logo

الصد عن سبيل الله .. أسبابه ووسائله


بتاريخ : الثلاثاء ، 19 صفر ، 1437 الموافق 01 ديسمبر 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الصد عن سبيل الله .. أسبابه ووسائله

إن الصد عن سبيل الله مشكلة واقعية قديمًا وحديثًا، وإن أعداء هذا الدين، سواء كانوا كافرين أو منافقين أو أهل كتاب، يتربصون الدوائر بالإسلام والمسلمين، ويترصدون المسلمين الصادقين في كل مكان؛ ليصدوهم ويفتنوهم عن دين الله، وتمتد هذه القضية امتداد هذا الدين، فبدأ الصراع منذ بدء الخليقة ومع كل الأنبياء، واستمر عبر العصور والأجيال حتى يومنا هذا، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهذه إذن طبيعة الدعوات وطريق النبوات، ومن صور هذا الصد أن يُسمى المسلمون اليوم بالإرهابيين والمتطرفين...، وغيرها من المسميات، لا لشيء إلا لكونهم آمنوا بالله وجاهدوا في سبيله.

قال محمد بن إسحاق:حدثني الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعيد بن معاذ، قالوا: لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فَلُّهُم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم، وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا، قال: ففيهم، كما ذُكِر عن ابن عباس،أنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}[الأنفال:36-37].

وعلى كل تقدير فهي عامة، وإن كان سبب نزولها خاصًا، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم ليصدوا عن اتباع طريق الحق، فسيفعلون ذلك، ثم تذهب أموالهم، ثم تكون عليهم حسرة؛أي: ندامة؛ حيث لم تُجد شيئًا؛ لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق، والله متم نوره ولو كره الكافرون، وناصر دينه، ومعلن كلمته، ومظهر دينه على كل دين، فهذا الخزي لهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب النار، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوءه، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي، والعذاب السرمدي؛ ولهذا قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}(1).

وليس هذا الذي حدث قبل بدر وبعدها إلا نموذجًا من الأسلوب التقليدي لأعداء هذا الدين، إنهم ينفقون أموالهم، ويبذلون جهودهم، ويستنفدون كيدهم في الصد عن سبيل الله، وفي إقامة العقبات في وجه هذا الدين، وفي حرب العصبة المسلمة في كل أرض وفي كل حين.

إن المعركة لن تكف، وأعداء هذا الدين لن يدعوه في راحة، ولن يتركوا أولياء هذا الدين في أمن، وسبيل هذا الدين هو أن يتحرك ليهاجم الجاهلية، وسبيل أوليائه أن يتحركوا لتحطيم قدرة الجاهلية على العدوان، ثم لإعلاء راية الله حتى لا يجرؤ عليها الطاغوت.

والله سبحانه ينذر الكفار الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله بأنها ستعود عليهم بالحسرة، إنهم سينفقونها لتضيع في النهاية، وليُغلَبوا هم وينتصر الحق في هذه الدنيا، وسيحشرون في الآخرة إلى جهنم، فتتم الحسرة الكبرى؛ ذلك {لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ} فكيف؟

إن هذا المال الذي ينفق يؤلب الباطل، ويملي له في العدوان، فيقابله الحق بالكفاح والجهاد وبالحركة للقضاء على قدرة الباطل على الحركة، وفي هذا الاحتكاك المرير تنكشف الطباع، ويتميز الحق من الباطل، كما يتميز أهل الحق من أهل الباطل، حتى بين الصفوف التي تقف ابتداءً تحت راية الحق قبل التجربة والابتلاء، ويظهر الصامدون الصابرون المثابرون الذين يستحقون نصر الله؛ لأنهم أهل لحمل أماناته، والقيام عليها، وعدم التفريط فيها تحت ضغط الفتنة والمحنة، عند ذلك يجمع الله الخبيث على الخبيث، فيلقي به في جهنم، وتلك غاية الخسران(2).

