ولو كنت وحدك
إن الإسلام بدأ غريبًا، وحورب قبل أن يحارِب، وأوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وأوذي من أسلم ثلاث عشرة سنة، فر المسلمون بدينهم مرتين إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وكان الواحد منهم يفر بنفسه، بثيابه التي عليه، مخلفًا وراءه ماله للكافرين، أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، ولقد حوصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في شعب أبي طالب حصارًا اقتصاديًا واجتماعيًا رهيبًا، ووصل الأمر بهم معه أن تآمروا على قتله، فأنزل الله تعالى قرآنًا بما بيتوا، فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحب البلاد إليه، وآواه الأنصار في المدينة وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وازداد المسلمون عددًا وقوة، وتجمع مهاجروهم إلى الحبشة وغيرها في المدينة، وبدءوا يفكرون في نشر دعوتهم في مشارق الأرض ومغاربها، لكن كيف والمشركون يضعون العقبات، ويوحون إلى أوليائهم بمحاربة الإسلام وأهله، لقد استمرت الدعوة السلمية أكثر من ثلاثة عشر عامًا.
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وعشرين غزوة في تسع سنين، وقاد جند الله في معاركه مع الكفر، وكان أشجع الناس، وأثبت الناس في الحرب، كما كان البلسم الشافي المداوي في السلم، جرح وكسرت سنه، وسال الدم على وجهه الشريف، فما وهن، وما ضعف، وما استكان، بل صبر وكافح، وجاهد في الله حق جهاده، حتى جاء نصر الله والفتح، ورأى الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، فسبح بحمد ربه واستغفره، حتى أتاه اليقين (1).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء» (2).
قال الطيبي: إما أن يستعار الإسلام للمسلمين، فالغربة هي القرينة، فيرجع معنى الوحدة والوحشة إلى نفس المسلمين، وإما أن يجري الإسلام على الحقيقة فالكلام فيه تشبيه، والوحدة والوحشة باعتبار ضعف الإسلام وقلته، فعليه غريبًا إما حال، أي بدأ الإسلام مشابهًا للغريب، أو مفعولًا مطلقًا، أي ظهر ظهور الغريب حين بدأ فريدًا وحيدًا، ثم أتم الله نوره، فأنبت في الآفاق، فبلغ مشارق الأرض ومغاربها، ثم يعود في آخر الأمر فريدًا وحيدًا شريدًا (3).
والجماعة هي الحق ولو كنت وحدك، ولما سئل ابن المبارك، عن الجماعة، قال: أبو بكر وعمر، فقيل له: قد مات أبو بكر وعمر، فقال: فلان وفلان، فقيل له: قد مات فلان وفلان، فقال: أبو حمزة السكري جماعة (4).
فوصف رجلًا دينًا عالمًا تتمثل فيه القدوة لأهل زمانه، وهذا المسلك في البيان عن الجماعة من ابن المبارك من قبيل إفراد فرد من العام بالذكر، وهذا لا يخصص العام بهذا الفرد كما تقرر ذلك قواعد الأصول، فليس معناه أنه لا يوجد أحد يدخل في معنى الجماعة زمن ابن المبارك إلا أبو حمزة السكري، وإنما أراد التنبيه بالمثال ليتضح المقال، ويسهل الفهم على السائل (5).
وقال نعيم بن حماد: إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك فإنك أنت الجماعة (6).
قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك (7).
إذًا: فالعبرة ليست بكثرة العدد؛ إنما باتباع السنة وترك الابتداع.
قال الفضيل ابن عياض: عليك بطريق الهدى وإن قل السالكون، واجتنب طريق الردى وإن كثر الهالكون (8).
قال الإمام الأوزاعي: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم (9).
قال الإمام السعدي: إنه لا يستدل على الحق بكثرة أهله، ولا يدل قلة السالكين لأمر من الأمور أن يكون غير حق، بل الواقع بخلاف ذلك، فإن أهل الحق هم الأقلون عددًا، الأعظمون -عند الله- قدرًا وأجرًا، بل الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه.
