الأعمال ما كان لله أطوع ولصاحبه أنفع، وقد يكون ذلك أيسر العملين، وقد يكون أشدهما، فليس كل شديد فاضلًا، ولا كل يسير مفضولًا؛ بل الشرع إذا أمرنا بأمر شديد فإنما يأمر به لما فيه من المنفعة، لا لمجرد تعذيب النفس...، وأما مجرد تعذيب النفس والبدن من غير منفعة راجحة فليس هذا مشروعًا لنا؛ بل أمرنا الله بما ينفعنا، ونهانا عما يضرنا، وقد قال في الحديث الصحيح: «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين»»(29).
فلا تُنفِّر الناس؛ بل لِنْ لهم حتى في الدعوة إلى الله عز وجل، لا تَدعُهم إلى الله دعوة مُنفِّر، ولكن ادْعهم بهونٍ ولينٍ؛ حتى يألفَك ويعرف ما تدعو إليه، وبذلك تمتثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «بشِّروا ولا تُنفروا»، فخذ هذا الحديث أيها الأخُ رأسَ مالٍ لك: «يسِّروا ولا تُعسِّروا، وبشِّروا ولا تُنفروا»، سِرْ إلى الله عز وجل على هذا الأصل، وعلى هذا الطريق، وسِرْ مع عباد الله على ذلك، تجدِ الخير كله.
من روائع اليسر:
1- لطف الله وعفوه وسعة رحمته ومغفرته، ورفعه للحرج والعنت والإصر والأغلال، وأمره لعباده بالأعمال اليسيرة جدًا، وإعطاؤهم على ذلك الثواب الكبير جدًا، وما هيأه سبحانه من أبواب التوبة والعفو، لدرجة أن يترنم الإنسان بكلمات الاستغفار فتنسف ذنوبه نسفًا ولو بلغت السماء، ومن تيسيره تعالى كذلك تيسيره لعباده الكتاب الذي أنزله إليهم، وجعله أيسر كتبه، وأكثرها بركة وشمولًا وروعة وسلاسة وبلاغة وهدى ورحمة وشفاء.
2- ومن يسر الشريعة الإسلامية يسر إدراكها وتعلمها ومعرفتها والإلمام بها، فليست صعبة المنال، ولا معقدة الفهم، ولا عسيرة الاستيعاب؛ بل لقد كان الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعلمهم الإسلام في لحظات، ويشرح له الدين في كلمات، وشواهد ذلك كثيرة، ومنها أن معاذًا رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار، قال: «لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت»(30).
3- ومن يسر الشريعة يسر تكاليفها وأوامرها وطاعاتها، فرض الله تعالى الصلاة والصيام علينا، وليس فيها مشقة في حالة الاعتياد، فيستطيع الإنسان أن يصوم وأن يصلي الصلاة في وقتها، فيصليها أربع ركعات، لكن قد تدخل المشقة على المكلف بسبب ظرف السفر، فاستوجبت حصول نوع من التيسير، وهو تخفيف الصلاة الرباعية إلى ركعتين، والإذن بالجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما فيما يجمع بعضه لبعض، وأن يؤذن له بالفطر في السفر على أن يقضيه بعد ذلك.
فهذا نوع من التيسير لحق بالمكلف بسبب ظرف أصابه، وإلا فالشريعة كلها يسر وسهولة؛ لذلك فعلى من يدعو إلى التيسير في الأحكام الشرعية أن يعلم ولا بد وأن يستقر عنده أن الشريعة بوضعها الذي أنزله الله تعالى على نبيه كلها يسر وسهولة، فإن الله تعالى رفع عن هذه الأمة ما كان على الأمم السابقة من الإصر والأغلال والحرج، فليس في هذه الشريعة مشقة حتى يأتي من يطالب بالتيسير فيها.
يقول الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: «فعموم الشريعة لسائر البشر في سائر العصور مما أجمع عليه المسلمون، وقد أجمعوا على أنها مع عمومها صالحة للناس في كل زمان ومكان، ولم يبيّنوا كيفية هذه الصلوحية؛ وهي عندي تحتمل أن تتصور بكيفيتين:
الكيفية الأولى: أن هذه الشريعة قابلة بأصولها وكلياتها للانطباق على مختلف الأحوال، بحيث تساير أحكامها مختلف الأحوال دون حرج ولا مشقة ولا عسر.
الكيفية الثانية: أن يكون مختلف أحوال العصور والأمم قابلًا للتشكيل على نحو أحكام الإسلام دون حرج ولا مشقة ولا عسر، كما أمكن تغيير الإسلام لبعض أحوال العرب والفرس والقبط والبربر والروم والتتار والهنود والصين والترك، من غير أن