أسباب الصد عن سبيل الله:

إن أسباب الصد عن سبيل الله ودوافعه كثيرة ومتعددة، ونحرص على الوقوف عليها من خلال الآيات الواردة في موضوع الصد، ولن نخرج عن إطارها خشية الاستطراد والإطالة، مع شيء من التفسير بما يسمح به المقام، وقد يتضمن السبب الواحد عدة آيات، كلها متعلقة بموضوع الصد عن سبيل الله، وقد يتضمن السبب أيضًا عدة جزئيات وفرعيات تنطوي تحته، وتئول إليه مرتبطة بآياتها أيضًا، وإليك هذه الأسباب مرتبة حسب الخطورة قدر المستطاع، وذلك فيما يلي:

1- الكفر: وأخطر أنواع الكفر هو الكفر بالله تعالى، الكفر بالآخرة والبعث، أما الكفر بالله تعالى فهو سبب رئيس في الصد عن سبيل الله؛ لأن الكافر بالله يعبد معبودًا من دون الله، وهذه العبادة تجعله يقاوم كلَّ عبادة سواها، يؤكد ذلك قوله تعالى: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل:43].

يقول سيد قطب: «ثم يتدخل السياق القرآني لبيان ما كان قد منعها قبل ذلك من الإيمان بالله، وصدها عن الإسلام عندما جاءها كتاب سليمان، فقد نشأت في قوم كافرين، فصدها عن عبادة الله عبادتها من دونه من خلقه، وهي الشمس، كما جاء في أول القصة»(3).

وغالبًا ما يكون الكفر هو القاعدة الأولى والسبب الأول الذي يدفع للصد عن سبيل الله، ولذلك قدّم في الذكر على غيره باعتباره الأساس والأصل الداعي للصد، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36].

فصفة الكفر قد دفعتهم لإنفاق الأموال بهدف الصد عن سبيل الله، وفي آخر الآية كرر لهم هذه الصفة لتسجيل الكفر عليهم، وليكون علة في حشرهم إلى جهنم، ونجد الكفر دافعًا للصد عن المسجد الحرام، ولصد الهدي أيضًا أن يبلغ محله، قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّه} [الفتح:25].

وأما دور الكفر بالآخرة في الصد عن سبيل الله فهو واضح من خلال الآيات، وذلك أن الكافرين بالآخرة لا يبالون بما يفعلون من منكر وصد عن سبيل الله؛ لأنهم لا يخافون حسابًا ولا عقابًا، ولذلك فهم شر الناس أقوالًا وأفعالًا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف:45].

وقال في هود: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود:19].

وقد تكررت كلمة «هم» في خاتمة الآية على جهة التوكيد لثباتهم في الكفر، وقدم الجار والمجرور بالآخرة للاختصاص.

2- النفاق: والنفاق مرض خطير، وشره مستطير؛ لأنه وجه آخر للكفر المستور المختفي، وهو أشد خطورة في الصد عن سبيل الله من الكفر الصريح، قال تعالى في وصفهم: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4]، فهم يتخذون أيمانهم غطاءً وسترة للصد عن سبيل الله بكافة أشكاله وألوانه، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون:2]، ومثل ذلك في سورة المجادلة، قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:16].

وهؤلاء المنافقون إذا دُعوا إلى الله والرسول ليحكم بينهم أعرضوا وصدوا عن ذلك؛ لعلمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحكم إلا بالحق، ولا يقبل الرشوة، والمنافقون لا يريدون الحق والعدل، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:61].

3- تزيين الشيطان: إن الشيطان هو العدو الأول للإنسانية كلها، منذ عهد آدم وإلى قيام الساعة، وقد جنّد نفسه لإضلال بني آدم، وصدهم عن سبيل الله، قال تعالى: {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف:62].

يقول وهبة الزحيلي: «ولا يصرفنكم الشيطان عن اتباع الحق بوساوسه التي يلقيها في نفوسكم، إن الشيطان لكم عدو ظاهر العداوة من عهد أبيكم آدم عليه السلام»(4).

وقد كان للشيطان دور بارز في تزيين عبادة الشمس من دون الله، وذلك مع بلقيس وقومها، بهدف صدهم عن سبيل الله، قال تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ} [النمل:24]، وهكذا زين الشيطان لعاد وثمود أعمالهم الكفرية ليصدهم عن سبيل الله، قال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت:38].

