logo

دلالة الفطرة على وجود الله


بتاريخ : الأحد ، 9 ربيع الآخر ، 1443 الموافق 14 نوفمبر 2021
بقلم : تيار الاصلاح
دلالة الفطرة على وجود الله

حقيقة وجود الله الخالق هي من أظهر وأوضح الحقائق على الإطلاق، إلا أن الحاجة للاستدلال عليها ملحّة عندما تنتكس الفطرة، ويتم التشكيك في البديهيات والقواعد المنطقية الأساسية التي تُبنى عليها المعارف.

ودلالة الفطرة على وجود الله أقوى من أي دليل آخر، علميًا كان أو عقليًا، فالفطرة هي الأساس التي تبنى عليه المعارف الإنسانية جميعها، وعلى رأسها معرفة الخالق سبحانه، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].

وهذه الفطرة هي الميثاق الذي أخذه الله على بني آدم قبل أن يخلقوا، وجعل منه حجة قائمة عليهم، كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)} [الأعراف: 172- 174].

إن الاعتراف بربوبية الله وحده فطرة في الكيان البشري، فطرة أودعها الخالق في هذه الكينونة وشهدت بها على نفسها بحكم وجودها ذاته، وحكم ما تستشعره في أعماقها من هذه الحقيقة، أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى فيحتاجون إلى التذكير والتحذير.

إن التوحيد ميثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى، فلا حجة لهم في نقض الميثاق- حتى لو لم يبعث إليهم بالرسل يذكرونهم ويحذرونهم- ولكن رحمته وحدها اقتضت ألا يكلهم إلى فطرتهم هذه؛ فقد تنحرف، وألا يكلهم كذلك إلى عقولهم التي أعطاها لهم فقد تضل، وأن يبعث إليهم رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل (1).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة -وفي رواية- على هذه الملة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء» (2).

ويبين ابن تيمية ذلك فيقول: وإذا قيل: إنّه وُلد على فطرة الإسلام، أو خُلق حنيفًا ونحو ذلك؛ فليس المراد به أنّه حين خرج من بطن أمه يعلم هذا الدين ويُريده، فإن الله تعالى يقول {وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ولكن فطرته مقتضية موجبة لدين الإسلام، لمعرفته ومحبّته، فنفس الفطرة تستلزم الإقرار بخالقه ومحبته وإخلاص الدين له، وموجبات الفطرة ومقتضاها تحصل شيئًا بعد شيء، بحسب كمال الفطرة، إذا سلمت عن المعارض (3).

إنّ الإنسان لو ترك وذاته بدون معلم أو مربي؛ فإنّه يشعر في أعماق نفسه، وبما أودعه الله في خلقته بأنّ لهذا الكون خالقًا خلقه، ومكونًا كونه، ومبدعًا أبدعه، ومدبرًا دبره هذا الشعور نابع من فطرته وذاته وليس مما تعلمه من والديه وأهله، يولد معه، وينمو معه، ويبقى معه لا يتغير بتغير الظروف، ولا يمكن انتزاعه من نفسه، لأنّه جزء لا يتجزأ منها، فكما أنّ غرائز الإنسان ذاتية له لا يمكن فصلها عنه ولا تحتاج إلى تعليم معلم، وكما أنّ عواطف الإنسان وأحاسيسه جزء من خلقته وكيانه البشرى، فإنّ شعوره الفطري الذاتي يدفعه دائمًا إلى الإيمان بأنّ لهذا الكون خالقًا ومدبرًا وربًّا.

وقال شيخ الإسلام: إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة (4).

وعن عياض بن حمار رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم» (5).

ولذلك كان وجود الله من الأمور المركوزة في الفطَر البشرية، فإن كل إنسان يشعر من نفسه بأنّ له ربًا وخالقًا، ويحس بعظيم الحاجة إليه، فيتجه بيديه وعينيه وقلبه إلى السماء، لطلب الغوث من ربه.

إن حقيقة التوحيد ليست مركوزة في فطرة «الإنسان» وحده؛ ولكنها كذلك مركوزة في فطرة هذا الوجود من حوله- وما الفطرة البشرية إلا قطاع من فطرة الوجود كله، موصولة به غير منقطعة عنه، محكومة بذات الناموس الذي يحكمه- بينما هي تتلقى كذلك أصداءه وإيقاعاته المعبرة عن تأثره واعترافه بتلك الحقيقة الكونية الكبيرة.

إن ناموس التوحيد الذي يحكم هذا الوجود، واضح الأثر في شكل الكون، وتنسيقه، وتناسق أجزائه، وانتظام حركته، واطراد قوانينه، وتصرفه المطرد وفق هذه القوانين.

