logo

التسلط التربوي


بتاريخ : الأحد ، 2 رجب ، 1442 الموافق 14 فبراير 2021
بقلم : تيار الاصلاح
التسلط التربوي

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يُرحم» (1).

قال النووي: تقبيل الرجل خد ولده الصغير واجب، وكذا غير خده من أطرافه ونحوها على وجه الشفقة والرحمة واللطف، ومحبة القرابة سنة، سواء كان الولد ذكرًا أو أنثى، وكذا قبلة ولد صديقه وغيره من صغار الأطفال على هذا الوجه، وأما التقبيل بالشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره.

وكون تقبيل الرجل خد ولده الصغير واجبًا يحتاج إلى حديث صريح أو قياس صحيح (2).

فالرحمة فضيلة، والقسوة رذيلة، والرحمة تكون بالأبناء، وأثرها تقبيل ومعانقة كما صنع الرسول صلى الله عليه وسلم بالحسن، وتأديب وتربية وإجابة رغائب- ما دامت في سبيل المصلحة- وإبعاد من الشر.

وتكون بالآباء والأمهات وأثرها قول كريم، وصنع جميل، وطاعة في غير معصية وخدمة صادقة {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24]، وتكون بالأقرباء، وأثرها بر وصلة، وزيارة ومودة، وسعي في مصلحة، ودفع لمضرة، وتكون بين الزوج وزوجة، وأثرها عشرة بالمعروف، وإخلاص متبادل، وألا ترهقه بالطلبات، ولا يكلفها بالمرهقات، بل يعاونها على شؤون المنزل وتربية الأولاد بالخدم ما دام في المال سعة، أو بنفسه إن كان في وقته فضل (3).

يمثِّل الوالدان الأساسَ الرئيسيَّ في تشكيل وتكوين شخصيات أبنائهم منذ الصغر؛ لذا تؤثر عليهم طريقة التربية بشكل كبير، ولهذا السبب كان الارتباط وثيقًا بين شخصية الآباء وشخصيات وسلوكيات الأبناء؛ فطريقة تربية الآباء لأبنائهم من أهم العوامل التي تؤثر سلبًا أو إيجابًا على شخصياتهم ونفسيتهم في المستقبل.

فالآباء الذين ينتهجون القسوة في التربية يُعَدُّون من أكثر الآباء الذين يؤثرون سلبًا على أبنائهم، فالقسوة من أسوأ الأساليب غير التربوية مع الأبناء، ويعتقد الآباء والأمهات الذين يلجؤون إلى القسوة أنهم بذلك حريصون على تربية أبنائهم وتأديبهم، وهذه ليست قسوة وإنما هو الخوف على الأبناء من الانحراف والسلوكيات غير السوية، ولا شك أن هذا الفهمَ خاطئٌ، فالقسوة منهجٌ معوَجٌّ في التربية بشكل عام، لا سيما إذا كانت هذه القسوة في سِنٍّ مبكرة، فتتشكَّل الشخصية مُحمَّلة بكثير من الآلام والعُقَد النفسية، فهؤلاء الآباء بهذا السلوك الذي لا يُقِرُّه شرعٌ ولا عُرف يتسبَّبون في تشويه شخصيات الأبناء واضطراب نفسياتهم.

والقسوة لها أشكال متعددة أبرزها العقاب الجسدي بالضرب وذلك لأقل خطأ دون توجيه أو نقاش أو إعطاء فرصة للتعلم من الأخطاء.

ومن القسوة الإيذاء النفسي بالإهانة والشتم والسب خاصَّة أمام الآخرين.

ومنها المقارنة بينهم وبين الآخرين بشكل فيه تقليل من شأنهم واتهامهم بالغباء والفشل، وغيرها من الأساليب التي تمارس العنف في التربية والتي تؤدي إلى انعكاسات سلبية على الأبناء:

أولها: بثُّ روح الكراهية في نفوس الأبناء تجاه الوالدين، وعدم الشعور بالأمان أو الاطمئنان داخل محيط الأسرة والشعور الدائم بالنقص والاحتياج، وكذلك يميلون إلى القسوة مع الآخرين، وتتسم شخصياتهم بالفَظاظة والأنانية، وهذا انعكاس طبيعي لشخصية تربَّت على القسوة.

