الجهر بالمعصية وكيف نعالجه
إن فعل المعاصي موجب لغضب الله وسخطه، ومعرض فاعلها للعقاب؛ سواء فعلها خاليًا أم فعلها مجاهرًا، لكن فعلها جهرًا أشد إثمًا من فعلها سرًا؛ لأن الجهر بالمعصية إثم في ذاته يضاف إلى إثم المعصية، فعن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملًا، ثم يصبح وقد ستره الله عليه، فيقول: يا فلان، عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، ويصبح يكشف ستر الله عنه»(1).
ويدل الحديث على أن ارتكاب المعصية مع سترها أهون وأخف من المجاهرة بها؛ لأن المعصية مع الستر تقبل العفو الإِلهي، أما مع المجاهرة فإنه لا يعفى عنها.
«قال النووي رحمه الله: يكره لمن ابتُلي بمعصية أن يُخبر غيره بها؛ بل يُقلع عنها ويندَم ويعزم ألَّا يعود، فإن أخبر بها شيخَه الذي يعلّمه أو الذي يفتيه أو نحوَه من صديق عاقلٍ صاحب دين مثلًا، يرجو بإخباره أن يعلّمه مخرجًا منها، أو ما يَسْلَمُ به من الوقوع في مثلها، أو يعرّفه السببَ الذي أوقعه فيها، فهو حسن، وإنما يكره لانتفاء المصلحة، وقال الغزالي: الكشف المذموم إذا وقع على وجه المجاهرة والاستهزاء لا على السؤال والاستفتاء بدليل خبر من واقع امراته في رمضان فجاء فأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه»(2).
والمجاهر بالمعصية نزع جلباب الحياء، فلا حرمة ولا كرامة له في نظر الإسلام، وأخذ بعضهم جواز غيبة المجاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمتي معافى إلَّا المجاهرين»، قيل: معناه: أن كل واحد من العصاة معافى من الغيبة، فيجب أن يترك عرضه سليمًا، ولا يغتابه أحد، إلَّا المجاهر فإنه يجوز انتهاك عرضه بالغيبة؛ لأنه غير معافى، ولا صيانة لعرضه، ولا كرامة له، وهو استدلال وجيه.
إذا قال قائل: هل الأفضل للإنسان إذا زنى أن يذهب إلى القاضي ليقر عنده فيقام عليه الحد، أو الأفضل أن يستر نفسه؟ فالجواب عن هذا أن في ذلك تفصيلًا.
قد يكون الإنسان تاب توبة نصوحًا وندم، وعرف من نفسه أنه لن يعود، فهذا الأفضل ألَّا يذهب ولا يخبر عن نفسه؛ بل يجعل الأمر سرًا بينه وبين الله، ومن تاب تاب الله عليه.
وأما من خاف ألَّا تكون توبته نصوحًا، وخاف أن يعود ويرجع إلى الذنب مرة أخرى؛ فهذا الأفضل في حقه أن يذهب إلى ولي الأمر أو إلى القاضي أو غيره ليقر عنده فيقام عليه الحد(3).
فإذا امتنع المرء عن فعل المعصية جهرًا حياءً من الله تعالى، أن يكون سببًا في إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، فليس عليه إلا إثم المعصية التي وقع فيها، أما إن ترك فعلها جهرًا خوفًا من الناس بقصد الرياء فعليه إثم المعصية وإثم قصد الرياء، قال الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ} [النساء:108].
وقال الفضيل بن عياض: «ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما»(4).
وينبغي أن يعلم أن الإنسان إذا ابتلي بمعصية من المعاصي فالواجب عليه أن يستر نفسه ولا يظهر شيئًا من ذلك، وعليه أن يتوب إلى الله تعالى، فقد ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عز وجل عنها، فمن ألم بشيء منها فليستتر بستر الله عز وجل، وليتب إلى الله، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه كتاب الله»(5).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «قال ابن بطال: في الجهر بالمعصية استخفاف بحق الله ورسوله وبصالحي المؤمنين, وفيه ضرب من العناد لهم, وفي الستر بها السلامة من الاستخفاف؛ لأن المعاصي تذل أهلها, ومن إقامة الحد عليه إن كان فيه حد، ومن التعزير إن لم يوجب حدًا, وإذا تمحض حق الله فهو أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه, فلذلك إذا ستره في الدنيا لم يفضحه في الآخرة, والذي يجاهر يفوته جميع ذلك»(6).
