العنف الدعوي
قضية الرفق والعنف قضية عظيمة، وكذلك التحدث عن الرفق وبيان أثر العنف من الأمور المهمة التي يجب أن يعلمها كل مسلم، وعليه أن يعلم أن أعداء الإسلام نسبوا الإسلام إلى العنف، والإسلام منه براء، وأن الجهاد إنما شُرِع لإزالة العوائق والحواجز لإيصال كلمة الحق للنفوس، وما شُرِع الجهاد سَفْكًا للدماء والإضرار بالآخرين، والصحابة لَمَّا فتحوا البلاد كانوا يعرضون على أعدائهم الدخول في الإسلام أو الجزية، فالإسلام لم يأت لسفك الدماء، وإنما جاء لإقامة العدل وإرساء دعائم الحق.
والعنف ما هو إلا تعبير عن القوة الجسدية، التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة، أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى.
فالعنف: كل تصرفٍ يؤدي إلى إلحاق الأذى بالآخرين، وقد يكون هذا الأذى جسميًّا، أو نفسيًّا؛ كالسخرية والاستهزاء، وفرض الآراء بالقوة، وإسماع الكلمات البذيئة، وجميعها أشكال مختلفة لظاهرة العنف(1).
نشأة العنف:
ظهر العنف منذ وجود آدم صلى الله عليه وسلم وابنيه هابيل وقابيل على الأرض؛ حيث قتل قابيلُ أخاه هابيل حسدًا وظلمًا.
قال سبحانه: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (37) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (38) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (39) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (40) فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (41)} [المائدة:27-31].
قال الإمام ابن كثير: «يقول تعالى مبينًا وَخِيمَ عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم لصُلْبه، وهما هابيل وقابيل، كيف عدا أحدهما على الآخر، فقتله بغيًا عليه وحسدًا له، فيما وهبه الله من النعمة، وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى الجنة، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة»(2).
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تُقتَل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها [نصيب من إثم قتلها]؛ لأنه أول مَن سن القتل»(3).
لقد شهدت البشرية أحداثًا كثيرةً تميزت بالعنف؛ فالعنف سمة من سمات الطبيعة البشرية، وعلى مدى التاريخ نجد شواهد تدل على لجوء الإنسان إلى العنف استجابة لانفعالاته من الغضب، وتعتبر محاولة التسلط من أجل السيطرة على الآخرين هي المصدر الأساسي للعنف في تاريخ البشرية، سواء تسلط الفرد على الآخر، أو تسلط طبقةٍ على مجتمع، وكذلك تسلط مجتمعٍ على مجتمعٍ آخر(4).
أسباب العنف ودوافعه:
1- الجهل بعواقبه وآثاره، فربما لا يدرك الإنسان ما يترتب على ذلك من الضرر في الدين والدنيا.
2- قلة الصبر والتسرع والعجلة في الأمور، فالواجب على المسلم أن يصبر ولا يضره أن يتثبت في الأمر حتي يتبين خطؤه من صوابه.
3- تلبيس الشيطان، فيوهمه أن العنف دال على الغيرة على المحارم، ويحصل هذا لبعض مَن ينكرون المنكر، فتراهم ينكرون بعنف وغلظة وشدة، ويرون أن هذا خير لهم، وأنفع للمنصوح المنكر عليه، وليس هذا بصحيح، وهذا لا يدل على عظيم إيمانهم بالله تبارك وتعالى.
4- الفساد العقدي، كما عند الخوارج وغيرهم، فإنهم لما فسدت عقائدهم في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل منهم ما حصل من العنف، فهم من أوائل مَن أحدث العنف في تاريخ الأمة الإسلامية.
5- التأثر بالأصحاب والأقران ومفارقة القرى والأمصار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»(5)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا»(6)، هذه بعض أسباب العنف ودوافعه.
إن للعقيدة الإيمانية أثرها في منع انتشار سلوكيات العنف؛ وذلك لأن العقيدة هي أساس بناء الإنسان المسلم؛ فالعقيدة الصحيحة هي الأساس الذي بدأ به الإسلام في تربية المسلم على السلوكيات الرشيدة التي تتسم بالرفق والرحمة، وتعتبر العقيدة قاعدة بناء الإنسان المسلم في كل مكان وزمان(7).
والرفق وسيلة راقية، وسيلة إيمانية، وسيلة إنسانية، وسيلة ترفع الإنسان إلى مستوى الكمال، عن عائشة رضي الله عنها أن يهودَ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام (أي الموت) عليكم، فقالت عائشة: عليكم، ولعنكم الله، وغضب الله عليكم، قال: «مهلًا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش»، قالت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «أولم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم، فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم فيَّ»(8).
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه»(9).
وعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه»(10).
عن أبي هريرة أن أعرابيًّا بال في المسجد، فثار إليه الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وأهريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماءٍ، أو سَجْلًا من ماءٍ؛ فإنما بُعِثتم ميسِّرين، ولم تبعثوا معسِّرين»(11).
عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلقٍ حسنٍ، وإن الله لَيُبغض الفاحش البذيء»(12).
عن عياض بن حمارٍ المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطانٍ مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلمٍ، وعفيف متعفف ذو عيالٍ»(13).
وعن أبي هريرة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن فلانة تقوم الليل وتصوم النهار، وتفعل، وتصدق، وتؤذي جيرانها بلسانها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا خير فيها، هي من أهل النار»، قالوا: وفلانة تصلي المكتوبة، وتصدق بأثوارٍ [أي بقطعٍ من اللبن المجفف]، ولا تؤذي أحدًا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي من أهل الجنة»(14).
قال سبحانه لموسى وهارون عندما بعثهما إلى فرعون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)} [طه:43-44].
الرفق وصف لمجموعة هامة من وسائل حياتنا؛ المهارات، الملكات، أدوات التواصل الاجتماعي، التعبير عن الذات، التعبير عن النفس، التعبير عن الأسرة، عن المنشأ أو الأصل، التعبير عن المجتمع، الحقيقة أن الرفق يتداخل في كافة أفعال وردود أفعال الإنسان.
البطولة في هذا المنصب أن يجمع بين الشدة واللين، رغبًا ورهبًا، وصف الله الأنبياء أن دعوتهم أساسها الرغب والرهب، يخاف ويحب، حب فقط لا يصلح، خوف فقط لا يصلح.
لا شك أن خُلقًا واحدًا لا يكفي لإدارة الحياة، فلا بد من تكامل الأخلاق لتؤدي دورها بفعالية.
هناك موقف يحتاج إلى قوة، وموقف يحتاج إلى لين، هناك إنسان مفتاحه اللين، وآخر مفتاحه العنف، هناك إنسان لا يهتم لكل ما يقال لكن عمله سيء، ولا يرتدع إلا عندما يرى قوة تخيفه، فالبطولة أن تأخذ الموقف المناسب في الوقت المناسب.
فمتى كان بوسع الداعي إلى الله استعمال الرفق والعدول عن الشدة فعل؛ فإن الرفق لا يأتي إلا بخير، إلا أن مبدأ الرفق واللين في الدعوة ليس قاعدة مضطردة لا يُخرج عنها بحال؛ بل قد وجدت بعض صور الشدة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن دون خروج عن حد الأدب والخلق الحسن؛ إذ لا علاقة بحال بين استعمال الشدة، عند الحاجة إليها، وبين استعمال الكلام الفاحش والألفاظ المبتذلة والسوقية دون حاجة شرعية تدعو إلى ذلك.
فقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أبي السنابل لما قال لسُبَيْعَة بنت الحارث، وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بخمس عشرة ليلة: «كأنك تحدثين نفسكِ بالباءة؟ ما لك ذلك حتى ينقضي أبعد الأجلين»، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قال أبو السنابل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذب أبو السنابل، إذا أتاك أحد ترضينه فأتِينِي به»(15)، وهذا تغليظ من النبي صلى الله عليه وسلم على أبي السنابل رضي الله عنه الذي أفتى بهذا دون بينة.
وقال صلى الله عليه وسلم لمن قال له: ما شاء الله وشئت: «أجعلتني والله عدلًا؛ بل ما شاء الله وحده»(16)، وقال لثالث: «بئس الخطيب أنت» لمن خطب عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: «بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوي»(17).
وهذه الصور التي استعمل النبي صلى الله عليه وسلم فيها الشدة أحيانًا، سواء المذكورة ها هنا أو غيرها، كانت تتعلق بحق الله سبحانه وحرماته أو شريعته، مِن تَقوُّل بغير علم أو غلو في الدين ونحو ذلك، مع أمن المفسدة في استعمال الشدة في هذه الوقائع، أما إذا كان الأمر متعلقًا بشخصه الشريف صلى الله عليه وسلم؛ فكان أبعد الناس عن الانتقام لنفسه كما قالت عائشة رضي الله عنها: «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم بها لله»(18).
فاستعمال الشدة في الدعوة وفي الإنكار على المسيء والخاطئ تدور على المصلحة وجودًا وعدمًا، فإن كانت الشدة، إن احتيج إليها، تؤدي إلى زيادة الابتعاد عن الالتزام بالحق واتباعه لم يكن فيها مصلحة، فالنبي صلى الله عليه وسلم هجر كعبًا بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم؛ لما في ذلك من المصلحة، وأما من عُلم مِن حاله أو غلب على الظن أن هجرته ومقاطعته لا تنفعه؛ بل ربما ضرته فلا تشرع حينئذٍ هجرته، والله عز وجل نهى عن سب آلهة المشركين، وإن كان في ذلك مصلحة إظهار عجزها وبيان عوارها، لما كانت تؤدي لاجتراء المشركين على سب الله تبارك وتعالى(19).
ومن هذا الباب قول النبي صلى الله عليه وسلم لقريش إذ اشتدوا عليه: «لقد جئتكم بالذبح»(20)، فكان لكلمته عليهم أثرًا عظيمًا في انزجارهم وكفهم عنه، في حين أنه الذي قال صلى الله عليه وسلم لمن استأذن عليه: «ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، أو ابن العشيرة»(21)، فلما دخل عليه ألان له القول وانبسط إليه، وهذا أيضًا للمصلحة شفقة على الرجل لعدم نفرته ومزيد غوايته.
قال ابن القيم رحمه الله في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ} [النحل:125]: «جعل سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق؛ فالمستجيب القابل الذكي الذي لا يعانِد الحق ولا يأباه يُدعى بطريق الحكمة، والقابل الذي عنده نوع غفلة وتأخر يُدعى بالموعظة الحسنة، وهي الأمر والنهي المقرون بالرغبة والرهبة، والمعاند الجاحد يجادل بالتي هي أحسن، هذا هو الصحيح في معنى هذه الآية»(22).
والحكمة ليست هي الرفق دائمًا؛ فلربما كانت الشدة والحزم أحيانًا هي الحكمة التي ينبغي أن نتعامل بها، لكن بميزان المصلحة الشرعية في ذلك، فينبغي إذن على الداعي إلى الله تعالى؛ بل على كل مسلم، أن يضع اللين في محله والشدة في محلها، وإلا وقع فساد عظيم وشر مستطير.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى
قال تعالى: {يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التربة:73]، أي يا أيها الرسول النبي قاتل الكفار بالسيف، والمنافقين بالحجة والبرهان وإقامة الحدود عليهم إذا ارتكبوها، وشدّد عليهم في الدعوة إلى الإسلام في الدنيا، واستعمل العنف والقسوة والشدة مع الفريقين، فيما تجاهدهما به من القتال والمحاجة والوعيد؛ لذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بطرد بعض المنافقين من الجامع قائلًا: اخرج يا فلان، اخرج يا فلان، وهذا عذابهم في الدنيا.
لا يخفى أن الآيات الداعية إلى العفو وعدم ردّ الإساءة بمثلها هي في نفس الوقت تدعو إلى اللاعنف.
قال تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237]، وقال سبحانه: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [النساء:149].