ثانيًا: عدم قدرة الأبناء على دفع الأذى الناتج من قسوة الآباء يجعل شخصياتهم مهزوزة، فاقدين الثقة بأنفسهم فيشعرون بالانكسار والضعف وأنهم ليسوا جديرين بالاحترام.

ومن أهم آثار وعواقب التربية القاسية هي اكتساب الأبناء عدوانيةً مفرطةً تجاه بعضهم البعض وتجاه الآخرين، فقد أشارت الدراسات مؤخرًا إلى أن الأبناء الذين تعرَّضوا للضرب والقسوة من الآباء هم أكثر الأشخاص عُرضةً للانحراف السلوكي، إما بالتدخين أو تعاطي المخدرات أو الانحراف في طريق الجريمة والعدوان في الحياة عندما يصبحون بالغين.

ثالثًا: تؤدي العقوبات القاسية التي يوقعها الآباء على الأبناء إلى تعوُّد الكذب مخافةَ العقاب، وكذلك الشعور الدائم بفقدان الاحترام للذات.

إن قسوة الوالدين أحد أهم أسباب العقوق في المستقبل وكل هذه الآثار السلبية وغيرها الكثير مما تنتجه وتفرزه القسوة على الأبناء، فكيف ينتظر الوالدان البر من الأبناء إذا كان هذا نهجهم في التربية؟ (4).

من علامات الفشل التربوي أن نتوارث طرق وأساليب آبائنا في تربيتنا لنطبقها نحن في تربيتنا لأبنائنا؛ ذلك أن لكل جيل ظروفه ومستجدات زمانه وطرق التأثير عليه والمؤثرة بالتالي على العملية التربوية، وطرق حياة تختلف كثيرًا أو قليلًا عن الجيل الذي سبقه، فتربية جيل جديد بأساليب عتيقة لا يمكن أن تأتي إلا بجيل مشوه تربويًا.

إن أسوأ ما يمكن أن يتوارثه آباء اليوم من آباء الأمس هو التسلط التربوي، والذي قد يكون ممتزجًا بالقسوة في غالب الأحيان أو بالشدة الخارجة عن حيز الاعتدال.

والتسلط التربوي هو إحكام قبضة الأب على أولاده بحيث لا يمكنهم الخروج عن مراداته ولا عن رؤيته هو لواقعهم ومستقبلهم.

وهذا التسلط كما يكون في البيت يكون في المدرسة والجامعة، وهو من أشكال التسلط التي تسود المجتمعات المتخلفة اجتماعيًا وثقافيًا.

وهذا التسلط له أسبابه:

- فقد يكون وراثيًا بمعنى أن الأب رباه أبوه بهذه الطريقة فأخذها منه وورثها عنه وجعل يطبقها على أولاده.

- وقد يكون سبب التسلط رغبة الأب في تحقيق حلم فشل هو في تحقيقه بنفسه، فهو يريد أن يحقق حلمه في أبنائه، كأب كان يتمنى أن يكون طبيبًا جراحًا أو مهندسًا مثلًا؛ ولكنه لسبب ما ضاع حلمه فلم يستطع تحقيقه، فيسعى لإرغام أبنائه أو بعضهم على أن يدرسوا ليكونوا أطباء ليحققوا له ما عجز هو عن تحقيقه بنفسه.

- وهذا جانب كونه فشلًا تربويًا فهو أيضًا أنانية مطلقة أن يُرغَم الابن على فعل ما لا يحبه أو يشتهيه من أجل إرضاء شهوة في نفس أبيه.

- وسبب آخر لهذا التسلط هو أن الأب يريد أن يبقى حاكم البيت الأوحد فلا ينازعه أحد في أي أمر، ولا ينبغي أن يخرج أحد عن طوعه، أو أن يخالف أمره في صغير أو كبير، وينسى في ظل هذا التخوف من ذهاب سلطانه أو خشيته أن ينازعه ذلك أحد أبنائه، أن الأولاد يكبرون، وتتكون لهم شخصيات تحاول أن تكون مستقلة، ولها رأيها فإذا رآى الأب ذلك من أبنائه أو أحدهم ثار وقام حماية لحقوقه وخوفًا من انتزاع سلطاته التي يظن خطأ أنه نوزع فيها.