لقد شمل الإسلام جميع جوانب الحياة للمسلم، وأعطى كل جانب منها حقه، وضمن للإنسان أن يعيش في المجتمع آمنًا مطمئنًا محترمًا وموقرًا؛ طالما أنه سالك الطريق المستقيم، وأما إذا حاد عن الطريق فإن الإسلام جعل لكل أمر معوج ما يناسبه من التقويم.
فعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت أن تفسدهم»(7).
فهذا نص صريح من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن التجسس وتتبع عورات المسلمين من وسائل إفساد المجتمع، وقد ورد في ذلك بعض الآثار التي تبين وقوف الصحابة رضي الله عنهم عند هذا الحد، فلم يقدموا عليه؛ بل إذا ما وقع من أحدهم ذلك لاجتهاد ظنه أنكر عليه ذلك.
من ذلك ما ورد عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس ليلة مع عمر بن الخطاب، فبينا هم يمشون شَبَّ لهم سراج في بيت, فانطلقوا يؤمونه, حتى إذا دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط, فقال عمر وأخذ بيد عبد الرحمن: «أتدري بيت من هذا؟» قال: «قلت: لا», قال: «هو ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن شُرَّبٌ، فما ترى؟» قال عبد الرحمن: «أرى قد أتينا ما نهانا الله عنه، نهانا الله فقال: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12]، فقد تجسسنا»، فانصرف عنهم عمر وتركهم(8).
فالآمر بالمعروف والناهي عن المنكر منهي عن التجسس إلا في حالات نادرة؛ لأن من يفعل ذلك ينتهك عدة حقوق أساسية ثابتة شرعًا لمن تجسس عليه، منها: حقه في حرمته في مسكنه، وحقه في حريةِ شخصه باطلاعه على سره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يكون المتجسس قد استباح وسيلة محرمة للوصول إلى غاية.
وسواء أكانت هذه الغاية محرمة أم مباحة، فإن ذلك محظور؛ لأنها إن كانت محرمة فالوسيلة إليها محرمة، وأما إذا كانت الغاية مشروعة فلا يصح أن يسعى إليها بوسيلة محرمة؛ لأن الغاية تأخذ حكم الوسيلة(9).
وجوب التستر:
إن المسلم مأمور بأن يتستر ولا يظهر معصيته، أيًا كانت هذه المعصية؛ لأنه إذا فعل ذلك يكون قد أضاع الحق الذي أعطاه الإسلام له، ويكون بذلك عرض نفسه للإهانة والردع.
فالإسلام لا يقر المجاهرة بالمعصية أيًا كانت، صغيرة أم كبيرة، لما لها من الآثار السيئة الكبيرة، ليس على فاعلها فقط، وإنما على المجتمع؛ إذ في المجاهرة بالمعصية تشجيع الناس عليها، وإبعاد الحياء عنهم بفعلها وتسهيل ارتكابهم لها، فكأن المجاهر رسم طريقًا لمن أراد أن يفعل كفعله.
ولكن ما هو موقف الناهي عن المنكر، إذا ظهرت أمارات المنكر وهو داخل البيت، كأن تفوح رائحة الخمر، أو تسمع آلات الموسيقى والطرب، أو تسمع أصوات المغنيات والمطربات ونحو ذلك؟(10).
فذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجب الإنكار في هذه الحال.
قال في غذاء الألباب: «وأما تسور الجدران على من علم اجتماعهم على منكر فقد أنكره الأئمة؛ مثل سفيان الثوري وغيره، وهو داخل في التجسس المنهي عنه»(11).
وأما الماوردي فيقسم المنكر في هذه الحال إلى قسمين:
الحالة الأولى: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها؛ ففي هذه الحال يجوز للناهي أن يتجسس.
الحالة الثانية: ما خرج عن هذا الحد وقصر عن هذه الرتبة، فلا يجوز التجسس عليه وكشف الأستار عنه(12).
وقد استدل القائلون بعدم التجسس على أولئك بالأمر الوارد عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه أُتِيَ إليه برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمرًا، فقال: «إنا قد نُهِينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به»(13)، وأيضًا عموم الآيات والأحاديث الواردة عن النهي عن ذلك.
وذهب بعض العلماء إلى أنه في هذه الحالة يجوز التجسس عليهم واقتحام البيت إذا تحققت تلك الأمارات.
عن مثنى الأنباري قال: «سمع أحمد بن حنبل حس طبل في جواره فقام إليهم ونهاهم».
وعن محمد بن أبي حرب قال: «سألت أبا عبد الله عن الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره، قلت: فإن لم يقبل؟ قال يجمع عليه الجيران ويهول عليه».