وقد كان وعيد الله لكل من يعرض عن ذكر ربه وكتابه بأن يجعل له شيطانًا لا يفارقه بالوسوسة، وسبب ذلك هو الانشغال بزهرة الدنيا الفانية، فيكون في ذلك صده عن سبيل الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)} [الزخرف:36-37].

وحقيقة التزيين أن الشيطان يُظهر للإنسان العمل السيء القبيح في صورة العمل الحسن الجميل، ويرغّب ويشجّع على فعله، وذلك بهدف الصد عن سبيل الله، وهذه وسيلة شيطانية ماكرة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر:37].

يقول الدكتور وهبة الزحيلي: «زُيّن لفرعون الجبار سوء عمله وقبح صنعه من الشرك والتكذيب، فتمادى في الغي، واستمر على الطغيان؛ أي: زَيَّن له الشيطان عمله السيء، فصده عن سبيل الهدى والرشاد، وحجبه عن طريق الحق والعدل والسداد، وما كان كيده واحتياله وعمله الذي يوهم به الناس إلا في خسار وضياع مال»(5)، ومن هذا التزيين قوله تعالى: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33].

وفي هذه الآية والتي قبلها بُني كلٌ من الفعلين {زُيِّن}، {وصُدَّ} للمجهول؛ لأن الفاعل الحقيقي للتزيين وما ترتب عليه من صد هو الشيطان، وقد حُذِف ذكره إعراضًا عنه وترفعًا عن ذكره تحقيرًا له وإذلالًا.

ويُعدُّ الصد عن ذكر الله وعن الصلاة هدفًا رئيسًا للشيطان، وذلك من خلال تزيين الخمر والميسر، وما يترتب عليهما من إيقاع العداوة والبغضاء، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91].

وبهذا يلعب الشيطان دورًا بارزًا في تزيين المنكرات والمحرمات بهدف إيقاع الإنسان فيها، وصده عن طاعة الله وذكره.

4- الاستكبار والإجرام والإفساد: وهذه أسباب مترابطة يترتب بعضها على بعض، ومع ذلك تكفي كل واحدة منها أن تكون سببًا مستقلًا للصد عن سبيل الله، فالمستكبر تأخذه العزة بالإثم، ويندفع بغروره واستكباره للصد عن سبيل الله، وقد يُجرم ويفسد لأجل أن يتحقق مزيدٌ من الصد، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5]، فهؤلاء نفاقهم ولَّدَ عندهم استكبارًا، جعلهم يعرضون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولون عنه، متكبرين عن الإيمان، وقد كان ذلك مع عبد الله بن أبيّ كما رُوي عن ابن عباس(6).

وقد يجتمع الاستكبار من جهة والإجرام من جهة أخرى للصد عن هدى الله عز وجل، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ} [سبأ:32].

وهذه مواجهة بين المستكبرين والمستضعفين يتلاومون فيما بينهم، كلٌ يتهم الآخر بأنه السبب في الصد عن الهدى.

يقول أبو السعود في تفسيره للآية: «كأنه قيل: فماذا قال الذين استكبروا في الجواب؟ فقيل: قالوا: {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ}، منكرين لكونهم هم الصادين لهم عن الإيمان، مثبتين أنهم هم الصادون بأنفسهم بسبب كونهم راسخين في الإجرام، فرد عليهم المستضعفون: بل صدنا مكركم بنا في الليل والنهار»(7)، وأما الإفساد فهو سبب مترتب على الكفر للصد عن سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88]، فعبر عن الصد في آخر الآية بالفساد؛ إذ المعنى زدناهم عذابًا فوق العذاب بسبب الذي كانوا يفسدونه، ولذلك كان العذاب الأول في الآية بسبب الكفر، وزيادة العذاب الثاني بسبب الصد المتسبب عن الفساد(8).

5- اتباع الهوى: وهذا نوع من الانحراف مترتب على عدم الإيمان بالله، فإذا انعدم الإيمان في قلب الإنسان، يلجأ عندئذٍ لهواه، وما تملي عليه نفسه الأمارة بالسوء فيأتمر بأمرها، وينتهي بنهيها، وقد جعل الله اتباع الهوى دافعًا للصد عن سبيل الله، قال تعالى: {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:16].

