التعامل مع الجاهلين
الجهل نقيض العلم وضد المعرفة، كما أنه نقيض الحلم وضد الرشد، ونقرأ في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة:67]؛ أي أستجير بالله أن أجعلكم موضعًا للسخرية والاستخفاف، أو أن أستهزئ بكم.
والجاهلون هم السفهاء الذين لا يُحَكِّمون العقل في جدالهم أو نقاشهم؛ ومِنْ ثَمَّ فلا سبيل إلى إنهاء الجدال بشكل متحضِّر، فتُصبح أفضل الطرق لحفظ الأخلاق هو الإعراض عنهم، وعدم الدخول في مهاترات لا ينبني عليها نتائج طيبة، وهذا أمر رباني؛ فقد قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]، ولا يعني هذا مقاطعة الجاهلين، ولكن فقط الإعراض عن المناقشة التي جهلوا فيها على المسلم.
فإذا ابتليت بسفيه، فأفضل وسيلة للتعامل معه هي تجاهله وعدم الرد عليه، فلا تضرك أذيته؛ بل الأفضل ألا تلقي له بالًا حتى لا تشغلك كلماته، ولا تعتمل في فكرك عباراته، فتأخذ من وقتك وجهدك واهتمامك وتملك مشاعرك.
وفي ذلك يقول الإمام الشافعي:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرّجـــــت عنـــــــه وإن خليـــــــــته كَمَدًا يمــــــوت
دخل رجل على عمر رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به، فقال له جليس عنده: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين، فما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله عز وجل(1).
قال الرّاغب: «الإنسان في الجهل على أربعة منازل:
الأول: من لا يعتقد اعتقادًا لا صالحًا ولا طالحًا، فأمره في إرشاده سهل إذا كان له طبع سليم، فإنه كَلَوْح أبيض لم يشغله نقش، وكأرض بيضاء لم يلق فيها بذر، ويقال له باعتبار العلم النظري: غفل، وباعتبار العلم العملي: غمر، ويقال له: سليم الصدر.
والثاني: معتقد لرأي فاسد، لكنه لم ينشأ عليه، ولم يَتَربّ به، واستنزاله عنه سهل، وإن كان أصعب من الأول، فإنه كلوح يحتاج فيه إلى محو وكتابة، وكأرض يحتاج فيها إلى تنظيف، ويقال له: غاو وضال.
والثالث: معتقد لرأي فاسد قد ران على قلبه، وتراءت له صحته، فركن إليه لجهله وضعف نحيزته، ممن وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:22]، فهذا ذو داء أعيا الأطباء، فما كل داء له دواء، فلا سبيل إلى تنبّهه وتهذيبه.
والرابع: معتقد اعتقادًا فاسدًا عرف فساده، أو تمكن من معرفته، لكنه اكتسب دنية لرأسه، وكرسيًّا لرئاسته، فهو يحامي عليها، فيجادل بالباطل ليدحض به الحق، ويذم أهل العلم ليجرّ إلى نفسه الخَلْق، ويقال له: فاسق ومنافق، وهو من الموصوفين بالاستكبار والتكبر في نحو قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُءوسَهُمْ} [المنافقون:5]، فنبّه تعالى أنهم ينكرون ما يقولونه لمعرفتهم ببطلانه، لكن يستكبرون عن التزام الحق، وذلك حال إبليس فيما دعي إليه من السجود لآدم عليه السلام(2).
الترفع عن مقام الجاهلين:
قال تعالى: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35]؛ أي من الذين اشتد حزنهم وتحسروا حتى أخرجهم ذلك إلى الجزع الشديد، وإلى ما لا يحل؛ أي لا تحزن على كفرهم فتقارب حال الجاهلين، وقيل: الخطاب له والمراد الأمة، فإن قلوب المسلمين كانت تضيق من كفرهم وإذايتهم(3).
نهي له عن هذه الحالة، وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة، كما أن قوله: {وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:48]، لا يدل على أنه صلى الله عليه وسلم أطاعهم وقبل دينهم، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم، ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك، فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة(4).