وعن جعفر بن محمد النسائي قال: «سمعت أبا عبد الله سئل عن الرجل يمر بالقوم يغنون، قال: هذا قد ظهر عليه أن ينهاهم»(14).
وقال الغزالي: «إلا أن يظهر [المنكر] ظهورًا يعرفه من هو خارج الدار؛ كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار، فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي، وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم، بحيث يسمعها أهل الشوارع؛ فهذا إظهار موجب للحسبة»(15).
وقال ابن الجوزي: «من تستر بالمعصية في داره، وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه، إلا أن يظهر ما يعرفه؛ كأصوات المزامير والعيدان، فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، وإن فاحت رائحة الخمر فالأظهر جواز الإنكار»(16).
والقول الثاني أرجح؛ وهو جواز التجسس ووجوب الإنكار على من جاهر بالمعصية؛ لأن النصوص الواردة في النهي عن التجسس خاصة بمن لم يجاهر بمعصيته، وأما من جاهر بمعصيته فإنه لا يشمله هذا التكريم؛ لأن فعل المجاهر ينتج عنه أمور تخالف قواعد الشرع، ونوضح المسألة بما يأتي:
أولًا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتستر وقال: «كل أمتي معافى إلا المجاهرين»(17)، فبفعله خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وخرج من العافية.
ثانيًا: إنه بفعله هذا يكون قد نزع الحياء الذي شرعه الإسلام للمسلمين «الحياء لا يأتي إلا بخير»(18)، «إذا لم تستح فاصنع ما شئت»(19).
ثالثًا: إن هذا المجاهر قد ينتج عن فعله هذا ترويج الفاحشة وفعل المنكرات في المجتمع المسلم، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح؛ بل المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.
فمن هنا نقول في مشروعية الاحتساب على من جاهر بالمعصية(20).
وقال بعض العلماء: إنّ المقصودَ بالحديث: كلُّ أمّتي يترَكون في الغيبة إلّا المجاهرين، والعفو بمعنى الترك، والمجاهر هو الذي أظهر معصيتَه، وكشف ما ستر الله عليه، فيحدِّث به، قال الإمام النووي رحمه الله: «من جاهر بفسقِه أو بدعته جاز ذكرُه بما جاهر به».
لماذا كلُّ الأمة معافى إلا أهل الإجهار؟
أولًا: لأن في الجهر بالمعصية استخفافًا بمن عُصي، وهو الله عز وجل، استخفافًا بحقه وبحق رسوله صلى الله عليه وسلم، واستخفافًا بصالحي المؤمنين، وإظهار العناد لأهل الطاعة ولمبدأ الطاعة، والمعاصي تُذل أهلها، وهذا يذل نفسَه ويفضحها في الدنيا قبل الآخرة.
ثانيًا: إن المجاهرةَ بالمعاصي والتباهيَ بها يحمل الآخرين على التقليد والوقوع فيها.
وقد ذكر العلماء إجراءاتٍ متعددة في الفتاوى والأحكام بشأن المجاهر، فنصّوا على كراهية الصلاة خلف الفاسق عمومًا، ما دام فسقه لا يكفِّر، فالصلاة صحيحة لكنه لا ينال ثواب من صلى خلف الإمام التقي، وقال بعضهم بإعادة الصلاة خلف من جاهر بالمعصية.
وسئل ابن أبي زيد رحمه الله عمّن يعمل المعاصي: هل يكون إمامًا؟ فأجاب: أما المصرُّ المجاهِر فلا، لا يمكن أن يكون إمامًا، ولا يجعَل إمامًا، ولا يمكَّن من ذلك، ويطالب بتغييره ويرفع أمره؛ لأنه منصِب قياديّ يؤمّ فيه المسلمين، كيف يؤمّهم ويتقدّمهم، ثم يكون مجاهرًا بمعصية؟! وسئل عمّن يعرَف منه الكذب العظيم أو القتّات النمام الذي ينقل الأخبار للإفساد بين الناس، هل تجوز إمامته؟ فأجاب: لا يصلّى خلف المشهور بالكذب، والقتات، والمعلن بالكبائر، مع صحة الصلاة، أي: أنها لا تعاد، ولكن يكره الصلاة وراء هذا الرجل.
أما من تكون منه الهفوة والزلة فلا تتبع عورات المسلمين، وقال مالك رحمه الله: من هذا الذي ليس فيه شيء؟ كل إنسان يعصي، وقال مالك مردِفًا: وليس المصر والمجاهر كغيره، المصيبة في المصرّ والمجاهر(21).