قال ابن القيم: اعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده، وإن خالفه أهل الأرض، فإذا ظفرت برجل واحد من أولي العلم طالب للدليل محكم له، متبع للحق حيث كان وأين كان، ومع من كان زالت الوحشة وحصلت الألفة... (10).
وقال: وقالوا: من شذ شذ الله به في النار، وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحدًا منهم فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم زمن أحمد بن حنبل إلا نفرًا يسيرًا، فكانوا هم الجماعة، وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة (11).
وقال أيضًا: وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة في كتاب الحوادث والبدع: حيث جاء به الأمر بلزوم الجماعة، فالمراد به لزوم الحق واتباعه، وإن كان المتمسك به قليلًا والمخالف له كثيرًا، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه، ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم (12).
قال عمرو بن ميمون الأودى: صحبت معاذًا رضي الله عنه باليمن، فما فارقته حتى واريته في التراب بالشام، ثم صحبت بعده أفقه الناس عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يومًا من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها فهي الفريضة، وصلوا معهم فإنها لكم نافلة، قلت: يا أصحاب محمد، ما أدرى ما تحدثونا؟ قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها ثم تقول: صل الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصل مع الجماعة وهي نافلة؟ قال: يا عمرو بن ميمون، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة: الذين فارقوا الجماعة، الجماعة ما وافق الحق، وإن كنت وحدك (13).
نعم أنت الجماعة، أنت يا من تمتلك الحق، يا من ينادي في الناس بأن الحق أحق أن يتبع، وتصر عليه.
كثير هم الذين يعتقدون أنفسهم على حق، ويحاربون ويناضلون في سبيل إظهار ما يرونه حقًّا رغم بطلانه البين، ولكن أين أنت يا صاحب الحق؟ كفاك صمتًا، تكلم، ولا تخش في الحق لومة لائم، ناضل من أجل الحق، ستواجه عديد المصاعب، وستحارب ممن يروجون لحق مزعوم، وراجت سلعتهم في مجتمع غريب، بات مفتونًا بالنزاعات الشاذة، والخروج عن النص، مجتمع ماضيه يغني عن حاضره المليء بصخب الغرب وأفكاره الملوثة؛ من تمييع للحقائق والعقائد، وهزل في الأصول، وزيف في العموم، ومفاهيم متدنية، تنقل بغير وعي أو قياس على واقع المجتمع، مجتمع تفتت وتدنى لمستنقع هابط، وذلك حين تخلى عن أصوله الثابتة، وعقائده الراسخة، وتزين بلباس لا يليق به، فلتناضل وتحارب في رفع راية الحق (14).
والنبي عليه الصلاة والسلام بمجرد أن أرسله الله عز وجل قبل أن يدخل أحد في دينه كان وحده هو الجماعة، وأحمد بن حنبل رضي الله عنه ورحمه كان في زمانه وحده على الحق وهو جماعة، فقد كان الحكام والأمراء والعلماء وغيرهم من الكبار والصغار في زمن أحمد من المعتزلة، وقد حدا هذا ببعض أهل العلم أن يذهب إلى أحمد في بيته ويقول له: يا أحمد! أنت تقول: إن ما نحن عليه هو الباطل، وأن ما أنت عليه هو الحق، فلو كان ما نحن عليه هو الباطل فلِمَ أظهره الله على الحق؟ فقال أحمد: ومن قال لك بأنكم ظاهرون؟ ألا تدري أن الظهور هو انتقال القلوب من الحق إلى الباطل؟ قال: وقد انتقلت.
قال: ومن قال لك إنها انتقلت؟ أما أنا فقلبي مطمئن بالحق الذي هو عليه.
أي: يريد أن يقول له: ولو كانت القلوب كلها تحولت إلا قلبًا واحدًا فقط لم يتحول فإنه الحق، وإنه الجماعة.