قبضة حديدية وآثار مدمرة:

إن بعض الآباء يحكم قبضته على أولاده، ولا يريد لهم أبدًا أن يتحرروا من تلك القبضة مهما بلغت سنهم أو طال عمرهم، وكلما كبر الأولاد وبدت عليهم ملامح المراهقة والرجولة -ومعها استقلالية الرأي- زادت قوة قبضة الأب؛ ربما خوفًا عليهم من التفلت أو لما سبق ذكره من أسباب، غير أن ازدياد هذه القبضة ليس له إلا إحدى نتيجتين:

الأولى: أن ينجح هو في تشديد قبضته فينكسر الولد تحت وطأة هذه الشدة، فيفقد الولد شخصيته، وتكون النتيجة نتاجًا (ولد أو بنت) بلا رأي ولا قيمة ولا شخصية، لا يصلح أن يتخذ قرارًا، ولا أن يبدي رأيًا، ولا يحس لنفسه بقيمة، فهو كعدمه لا يصلح لينفع مجتمعه وأمته، أو حتى أن ينفع نفسه هو، هذا إذا نجى من الأمراض النفسية كالانطوائية والإحساس بالدونية، أو العدائية الشديدة أو غيرها.

الثانية: أن يقاوم الابن تلك القبضة حتى يزيحها تمامًا ويخرج عن السيطرة بامتياز، وليفقدها الأب إلى الأبد، ولا يبقى أمام الأب إلا أن يقبل بالواقع ويعيش هو وابنه كل في حاله، وتكون حياة أشبه بالعزلة الحقيقية أو الشعورية، وإما أن يتشبث الأب بسلطته المنزلية فلا يقبل بوجود شخص متمرد فربما طرده من البيت ليفقده إلى الأبد.

المربي الذكي:

إن المربي الذكي ليس هو الذي يُخضع من يربيه لرغباته، أو يصل به إلى الطاعة العمياء لأوامره، وإنما المربي الناجح هو الذي يخفف قبضته على من يربيه كلما كبرت سنه ونضج عقله، حتى ترتفع تلك القبضة كليًا مع تمام النضج العقلي للمربَّى، وإنما يبقى جانب التوجيه والإرشاد والتنبيه على الأخطاء وبيان وجهات النظر من خلال الحوار المستمر لا من خلال الأوامر والنواهي (5).

الحكمة في التعامل بين الوالد وولده:

وأصل الحكمة مأخوذ من حكَم بمعنى منع، وهي في الإنسانية صفة نفسية هي أساس المعرفة الصحيحة التي تصيب الحق، وتوجه الإنسان نحو عمل الخير، وتمنعه من عمل الشر، فهي فيه مانعة ضابطة حاكمة للنفس مسيرة لها نحو الكمال.

ولقد قال الراغب الأصفهاني في معنى الحكمة: الحكمة إصابة الحق بالعلم والعقل، والحكمة من الله تعالى معرفة الأشياء وإيجادها على غاية الإحكام، ومن الإنسان معرفة الموجودات وفعل الخيرات، وهذا هو الذي وصف به لقمان في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ}، ونبه على جملتها بما وصفه بها، والمعاني التي أشار إليها الراغب هي في قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ للهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} [لقمان: 12- 13]، إلى آخر الآيات التي تدل على معرفته للحق وإدراكه له وإيمانه به، وعمله على منهاج ما علم وإرشاده الناس إلى فعل الخير.

فالحكمة إذن في حقيقتها تتضمن معاني العلم الصائب والإيمان بالحق والإذعان له وطلبه، والعمل على وفق ما علم، وإرشاد الناس إلى المنهاج المستقيم؛ ولذا قال الله تعالى {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها» (6).

