logo

داء الكسل ودواؤه


بتاريخ : الجمعة ، 7 محرّم ، 1441 الموافق 06 سبتمبر 2019
بقلم : تيار الاصلاح
داء الكسل ودواؤه

عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم...» الحديث(1)، رغم أن الكسل مأمون في حقه صلى الله عليه وسلم.

قال الطيبي: «الكسل التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه، ويكون ذلك لعدم انبعاث النفس للخير مع ظهور الاستطاعة»(2).

وقال ابن حجر: «وأصل الكسل ترك العمل لعدم الإرادة، فإن كان لعدم القدرة فهو العجز»(3).

والإسلام دين لا يعرف البطالة ولا الكسل؛ بل هو دين العمل والجد، والكسب والغنى، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام.

ولقد يفهم الناس خطأً أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد والمكث في المساجد وعدم العمل، وهذا فهم خطأ، وإنما يحث الدين على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا؛ فإن ذلك قد يدفع صاحبه إلى التعدي على أخيه وظلمه إرضاءً لشهوة المال وجمعه(4).

والكسل جرثومة قاتلة، وداء مهلك، يعوق نهضة الأمم والشعوب، ويمنع الأفراد من العمل الجاد والفكر المثمر والسعي النافع والبذل الحميد.

ومنشأ الكسل يرجع إلى عدم تربية الأبناء بتحسين أحوالهم، وتهذيب أخلاقهم، وتعويدهم منذ الصغر على الأشغال، والتجلد على المشاق، وتدريبهم على اكتساب فضائل الرجال، وهمة الأبطال، وتنوير عقولهم، وإرشادهم لما فيه صحة أبدانهم، وحفظ أمور دينهم، خصوصًا بترك محبة شهوة البطن؛ بحيث أن الطفل لا يجعلها نهاية بغيته، ومركز دائرة اهتمامه؛ لأنها تدل على الدناءة، وقلة العقل والطيش، ولا يتمتع صاحبها بالعيش الهنيء، وتكون سببًا لضعف الهمة وقلة المروءة(5).

إن الأمة المستضعفة، ولو بلغت في الضعف ما بلغت، لا ينبغي لها أن يستولي عليها الكسل عن طلب حقها، ولا الإياس من ارتقائها إلى أعلى الأمور، خصوصًا إذا كانوا مظلومين، كما استنقذ الله أمة بني إسرائيل، الأمة الضعيفة، من أسر فرعون وملئه، ومكنهم في الأرض، وملكهم بلادهم(6).

ومن مظاهر الفتور والكسل عدم استشعار المسئولية الملقاة على عاتقه، والتساهل والتهاون بالأمانة التي حمَّله الله إياها، فلا تجد لديه الإحساس بعظم هذه الأمانة، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].

وقد تحدِّثه ساعة ويحدثك أخرى فلا تجد أن همَّ الدعوة يجري في عروقه، أو يؤرق جفونه ويقضَّ مضجعه.

ومما يلحق بهذا الباب أنك تجد هذا الفاتر أصبح يعيش بلا هدف أو غاية سامية، فهبطت اهتماماته، وسفلت غاياته، وذلت مطامحه ومآربه، وتبعًا لذلك فلا قضايا المسلمين تشغله، ولا مصائبهم تحزنه، ولا شئونهم تعنيه، وإن حدث شيء من ذلك فعاطفة سرعان ما تبرد وتخمد ثم تزول(7).

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى أن: «النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن الراحة لا تنال بالراحة، وأن من آثر اللذات فاتته اللذات»(8).

فأمة يكسل أبناؤها أمة لا تبني ولا تعمر؛ بل تتراجع عن موكب التقدم والحضارة، وإذا أصيب المرء بالعجز والكسل فاغسل يديك منه، فالكسل يفوت علينا الفرص التي يصعب تعويضها، ويحرمنا من تحقيق ما نرغب فيه، وبالكسل تتراكم الأعمال حتى يصل المرء إلى العجز عن القيام بها.