فقد جعل الله اتباع الهوى، المترتب على عدم الإيمان، مما يصد عن الإيمان بالساعة والاستعداد لها بالأعمال الصالحة، ومن اتباع الهوى أن يشتري الإنسان بآيات الله ثمنًا قليلًا، قال تعالى: {اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة:9]، يقول المنصوري: «أي: استبدلوا بالقرآن وآياته الآمرة بالاستقامة، تركوها وأخذوا بدلها ثمنًا قليلًا عوضًا يسيرًا، وهو اتباع الهوى والشهوات، «فَصَدُّوا»؛ أي: صرفوا ومنعوا غيرهم عن الإيمان بدينه الموصل إلى الله تعالى، فبئس ما كانوا يعملونه، والمخصوص بالذم محذوف؛ أي عملهم هذا القبيح، وهو استبدال آيات الله وما ترتب عليها من صد عن سبيله»(9).

ومن الصد ما يكون سببه هوى النفس، الذي يؤدي بصاحبه إلى الشرك في عبادة الله تعالى، وهذا الهوى يدفع إلى الصد عن آيات الله المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون ذلك هوى المشركين الصادين، قال تعالى: {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [القصص:87].

يقول المراغي: «أي: ولا تبال بهم، ولا تهتم بمخالفتهم لك، وصدهم الناس عن طريقتك، فإن الله معك ومؤيدك، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان، ثم أمره أن يصدع بالدعوة، ولا يألو جهدًا في تبليغ الرسالة»(10).

ومن الصد النابع من الهوى صد قريش؛ بمعنى ضجيجهم وصياحهم فرحًا بالمثل الذي اختص بابن مريم عليه السلام، كيف يكون معبودًا من قومه، وقد قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:98]، ففرحت قريش بهذا المثل المضروب، ظانين أن عيسى عليه السلام داخل في الوعيد، في حين أن (ما) في قوله: «وَمَا تَعْبُدُونَ» هي لغير العاقل في هذا الموضع، والمقصود بها الأصنام والأوثان، ولا تشمل الآية عيسى والعزير والملائكة، فهؤلاء كلهم عباد لله موحدون(11)، وقد اشار الله إلى ذلك الفهم الخاطئ والصد النابع من الهوى بقوله تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف:57].

ومن الهوى استحباب الحياة الدنيا على الآخرة؛ مما يؤدي إلى الصد عن سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم:3].

يقول الفخر الرازي: «من الصفات التي وصف الله الكفار بها قوله تعالى: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.

واعلم أن من كان موصوفًا باستحباب الدنيا فهو ضال، ومن منع الغير من الوصول إلى سبيل الله ودينه فهو مضل، فالمرتبة الأولى إشارة إلى كونهم ضالين، وهذه المرتبة الثانية، وهي كونهم صادين عن سبيل الله، إشارة إلى كونهم مضلين»(12).

ومن الهوى أن يظلم الإنسان في معاملة مَنْ لا ذنب له، قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].

ذكر الواحدي عن زيد بن أسلم سبب نزول الآية قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون عن البيت، وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم، فأنزل الله الآية»(13)، والمعنى ألَّا تصدوا هؤلاء عن المسجد الحرام وتمنعوهم وتعتدوا عليهم بجريرة أولئك، فهؤلاء لا ذنب لهم فلا تظلموهم، ولذلك أمرهم بالتعاون على البر والتقوى، ونهاهم عن الإثم والعدوان، وبهذا ندرك كيف يكون الهوى سببًا في الصد عن سبيل الله، سواء كان ذلك بالنص الصريح أو من خلال العلاقة السببية بين الهوى وما يسببه من أفعال وتصرفات تؤدي إلى الصد.

