logo

المنهجية في التربية


بتاريخ : الأحد ، 14 رمضان ، 1437 الموافق 19 يونيو 2016
بقلم : تيار الاصلاح
المنهجية في التربية

لا تفتقر التربية اليوم إلى الأنشطة التربوية، على أهميتها، قدر افتقارها إلى المنهجية التي تصوب مسار ومضمون هذه الأنشطة، وتضاعف قيمة العمل؛ فالعمل الذي يجيء في مكانه المناسب، أو وقته المناسب يكون أكبر بكثير مما لو يكون في وقت آخر، والثمرة الكبرى لهذه المنهجية أنها توفر الطاقات، وتجعل للعمل الصغير أثرًا مضاعفًا، ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن المنهجية في التربية.

 

لقد أثر غياب المنهجية تأثيرًا ظاهرًا على العمل التربوي الإسلامي؛ مما دفع البعض إلى الوقوع في براثن الفوضى الخلاقة، وضياع الهدف الأسمى لتربية جيل صالح مصلح، وتشتت اهتمامات التربويين وتخبطهم في مواجهة أقل المشكلات صعوبة؛ حتى شعر بعض المربين أنه يسير في حلقة مفرغة، لا يستطيع أن يهتدي فيها إلى سبيل.

 

إن المنهجية في التربية تركز على كسر القوقعة، والخروج إلى الحياة الفسيحة، والتفاعل الاجتماعي، وتحقيق الكتلة البشرية الإسلامية الضاغطة في معترك الحياة.

 

إنها تقوم على الإيجابية والإبداع، ووضع الخطط وتحديد الأهداف، ودراسة المعوقات، ومعرفة العقبات، مع دراسة أسباب الفشل والخذلان، ومعرفة عوامل النجاح، ودوافع النهوض، ومراعاة الثابت والمتغير في الأمور التربوية، ودراسة تجارب الآخرين والاستفادة منها، وهذا أمر جميل، وهو الأساس في صياغة العناصر الإسلامية في المرحلة التأسيسية.

 

لكن الوصول إلى هذه المنزلة الصائبة، من تأسيس الرقابة التلقائية الإيجابية في القاعدة، يلزمه وجود شرح للخطط، بوفاء وتفصيل وتمثيل، ونشر لفقه التربية الدعوية، وكشف لمفاد الدراسات الميدانية، وتوصيف الواقع، ومحاولة التفرّس في المستقبل، وهذا كله واجب تربوي ريادي ثقيل ليس بالسهل، لكنه إن نُفّذ وهَب بإذن الله إتقانًا، وتوحيدًا لرأي الصف، واستثارة لإبداع الدعاة الكامن، وجرأة على اقتحام الصعب، وأملًا وثقة، وموازين تمنح الانسجام والتجانس، مع الطاعة الواعية، والتعامل الرجولي الرفيع، الكابت لكثير من وساوس الفتن.

 

إن إتقان الدعاة لهذا الدرس الجلي، الذي تفصح عنه التطبيقات السابقة الناجحة لخطة التربية المنهجية في طورها الأول؛ سيفضي بإذن الله إلى نتائج أقوى وأعمق تأثيرًا إذا حصل تجويد بشرح الخطط، ومعرفة الواقع، والدراسات المستقبلية، ومزيد الاطلاع الشرعي، وتوسيع العمل التخطيطي.

 

إن العمل التربوي الناجح، الذي يوازي المقاييس العصرية والتطور الحضاري، يلزمه الانتقال من العفوية والارتجال، والصيحات البدوية، والتعميمات الغامضة، والمسارات العاطفية، إلى أداء متقن قياسي، عبر تمكين أهل التخصص في كل فن، وتكثيف الخبرة، والتجرد للفن الذي يتم التخصص فيه، وتطبيق منهج تطوير، والعمل مع الأقران كفريق عبر مؤسسات ومراكز حكومية أو دعوية أو شركات، والإعلان عن النفس، وإشعار الناس بوجودهم وبآرائهم عبر تأليف الكتب والكتابة في الصحف، والظهور في التلفزيون، وحضور المؤتمرات.