أنواع الكسل:

الأول: كسل العقل بعدم إعماله في التفكر والتدبر والنظر في آلاء الله من ناحية، وفي تركه النظر إلى ما يصلح شأن الإنسان ومن حوله في الدنيا التي فيها معاشه، وما تأخرت الأمم إلا نتيجة كسل أصحاب العقول فيها، وقلة اكتراثهم بالقوة الإبداعية المفكرة التي أودعها الله فيهم.

الثاني: كسل البدن المؤدي إلى التثاقل عن الطاعات وأداء العبادات على الوجه المشروع، وكذلك يؤدي إلى تأخر الأفراد بَلْهَ الأمم والشعوب في مجالات النشاط المختلفة، من زراعة وصناعة وغيرهما...(9).

والكسل المذموم هو الذي يمنع صاحبه من أداء ما عليه من واجبات، ويصده عن معاناة المشاق إيثارًا للراحة، وقد يصيب الأخيارَ نوعٌ من الفتور فيكسلون عن أداء ما تعاهدوا به أنفسهم من نوافل الطاعات على الوجه الأكمل، فلا يتركون هذه الطاعات، وإنما ينتقلون من حال الكمال في أدائها إلى حال أقل كمالًا؛ كي يعود إليها نشاطها وقوتها، وهذا من حسن سياسة النفس وجودة قيادها، ومما يدل على ذلك أن عبد الله بن قيس روى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لا تدع قيام الليل، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدعه، وكان إذا مرض أو كسل صلى قاعدًا»(10).

أسباب الكسل:

للكسل أسباب كثيرة منها:

أولًا: النفاق:

وهو خاص بالتكاسل عن الواجبات الدينية؛ وذلك لأن المنافق ليس له نية صالحة في أداء العبادات، فيؤديها، إن أداها، رياءً وطمعًا في رؤية الخلق، وخوفًا من عقوبة الدنيا؛ ولذلك فإنه يتكاسل عن الواجبات الدينية إن أحس أنه في مأمن من نظر الناس ومراقبتهم له.

قال تعالى: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142]، يعني وإذا قاموا إلى الصلاة مع المسلمين قاموا كسالى؛ أي متثاقلين متباطئين، وهو معنى الكسل في اللغة، وسبب ذلك الكسل أنهم يستثقلونها في الحال ولا يرجون بها ثوابًا ولا من تركها عقابًا، فكان الداعي للترك قويًا من هذه الوجوه، والداعي إلى الفعل ليس إلا خوف الناس، والداعي إلى الفعل متى كان كذلك وقع الفعل على وجه الكسل والفتور(11).

هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها، وهي الصلاة، إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها؛ لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية، ولا يعقلون معناها، كما روي عن ابن عباس أنه قال: «يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان، ولكن يقوم إليها طلق الوجه، عظيم الرغبة، شديد الفرح، فإنه يناجي الله، وإن الله تجاهه، يغفر له ويجيبه إذا دعاه»، ثم يتلو هذه الآية: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى}(12).

ثانيًا: العجز وحب الراحة:

قال ابن الجوزي: «الموجب للكسل حب الراحة، وإيثار البطالة، وصعوبة المشاق، وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل)(13).

وفي أفراد مسلم من أفراد أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)»(14).

ثالثًا: الفراغ:

والفراغ قد يكون نعمة إن استعان به الإنسان على النافع من أعمال الدنيا، وقد يكون نقمة إن جعله وسيلة للكسل والراحة، والقعود عن إنجاز المهمات وأداء الأعمال والمصالح، وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه: «إني لأبغض الرجل أراه فارغًا؛ ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة»(15)، وقال: «يكون في آخر الزمان أقوامٌ أفضل أعمالهم التلاوم بينهم، يسمون الأنتان»(16).

وقال ابن عباس: «تزوج التواني بالكسل، فَوُلِدَ بينهما الفقر»(17).

رابعًا: الترف:

إن الإنسان لا بد أن يؤدي أعماله بنفسه، حتى ولو كان غنيًا يستطيع استخدام من يؤدي عنه أعماله؛ لئلا يتعود الكسل والبطالة، ولقد رأينا كثيرًا من الأغنياء كانوا يستمتعون بالعمل، فينظفون بيوتهم بأنفسهم، ويقودون السيارة، ويزرعون حدائق بيوتهم.