صفات الصادين عن سبيل الله:

إن صفات الصادين هي الملامح العامة التي ترافقهم حال صدهم عن سبيل الله، وصفهم الله بها حتى يتميزوا ويُعرفوا، ويُحذر كيدهم ومكرهم، ويُتقى شرهم، وقد نجد بين هذه الصفات وبين غيرها من أسباب الصد ووسائله وغاياته نوع التقاء واشتراك في بعض النقاط؛ إذ يصلح بعضها أن يكون سببًا للصد، وفي نفس الوقت يصلح أن يكون صفة للصاد؛ كالكفر مثلًا، هو سبب أوّل ورئيس، وفي نفس الوقت هو صفة للصاد عن سبيل الله، وهكذا في بعض نقاط أخرى مما لا يسبب إشكالًا أو شبهة، وذلك كمثل الماء يكون سببًا لحياة الإنسان، وفي نفس الوقت هو مركب رئيس في جسم الإنسان، فلا يمنع وجوده هنا من وجوده هناك.

ونقف مع هذه الصفات والمواصفات المنهجية التي تم اعتمادها في أسباب الصد سابقًا، وذلك فيما يلي:

1- الكفر: والمراد به الكفر بالله وآياته وكتبه ورسله واليوم الآخر، فكل ما ينطبق عليه تعريف الكفر داخل في هذه الصفة التي وصف الله بها الصادين في أكثر من آية، وفي مناسبات متعددة؛ مما يجعل أعمالهم مهما كانت في الظاهر حسنة وخيّرة، فإنها مردودة عليهم، لا يقبلها الله بحال؛ بسبب كفرهم وصدهم عن سبيل الله، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1].

يقول الزحيلي: «الذين جحدوا توحيد الله وآياته، وعبدوا غيره، وصدوا غيرهم عن دين الإسلام بنهيهم عن الدخول فيه، وهم كفار قريش، أبطل الله ثواب أعمالهم وأحبطها، وجعلها ضائعة، ولم يجعل لها ثوابًا ولا جزاءً في الآخرة»(14).

ومن المصائب أن يكون الإنسان كافرًا، ويموت على كفره مع صده عن سبيل الله دون توبة أو أوبة إلى الحق، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [محمد:34].

وهكذا نجد في أكثر من آية صفة الكفر للصادين، من ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:167]، وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل:88].

ونجد هذه الصفة أيضًا في سورة الأنفال، وسورة الحج، وسورة الرعد، وسورة البقرة، ومن الآيات التي جمعت إلى صفة الكفر صفة أخرى مترتبة عليها وهي مشاقة الرسول، قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهمُ الْهدَى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا} [محمد:32].

2- موقفهم السلبي من المسجد الحرام: قد كان للمشركين الصادين عن سبيل الله مواقف تؤخذ عليهم تجاه المسجد الحرام، حيث صدوا عن المسجد الحرام وأخرجوا أهله منه، وفتنوا الناس عن دينهم، واستمرار قتالهم للمسلمين، وإرادة الإلحاد والظلم في المسجد الحرام، كل ذلك في نظرهم قليل مقابل ما وقع فيه المسلمون خطأ، وهو القتال في الشهر الحرام، ولكن ما يفعلونه في حكم الله ودينه هو أكبر جرما وإثمًا مما وقع فيه المسلمون، قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].

يقول سعيد حوى: «لما أكثر المشركون في تعيير المسلمين بالقتل في الشهر الحرام، وإذ اشتد ذلك على المسلمين، وخاصة على مَنْ شاركوا في القتل، أنزل الله عز وجل مبينًا أن الصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام منه، وأن الكفر بالله أكبر من القتل في الشهر الحرام، وأن فتنة المسلم عن دينه حتى يُرد إلى الكفر أكبر من القتل، فليكف المشركون عن استغلال هذه الحادثة، وليطمئن المسلمون، ثم بيّن الله عز وجل حقيقة، وهي أن أهل الكفر مقيمون على أخبث الكيد وأعظمه لأهل الإسلام، وهم مستمرون في قتال أهل الإسلام حتى يرتدوا عن الإسلام، وفي هذا كله بيان لحكمة القتال؛ إذ بدون قتال تكون الفتنة عن دين الله، ويكون استحلال كل شعيرة، وتكون الردة الشاملة عن دين الله»(15).

ومن هذا الموقف السلبي، الذي اتصف به الصادون عن سبيل الله، تجاه المسجد الحرام أنهم أرادوا فيه المعصية والظلم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْح