logo

الدعوة بين المنهجية والشخصنة


بتاريخ : الخميس ، 1 رمضان ، 1436 الموافق 18 يونيو 2015
بقلم : تيار الاصلاح
الدعوة بين المنهجية والشخصنة

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: من كان مستنًا فليستن بمن قد مات؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة(1).

وقال أيضًا: ألا لا يقلدن رجل رجلًا دينه، فإن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإن كان مُقَلِّدًا لا محالة فَلْيُقَلِّد الميت ويترك الحي؛ فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة(2).

 

 

فتعليق الناس بالذوات الشخصية، أو بالمناهج الأرضية الوضعية طريقة غير سوية، وسنة غير مرضية، والحق الذي لا مرية فيه هو تعليق الناس بربهم، العليم بحالهم، والخبير بمآلهم، ويكون ذلك عن طريق تعليقهم بالمنهج القرآني، وبالمنهج النبوي؛ لأنهما منهجان لا يتبدلان ولا يتغيران، فهما باقيان إلى قيام الساعة، وفيهما ما يُصلِح حال العباد والبلاد.

 

ولا عصمة لمخلوق إلا من عصمه الله؛ من أنبيائه ورسله عليهم السلام، وأن الحق في اتباع المنهج الرباني، لا طريقة العبد الغوي.

 

فالتعلق بالأشخاص والتعصب لهم من الأمراض الفتاكة بالأفراد والمجتمعات، والتعلق بالأشخاص مدخل عظيم من مداخل الشرك، وتبديل الدين.

 

فهذا نبي الله عيسى عليه السلام عندما قال للحواريين: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ} كان الجواب من الحواريين: {نَحْنُ أَنصَارُ اللّهِ آمَنَّا بِاللّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:52]، ولم يقولوا: (نحن أنصارك)؛ بل قالوا: {أَنصَارُ اللّهِ}، فقد فهم الحواريون أن نصرتهم لعيسى عليه السلام ليست نصرة لذاته؛ بل لما يحمله من منهج أرسله به ربه عز وجل إليهم، فنصرتهم له هي نصرة لمنهج ربه الذي بعثه به، وليس في ذلك انتقاصًا لنبي الله عيسى عليه السلام؛ بل هذا ما يُرضيه، وترضى به نفسه، وتقر عينه؛ حيث أنه عَبَّدَ النَّاس لربهم عز وجل(3).

 

وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم, وفي عنقي صليب من ذهب, قال: فسمعته يقول: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31], قال: قلت: يا رسول الله؛ إنهم لم يكونوا يعبدونهم، قال: «أجل, ولكن يحلون لهم ما حرم الله, فيستحلونه, ويحرمون عليهم ما أحل الله, فيحرمونه, فتلك عبادتهم لهم»(4).

 

وهذا أبو بكر رضي الله عنه يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما بعد، فمن كان منكم يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمرآن:144].

 

يقول سيد قطب رحمه الله تعالى معلقًا على هذه الآية: «وكأنما أراد الله سبحانه بهذه الحادثة، وبهذه الآية، أن يفطم المسلمين عن تعلقهم الشديد بشخص النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي بينهم، وأن يصلهم مباشرة بالنبع، النبع الذي لم يفجره محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن جاء فقط ليومئ إليه، ويدعو البشر إلى فيضه المتدفق، كما أومأ إليه مَن قبله من الرسل، ودعوا القافلة إلى الارتواء منه.

 

وكأنما أراد الله سبحانه أن يأخذ بأيديهم فيصلها مباشرة بالعروة الوثقى، العروة التي لم يعقدها محمد صلى الله عليه وسلم، إنما جاء ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي وهم بها مستمسكون.

 

وكأنما أراد الله سبحانه أن يجعل ارتباط المسلمين بالإسلام مباشرة، وأن يجعل عهدهم مع الله مباشرة، وأن يجعل مسئوليتهم في هذا العهد أمام الله بلا وسيط؛ حتى يستشعروا تبعتهم المباشرة، التي لا يخليهم منها أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتل، فهم إنما بايعوا الله، وهم أمام الله مسئولون»(5).

 

أما إذا خالف الناس هذا المنهج، وبنوا دينهم على التعلق بالأشخاص والتعصب لهم، كان ذلك سببًا للضلال، والبعد عن الحق، قال الإمام أحمد: «الثقة بالأشخاص ضلال، والركون إلى الآراء ابتداع»(6).