أما المترفون فإنهم يرون ذلك من العيب، فقد أدى لهم الترف إلى الكسل وترك العمل، فساءت أحوالهم، وحُرموا من متعة الحياة الطيبة التي يهيئها لهم العمل النافع، فأصبحوا لا قيمة لهم، وإن كانوا يملكون الأموال الكثيرة.

خامسًا: كثرة الطعام والشراب:

من وصايا لقمان لابنه: «يا بني، إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة، وخرست الحكمة، وقعدت الأعضاء عن العبادة، ولا كذلك الحال في الإقلال من الطعام والشراب؛ فالقلب صاف، والقريحة متقدة، والبصيرة نافذة، والشهوة مغلوبة، والنفس مقهورة»(18).

إن الإسراف في تناول الطعام والشراب يؤدي إلى التثاقل عن الطاعات ومزاولة ما ينفع من الأعمال، فمن أكل كثيرًا شرب كثيرًا فنام كثيرًا ففاته خير كثيرًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه»(19).

سادسًا: كثرة النوم:

قال ابن القيم: «فإنه يميت القلب، ويثل البدن، ويضيع الوقت، ويورث كثرة الغفلة والكسل»(20).

سابعًا: طول الأمل:

وطول الأمل يدعو كذلك إلى التثاقل عن الطاعات واغتنام الأعمار في كسب الحسنات، ومن طال أمله فسد عمله.

قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «إنما أخشى عليكم اثنين: طول الأمل، واتباع الهوى؛ فإن طول الأمل ينسي الآخرة، وإن اتباع الهوى يصد عن الحق، وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، والآخرة مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل»(21).

ثامنًا: مرافقة الكسالى:

فإن صحبة هؤلاء تعوق عن التطلع إلى معالي الأمور، وتغري بالتشبث بسفاسفها، وتسقط الهمة، وتضعف العزائم، وكما يقال: الصاحب ساحب فاعلم من تصاحب، وقد قيل:

فلا تجلس إلى أهل الدنايا      فإن خلائق السفهاء تعدي

قال ابن القيم: «تجد الكسالى أكثر الناس همًا وغمًا وحزنًا، ليس لهم فرح ولا سرور، بخلاف أرباب النشاط والجد في العمل، أي عمل كان، فإن كان النشاط في عمل هم عالمون بحسن عواقبه وحلاوة غايته كان التذاذهم بحبه ونشاطهم فيه أقوى، وبالله التوفيق»(22).

تاسعًا: التعلق بالأوهام والأماني الكاذبة:

وهذا حال الكسالى الضعفاء الذين لا يبذلون الأسباب التي تدفع عنهم الضعف والتخلف والهزيمة؛ بل يكتفون بالحديث عن ماضي أسلافهم، وأمجاد أجدادهم، ويتوهمون أن ذلك الماضي يمكن أن يعود دون عمل وبذل وتضحيات.

لا تحسب المجد تمرًا أنت آكله       لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

عاشرًا: فساد البيئة:

إن البيئة التي يعيش الإنسان فيها لها تأثير عظيم على استعداداته الفكرية والنفسية والبدنية.

فالإنسان إذا عاش في أسرة مفككة، ومجتمع ساقط، ليس فيه عدالة ولا اهتمام بالعلم والإبداع تأثر بذلك وفترت همته؛ فأخذ شيئًا فشيئًا ينتظم في سلك الكسالى والعاجزين.

وإذا كان الإنسان يعيش في أسرة مترابطة ومجتمع سليم، تحركه الأهداف العُليا، انطلق نحو العمل الجاد والفكر المثمر، وسمت همته إلى تحقيق الإبداعات التي ترقى به وبأمته في سماء المجد(23).

كيفية العلاج:

وللخروج من هذه الحالة، ولتجنب كل هذه المضار لا بد من البحث عن سبل النجاة، وكيفية علاج هذا المرض الخطير، وخطوات العلاج تتمثل في الآتي:

أولًا: المحافظة على أي نوع من أنواع الرياضة البدنية؛ حيث إن الإنسان يكتسب بها حالة أصح وأصلح؛ لسهولة التنقية وجودة التغذية؛ إذ الحركة البدنية ضرورية لتقوية التنفس وموازنته، ولا يخفى أن التنفس هو الميزان الذي به تنتظم أعمال أعضاء الجسم وأجهزته، ويحفظ تركيب الدم وينشط دورته، وكذا تجعل فيه قدرة على تحمل التأثيرات الجوية، وتكسب النفس سلطانًا على الجسم، فتجعل فيه ميلًا إلى العمل وترك الكسل، وارتياحًا إلى الأعمال الشاقة والقدرة على إتقانها.