إن الحكمة نور يقذفه الله في قلب المؤمن الذي يطلب الحق ويتجه إليه ويقصده؛ فإنه إن استولى على نفسه وطلب مرضاة الله تعالى آتاه الله نورًا به يبصر الحق، فأشرق في قلبه الإيمان به فاندفع إلى العمل الصالح، إذ إن الاتجاه المستقيم، بقلب مخلص سليم، يكون معه نور الحكمة، إذ يقذف الله سبحانه وتعالى به في قلبه، فيكون الفكر المستقيم الذي يصيب الحق، ويكون القلب الذي يؤمن به، ويكون العمل النافع؛ ولذا يقول بعض العلماء: إن الحكمة هي العلم النافع الذي يكون معه العمل (7).

في حكمة لقمان عبرة وعظة:

قال جمهور المفسرين: إن ابن لقمان كان مشركًا فلم يزل لقمان يعظه حتى آمن بالله وحده، فإن الوعظ زجر مقترن بتخويف، قال تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} [النساء: 63]، ويعرف المزجور عنه بمتعلق فعل الموعظة، فتعين أن الزجر هنا عن الإشراك بالله.

ولعل ابن لقمان كان يدين بدين قومه من السودان، فلما فتح الله على لقمان بالحكمة والتوحيد أبى ابنه متابعته، فأخذ يعظه حتى دان بالتوحيد (8).

قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].

وإنها لعظة غير متهمة؛ فما يريد الوالد لولده إلا الخير؛ وما يكون الوالد لولده إلا ناصحًا، وهذا لقمان الحكيم ينهى ابنه عن الشرك؛ ويعلل هذا النهي بأن الشرك ظلم عظيم، ويؤكد هذه الحقيقة مرتين؛ مرة بتقديم النهي وفصل علته، ومرة بإنّ واللام، وهذه هي الحقيقة التي يعرضها محمد صلى الله عليه وسلم على قومه، فيجادلونه فيها؛ ويشكون في غرضه من وراء عرضها؛ ويخشون أن يكون وراءها انتزاع السلطان منهم والتفضل عليهم! فما القول ولقمان الحكيم يعرضها على ابنه ويأمره بها؟ والنصيحة من الوالد لولده مبرأة من كل شبهة، بعيدة من كل ظنة؟ ألا إنها الحقيقة القديمة التي تجري على لسان كل من آتاه الله الحكمة من الناس؛ يراد بها الخير المحض، ولا يراد بها سواه، وهذا هو المؤثر النفسي المقصود.

وفي ظل نصيحة الأب لابنه يعرض للعلاقة بين الوالدين والأولاد في أسلوب رقيق؛ ويصور هذه العلاقة صورة موحية فيها انعطاف ورقة، ومع هذا فإن رابطة العقيدة مقدمة على تلك العلاقة الوثيقة:

{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} [لقمان: 14- 15].

وتوصية الولد بالوالدين تتكرر في القرآن الكريم، وفي وصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ترد توصية الوالدين بالولد إلا قليلًا (9).

وهذا إبراهيم الشيخ، المقطوع من الأهل والقرابة، المهاجر من الأرض والوطن، ها هو ذا يرزق في كبره وهرمه بغلام، طالما تطلع إليه، فلما جاءه جاء غلامًا ممتازًا يشهد له ربه بأنه حليم، وها هو ذا ما يكاد يأنس به، وصباه يتفتح، ويبلغ معه السعي، ويرافقه في الحياة، ها هو ذا ما يكاد يأنس ويستروح بهذا الغلام الوحيد، حتى يرى في منامه أنه يذبحه، ويدرك أنها إشارة من ربه بالتضحية، فماذا؟ إنه لا يتردد، ولا يخالجه إلا شعور الطاعة، ولا يخطر له إلا خاطر التسليم، نعم إنها إشارة، مجرد إشارة، وليست وحيًا صريحًا، ولا أمرًا مباشرًا، ولكنها إشارة من ربه، وهذا يكفي؛ هذا يكفي ليلبي ويستجيب، ودون أن يعترض، ودون أن يسأل ربه، لماذا يا ربي أذبح ابني الوحيد؟!