 

وهذا يدل على أن المحبة والوفاء للمصطفى صلى الله عليه وسلم وحسن الفهم والتعلم منه؛ هو الارتباط بمنهجه، والتمسك بسنته، ورفع رايته، دون ضعف ولا خور، وهكذا فعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه في خلافته.

 

ومن هنا لا بد للداعية أن يعرف أن الارتباط بالمنهج، لا بالأشخاص، مبدأ أصيل في الدعوة، لا بد أن يلقنه للناس، ويوصله لهم من خلال كلماته وكتاباته، وأن يطبعه في نفوس المدعوين من خلال مواقفه وأحواله، وذلك يعود عليه وعلى الناس بالفائدة، ويحميهم من الزيغ والانحراف.

 

فالداعية يعرف بهذا المنهج نفسه ويقدرها قدرها، فلا يغره ثناء الناس ومبالغتهم في وصفه بما ليس فيه؛ بل يكون حذرًا من مثل هذا، بحيث لا يقبل المبالغة في الاقتداء به والمدح له، وإن رأى غلوًا فيه ردد مقولة أبي بكر رضي الله عنه: «اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون».

 

وهذا ما قصده عمر رضي الله عنه عندما قال: «لأنزعن خالدًا حتى يُعلَم أن الله إنما ينصر دينه»(7)، يعني بغير خالد.

 

إن الارتباط بالأشخاص والتعلق بهم دون ضابط وتقييد أدى إلى مشاكل كبيرة, وتراجعات أكثر في العمل الإسلامي، ومن ذلك ظهور العصبيات الدينية، والتحزبات التي تتحزب على قول عالم، أو اجتهاده، أو اختياره الفقهي، أو الدعوي, ما دعا إلى فتح الباب للشيطان لينشئ العداوة والبغضاء بين أصحاب تلك التحزبات، على الرغم من اتفاقهم على شتى الأصول وجميع المبادئ، وللأسف فإننا قد وجدنا كثيرًا من الفضلاء قد سقطوا في هذه الهوة السحيقة، وصاروا طرفًا في ذلك النزاع!

 

إن علاقة الأتباع بالداعية في بداية الطريق أشبه بعلاقة الأطفال بمن تربيهم تمامًا، وجودها الأمان من كل مكروه، وفي غيابها الضياع والتيه, فلا بد لكل مدعو من لحظة فطام، وصاحب قرار الفطام هو الداعية، الذي يحدد وقته وكيفيته، إنها لحظة صعبة عسيرة على النفس، ليست على نفس المدعو فقط؛ بل على نفس الداعية أصعب, حينما يقرر الداعية أن يتخلص من الهالة التي أحاطه أتباعه بها، أن يتخلص من سيرهم خلف ركابه يلتمسون منه رأيًا أو كلمة، يتخلص من التصديق التام لكل ما يقول، يتخلص من تقديس الأتباع لرأيه، واتهام مخالفه بالجهل أو سوء الأدب(8).

 

وعليه، فإن المنهجية الصحيحة لا تقبل أن تستهدف الدعوة، في بعض المواقع، تحرير العقائد من شرك الأموات والأوثان، ثم نضرب الذكر صفحًا عن شرك الأحياء والأوضاع والنظم المعاصرة.

 

وعليه، فلا يصح اعتبار رجل عيارًا على المنهج، وممثلًا له دون النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الصديق رضي الله عنه؛ ذلك أن المنهج معصوم، والبشر ليسوا بمعصومين، كل بني آدم خطاء(9).

 

ومن مضار هذا التعلق أنه قد يوقع المرء في الشرك دون أن يدري، ونقصد بالشرك هنا شرك المحبة، فيشرك هذا الشخص حبيبه في عبادة من أهم عبادات القلب التي تصرف لله تعالى وحده! ولذلك يحرص الشيطان على تزيينها في قلب العبد، ويلبسها لباس الأخوة في الدين والمحبة في الله، وشتان بين هذا وذاك.

 

وقد حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الإفراط في محبة الأشخاص، وندبنا إلى الوسطية والاعتدال في ذلك فقال: «أحبب حبيبك هونًا ما، عسى أن يكون بغيضك يومًا ما، وأبغض بغيضك هونًا ما، عسى أن يكون حبيبك يومًا ما»(10)، وهذا الحديث من الطب النبوي للقلوب، وهو من باب الوقاية من داء التعلق.