ولقد ذكر ابن قيم الجوزية رحمه الله فائدة الرياضة المعتدلة فقال: «واعلم أن لكل عضو رياضته؛ فللصدر القراءة فليبتدئ فيها من الخفية إلى الجهر بتدريج، ورياضة السمع بسمع الأصوات والكلام بالتدريج، فينتقل من الأخف إلى الأثقل، وكذلك رياضة اللسان في الكلام، وكذلك رياضة البصر، وكذلك رياضة المشي بالتدريج شيئًا فشيئًا»(24).

ثم يقول: «ورياضة النفوس بالتعلم والتأدب، والفرح والسرور، والصبر، والثبات، والإقدام، والسماحة، وفعل الخير، ونحو ذلك مما ترتاض به النفوس، ومن أعظم رياضتها: الصبر، والحب، والشجاعة، والإحسان، فلا تزال ترتاض بذلك شيئًا فشيئًا حتى تَصير لها هذه الصفات هيئات راسخة وملكات ثابتة»(25).

ثانيًا: قتل الفراغ؛ فإن الفراغ هو الذي يولد الكسل، وإن العمل مهما كان حقيرًا فهو أفضل من البطالة وسؤال أحد من ذوي المال، إن أعطاه فقد حمَّله ثقل المِنَّة مع ذل السؤال، وإن منعه فقد باء بذل الخيبة مع ذل السؤال.

وأما الكسل فمجانبته تكون بتقوية الإرادة، ومعاشرة المجدين العاملين، ومباشرة الأسباب، واستشارة لذة العمل وحلاوة بلوغ الآمال، وتمثل الخيبة والفشل، ومعرفة أن المجد في العمل والمغامرة، والتعس في الكسل وملازمة الراحة(26).

حتى قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «مكسبة في بعض الدناءة خير من سؤال الناس»، فلا يليق بالرجل القادر أن يرضى لنفسه أن يكون حملًا على كاهل المجتمع، ثقيلًا مرذولًا، يتكفف الناس، فهذا أمر ممقوت محتقر.

سمع أحد الأدباء رجلًا في الثلث الأخير من الليل يقول:

وأُكرم نفسي، إنني إن أهنتها       وحقك لم تكرمْ على أحدٍ بعدي

فأعجبه قوله، فأتاه حتى وقف على رأسه، فإذا به يقمُّ الشارع [زبال] يبيع القمامة، ويمول نفسه وعياله من ثمنها، فقال له: «أنت تقول: أكرم نفسي؟ فأي إكرام أنت فيه مع ما تصنع من جمع القمامة؟»، فقال له: «إليك عني؛ لقد أكرمتها بهذه الحرفة عن ذل السؤال لمثلك»، فقال: «صدقت»، وقبَّله بين عينيه(27).

روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلًا فيسأله أعطاه أو منعه»(28).

ولعل نظرة التعالي من بعض الناس والترفع عن صغير الأعمال النافعة هو شر أنواع الكسل؛ إذ به تضيع على المرء أوقاته، ويزداد قعوده، وتخور عزيمته، وينتهي به الحال إلى الحمق والرذيلة.

ثالثًا: الهجرة والسفر؛ فلربما وجد الإنسان في قطره ضيقًا في الرزق، وشدة في المئونة، فيدعوه ذلك للركود والقعود؛ ولذلك يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا يقعد أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني؛ فقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وكان يقول: ما من موضع يأتيني الموت فيه أحب إلي من موطن أتسوق فيه لأهلي أبيع وأشتري»(29)، وفي مسند أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سافروا تصحُّوا، واغزوا تستغنوا»(30).