فإن شدة الحرص والحزن لإعراض الكفار عن الإجابة قبل أن يأذن الله بذلك هو صنيع أهل الجهل، ولست منهم، فدع الأمور مفوضة إلى عالم الغيب والشهادة، فهو أعلم بما فيه المصلحة، ولا تحزن لعدم حصول ما يطلبونه من الآيات، التي لو بدا لهم بعضها لكان إيمانهم بها اضطرارًا؛ لخروجه عن الحكمة التشريعية المؤسسة على الاختيار، وإنما نهاه عن هذه، وغلظ له الخطاب تبعيدًا له عن هذه الحالة(5).
والمراد بالجاهلين يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضد العلم، كما في قوله تعالى خطابًا لنوح: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، وهو ما حمل عليه المفسرون هنا، ويجوز أن يكون من الجهل ضد الحلم؛ أي: لا تَضِق صدرًا بإعراضهم.
وهو أنسب بقوله: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين: جملة: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} وجملة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى}، ومع كون هذه الجملة تذييلًا للكلام السابق فالمعنى: فلا يكبر عليك إعراضهم ولا تضق به صدرًا، وأيضًا فكن عالمًا بأن الله لو شاء لجمعهم على الهدى، وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأمر من علم الحقيقة يختص بحالة خاصة، فلا يطرد في غير ذلك من مواقف التشريع.
وإنما عدل على الأمر بالعلم لأن النهي عن الجهل يتضمنه، فيتقرر في الذهن مرتين، ولأن في النهي عن الجهل بذلك تحريضًا على استحضار العلم به، كما يقال للمتعلم: لا تَنْس هذه المسألة، وليس في الكلام نهي عن شيء تلبس به الرسول صلى الله عليه وسلم كما توهمه جمع من المفسرين، وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين(6).
وما دامت إرادة الله تعالى لا بد أن يكون في عباده أخيار يصدقون ويؤمنون، ومعرضون جاحدون، فادع إلى سبيل الله وانتظر أن يكون المناوئ والمجيب، ولا تكونن من الجاهلين بحكمة الله تعالى، وليس الجهل بأمر شرعي حتى لا يكون محلًا للنهي، إنما هو تنبيه إلى أمر تكويني، كان التنبيه للنبي صلى الله عليه وسلم مؤكدًا، وهو تنبيه لغيره بالأولى(7).
الإعراض عن جهلهم:
أخلاق الناس وطبائعهم ليست واحدة؛ بل هم متفاوتون؛ منهم الهادئ السمْح المتزن الخلوق الرفيق اللطيف الليِّن، ومنهم الشديد الغليظ العنيف، ومنهم الواقع في الأمور المصادمة للأخلاق تمام المصادمة؛ فهم ليسوا على درجة واحدة.
ومطلوب من الداعية أن يهيئ نفسه في ملاقاته للناس ومقابلته لهم واحتكاكه بهم للتعامل مع أصنافٍ وأجناس وأخلاق متباينات، فمن يعاملهم ليسوا على مستوى واحد؛ بل بينهم تفاوت، ولهذا جاء هذا التوجيه المبارك كما قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
أن تعرض عن الجاهل بمعنى ألَّا تقف عند عباراته الجاهلة، وألفاظه النابية، وكلماته السيئة، ومعاملاته الفظّة الغليظة، لا تقف عند هذه التعاملات، ولا تُلق لها بالًا؛ بل أعرض عن جهل الجاهلين، وروِّض نفسك على ذلك، أما إذا وقف الإنسان مع جهالة الجهَّال ورُعوناتهم وسوء تصرّفاتهم فإنه يتعب في هذه الحياة، ويعاني معاناة شديدة، إن لم يتحول أيضًا إلى جاهل مثلهم، فيجهل عليهم بمثل جهلهم عليه:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
بل ربما يتحول إلى ملاقاته بجهل أشد من جهله عليه؛ ولهذا الطريقة المثلى أن يُعرِض الإنسان عن الجاهل.