وهذه الفتنة كانت في القرن الثالث، والإمام أحمد مات سنة (241هـ)، فهو يريد أن يقول له: أنا وحدي على الحق، ثم سرعان ما زال الباطل ولم يصمد أمام رجل واحد، والذي حارب المعتزلة في زمان أحمد هو الإمام أحمد فقط، والأمة كلها اعتبرت الإمام أحمد هو الذي كان على الحق في زمانه، والأمة بأسرها أو في مجموعها كانت معتزلة، ومع هذا ثبت الله تبارك وتعالى أحمد حتى ظهر دين الله عز وجل.
وقد جاءه شخص مشفق عليه يقول له: يا أحمد! قل هذه، وما الذي تخسره؟ فنظر أحمد إلى الآلاف التي وقفت في المشهد، وقال له: إن هذه المحابر تنتظر هذه الكلمة، يعني: تنتظر أن تزل قدم أحمد في هذا الموقف، فضحى أحمد بنفسه لأجل سلامة أمة، فاستحق أن يكون الصديق الثاني للأمة كما سماه بعض أهل العلم.
قال أحمد: فعبر رجل النهر ودخل علي، ولا أحد منهما يعرف الآخر، وفي طريقه إلى أحمد كان يسأل: أين أحمد؟ فدلوه على الإمام أحمد في السجن، حتى وصل إلى أحمد فقال: يا أحمد! اثبت؛ فإنك على الحق، وما هو والله إلا سوط واحد ولا تشعر بشيء بعده.
فالقضية قضية دين ودعوة وشرع، وقضية أن تذهب بنفسك وتبقى أمة وتعلو راية، فلا تكن أنت أول من يسقطها، ولا أول من يضيع العلم، ولا أول من يضيع الأمة، وأنت لو ذهبت فإنك تذهب إلى رب كريم (15).
إذا كان الله ورسوله في جانب فاحذر أن تكون في الجانب الآخر، فإن ذلك يقضى إلى المشاقة والمحادة، وهذا أصلها ومنه اشتقاقها، فإن المشاقة أن يكون في شق ومن يخالفه في شق، والمحادة أن يكون في حد وهو في حد، ولا تستسهل هذا فإن مبادئه تجر إلى غايته، وقليله يدعوا إلى كثيره.
وكن في الجانب الذي يكون فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن كان الناس كلهم في الجانب الآخر، فإن لذلك عواقب هي أحمد العواقب وأفضلها، وليس للعبد أنفع من ذلك في دنياه قبل آخرته، وأكثر الخلق إنما يكونون في الجانب الآخر، ولا سيما إذا قويت الرغبة والرهبة، فهناك لا تكاد تجد أحد في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، بل يعده الناس ناقص العقل سيء الاختيار لنفسه، وربما نسبوه إلى الجنون، وذلك من مواريث أعداء الرسل فإنهم نسبوهم إلى الجنون لما كانوا في شق وجانب والناس في شق وجانب آخر.
ولكن من وطن نفسه على ذلك فإنه يحتاج إلى علم راسخ بما جاء به الرسول يكون يقينا له لا ريب عنده فيه، وإلى صبر تام على معاداة من عاداه ولومة من لامه، ولا يتم له ذلك إلا برغبة قوية في الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا وآثر عنده منها، ويكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وليس شيء أصعب على الإنسان من ذلك في مبادئ الأمر، فإن نفسه وهواه وطبعه وشيطانه وإخوانه ومعاشريه من ذلك الجانب يدعونه إلى العاجل، فإذا خالفهم تصدوا لحربه، فإن صبر وثبت جاءه العون من الله وصار ذلك الصعب سهلًا، وذلك الألم لذة، فإن الرب شكور، فلا بد أن يذيقه لذة تحيزه إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويريه كرامة ذلك فيشتد به سرورًا وغبطة ويبتهج، ويبقى من كان محارب له -على ذلك- بين هائب له ومسالم ومساعد وتارك، ويقوى جنده ويضعف جند العدو.
ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ولو كنت وحدك، فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك.
وأعظم الأعوان على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع، فمتى تجردت منهما هان عليك التحيز لله ورسوله، وكنت دائمًا في الجانب الذي فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومتى قام الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر ولا تحث نفسك به، فإن قلت: فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع والفزع؟
قلت: بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، وأن الأمر كله لله ليس لأحد مع الله شيء.