وقال عز وجل: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ} [النور:22]، وقال تعالى مخاطبًا رسوله الأكرم بأن يعفو عن المسلمين: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159].
وقال سبحانه: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الُمحْسِنِينَ} [المائدة:13]، وقال تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109].
وقال سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:178]، وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة:219]، وقال سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
واعلم أن فرعون قال لموسى: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا} [الإسراء:101]، فعارضه موسى وقال له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، قال الفراء: «المثبور الملعون المحبوس عن الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا؛ أي: ما منعك منه وما صرفك»، وقال أبو زيد: «يقال ثبرت فلانًا عن الشيء أثبره أي رددته عنه»، وقال مجاهد وقتادة: «هالكًا»، وقال الزجاج: «يقال ثبر الرجل فهو مثبور إذا هلك»، والثبور الهلاك، ومن معروف الكلام: فلان يدعو بالويل والثبور عند مصيبة تناله، وقال تعالى: {دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)} [الفرقان:13-14]، واعلم أن فرعون لما وصف موسى بكونه مسحورًا أجابه موسى بأنك مثبور، يعني هذه الآيات ظاهرة، وهذه المعجزات قاهرة، ولا يرتاب العاقل في أنها من عند الله، وفي أنه تعالى إنما أظهرها لأجل تصديقي وأنت تنكرها، فلا يحملك على هذا الإنكار إلا الحسد والعناد والغي والجهل وحب الدنيا، ومن كان كذلك كانت عاقبة الدمار والثبور(23).
{وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا (27)} [نوح:26-27].
فقد ألهم قلب نوح أن الأرض تحتاج إلى غسل يطهر وجهها من الشر العارم الخالص، الذي انتهى إليه القوم في زمانه، وأحيانًا لا يصلح أي علاج آخر غير تطهير وجه الأرض من الظالمين؛ لأن وجودهم يجمد الدعوة إلى الله نهائيًا، ويحول بينها وبين الوصول إلى قلوب الآخرين، وهي الحقيقة التي عبر عنها نوح، وهو يطلب الإجهاز على أولئك الظالمين إجهازًا كاملًا لا يبقي منهم ديارًا؛ أي صاحب ديار، فقال: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ}، ولفظة {عِبادَكَ} توحي بأنهم المؤمنون، فهي تجيء في السياق القرآني في مثل هذا الموضع بهذا المعنى.
وذلك بفتنتهم عن عقيدتهم بالقوة الغاشمة، أو بفتنة قلوبهم بما ترى من سلطان الظالمين وتركهم من الله في عافية! ثم إنهم يوجدون بيئة وجوًا يولد فيها الكفار، وتوحي بالكفر من الناشئة الصغار، بما يطبعهم به الوسط الذي ينشئه الظالمون، فلا توجد فرصة لترى الناشئة النور، من خلال ما تغمرهم به البيئة الضالة التي صنعوها.
وهي الحقيقة التي أشار إليها قول النبي الكريم نوح عليه السلام، وحكاها عنه القرآن: {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فاجِرًا كَفَّارًا}، فهم يطلقون في جو الجماعة أباطيل وأضاليل، وينشئون عادات وأوضاعًا ونظمًا وتقاليد، ينشأ معها المواليد فجارًا كفارًا، كما قال نوح.
من أجل هذا دعا نوح عليه السلام دعوته الماحقة الساحقة، ومن أجل هذا استجاب الله دعوته، فغسل وجه الأرض من ذلك الشر، وجرف العواثير التي لا تجرفها إلا قوة الجبار القدير.
وإلى جانب الدعوة الساحقة الماحقة التي جعلها خاتمة دعائه وهو يقول: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبارًا}؛ أي هلاكًا ودمارًا(24).
بعث النبي صلى الله عليه وسلم جمعًا من خيار الصحابة، زهاء سبعين، إلى بني عامر ليعلموهم القرآن، فلما وصلوا إلى موضع يقال له بئر معونة، ذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم، فجزع من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم جزعًا شديدًا، ودعا على الكفار في القنوت أربعين يومًا، يقول بعدما يرفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح: «اللهم العن بني لحيان، والعن رعلًا وذكوان، اللهم أنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» حتى أنزل الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128](25).