وفي هذا يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه مشيرًا إلى أهمية السفر وإيجابياته:

ما في المقام لذي عقلٍ وذي أدبٍ       من راحة فدع الأوطان واغترب

سافر تجد عوضًا عمن تفارقه       وانصَب؛ فإن لذيذ العيش في النصبِ

إني رأيت وقوف الماء يفسده       إن ساح طاب، وإن لم يجر لم يَطِبِ(31).

وكان الشعبي رحمه الله يقول: «لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمة تدله على هدى أو تردُّه عن ردى ما كان سفرًا ضائعًا»(32).

ولله در القائل:

واطلب العلم ولا تكسل فما       أبعــــدَ الخيرات عن أهل الكسل

لا تقـــل قـــــد ذهــــبت أربابه       كل مَن سار على الدرب وصل

 فالسفر نوع من أنواع المشاق الذي يُكسِب الإنسان قوة في التحمل؛ بل يُعد سبيلًا إلى القوة المادية والعقلية والروحية والبدنية(33).

فالجسم الخامل صاحبه يظل طوال حياته مريضًا، ومتخلفًا في جميع دروب الحياة الدنيوية، التي هي السبيل إلى تحقيق السعادة الأخروية إن استطاع الإنسان أن يغتنم كل لحظة فيها.

رابعًا: الاعتدال في الطعام والشراب: الكسل هو ميراث الشبع، فإن النفس إذا شبعت قويت، فإذا قويت أخذت بحظها وغلبت القلب بوصلها إلى حظها، ومداواتها التجويع؛ فإنها إذا جاعت عدمت حظها وضعفت؛ فغلب عليها القلب؛ فإذا غلب عليها حملها على الطاعة، وأسقط عنها الكسل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، حسب الآدمي لقيمات يقمن صلبه، فإن غلبت الآدمي نفسه فثلث للطعام، وثلث للشراب، وثلث للنفس»(34).

قد يكون السبب المباشر في الكسل أو عدم الحركة الإيجابية هو كثرة الطعام والشراب، الذي هو أيضًا الأساس غالبًا في الكثير من الأمراض، فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام والشراب، وإلى هذا يشير الحارث بن كلدة طبيب العرب بقوله: «المعدة بيت الداء».

خامسًا: المحافظة على الصلاة؛ فلا ريب أن الصلاة نفسها فيها من حفظ صحة البدن وإذابة أخلاطه وفضلاته، ناهيك عما فيها من صحة الإيمان، وسعادة الدنيا والآخرة، وكذلك قيام الليل من أنفع أسباب حفظ الصحة وطرد الكسل، ومن أنفع الأمور لكثير من الأمراض المزمنة، ومن أنشط الأشياء للبدن والروح والقلب.

ولا شك أن القيام والنشاط للصلاة صفة أهل الإيمان، والتكاسل عنها صفة أهل النفاق؛ قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:142]، وقال عن طائفة أخرى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقَد، يضرب كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلَّت عُقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقدة، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان»(35).

سادسًا: التعوذ بالله من الكسل:

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم المسجد فإذا هو برجل من الأنصار يقال له أبو أمامة جالسًا فيه، فقال: «يا أبا أمامة، مالي أراك جالسًا في غير وقت صلاة»، قال: «هموم لزمتني وديون يا رسول الله»، فقال: «ألا أعلّمك كلامًا إذا قلته أذهب الله عز وجل همك وقضى دينك»، فقال: «بلى يا رسول الله»، قال: «قل إذا أصبحت وإذا أمسيت: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من البخل والجبن، وأعوذ بك من غلبة الدَّين وقهر الرجال»، قال: «فقلت ذلك فأذهب الله همي، وقضى عني ديني»(36).

وعلاج الكسل في العمل الدعوي يكمن في الآتي:

الأول: الأخذ بأسباب قوة الإيمان، فإن الإيمان عندما يزداد في قلب العبد يؤدي إلى زيادة العمل ولا بد.

الثاني: إمرار الأدلة الشرعية على وجوب الدعوة إلى الله على القلب، وتكرارها عليه حتى يستشعر العبد أهمية هذه العبادة ومكانة من يجتهد في هذا الباب عند الله، أنها طريق الأنبياء من قبل، والطريق الذي سلكه نبينا صلى الله عليه وسلم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللهِ} [يوسف:108]، وإفراد السبيل دليل على وجوبها.