إن عيادة المريض المسلم أجرها عظيم، ومن حق المسلم على المسلم، لكن العلماء قالوا: لا يعاد المجاهر بالمعصية إذا مرض لأجل أن يرتدع ويتوب، ويرتدعَ غيره ممن يمكن أن يقع في المعصية، وإذا عاده من يدعوه إلى الله وينصحه فهو حسن؛ لأجل دعوته، أما إذا خلا عن هذه المصلحة، وليس هناك مصلحة شرعية، فلا يعاد؛ زجرًا له ولأمثاله.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه ينبغي لأهل الخير أن يهجروا المُظهر للمنكر ميتًا إذا كان فيه كفّ لأمثاله، فيتركون تشييع جنازته، فمن جاهر بشيء فمات مصرًا مات مجاهرًا يترك أهل الفضل والخير الصلاة عليه، ويصلي عليه عامّة الناس، ما دام مسلمًا لم يخرج من الإسلام(22).
وكما قال الإمام أحمد رحمه الله: إذا كان الرجل معلِنًا بفسقه فليس له غيبة، لكن النووي رحمه الله أشار إلى أن غيبتَه فيما جاهر فيه فقط، ويُهتَك فيما جاهر فيه، ويُحذَّر من شأنه، يحذَّر الناس منه، وأما هجرُه فإذا كان يرتدِع به فيجب الهجر، والهجر بالمقاطعة وعدم الكلام وعدم الزيارة وعدم السلام عليه، قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس لمن يسكر ويقارب شيئًا من الفواحش حرمة ولا صِلة إذا كان معلِنًا مكاشفًا، إن قضية الإجهار حساسة جدًا في الشريعة(23).
والمجاهر لا تجاب دعوته للعرس والنكاح، ولا تلبَّى ولا تُؤتى وليمته ما دام مجاهرًا.
إن الله حيِيٌّ ستِّير، يحب الحياء والستر، إنه سبحانه وتعالى يحب الستر، فيجب على من ابتُلي بمعصية أن يستتر، ويجب عدم فضحه، فإذا جاهر لقد هتك الستر الذي ستره به الستِّير وهو الله عز وجل، وأحل للناس عِرضه، وقد أجمع العلماء على أن من اطلع على عيب أو ذنب لمؤمن ممّن لم يُعرف بالشر والأذى ولم يشتهر بالفساد ولم يكن داعيًا إليه وإنما يفعله متخوِّفًا متخفِّيًا أنه لا يجوز فضحُه، ولا كشفه للعامة ولا للخاصة، ولا يُرفَع أمره إلى القاضي، لماذا؟ لأن النبي حث على ستر عورة المسلم، وحذر من تتبُّع زلاته: «من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته»(24).
ولأن كشف هذه العورات والعيوب والتحدث بما وقع من هذا المؤمن أو المسلم قد يؤدي إلى غيبة محرَّمة وإشاعة للفاحشة وترويج لها، المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعيِّر، كما قال الفضيل رحمه الله.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرَّها»(25).
إن مما يقع بين الرجل وامرأته مع أنه في الحلال، لكنه لأنه خنا فإنه لا يتحدَّث به، لا يتحدَّث بأي شيء يثير الشهوات، حتى مجرد ذكر الوقاع أنه قد حصل دون تفصيل، إذا لم يكن له حاجة كرهه العلماء، وعدُّوه من خوارم المروءة، حتى مجرد أن يخبر أنه قد حصل بينه وبين أهله شيء لغير مصلحة شرعية، إنه مكروه لأنه من خوارم المروءة.
كيف صار حال بعض الناس في الإجهار بالفسق والمعاصي في الدعايات التي ينشرونها على الملأ، وفيها فجور أو دعوة لفجور، أو حفلة غناء أو اختلاط أو قمار وميسر في معاملات تجارية؟! يجهَر بها على الملأ!
الستر يتبع المصالح:
والستر ليس محمودًا على كل حال، وليس مذمومًا على كل حال، فهو نوعان:
النوع الأول: ستر محمود، ويكون في حق الإنسان المستقيم الذي لم يعهد منه فاحشة، ولم يحدث منه عدوان إلا نادرًا، فهذا ينبغي أن يُستر ويُنصح، ويُبيَّن له أنه على خطأ، وهذا الستر محمود.
والنوع الثاني: ستر شخص مستهتر متهاون في الأمور، معتدٍ على عباد الله، شرير، فهذا لا يستر؛ بل المشروع أن يبين أمره لولاة الأمر حتى يردعوه عما هو عليه، وحتى يكون نكالًا لغيره.