 

إنه مرض عضال، لقد تخلوا عن الشيخ بالمعنى الصوفي، ولكن تعلقوا بالزعيم، والقائد، والحزب، ولافتات وأسماء حلت محل الشيخ في القداسة والعصمة، فهم يحنون إلى هذا الشيخ الجديد كما يحن الفصيل إلى أمه، فتجدهم ينتظرون الكلمة والإشارة من فمه، فكل ما ينطق به صواب، ويتناقلون كلامه وخطبه وأحاديثه أينما ذهبوا وحيثما حلوا، لا شك أنك ترى عجبًا من الأمر، وتحاول أن تردهم عن هذا، ولكنهم يرجعون إليه بأساليب وأشكال أخرى، كأنهم أطفال يلوذون بأمهم، لا يستطيعون التصرف وحدهم، نعم، إنهم أطفال كبار.

 

والدواء هو التفكر فيما جنته هذه التربية العقيمة على المسلمين قديمًا وحديثًا، الدواء هو استعادة الماضي القريب، ولا أقول البعيد؛ لنرى ما جرّ هذا المرض على الشباب، من كوارث وأخطاء.

 

ولا يعني هذا عدم المتابعة والمحبة للعلماء العاملين، والدعاة المخلصين، والاستفادة من تجربتهم، واحترامهم وتوقيرهم، فهذا لا بد منه، فالحق وإن كان قويًا بذاته لكن لا بد من أشخاص يحملونه(11).

 

في غزوة أحد، عندما شاع بين الناس مقتل النبي صلى الله عليه وسلم، انقسموا إلى ثلاثة أقسام، فمنهم من أمعن في الفرار، وقسم ثانٍ ألقوا السلاح وجلسوا يائسين، لماذا يقاتلون؟!، وكيف يقاتلون؟!، وعلام يقاتلون وقد مات صلى الله عليه وسلم؟!، وقسم ثالث فقهوا الدين وعاشوا لحظات المصيبة بكامل عتادهم الإيماني، ونظرتهم الشاملة لنصرة دين الله، والاستمرارية التامة لإعلاء كلمة الله حتى آخر لحظة، فكانوا يبثون الحماس في نفوس اليائسين ويقولون: إذا كان رسولكم قد مات فقوموا فموتوا على ما مات عليه.

 

وفي لحظات المصيبة والنكبة التي تقع فإن الناس لا بد أن ينقسموا إلى أقسام، بحسب الفقه والإيمان الذي وقر في قلوبهم، ويتخذ القرآن من حادثة فرار المسلمين في أُحُد مادة للتوجيه، وتقرير حقيقة إسلامية عظيمة في التصور الإسلامي، إن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سبقته الرسل، وقد مات الرسل من قبله، فهو إذًا سيموت لا محالة كما مات من قبله، هذه حقيقة أولية بسيطة، فما بالكم أيها المسلمون قد غفلتم عنها حين واجهتكم تلك الحقيقة في ساعات المعركة، إذا مات المبلغ فإن البلاغ باقٍ، والبشر إلى فناء، والعقيدة إلى بقاء.

 

لقد استغلت حادثة معركة أحد لإعداد الجماعة المسلمة لتلقي الصدمة الكبرى حين تقع، والصدمة الكبرى هي وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله يعلم أنها ستقع، وبأي وقت ستكون، فبين القرآن أن الصلة بالله لا بغيره، وأن هؤلاء محاسبون أمام الله لا أمام غيره(12).

 

قال الإمام ابن القيم رحمه الله في الزاد: «ومنها، أي من الغايات في هذه الغزوة، أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصًا بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل؛ بل الواجب عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، ويموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت، فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد، لا هو ولا هم؛ بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد»(13).

 

ولقد وضحت الآية {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُول} [آل عمران:144] وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه عليه السلام قد جاء ليأخذ بأيدي المسلمين إلى العروة الوثقى ليعقد بها أيدي البشر، ثم يدعهم عليها ويمضي، وهم بها مستمسكون، هذا هو المفروض أن يكون «تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك»(14)، مات عليه السلام وذهب بشخصه وبقيت دعوته حية، من الذي يستمسك بها، ومن الذي يعض عليها بالنواجذ؟ أنتم أيها المسلمون تأملوا في أنفسكم، لقد ذهب رسولكم صلى الله عليه وسلم إلى ربه، فمن الذي بقي بعده مستمسكًا بالحبل، بحبل الله عز وجل، بالعروة الوثقى.