وأخيرًا- حسب العلم القليل الذي وصل إليه البشر- وحدة الجوهر الذي تتألف منه ذراته، وهو الإشعاع الذي تنتهي إليه المواد جميعًا عند تحطيم ذراتها وإطلاق شحناتها (6).

إن الفطرة السليمة حين تشك تدعو الله أن يكشف لها عن وجه الحق، وأن يهديها إليه، دون أن تجد في هذا غضاضة، ولكنها حين تفسد بالكبرياء الجامحة، تأخذها العزة بالإثم، حتى لتؤثر الهلاك والعذاب، على أن تخضع للحق عند ما يكشف لها واضحًا لا ريب فيه (7).

والفطرة هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها وجعلهم مفطورين عليها، وعلى محبة الخير وإيثاره وكراهية الشر ودفعه، وجعلهم حنفاء مستعدين لقبول الخير والإخلاص لله والتقرب إليه، أو الفطرة هي الطبيعة الجسمية والنفسية التي يخلق بها الإنسان، إذ يولد في الدنيا وتولد معه الغرائز والأحاسيس والعواطف، إنها الإنسان بما هو قبل أن يتأثر بأفكار أسرته ومعلمه ومجتمعه.

قال ابن عاشور: الفطرة هي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، والفطرة التي تخص نوع الإنسان هي ما خلقه الله عليه جسدًا وعقلًا، فمشيُ الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولته أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة الجسدية، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، ومحاولة استنتاج أمر من غير سببه خلاف الفطرة العقلية (8).

وقال ابن عطية: والذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة أي الفطرة أنها الخلقة والهيئة التي في نفس الإنسان التي هي معدة ومهيئة لأن يميز بها مصنوعات الله، ويستدل بها على ربه ويعرف شرائعه (9). 

والله خالق هذا الكون وخالق هذا الإنسان يعلم سبحانه أن بين فطرة هذا الإنسان ومشاهد هذا الكون وأسراره لغة مفهومة، وتجاوبًا أعمق من منطق الذهن البارد الجاف، وأن هذه الفطرة يكفي أن توجه إلى مشاهد هذا الكون وأسراره، وأن تستجاش لتستيقظ فيها أجهزة الاستقبال والتلقي، وأنها عندئذ تهتز وتتفتح وتتلقى وتستجيب، ومن ثم يكثر خطاب الفطرة البشرية- في القرآن- بهذه اللغة المفهومة، وهذه نماذج من هذا الخطاب العميق الموحي:

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3].

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)} [يونس: 5- 6].

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس: 31- 32].

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 67].

{قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

وتحتشد بمشاهد الأحداث والتجارب التي يشهدونها بأعينهم ويعيشونها بأنفسهم ولكنهم يمرون بها غافلين عن دلالتها على التدبير والتقدير، والتصريف والتسيير، ويعرض السياق القرآني لهم مشاهد من واقعهم هم في استقبال تلك الأحداث والتجارب كما ترفع المرآة للغافل عن نفسه فيرى فيها كيف هو على حقيقته. وهذه نماذج من ذلك المنهج القرآني الفريد:

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [يونس: 12].

{وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)} [يونس: 21- 23].

وتحتشد بمصارع الغابرين من المكذبين؛ آنًا في صورة الخبر، وآنًا في صورة قصص بعض الرسل (10).

دلالة الفطرة على وجود الخالق:

إن الإيمان بوجود الله الخالق أمر غيبي والأمور الغيبية لا تدرك بالتجربة، ومما يدل على دلالة الفطرة على وجود الخالق ما يلي: 

أولًا: وجود العبودية والتدين عبر تاريخ البشر: لاحظ العلماء أن جميع الأمم التي درس علماء تاريخ الأديان تاريخها اتخذت معبودات تتجه إليها وتقدَّسها، ولا يوجد عَلَى الإطلاق في أي عصر من العصور، ولا في أي أمة من الأمم مجتمع بلا دين ولا بلا إله معبود، حقًا كَانَ أو باطلًا، فهناك اتجاه فطري إِلَى أن يكون هناك دين، وإله معبود، حتى قال بعضهم: لقد وجدت وتوجد جماعات إنسانية من غير علوم وفنون وفلسفات، لم توجد جماعة بغير ديانة، فالشعور الفطري بوجود خالق مدبر لهذا الكون شعور مشترك بين جميع الناس، مغروس في النفوس، يقوم في نفس الطفل الصغير، والإنسان البدائي والإنسان المتحضر، والجاهل والعالم والباحث والفيلسوف، كل هؤلاء يشعرون بشعور مشترك لا يستطيعون دفعه عن أنفسهم.