خذها من ابن القيم: إذا استغنى الناس بالدنيا فاستغن انت بالله، وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله، وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله، وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة، قال بعض الزهاد ما علمت أحدًا سمع بالجنة والنار تأتي عليه ساعة لا يطيع الله فيها بذكر أو صلاة أو قراءة أو إحسان فقال له رجل: إني أكثر البكاء، فقال: إنك وإن تضحك وأنت مقر بخطيئتك خير من أن تبكي وأنت مدل بعملك، وأن المدل لا يصعد عمله فوق رأسه، فقال: أوصني، فقال: دع الدنيا لأهلها كما تركوا هم الآخرة لأهلها، وكن في الدنيا كالنحلة إن أكلت أكلت طيبًا، وإن أطعمت أطعمت طيبًا، وإن سقطت على شيء لم تكسره ولم تخدشه (16).
ويقول: أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرًا أو تصنع إليه معروفًا، فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك، فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر، وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه، فإنه عون لك على مضرتك ونقصك (17).
أراك قد تعبت وآثرت القعود، تستوحش دربك بعدما تغيّرت الوجوه، وتفرّق عنك الأهل والصّحب، جالسًا في عتمة آلام تخنق فيك العَبْرة والعبارة، فلم تعد تعلم أين السبيل إلى الوصول؟!
تغيّرت مصطلحات القوم، وتبدّلت ثياب البلاد وطبائع أهلها، فأنت ما زلت هناك ولم ترحل، نفس البيوت والجدران، وذات الوجوه، وأصحابها.. فماذا حصل؟
تلك نفثات مصدور يعمل في سلك الدّعوة إلى ﷲ عندما كانت الأرض خضراء خصبة بحلقات الذكر والعلم وتلاوة القرآن، فصارت صحراء مقفرة بعد اعتقال علمائها وخيرة أبنائها، ذاك حال من ثبت منهم واشترى رضا ﷲ والدار الآخرة؛ وغيرهم نكص على عقبيه، وآثر الركون إلى أهل الباطل، فبدّل في الرأي وتلون في الفتوى، ليحدّث القوم بغير ما سطّر أهل العلم القيوم من السلف الصالح.. فخسر الدُّنيا وباع الآخرة..
عن خالد بن سعد قال: دخل أبو مسعود على حذيفة فقال: اعهد إلي، قال: أولم يأتك اليقين؟ قال: بلى فإن الضلالة حق الضلالة أن تعرف ما كنت تنكر، وتنكر ما كنت تعرف، وإياك والتلون في دين الله؛ فإن دين الله واحد (18).
ويا لها من زفرات حزنٍ من قلوب أهل الحق لما آلت إليه الأمور، فاستغاثوا بمولاهم العدل باكية مُقلهم، منكسرة قلوبهم، منفطرة أفئدتهم، يشكون حسرة الروح وأوجاع الضمير.. يسألون مولاهم فرجًا جميلًا.
هنا أعيذك أخيّاه من شرّ نفسك وشرّ الشيطان أن يسلب منكَ روح الثقة ويجعلك تركن للعجز، فتنتقل من الإيمان إلى الفتنة والتّيه، فقم الآن واستقم كما أمرك ﷲ، ولا تتبع أهواءهم، فما اليوم زمان القاعدين، واسمع قولي هذا، ففيه إجابة السؤال إليك، وبوصلة الطريق..
انفض غبار اليأس عن كاهليك، فما نُصرت أمة بكثرة، ولا علا باطل على حق أبدًا، ولو بدا لك من علوّ.. فقم واستقم كما أمرت..
كن مع الحق ولو كنت وحيدًا في وقوفك أمام جحافل الباطل وشياطين الإنس والجان، فأنت قوي بإيمانك، والأعلى بإسلامك وقرآنك وصحيح عقيدتك، فإنما الحق يعلو على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.. وتذكر قول ابن مسعود رضي ﷲ عنه: الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك.