إن إشكالية العنف في الدعوة إلى الله إشكالية متجذرة ليست بجديدة، هي موجودة منذ الرعيل الأول، غير أن الفرق بين الأمس واليوم، أن الرعيل الأول كان زمام الدعوة إلى الله فيه لدى العلماء الربانيين المؤهلين، وكان ولاة الأمر إما أن يكونوا هم من العلماء الدعاة أو ممن يرجعون إلى العلماء الدعاة في الأمور المتعلقة بالدين، لما كان الأمر كذلك، مهما تكرر ظهور من أرادوا الأخذ بزمام العنف في ميدان الدعوة إلى الله كان الولاة والعلماء يجتمعون على الأخذ على أيدي أولئك، وعلى منعهم مما يفعلونه، إذ خاطب الله عز وجل النبي عليه الصلاة والسلام فجعل التأصيل؛ أي الأصل في الدعوة إلى الله، يرجع إلى اللين لا إلى العنف.
مظاهر العنف الدعوي:
1- طريقة الخطاب الذي يمتلئ بالحكم على الناس:
من الإشكالات، التي نعانيها اليوم في ميدان الدعوة، أن البعض قد يأخذه حرص على هداية الناس مأخذ الدفع بالناس نحو ما يريد، ويتمثل العنف إما بطريقة الخطاب الذي يمتلئ بالحكم على الناس (الفساق، الفجار، الداعرات، العاهرات...)، هذه الألقاب التي للأسف أصبحت تتردد بكثرة على منابرنا، وكان النبي عليه الصلاة والسلام لم يعهد عنه أن يكون منبره على هذا النحو من الخطاب.
فحمل الناس بالدفع على هذا النحو لا يترتب عليه هداية للخلق، والداعي إلى الله عز وجل لا يرقب رضا الحاكم ولا رضا المحكوم، وإنما يطلب رضوان الله عز وجل، فإذا استشعر الذي يصعد إلى المنبر أن مهمته من على المنبر جمع قلوب الخلق على الخالق لم يلتفت للبحث عن الألفاظ الطنانة، التي تشعر الناس بالهيجان؛ وبالتالي الثناء على هذا الداعي إلى الله.
2- التركيز على الترهيب مع ترك الترغيب والتشويق :
التركيز على الترهيب مع ترك الترغيب والتشويق يبني نفسية المتدين الصاخب، الذي يصبح الأصل في تعامله، مع كل ما يحيط به، الرفض والتهديد، فإذا تطور هذا المتدين الساخط على أيدي بعض الجماعات المتطرفة تحول إلى مادة جاهزة للتفجير.
3- العنف اليدوي:
الجزء الآخر، وهو العنف اليدوي، المستخدم فيه اليد أو السلاح، وهو ناتج عن جهل ضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا صار الخطاب الإسلامي يتوجه إليه بِحَثِّه على التغيير بالقوة كان هذا الأمر ما ينتج عنه أولًا: نفرة عن التدين في مجتمعنا، وهذه مسألة خطيرة، فاستخدام اليد في تغيير المنكر على غير النحو الصحيح أورث ما يحصل اليوم من تكسير، وحرق، وتفجير.
4- الابتعاد عن التداخل بين آداب الدعوة وآداب الجهاد :
عند بعض الدعاة تتداخل آداب الدعوة وآداب الجهاد، فالله يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73].
هذه في الحرب لا في الدعوة، بينما في الدعوة: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
هذه الآية أخلاق الدعوة، وتلك الآية أخلاق الجهاد، الجهاد له ميدان، والدعوة لها ميدان، فإذا تداخلت هذه الأوراق وقعنا فيما نحن فيه.