ولكنه لا يلبي في انزعاج، ولا يستسلم في جزع، ولا يطيع في اضطراب، كلا إنما هو القبول والرضى والطمأنينة والهدوء، يبدو ذلك في كلماته لابنه وهو يعرض عليه الأمر الهائل في هدوء وفي اطمئنان عجيب: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102].

فهي كلمات المالك لأعصابه، المطمئن للأمر الذي يواجهه، الواثق بأنه يؤدي واجبه، وهي في الوقت ذاته كلمات المؤمن، الذي لا يهوله الأمر فيؤديه، في اندفاع وعجلة ليخلص منه وينتهي، ويستريح من ثقله على أعصابه.

والأمر شاق ما في ذلك شك، فهو لا يطلب إليه أن يرسل بابنه الوحيد إلى معركة، ولا يطلب إليه أن يكلفه أمرًا تنتهي به حياته، إنما يطلب إليه أن يتولى هو بيده، يتولى ماذا؟ يتولى ذبحه، وهو مع هذا يتلقى الأمر هذا التلقي، ويعرض على ابنه هذا العرض؛ ويطلب إليه أن يتروى في أمره، وأن يرى فيه رأيه.

إنه لا يأخذ ابنه على غرة لينفذ إشارة ربه وينتهي؛ إنما يعرض الأمر عليه كالذي يعرض المألوف من الأمر، فالأمر في حسه هكذا، ربه يريد، فليكن ما يريد، على العين والرأس، وابنه ينبغي أن يعرف، وأن يأخذ الأمر طاعة وإسلامًا، لا قهرًا واضطرارًا، لينال هو الآخر أجر الطاعة، وليسلم هو الآخر ويتذوق حلاوة التسليم.

إنه يحب لابنه أن يتذوق لذة التطوع التي ذاقها؛ وأن ينال الخير الذي يراه هو أبقى من الحياة وأقنى.

فماذا يكون من أمر الغلام، الذي يعرض عليه الذبح، تصديقًا لرؤيا رآها أبوه؟ إنه يرتقي إلى الأفق الذي ارتقى إليه من قبل أبوه: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

إنه يتلقى الأمر لا في طاعة واستسلام فحسب، ولكن في رضى كذلك وفي يقين، {يَا أَبَتِ} في مودة وقربى، فشبح الذبح لا يزعجه ولا يفزعه ولا يفقده رشده؛ بل لا يفقده أدبه ومودته.

{افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102]، فهو يحس ما أحسه من قبل قلب أبيه، يحس أن الرؤيا إشارة، وأن الإشارة أمر، وأنها تكفي لكي يلبي وينفذ بغير لجلجة ولا تمحل ولا ارتياب.

ثم هو الأدب مع الله، ومعرفة حدود قدرته وطاقته في الاحتمال؛ والاستعانة بربه على ضعفه ونسبة الفضل إليه في إعانته على التضحية، ومساعدته على الطاعة {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، ولم يأخذها بطولة، ولم يأخذها شجاعة، ولم يأخذها اندفاعًا إلى الخطر دون مبالاة، ولم يظهر لشخصه ظلًا ولا حجمًا ولا وزنًا، إنما أرجع الفضل كله لله إن هو أعانه على ما يطلب إليه، وأصبره على ما يراد به: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102].

يا للأدب مع الله؛ ويا لروعة الإيمان، ويا لنبل الطاعة، ويا لعظمة التسليم (10).

 

________________

(1) أخرجه البخاري (5997)، ومسلم (2318).

(2) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (7/ 2964).

(3) الأدب النبوي (ص: 123).

(4) خطورة القسوة على الأبناء/ الشرق.

(5) التسلط التربوي قبضة حديدية وآثار مدمرة/ موقع مقالات إسلام ويب.

(6) أخرجه البخاري (73)، ومسلم (815).

(7) زهرة التفاسير (2/ 1010).

(8) التحرير والتنوير (21/ 154).

(9) في ظلال القرآن (5/ 2788).

(10) في ظلال القرآن (5/ 2995).