قم واستقم كما أمرت، ولا تيأس، وتسلّح بالصحيح من الخبر، وبمنهج الإنصاف مع خصمك، ولا تتبع هواك فتشقى، ونقل القول بلا دليل ولا أصل يعود عليه، فلا ينتصر حق بكذب أو بغدر.. ولا يعلو بزيف مضلل أو أحلام واهم.
قم واستقم كما أمرت، ولا تسقط في فِخاخ الجدال المذموم مع مسوخ القوم وسَقْط المتاع، فتنجرف مفرداتك الأنيقة خلف بذاءة أقوالهم وسفاهة أفعالهم، فإنما لسان المؤمن دليل إيمانه، وانعكاس بيئته وتربيته، فخاطب القوم باللين لعله يتذكر أو يخشى، وبأخلاق النبوّة وحَسِن القول، فإنما بعث فينا محمد صلى الله عليه وسلم متمّمًا للأخلاق.. فكم من حُجّة صادقة ضاعت بغضْبة طائشة.. أو كلمة تائهة يتكلمها أحدكم لا يلقي لها بالًا فتَفتِن بها أمة، وتهوي بك في النار سبعين خريفًا.
قم واستقم كما أمرت، ولا تتبع سُبُل الشيطان فتردى، ولا تستوحش الطريق ولو قل السالكون فيه وابتعد النصير عنك.. وإن اشتدّت بك عتمة الليل أَنِرْهُ بنور يقينك بأن ﷲ لا يضيع أجر من أحسن عملًا، وأن ﷲ موهن كيد الكافرين، ولا تغرّنّك سُبُل الباطل وزخرفها فهي فتنة المؤمن فاحذر!؛ وتذكّر قول الفُضيل بن عياض: عليك بطريق الهدى وإن قل السالكون، واجتنب طريق الردى وإن كثر الهالكون (19).
قم فاستقم كما أمرت، ولا تفقد البوصلة في صحراء الفتن، فتتيه دروبك، وتضل الطريق، وتزوّد في رحلتك مع الحق بآثار السّلف الصالح الذين ثبتوا مع رسول ﷲ صلى الله عليه وسلم، إذ أخرجه قومه وآذاه أبناء العم والقبيلة وقد كان فيهم صادقًا وأمينًا.. وتزوّدوا بالتقوى فهو خير الزاد، وإلى المعاد، وعليه التكلان، وإياك أن تُخدع بزخرف القول غرورًا، فليس كل ما يلمع ذهبًا.. وليس كل فصيح لسانٍ عليم، فإنما أخوف ما خافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمّته من بعده كل منافق عليم اللسان، فانتبه!؛ ولك في قول الإمام الأوزاعي عُدّة ومآل فقال: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنتَ على طريق مستقيم (20).
قم واستقم كما أمرت، فلا تخدعنّك العناوين البرّاقة، وإن تشابهت عليك الأمور، وكلٌّ يدّعي وصلا بالحق كما ادّعى من قبلُ غيْرَه وصلًا بليلى، فابحث عن أصدقها قُربا من قول الحق سبحانه وصحيح ما نقل عن نبيّه صلى الله عليه وسلم، فلا قرابة للدم هي الدليل، ولا تربة أرض هي المسار، ولا يغرنّك معسول القول من أحدهم ولو تغرغرت روحه في التباكي، واختنقت أنفاسه بالخشوع، ولا بفصيح العبارة فإنما يتّبع الشعراء الغاوون، ولعل بعضكم ألْحَنُ بحجّته من الآخر، فيبدّل الباطل فيجعله حقًّا؛ فتقع في كل واد هامت به نفوسهم فتشقى، وإن أردت الاستدلال إلى السبيل فعليك بقول السعدي رحمه ﷲ: الواجب أن يستدل على الحق والباطل، بالطرق الموصلة إليه.
ولك بوصية علي بن أبي طالب رضي ﷲ عنه لكُميل النخعي العبرة والعظة حين قال: يا كميل بن زياد القلوب أوعية فخيرها أوعاها، واحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجئوا إلى ركن وثيق.
العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل، والمال تنقصه النفقة، ومحبة العالم دين يدان بها، العلم يكسب العالم الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد موته، وصنيعة المال تزول بزواله. مات خزان الأموال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجود (21).
قم واستقم كما أمرت، ولا تخف من كثرة الخصوم، وشدة العَزْمة فيهم، وبأس الهجمة لسواعدهم وأدواتهم، فليس الحق بالجمهرة من الناس، وكثرة السائرين تحت لوائه، ولا بقسوة العتاد وكثرته، فلن تُغٰني عنكم غلبة الفئة فيكُم ولو كثرت، ولم تُنصر الأمة يومًا بالعدد، وأن ﷲ مع المؤمنين فتأمّل!؛ وأوصيك بوصية سعيد بن عامر للفاروق عمر: قال له سعيد: أوصيك أن تخشى الله في الناس، ولا تخشى الناس في الله، ولا يختلف قولك ولا فعلك، فإن خير القول ما تبعه الفعل، ولا تقض في أمر واحد بقضائين يختلف عليك أمرك وتنزع عن الحق، وخذ بالأمر ذي الحجة.. بالحق تفلح، ويعنك الله على.. ويصلح رعيتك على يديك، وأقم وجهك وقضاءك لمن ولاك الله أمره من بعيد المسلمين وقريبهم، وأحب لهم ما تحب لنفسك وأهل بيتك، واكره لهم ما تكره لنفسك ولأهل بيتك، وخض الغمرات إلى الحق حيث علمت، ولا تتق في الله لومة لائم، قال عمر: ومن يستطيع ذلك يا أبا سعيد؟ فقال سعيد: مثلك من ولاه الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يجعل بينه وبينه أحدًا، قال عمر: الله المستعان (22).
قم واستقم كما أمرت، ولا ترْكن للراحة فإن الراغب بالجنة يعلم أنّها السّلعة الغالية، ولا تُشترى إلا بثمين الأوقات والأعمار، {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26]، فاليوم ميدان السباق الحقيقي هو ميدان خدمة دين ﷲ ونصرة قضايا الأمة العادلة، وعمل الخيرات، وجَبْرِ العَثَرَات لمن تكسّرت بهم قواربُ الأيّام في بحر الدُّنيا.. لا ميدان التكسّب خلف نعيم زائل.. والتكسّب باسم الإسلام وأهله، أو مماراة أهل الباطل على حساب الحق، وتزيين الضلال في عيون أبناء الأمة.
فاجعل ﷲ وحده همّك فمن جعله كذلك كفاه همومه وقَرَّبه إليه، قال ابن القيم رحمه ﷲ: إذا أصبح العبد وأمسى وليس همّه إلا ﷲ وحده تحمل ﷲ سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمّه، وفرّغ قلبَه لمحبّته، ولسانه لذكره، وجوارِحه لطاعته.. وإن أصبح وأمسى والدنيا همّه حمله ﷲ هُمُومَها وغُمُومَها وأنكادِها، ووكَله إلى نفسِه، فَشَغَل قلبَه عن محبّته بمحبة الخلْق، ولسانَه عن ذِكره بذِكرِهم، وجوارحَه عن طاعته بخدمتِهم وأشغالهم؛ فهو يكْدح كدح الوحش في خدمة غيره؛ ويعصر أضلاعه في نفع غيره (23).
قُم واستقم كما أُمرت، ولا تكن أسير التعصّب المذموم والعناوين البرّاقة، إنما الوصول إلى ﷲ باتباع ما أمر واجتناب ما نهى عنه، لا بقول شيخ تتبدل أقواله، ولا براية حزب تتبدل تحالفاته وغاياته مع تبدّل الأزمان وتغير قادته، ولا بمكاسب دنيوية تنتهي آثارها بعد وقتها.. وكن مع الحق وحسب!؛ وقد قال الإمام نعيم بن حماد: إن الجماعة ما وافق طاعة ﷲ عز وجل، وإذا فَسُدَت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تَفْسُد، وإن كنت وحدَك فإنك أنتَ الجماعة، واجعل مقامك الخوف من ﷲ وحده، ونهي النفس عن اتباع الهوى، ولا تزل منك قدم بعد ثُبُوتِها، فقد قال عبد ﷲ بن مسعود رضي ﷲ عنه: أنتم في زمانٍ يقودُ الحقّ الهوى، وسيأتي زمان يقود الهوى الحق.. فنعوذ بالله من ذلك الزمان (24).