فالواجب على الدعاة إلى الله أن يعتنوا بهذا الأسلوب الذي رسمه الله لعباده وأمرهم به، وأن يحذروا ما يخالفه، هكذا ينبغي للدعاة أن يتكلموا بالحق ويصدعوا به، ويصبروا على ذلك، لكن بالأسلوب الحسن، بالعلم والجدال بالتي هي أحسن، لا بالعنف والشدة، ولا بالتعرض لفلان وفلان، ولكن على الداعي أن يبين الحق ويدعو إليه بأدلته، ويبين الباطل ويدعو إلى تركه بأدلته، يريد ثواب الله والسعادة لا رياءً ولا سمعة؛ بل يريد وجه الله والدار الآخرة(26).
لقد فهم أهل الأهواء والبدع مصطلح الرفق والبعد عن العنف فَهْمًا غير صحيح، فإذا تكلم الناصحون من أهل السنة وحذروا الناس منهم اعتبروا ذلك من باب الغيبة وقالوا: لا تغتابوا المسلمين، ولا تشددوا عليهم، إياكم والعنف في معاملة المسلمين، لماذا تحكمون على أولئك أنهم مبتدعة؟! كلنا مسلمون وليس بيننا مبتدع، كما أن بعض الناس يقول: لا ينبغي أن نصف الكفار بأنهم كفار، وقد قال الله عز وجل في كتابه: {قُلْ يا أيُّها الكافِرُون (1) لا أعْبُدُ ما تعْبُدُون (2)} [الكافرون:1–2].
ينبغي أن تُبَيَّن الأحكام الشرعية، ويُبَيَّن السُّنِّي من المبتدع، وتُبَيَّن السنة من البدعة بالرفق، وإذا سَمَّى الناسُ تلك النصيحة والبيان والنصح لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولطريقة أهل السنة والجماعة شدةً وعنفًا فهذا شأنهم، ولكن يبقى أنه من النصح وإنكار المنكر والغيرة على دين الله تبارك وتعالى.
من اللين غير المحمود ما يفعله أهل الأهواء والبدع، فإنهم إذا عرفوا أن عوام أهل السنة يَنْفرون منهم تراهم يتعاملون معهم برفق عظيم، ويُحْسِنون في معاملتهم، فيُفْتَن كثير من أهل السنة، وينبغي أن يَفطن أهل السنة لذلك، فإن تلك المعاملة الحسنة إذا كان وراءها مُعْتَقَدٌ مُخالف لما عليه السلف الصالح فليست محمودة، إنما يُقْتَنص بها عوام أهل السنة.
ويجب على الداعي إلى الله أن يكون رفيقًا في دعوته، بعيدًا عن العنف؛ حتى يُقْبِل الناس عليه، ويسمعوا منه، ويُصْغوا إليه، فإن كان غليظ الطبع سيئ الخلق، سريع الانفعال لم يتمكن من إيصال كلمة الحق إلى آراء الناس وعقولهم(27).
***
________________
(1) العوامل الاجتماعية المؤدية للعنف، ص7.
(2) تفسير ابن كثير (5/ 160).
(3) أخرجه البخاري (3335)، ومسلم (1677).
(4) الضغط المدرسي، ص82.
(5) أخرجه أبو داود (4833).
(6) أخرجه أحمد (18642).
(7) العوامل الاجتماعية المؤدية للعنف، ص79.
(8) أخرجه البخاري (6030)، ومسلم (2165).
(9) أخرجه مسلم (2593).
(10) أخرجه مسلم (2594).
(11) أخرجه البخاري (6128).
(12) أخرجه أبو داود (4028).
(13) أخرجه مسلم (2865).
(14) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (88).
(15) أخرجه أحمد (4273).
(16) أخرجه أحمد (1839).
(17) أخرجه مسلم (870).
(18) أخرجه البخاري (6126).
(19) صوت السلف، الدعوة إلى الله بين الرفق والشدة.
(20) أخرجه ابن حبان (6567).
(21) أخرجه البخاري (6054).
(22) مفتاح دار السعادة (1/ 153).
(23) تفسير الرازي (21/ 416).
(24) في ظلال القرآن (6/ 3717).
(25) أخرجه البخاري (4560).
(26) العنف المجتمعي، موسوعة النابلسي للعلوم الإسلامية.
(27) العنف .. عوامله وأسبابه وموقف الإسلام منه، موقع: السكينة.