ولقد أمُرُّ على السفيه يسبُّني فمضيت ثَمَّت قلتُ لا يعنيني
والإعراض يكون بالترك والإهمال والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال، والمرور بها مر الكرام، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلى شيء إلا الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد.
وقد ينتهي السكوت عنهم والإعراض عن جهالتهم إلى تذليل نفوسهم وترويضها، بدلًا من الفحش في الرد واللجاج في العناد، فإن لم يؤد إلى هذه النتيجة فيهم فإنه يعزلهم عن الآخرين الذين في قلوبهم خير، إذ يرون صاحب الدعوة محتملًا معرضًا عن اللغو، ويرون هؤلاء الجاهلين يحمقون ويجهلون فيسقطون من عيونهم ويُعزلون! وما أجدر صاحب الدعوة أن يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس! ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر.
وقد يثور غضبه على جهالة الجهال وسفاهة السفهاء وحمق الحمقى، وإذا قدر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يعجز عنها من وراءه من أصحاب الدعوة.
وعند الغضب ينزغ الشيطان في النفس، وهي ثائرة هائجة مفقودة الزمام؛ لذا يأمره ربه أن يستعيذ بالله لينفثئ غضبه، ويأخذ على الشيطان طريقه: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وهذا التعقيب: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقرر أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم، عليم بما تحمله نفسك من أذاهم، وفي هذا ترضية وتسرية للنفس، فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم! وماذا تبتغي نفس بعد ما يسمع الله ويعلم ما تلقى من السفاهة والجهل وهي تدعو إليه الجاهلين؟(8).
قال الرازي: «وأما قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} فالمقصود منه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يصبر على سوء أخلاقهم، وألَّا يقابل أقوالهم الركيكة ولا أفعالهم الخسيسة بأمثالها»(9).
وقال محمد رشيد رضا: «الأصل الثالث: الإعراض عن الجاهلين، وهم السفهاء، بترك معاشرتهم، وعدم مماراتهم، ولا علاج أوقى لأذاهم من الإعراض عنهم، وشرهم في هذا العصر مرتزقة صحف الأخبار المنتشرة، فإن سفهاءها هم شر من سفهاء الشعراء في العصور السابقة، وقد قل سفه الشعراء في عصرنا هذا، فلا أعرف لشاعر مشهور من القذع والبذاء في الهجو شيئًا مما نعهد في الصحف التي يعبرون عنها بالساقطة، وكم من صحيفة قائمة ناهضة بالثروة شر من ساقطة بالقلة»(10).
قال السعدي: «هذه الآية جامعة لحسن الخلق مع الناس، وما ينبغي في معاملتهم، فالذي ينبغي أن يعامل به الناس أن يأخذ العفو؛ أي: ما سمحت به أنفسهم، وما سهل عليهم من الأعمال والأخلاق، فلا يكلفهم ما لا تسمح به طبائعهم؛ بل يشكر مِن كل أحد ما قابله به، من قول وفعل جميل أو ما هو دون ذلك، ويتجاوز عن تقصيرهم، ويغض طرفه عن نقصهم، ولا يتكبر على الصغير لصغره، ولا ناقص العقل لنقصه، ولا الفقير لفقره؛ بل يعامل الجميع باللطف والمقابلة بما تقتضيه الحال وتنشرح له صدورهم»(11).