فالستر يتبع المصالح؛ فإذا كانت المصلحة في الستر فهو أولى، وإن كانت المصلحة في الكشف فهو أولى، وإن تردد الإنسان بين هذا وهذا فالستر أولى.
والمجاهرون هم الذين يجاهرون بمعصية الله عز وجل، وهم ينقسمون إلى قسمين:
الأول: أن يعمل المعصية وهو مجاهر بها، فيعملها أمام الناس، وهم ينظرون إليه، هذا لا شك أنه ليس بعافية؛ لأنه جر على نفسه الويل، وجره على غيره أيضًا.
أما جره على نفسه فلأنه ظلم نفسه حيث عصى الله ورسوله، وكل إنسان يعصي الله ورسوله فإنه ظالم لنفسه، قال الله تعالى: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57]، والنفس أمانة عندك يجب عليك أن ترعاها حق رعايتها، وكما أنه لو كان لك ماشية فإنك تتخير لها المراعي الطيبة، وتبعدها عن المراعي الخبيثة الضارة، فكذلك نفسك، يجب عليك أن تتحرى لها المراتع الطيبة، وهي الأعمال الصالحة، وأن تبعدها عن المراتع الخبيثة، وهي الأعمال السيئة.
وأما جره على غيره: فلأن الناس إذا رأوه قد عمل المعصية هانت في نفوسهم، وفعلوا مثله، وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار، كما قال الله تعالى عن آل فرعون: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} [القصص:41] .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»(26).
وهذا الذي يفعله بعض الناس أيضًا يكون له سببان:
السبب الأول: أن يكون الإنسان غافلًا سليمًا لا يهتم بشيء، فتجده يعمل السيئة ثم يتحدث بها عن طهارة قلب.
والسبب الثاني: أن يتحدث بالمعاصي تبجحًا واستهتارًا بعظمة الخالق، فيصبحون يتحدثون بالمعاصي متبجحين بها كأنما نالوا غنيمة، فهؤلاء والعياذ بالله شر الأقسام.
والحاصل أنه ينبغي للإنسان أن يتستر بستر الله عز وجل، وأن يحمد الله على العافية، وأن يتوب فيما بينه وبين ربه من المعاصي التي قام بها، وإذا تاب إلى الله وأناب إلى الله؛ ستره الله في الدنيا والآخرة.
صور من المجاهرة بالمعاصي:
• التخلف عن الصلاة مع الجماعة، مع القدرة عليها، فتجد أحدهم يدخل منزله والصلاة تقام فلا يلقي لها بالًا، ولا يكترث ولا يهتم بها، وكأن النداء فيها لغيره من الناس، والأدهى من ذلك والأَمَرّ أن يمارس البعض مهنته، من بيع أو شراء أو نحو ذلك، في أثناء إقامة المسلمين لهذه الشعيرة العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم»(27).
• الدعوة إلى المعاصي والكبائر والإعلان عنها وإذاعتها، كما يحصل ذلك في الإعلان عن تجارة ربوية، أو المساهمة في بنك يتعامل بالربا، أو مبيعات محرمة، أو الدعوة إلى مشاهدة عروض غنائية، أو حفلات مشتملة على الأغاني والموسيقى والطبول والمعازف ونحو ذلك.
• التشبه بالغرب وتقليدهم في الكلام واللباس والمركب والحركات، حتى صار بعضهم يفتخر بذلك ويتعالى به، وما علم المسكين أنه بذلك دخل جحر الضب من أضيق أبوابه، فعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا في جحر ضب لاتبعتموهم» قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: «فمن»(28).
• قيام البعض بكتابة مقالات تخالف شرع الله وتناوئ دينه، كالكلام في ذات الرب تعالى وتقدس، أو سب الدين أو الرسول المعصوم صلى الله عليه وسلم، أو الدعوة إلى مخالفة الكتاب والسنة؛ كالدعوة إلى خروج المرأة وتحررها وخلعها جلباب حيائها وسترها، وكالحديث عن حجاب المرأة على وجه التندر والسخرية، أو الاستهزاء باللحية أو بتقصير الثوب أو بالسواك، أو التهكم بالصالحين والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أو المشايخ وطلبة العلم، ونحو ذلك من صور وأشكال الاستهزاء الذي قد يصل بصاحبه إلى الكفر، فلقد كفر الله تبارك وتعالى قومًا جاهدوا مع الرسول صلى الله عل