 

لقد سجَّل القرآن الكريم حوارًا بين موسى عليه السلام وفرعون، وحاول فيه فرْعون بكل وسيلة أن يخرج من حوار الفكرة إلى اتهام الشخص، ولكن موسى عليه السلام استطاع في كل مرة أن يُعيد الحوار إلى الفكرة، وأن يتجاوز محاولات الشخصنة هذه حتى انتصر.

 

إن الدعوة إلى الله أقدم من الداعية، {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144]، خلوا من قبله يحملون الدعوة الضاربة في جذور الزمن، وهي أكبر من الداعية، الدعاة يجيئون ويذهبون، وتبقى الدعوة إلى الله على مر الأجيال والقرون، إذًا لا بد من توضيح دور الشخصيات بالضبط في هذا الدين، أن تعمل للدين، هذا فرض واجب، أن تكون الشخصيات قدوة حية تحرك نفوس المسلمين، هذا أمر مهم، أن تكون مشعلًا ينير للناس ظلمات الجاهلية، هذا أمر مطلوب، ولكن أن يكونوا هم الدين، كلا، إن هذا أمر لن يتم مطلقًا؛ لأنهم سيذهبون.

 

مشكلة كثير من المسلمين اليوم عقدة الشخصانية؛ فهم يتعلقون بالأشخاص على حساب المنهج، وهذا التعلق مذموم لأسباب كثيرة، فمنها لو أن هذا الشخص ضل أو انحرف أو ارتد عن الدين أو أخطأ كما هو متوقع؛ لأن البشر غير معصومين، فإذًا ما الذي سيحصل لو كان التقليد الأعمى هو الذي قد استقر في النفوس، فإن عقدة الشخصانية قد تصل إلى درجة عبادتهم من دون الله، فيتابعون على تحليل الحرام وتحريم الحلال، إن تمجيد الأشخاص في النفوس عقدة مذهلة، تصرف كثيرًا من المسلمين عن الحق، ولو أنه، هذا القدوة أو هذا الشخص، قد ابتعد في سفر أو موت أو ابتعد عنه ما هي النتيجة؟!

 

لا بد أن نقدر الأمور بقدرها الشرعي، ونضبطها بالميزان الإلهي، ألا نغلو في الأشخاص، كما نحفظ لهم حقوقهم، إن الذين استقاموا على الشريعة لهم مكانة عظيمة في نفوسنا، ولكن تلك المكانة لا تحملنا على هجر الحق وتركه من أجلهم، إن الحق عندنا أغلى من الرجال، إن الحق أحق أن يتبع(15).

 

وكم جر التعلق بالأشخاص والمسميات على أمة الإسلام من الفرقة والشتات، وذهاب الريح، وضياع الهيبة.

 

ومن الآفات المزمنة التي تظهر عند كثير من الجماهير؛ سواء أكان ذلك على المستوى الفكري أم الدعوي أم الاجتماعي أم الفقهي... ونحوها، التعلق بالرموز والانكفاء عليها، والشعور بأن هؤلاء وحدهم القادرون على إحياء الأمة والنهوض بها من كبوتها، فإذا عجز هؤلاء أو حبسهم العذر أصيب الناس بالإحباط، وثارت في كوامنهم دواعي العجز والحيرة، ويؤدي التعلق بالأشخاص أحيانًا إلى ازدراء مصلحين آخرين، ربما لا يقلون عن غيرهم أصالة وفهمًا وقدرة، وقد يؤدي هذا التعلق إلى طمر الإمكانات الكامنة في بقية الأفراد، أو عدم استغلال الفرص السانحة لهم.

 

وقد يُرسِّخ هذا المفهومَ بعضُ هؤلاء الرموز، ويدفع الناس إلى تقليده وتعظيمه، بلسان المقال حينًا، وبلسان الحال أحيانًا أخرى، والتقليد قاصمة من القواصم التي تقتل كل ملكات الإبداع والتفكير، وتحول الجماهير إلى مجرَّد قطعان هائمة يسوقها الراعي ذات اليمين وذات الشمال، وهي تستجيب له بكل دعة وخنوع، والنجاح الحقيقي للمصلحين ليس بالقدرة على أن يصرفوا وجوه الناس إليهم فحسب؛ بل بالقدرة على إحيائهم واستنبات البصيرة في عقولهم، فمن تبعهم تبعهم بحجة وبرهان؛ ولذا، فإن الواجب على هؤلاء المصلحين أن يرسخوا ضرورة ارتباط الناس بالمنهج الصحيح وليس بذواتهم(16).