والإعراض هو نوع بليغ من أنواع الغفلة، فهو غفلة بتعمد، وفيه نوع تهوين وتحقير وتسفيه للمعرَض عنه، بحيث يتمنى هذا الجاهل ردًا ولو بالسوء، فالمقابلة بالمثل هي في الحقيقة نوع اهتمام وتقدير، ونزول لذلك المستوى الذي نزل إليه الجاهل، فلا بد أن تعلم أنه ﻻ يجب أن تنزل لذلك المستوى الذي نزل إليه، فإن الناس لن تفرق بينكما، ولن تعلم أنك تأخذ حقًا كفله الشرع لك، المعاقبة بالمثل، وحتى تحفظ عليك كرامتك فلا يجب أن تعير مثل هؤلاء الجهلة اهتمامًا؛ لأن الذي يلجأ لمثل تلك الأساليب هم الذين فقدوا الحجة والقرع بها، والشاعر يقول:
أعرض عن الجاهل السفيه فكـــــل مــــــــا قــــــــــال فـــهــــــو فــــــــــيه
ما ضَرَّ نهــــرَ الفـــــرات يومًا إن خاض بعض الكلاب فيه
فالإعراض عن الجاهلين، وعدم الوقوف عند جهلهم أو كلماتهم السيئة وألفاظهم النابية هو الذي يريح الإنسان من معاناةٍ في هذه الحياة، وإلا إذا مضيت في ملاقاة الناس وتعاملهم ستجد من يسيء لك التعامل، من يرفع عليك الصوت، من يُغلِظ، فإذا كنت تريد أن تقف مع كل متعامل من هؤلاء وتصغي إلى ما يقوله، وترهق نفسك بمتابعة أقواله؛ قال كذا وقال كذا، وتنبري للمجابهة؛ فهذا يرهقك ويؤلم قلبك، وربما يجلب لك في نفسك الهم والغم، بينما إذا أعرضت عن الجاهل وقلت في نفسك: هذا مبتلى بالجهل مبتلى بكذا، وأنا عافاني الله من ذلك، تحمد الله أن عافاك من مثل هذه المعاملات، وتمضي في حياتك، بمثل ذلك تسعد، وفي الوقت نفسه تساعد الجاهل على مراجعة نفسه، إذا أعرضت عن ألفاظه وسوء تصرفاته تساعده على مراجعة نفسه.
الرفق بالجاهلين:
قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان:63]، لا عن ضعف ولكن عن ترفع، ولا عن عجز إنما عن استعلاء، وعن صيانة للوقت والجهد أن ينفقا فيما لا يليق بالرجل الكريم، المشغول عن المهاترة بما هو أهم وأكرم وأرفع(12).
عن أبي هريرة رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فدخل رجل فصلى، فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد، وقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل»، فرجع يصلي كما صلى، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ارجع فَصَلِّ فإنك لم تُصَلِّ»، ثلاثًا، فقال: «والذي بعثك بالحق، ما أحسن غيره فعلمني»، فقال: «إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع حتى تعدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسًا، وافعل ذلك في صلاتك كلها»(13).
في هذا الموقف يصبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على جهل الرجل بأحكام الصلاة الصحيحة، ولم يسخر منه أو يُعَنِّفه، إنما أمره، ببساطة، أن يُعيد الصلاة، ولم يُوَضِّح له في المرات الثلاث الأولى كيفية الصلاة؛ أملًا أن يستطيع الرجل ذلك من نفسه فلا يشعر بجهله، ولكنَّ الرجل فشل في أداء الصلاة بطريقتها الصحيحة، هنا علَّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة بكلمات موجزة سريعة، ولم يُشِرْ أثناء تعليمه أي إشارة إلى سوء طريقته في الصلاة.
لقد بدا واضحًا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يُدرك أن مشكلة هذا الرجل الأساسية هي الجهل، وبالتالي فإن الحلَّ، ببساطة، هو العلم، ومن ثَمَّ لم ينفعل أبدًا، إنما أوصل له المعلومة في هدوء رحيم، وأدب جمٍّ.
وفي موقف آخر لطيف يرويه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه، يتبدَّى لنا المنهج الثابت الذي يعالج به رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه الأخطاء، كما يتبدَّى لنا مدى رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإنسان يجهل أمورًا في غاية الشهرة، فيتجاوز عن جهله، ويسعى لتعليمه بكل أدب ورفق.
يقول معاوية بن الحكم السُّلَمِي رضي الله عنه: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثُكْلَ أُمِّيَاهْ، ما شأنكم؟ تنظرون إلي، فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن»، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(14).
في هذا الموقف نرى بوضوح رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعاوية بن الحكم رضي الله عنه، الذي كان جاهلًا، إلى حَدٍّ كبير، بتعاليم الصلاة، وهذه الرحمة لفتت نظر معاوية رضي الله عنه، حتى إنه ذكرها وعلَّق عليها؛ فقال: «فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلمًا قبله ولا بعده أحسن تعليمًا منه».