الثالث: نشر روح التفاؤل والأمل بين العباد، ونفض روح الهزيمة والانكسار خصوصًا في أوقات الإخفاقات الدعوية.

الرابع: وضوح الرؤية بالنسبة للدعاة وتحديد الأهداف.

الخامس: علو الهمة في طلب الآخرة تفتح الطريق أمام العبد في الانشغال بما ينفعه، وحسن ترتيب أولوياته، والانشغال بالدعوة إلى الله، وعدم إعطائها فتات الأوقات.

فطريق الدعوة إلى الله هو طريق الأنبياء جميعًا، ولا يعرف هذا الطريق الكسل الذي أصابنا الآن؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أصابه البلاء العجيب، ولم يتوان عن تبليغ دين ربه، مات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو في سن الطفولة وفي أشد الحاجة إليها، ثم مات جده بعد التعلق به، ثم بعثه الله فكذبه قومه بعد أن كانوا يلقبونه بالصادق الأمين، وآذوه وعذبوا أصحابه، وماتت السيدة خديجة التي كانت تواسيه، ومات عمه الذي كان يحميه من أذى قريش، وعرض نفسه على الطائف فرموه بالحجارة، وأخرجه قومه من أحب البلاد إليه ثم حاربوه وقتلوا من أصحابه وأحبابه من قتلوا، ولا زال صلى الله عليه وسلم   في معاناة لنشر الدين حتى آخر حياته، وبالرغم من ذلك ظل يدعو إلى الله حتى آخر لحظات حياته.

امضِ في طريقك غير ملتفتٍ لصيحات المخذلين والراضين بالدون من العمل، واعلم أنك على ثغر من ثغور هذا الدين، فالله الله لا يُؤتينَّ الإسلام من قِبَلِك، فجدِّد الأسلوب وغيِّر الطريقة، ونوِّع الطرح، وحذِّر من الفتن، وركِّز على مراقبة الله في السر والعلن، والجدية في الالتزام، فنحن لسنا بحاجة إلى كثرة عدد وقلة عمل، وإياك ثم إياك أن تحتقر أحدًا من المدعوين، فربَّ إنسان احتقرته ثم أهملته ولو التزم لنفع الله به الأمة(37).

***

_______________

(1) أخرجه البخاري (6368).

(2) تحفة الأحوذي (9/ 236).

(3) فتح الباري (1/ 179).

(4) التفسير الواضح (2/ 547).

(5) من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم (2/ 26).

(6) تفسير السعدي، ص618.

(7) التحذير من الكسل والحث على البناء والتعمير، منتديات الألوكة.

(8) شفاء العليل، ص250.

(9) نضرة النعيم (11/ 5439).

(10) أخرجه أبو داود (1307).

(11) تفسير الرازي (11/ 248).

(12) تفسير ابن كثير (2/ 387).

(13) أخرجه البخاري (2893).

(14) أخرجه مسلم (2664)، والطب الروحاني، ص69.

(15) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 130).

(16) موارد الظمآن لدروس الزمان (3/ 35).

(17) حفظ العمر، لابن الجوزي، ص35.

(18) الأدب النبوي، ص209.

(19) أخرجه الترمذي (2380).

(20) مدارج السالكين (1/ 456).

(21) الزهد والرقائق، لابن المبارك (1/ 86).

(22) روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ص168.

(23) الكسل آفة العصر، مدار الوطن، بتصرف.

(24) زاد المعاد في هدي خير العباد (4/ 170).

(25) المصدر السابق (4/ 171).

(26) الأدب النبوي، ص225.

(27) هداية المرشدين إلى طرق الوعظ والخطابة، ص283.

(28) أخرجه البخاري (1401)، ومسلم (1042).

(29) إحياء علوم الدين (2/ 62).

(30) أخرجه أحمد (8932).

(31) خطوات إلى السعادة، ص44.

(32) إحياء علوم الدين (2/ 246).

(33) من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم (2/ 18).

(34) عيوب النفس، ص14.

(35) أخرجه البخاري (1091)، ومسلم (776).

(36) أخرجه أبو داود (1555).

(37) رسالة إلى داعية، موقع: الشبكة الإسلامية.