 

وإنَّ مشكلة التعلق بالأشخاص أن الفرد يتغير بتغير المتعلق به، ولذلك جاء القرآن ليقرر هذه الحقيقة الأولية، حقيقة التعلق بالمنهج ونبذ التعلق بالأشخاص ولو كانوا رسلًا.

 

والتعلق بالأشخاص من أهم أسباب الردة والانتكاس، لما توفي الرسول ارتد جل العرب ممن كانوا قد أعلنوا إسلامهم لله رب العالمين؛ لأنهم ظنوا أن الإسلام هو محمد صلى الله عليه وسلم, فإذا ما مات فقد مات الإسلام, ولقد تأثر الصحابة بموت الرسول أيما تأثر, حتى إن عمر رضي الله عنه قام يقول: «إن محمدًا ذهب لملاقاة ربه, كما ذهب موسى لملاقاة ربه, ولا أسمع رجلًا يقول بأن محمدًا قد مات إلا علوته بالسيف», فقام أبو بكر رضي الله عنه في الناس بعدما أسكت عمر رضي الله عنه, وقال للناس: «يا أيها الناس، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت, ثم قرأ قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].

 

فما بالك بغيره من الناس، نعم، إنَّ للعلماء والدعاة مكانة، لكن ما هي مكانتهم؟ إنَّ مكانتهم أن يعلموا الناس دينهم، وأن يعلموهم النصوص الشرعية، وأن يُكثِروا في المجتمع من الفقهاء، والمفتين، والمجتهدين، والدعاة، والصادقين، والمستبصرين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، فإن الأمة معصومة في جملتها أن تجتمع على خطأ أو ضلال، ولكن الأفراد ليسوا معصومين، ولهذا ينبغي أن يكون عندنا عدل وتوازن، وألا نبالغ في التعلق بالأشخاص، وأن يكون تعلقنا بالمنهج، وبالدين، وبالشريعة، وبالمبدأ، أما الأشخاص فيذهبون ويجيئون، ويحيون ويموتون؛ بل ويهتدون ويضلون، ويصيبون ويخطئون، أما المنهج؛ أي: الشريعة والدين، فهو تنزيل من حكيم حميد(17).

 

إن من صور الردة التعلق بالأشخاص لا بالدين ولا بالمنهج؛ ولهذا، المرتدون بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كانت شبهتهم أنهم يقولون: لا ندفع زكاتنا إلا لمن صلاته سكن لنا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فقالوا: مات الذي صلاته سكن لنا، فلا ندفع زكاتنا بعد ذلك لأحد، وقال قائلهم: أطعنا رسول الله إذ كان بيننا، فيا عباد الله، ما لأبي بكر أيورثها بكرًا إذا مات بعده، وتلك لعمر الله قاصمة الظهر، فقام عليهم الصحابة رضي الله عنهم وقاتلوهم أجمعين، وإنما كان من أسباب ردتهم تعلقهم بالأشخاص، والأشخاص يذهبون ويجيئون، وينبغي أن نراعي أمرًا مهمًا جدًا، وهو أن المنهج معصوم، أما الأشخاص فغير معصومين؛ ولذلك إذا ارتبطنا بالمنهج ضَمِنَّا أن لا نقع في خطأ، لكن إذا ارتبطنا بأشخاص فإن هؤلاء الأشخاص ربما يتبين منهم أخطاء كثيرة(18).

_________________

(1) رواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/97).

(2) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10/116)، وأبو نعيم في الحلية (1/136).

(3) لا للتعلق بالأشخاص، صيد الفوائد.

(4) السنن الكبرى، للبيهقي (20350).

(5) في ظلال القرآن، سيد قطب (1/460).

(6) درء تعارض العقل مع النقل، لابن تيمية (4/133).

(7) المنهج لا الأشخاص، علي بن عمر بادحدح.

(8) الارتباط بالأشخاص ثغرة في جدار الدعوة المعاصرة، موقع المسلم.

(9) طريق الهداية، ص87.

(10) رواه الترمذي (1997)، وصححه الألباني.

(11) ظاهرة التعلق بالأشخاص، مجلة البيان، العدد: 18.

(12) التعلق بالدين لا بالأشخاص، محمد صالح المنجد.

(13) زاد المعاد، لابن القيم (2/201).

(14) رواه ابن ماجه (43).

(15) التعلق بالدين لا بالأشخاص، محمد صالح المنجد.

(16) كيف نخاطب الجماهير، أحمد بن عبد الرحمن الصويان، مجلة البيان، العدد: 146.

(17) الثبات حتى الممات، سلمان العودة.

(18) حديث حول منهج السلف، سلمان العودة.