وكأن معاوية كان يتوقع الزجر والتعنيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لما رأى ثورة المصلين حوله، ومحاولتهم إسكاته، فقال معاوية في سرور: «فوالله، ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني»، وكأن هذه كانت أمورًا متوقعة، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصدر منه القول السيئ، ولا يقسو على أحد أبدًا.
وفي يوم آخر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يغضب عادة أي إنسان، ومع ذلك فإن رد فعله كان يتسم بالهدوء والرفق إلى درجة لا يشابهه فيها أحد.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تزرموه دعوه» فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن» أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلًا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه(15).
إنَّ أَحْلَمَ الناس في هذا الموقف سيكتفي بأن يأمره بأن يقطع بوله، فكفاه ما فعل بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد هَمَّ الصحابة أن يقوموا بذلك فعلًا مع حلمهم المشتهر، وأدبهم المعروف، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بما لم يأتِ به الأولون والآخرون.
لقد تعاظمت رحمته حتى شملت هذا الأعرابي، الذي لم يتخلَّق بعدُ بأخلاق المدينة؛ بل ظلَّ على جفاء البادية، لقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يقطعوا عليه بوله، وأخذ في تعليمه في هدوء عجيب حقًا، ثم إنه أمر رجلًا من الصحابة أن يسكب دلوًا من الماء على البول ليُطَهِّره، ولم يأمر الأعرابي أن يصلح ما أفسد لكي لا يُريق ماء وجهه(16).
الدعاة في هذه الأمة أربعة، رجل يعرف الحق ويكتمه عجزًا وجبنًا، فهو ساكت طول حياته لا ينطق بخير ولا شر، ورجل يعرف الحق وينطق به، ولكنه يجهل طريق الحكمة والسياسة في دعوته فيهجم على النفوس بما يزعجها وينفرها، وكان خيرًا له لو صنع ما يصنعه الطبيب الماهر، الذي يضع الدواء المر في "برشامة" ليسهل تناوله وازدراده، ورجل لا يعرف حقًا ولا باطلًا، فهو يخبط في دعوته خبط الناقة العشواء في مسيرها, فيدعو إلى الخير والشر والحق والباطل والضار والنافع في موقف واحد.
ورجل يعرف الحق ويدعو الأمة إلى الباطل دعوة المجد المجتهد، وهو أخبث الأربعة وأكثرهم غائلة؛ لأنه صاحب هوى، يرى أنه لا يبلغ غايته منه إلا إذا أهلك الأمة في سبيله، فهو عدوها في ثياب صديقها؛ لأنه يوردها موارد التلف والهلاك باسم الهداية والإرشاد، فليت شعري من أي واحد من هؤلاء الأربعة تستفيد الأمة رشدها وهداها.
ما أعظم شقاء هذه الأمة وأشد بلاءها، فقد أصبح دعاتها في حاجة إلى دعاة ينيرون لهم طريق الدعوة, ويعلمونهم كيف يكون الصبر والاحتمال في سبيلها، فليت شعري متى يتعلمون، ثم متى يرشدون؟(17).
***
_____________
(1) أخرجه البخاري (4642).
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص131-132.
(3) تفسير القرطبي (6/ 418).
(4) تفسير الرازي (12/ 521).
(5) فتح البيان في مقاصد القرآن (4/ 133).
(6) التحرير والتنوير (7/ 207).
(7) زهرة التفاسير (5/ 2487).
(8) في ظلال القرآن (3/ 1419).
(9) مفاتيح الغيب (15/ 435).
(10) تفسير المنار (9/ 449).
(11) تفسير السعدي، ص313.
(12) في ظلال القرآن (5/ 2578).
(13) أخرجه البخاري (757).
(14) أخرجه مسلم (537).
(15) أخرجه مسلم (285).
(16) النبي الرحمة المهداة، موقع: قصة الإسلام.
(17) النظرات (1/ 349).