قُم واستقم كما أُمرت، ولا تَتّبع شعار الوطنية الجوفاء أو القومية البلْهاء التي تزيد الأمة فُرقة وشتاتًا، وارفع راية الأمة الواحدة لتصبح رُكنًا في ذاتك وأفكارك، فترى الكون من مِنْظار دائرة الإسلامِ وأهله، الذي انضوى وجمع تحت لوائه الشرق والغرب، والعرب والعجم، والأبيض والأسود والأحمر، فأصبحنا بفيض رحمته ونعمته سبحانه إخوانًا.
واعلم أن الوطن ليس ترابًا رسمه قلم مستعمر، فصنع له حدودًا جغرافية، وخرقة قماش صُبِغت بألوان الفُرقة والأسى، فتقدّسها فوق اعتبار أخوة الدين وأحكامه، بل الوطن الحق.. هو تِلْكُم الخارطة الأنيقة من المبادئ والقيم، تُسكِن فيه أمثاله وأشباهه، فكان بالأمثال أجمل، فلا القومية ولا القبلية ولا الحزبية صنعت لنا مجدًا كما صنعه الإسلام، لو كنتم تعلمون.
أيها المتعب في هذا الدرب، إن بقيتَ في أحزانك ما سقى أحدٌ شجرة الإيمان في قلوب الخلق فتجفّ عَبَرات الشوق فيهم إلى ﷲ، فقم لما استخلفك ﷲ عليه في أرضِه، وعليك بميراث النبوة الخالد، فلم يورّث من بعده صلى الله عليه وسلم دينارًا ولا درهمًا، بل دينًا قِيَمًا فكن للمتقين إمامًا، وخُذْها وصية أهل السّلف ما نقله ابن القيم: عليك بطريق الحق، ولا تستوحش لقلة السالكين، وإياك وطريق الباطل، ولا تغتر بكثرة الهالكين، وكلما استوحشت في تفرّدك فانظر إلى الرفيق السابق، واحرص على اللحاق بهم، وغُض الطرف عمن سواهم، فإنهم لن يُغْنُوا عنك من ﷲ شيئًا، وإذا صاحوا بك في طريق سيْرك فلا تلتفت إليهم، فإنك متى التفتّ إليهم أخذوك وعاقوك (25)،(26).
------------
(1) فتح المنعم شرح صحيح مسلم (7/ 385).
(2) أخرجه الترمذي (2629).
(3) فيض القدير (2/ 321).
(4) سنن الترمذي (2167).
(5) طريق الهداية (ص: 69).
(6) إعلام الموقعين (3/ 308).
(7) أخرجه الترمذي في سننه (4/ 467).
(8) الاعتصام (1/ 83).
(9) شرف أصحاب الحديث (ص: 26).
(10) إعلام الموقعين (3/ 39).
(11) إعلام الموقعين (3/ 308).
(12) إغاثة اللهفان (1/ 69).
(13) إغاثة اللهفان (ص: 74).
(14) أنت الجماعة ولو كنت وحدك/ طريق الإسلام.
(15) شرح كتاب الإبانة من أصول الديانة (10/ 15، بترقيم الشاملة آليًا.
(16) الفوائد لابن القيم (ص: 118).
(17) الفوائد لابن القيم (ص: 192).
(18) جامع بيان العلم وفضله (2/ 933).
(19) حقيقة السنة والبدعة (ص: 127).
(20) الآداب الشرعية والمنح المرعية (2/ 65).
(21) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 80).
(22) الزهد لأبي داود (ص: 309).
(23) الفوائد لابن القيم (ص: 84).
(24) تفسير القرطبي (19/ 208).
(25) التفسير القيم (ص: 25)
(26) لا تستوحش الطريق ولو قل فيه السالكون ... إحسان الفقيه.