 

إن قضايا الحياة تتنوع، وليست قضية التربية التلقينية هي النوع الوحيد فيها، فيمكن أن تتربى من أعمالك اليومية في المؤسسة، أو تعاني معاناة في عمل صعب...، فالحياة متنوعة، وتفاصيلها كثيرة، ولابد لنا من أن نوجد نموذجًا، هو الذي يعرف ماذا يليق لكل حالة من الحالات، وهذا الذي نعنيه بالمنهجية، فالبعض يبقى ينتظر حتى يؤمر فيتحرك، والبعض يأخذ وَصْفات جاهزة، فإذا لم تصله الأوامر من قادته يبقى بدون حركة، يصير له سنوات طويلة في الدعوة، ولكن لا يتحرك إلا أن يُقال له: تحرّك، وهذه خطة التحرك، وهذا يمينك وهذا يسارك.

 

هذه المسألة كثيرًا ما ينساها دعاة الإسلام، يعرفون من الإسلام العناوين المهمة، يعرفون من الإسلام العاطفة والإيمانيات الدفاقة، ولكنهم لا يذهبون إلى أبعد من ذلك؛ بتعلم الموازين الشرعية، والقواعد في تعارض المصالح والمفاسد، وفي سدّ الذرائع وحكم الضرورات، وفي رفع الحرج، وأمثال ذلك مما قاله الفقهاء، وأن بعض المسائل ثوابت شرعية لا يمكن التنازل عنها، وبعضها متغيرات يمكن أن يتعدد فيها الاجتهاد، حسب الزمان والمكان، والظرف والمصالح... كما قال الفقهاء.

 

هذه القضايا، والتمييز بين الثابت والمتغير لا يأتي إلا بمطالعات شرعية متعمقة، وليست في كلمات يسيرة تؤخذ من أفواه المتكلمين في المؤتمرات والمحاضرات، كلا؛ لابد من حَني الظهور فوق هذه الكتب العلمية الشرعية، ذات الأوراق الصفراء القديمة، التي بدأ البعض يزهد فيها، هو مظنة وجود العلم النافع، ومظنة وجود الأصالة في التلقي.

 

إن التناول المنهجي يتطلّب منا أن نضع جذور المسألة العميقة، والإحاطة بالأمر الواقع بنظرة شمولية، وليس من خلال زاوية معينة.

 

إن ما نريده من هذا الواقع ليس مجرد معرفة خبرية؛ بل نريد تطويره وفق مفاهيمنا، ووفق مصالحنا، بحيث يصب في وادينا، فإذًا هو عمل نسعى له، ويؤثر في المستقبل، فالمسألة لا تسير بنوع من التلقائية.

 

لا بد أن نعترف بالموازين النسبية في فهمنا لطبيعة الحاجات الكبيرة، وأن بينها تكاملًا... ما لم نفهم الحياة بهذه الصورة فإننا نقع في التفسير الأحادي، الذي يفهم الحياة في الجانب الذي يكوّن هواه، إن أحادية التفسير هو دائمًا النقيض لمسألة المنهجية، والتَّقيّد في الفهم من غير نسبيّة هو نقيض المنهجية.

 

إن المربي المسلم المعاصر يجب أن يكون واعدًا، يتلألأ وجهه بنور الإيمان والعلم، ولمعات الوعي، والانسجام مع ألوان الفن المعرفي، والقسمات الحضارية، حتى إنك لتدرك ما تصل إليه نظراته من مدى بعيد، وعلى الداعية المعاصر أن يستفيد من عطاء التربية المنهجية الدعوية، التي صقلتها تجارب المراحل السابقة، وهذّبتها ردود الفعل تجاه أخطاء ارتكبت، كشفها النقد الإيجابي، وأوضحها الرجوع المتأني إلى الفقه الشرعي والتحليل الموضوعي، وزادتها وضوحًا المعرفة بالواقع والمقارنة التاريخية، فكان من كل ذلك ما هو أشبه بعملية (النخل) و(الغربلة) بمنخل الموازين والقواعد والتجارب، فنتجت من ذلك صفوة مؤهلة للقيادة الناجحة، والخطو الموزون، والتفلّت من المخاطر.

 

وأُأَكد أن من الأهمية بمكان أن تتضح الخطة المرحلية، وخطة المدى البعيد في أذهان التربويين في أي قطر، معًا، قبل الخطو والممارسة العملية؛ ليكون الفهم الجامع الشامل حارسًا للمسيرة التربوية من أن يدفعها مربون مغامرون إلى ارتكاب شطط وتعجّل وأعمال ارتجالية غير مدروسة؛ إذ إن شيوع المعاني الخططية، المتفق عليها، تؤسس حساسية بالغة لدى المربين ضد كل توجّه مخالف لها، يروّج له متهور أو متحمّس يخالف القرارات والاختيارات الجماعية، التي ما جاءت وما سُنّت إلا بعد شورى وحوار وتقليب لوجوه النظر