وهذه الفطرة قد تفسد كذلك بسبب ما يقع عليها من ضغوط داخلية وخارجية، وبسبب الإغواء والاستهواء الذي يقوم به شياطين الجن والإنس، بكل ما يملكون من أجهزة التوجيه والتأثير؛ إنما يكل الله الناس إلى وحيه ورسله وهداه وكتبه، ليرد فطرتهم إلى استقامتها وصفائها، وليرد عقولهم إلى صحتها وسلامتها، وليجلو عنهم غاشية التضليل من داخل أنفسهم ومن خارجها، وهذا هو الذي يليق بكرم الله وفضله، ورحمته وعدله، وحكمته وعلمه، فما كان ليخلق البشر، ثم يتركهم سدى، ثم يحاسبهم يوم القيامة ولم يبعث فيهم رسولاً:

{وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فتقدير الله حق قدره يقتضي الاعتقاد بأنه أرسل إلى عباده رسلًا يستنقذون فطرتهم من الركام، ويساعدون عقولهم على الخلاص من الضغوط، والانطلاق للنظر الخالص والتدبر العميق، وأنه أوحى إلى هؤلاء الرسل منهج الدعوة إلى الله، وأنزل على بعضهم كتبًا تبقى بعدهم في قومهم إلى حين- ككتب موسى وداود وعيسى- أو تبقى إلى آخر الزمان كهذا القرآن (11).

ثانيًا: الشدائد تصفي جوهر الفطرة: من المعلوم أنّ فطرية الإيمان بالله لا تعني بالضرورة أن يكون الإنسان متوجهًا إلى الله دائمًا ملتفتًا إليه مرتكزًا إيّاه في جميع حالاته وآونة حياته اليومية، إذ رب عوامل تتسبب في إخفاء هذا الإحساس في خبايا النفس وحناياها وتمنع من تجليه، وظهوره على سطح الذهن، وفي مجال الوعي والشعور، وأمّا عندما يرتفع ذلك الحجاب المانع عن الفطرة فالإنسان يسمع نداء فطرته بوضوح.

والإنسان إذا وقع في محنة شديدة لا يبقى في ظنه رجاء المعاونة من أحد، فهو بأصل خلقته يتضرع إلى من يخلصه منها، وما ذاك إلا شهادة الفطرة بالافتقار إلى الصانع المدبر.

ومن أوضح الأدلة على فطرية المعرفة بالله عز وجل والإيمان بوجوده ذلك الدافع القوي الذي يُلجئ الإنسان عند المصائب والمخاطر إلى نداء الله تعالى، والاستغاثة به كائنًا من كان ذلك الإنسان مؤمنًا أو غير مؤمن ففي الشدة تبدو فطرة الناس جميعًا كما هي في أصلها الذي خلقها الله عليه، وعندما تمر المحنة وتأتي العافية والنعمة يعودون إلى مخالفة فطرتهم من جديد، ويندر أن لا يذكر إنسان أمثلة من حياته عاش فيها هذا المعنى قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67]. 

إنه مشهد يحس به من كابده، ويحس بالقلوب الخافقة الواجفة المتعلقة بكل هزة وكل رجفة في الفلك، صغيرًا كان أو كبيرًا، حتى عابرات المحيط الجبارة التي تبدو في بعض اللحظات كالريشة في مهب الرياح على ثبج الموج الجبار! والتعبير يلمس القلوب لمسة قوية، وهو يشعر الناس أن يد الله تزجي لهم الفلك في البحر وتدفعه ليبتغوا من فضله؛ {إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيمًا}، فالرحمة هي أظهر ما تستشعره القلوب في هذا الأوان.

ثم ينتقل بهم من الإزجاء الرخي للاضطراب العتي، حين ينسى الركب في الفلك المتناوح بين الأمواج كل قوة وكل سند وكل مجير إلا الله، فيتجهون إليه وحده في لحظة الخطر لا يدعون أحدًا سواه: {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} (12).

وكثيرًا ما تنكشف الحجب عن الفطرة، فتزول عنها الغشاوة التي رانت عليها عندما تصاب بشدة، أو تقع في مأزق لا تجد فيه من البشر عونًا، وتفقد أسباب النجاة، فكم من ملحد عرف ربّه ورجع إليه عندما أحيطت به شدة، وكم من مشرك أخلص دينه لله لضرّ نزل به، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس: 22].​

عجيب هذا المخلوق الإنساني لا يذكر الله إلا في ساعة العسرة، ولا يثوب إلى فطرته وينزع عنها ما غشاها من شوائب وانحرافات إلا في ساعة الكربة، فإذا أمن فإما النسيان وإما الطغيان، ذلك إلا من اهتدى فبقيت فطرته سليمة حية مستجيبة في كل آن، مجلوة دائمًا بجلاء الإيمان..

{وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا}، كذلك صنع قوم فرعون مع موسى، فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه.

فإذا ذاقوا الرحمة مكروا في آيات الله وأولوها على غير وجهها، وقالوا: إنما رفع عنا الرجز بسبب كذا وكذا، وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك، فجاءت محمدًا تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له بالسقيا، ثم مكرت قريش بآية الله وظلت فيما هي فيه، وهي ظاهرة مطردة في الإنسان ما لم يعصمه الإيمان..

عندئذ فقط، وفي وسط هذا الهول المتلاطم، تتعرى فطرتهم مما ألم بها من أوشاب، وتنفض قلوبهم ما ران عليها من تصورات، وتنبض الفطرة الأصيلة السليمة بالتوحيد وإخلاص الدينونة لله دون سواه: {دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} وتهدأ العاصفة ويطمئن الموج، وتهدأ الأنفاس اللاهثة، وتسكن القلوب الطائرة، وتصل الفلك آمنة إلى الشاطئ، ويوقن الناس بالحياة، وأرجلهم مستقرة على اليابسة فماذا؟ {إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} (13).

عن عمران بن حصين، قال: أن قريشًا جاءت إلى الحصين، وكانت تعظمه، فقالوا له: كلم لنا هذا الرجل، فإنه يذكر آلهتنا ويسبهم، فجاءوا معه حتى جلسوا قريبًا من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل الحصين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أوسعوا للشيخ»، وعمران وأصحابه متوافدون، فقال حصين: ما هذا الذي يبلغنا عنك، إنك تشتم آلهتنا وتذكرهم، وقد كان أبوك جفنة وخبزًا فقال: «يا حصين، إن أبي وأباك في النار، يا حصين، كم إلهًا تعبد اليوم؟» قال: سبعة في الأرض، وإلهًا في السماء، قال: «فإذا أصابك الضر من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فإذا هلك المال من تدعو؟» قال: الذي في السماء، قال: «فيستجيب لك وحده، وتشركهم معه؟» (14).

ولا يصح لنا أن نستنتج من توجه البشر إلى الله في الشدائد بأنّ الإيمان وليد الخوف والرهبة من الطبيعة الغاضبة كما يدعي الملاحدة؛ بل الخوف مجرد وسيلة تكشف الغطاء عن ذلك الإيمان المغروس في أعماق البشر، المودوع في الفطرة، وكذلك تكون فطرة الإيمان بالله والتدين وحب الجمال واكتناز الثروة وطلب العلم؛ رغم أنّها أُمور مجبولة مع فطرتنا ومعجونة مع خلقتنا فهي لا تظهر ولا تتفتّح ولا تبرز في كل الأوقات والظروف، ولا تتجلّى في عالم الذهن في كل الأزمنة والأحوال ما لم تتهيّأ الظروف المناسبة لها في وجودنا.

ثالثًا: التساؤلات الفطرية عن الوجود: هناك أسئلة تدور في ذهن الإنسان وتلح على الإنسان في داخله لا يستطيع دفعها عن أصل الوجود ونهايته وسببه، وعن الموت وأسراره، وعن الروح وأسرارها مما يدل على وجود فطرة كافية في النفوس تبرز هذه الأسئلة عن الإله والوجود.

لا بد للمسلم من تفسير شامل للوجود، يتعامل على أساسه مع هذا الوجود، لا بد من تفسير يقرب لإدراكه طبيعة الحقائق الكبرى التي يتعامل معها، وطبيعة العلاقات والارتباطات بين هذه الحقائق: حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية (وهذه تشتمل على حقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان) وما بينها جميعًا من تعامل وارتباط (15).

رابعًا: احتياج النفس إلى قوة مدبرة: لا ريب أن كل إنسان يشعر في قرارة نفسه بافتقار وحاجة إلى إله قادر مدبر، يرفع إليه حاجاته، ويسند إليه أموره، وهذا الشعور ناشئ عن النقص والعجز الذاتي في أنفسنا، والعاجز يفتقر أبدًا إلى من يعينه، والناقص دائمًا يحتاج إلى من يكمله.

إننا نشعر بوجود الروح فينا فنحرص عليها دون أن نشعر بها بإحدى الحواس الظاهرة وفي أنفسنا نشعر بالعواطف والوجدانيات، كالحب والبغض والرغبة والكره، فما الدليل على وجودها فينا وهي متغلغلة في داخلنا هل نستطيع أن نقيم عليها دليلًا أكثر من أننا نشعر بها وهي حق لا شك فيه كذلك حاجة النفس إلى قوة مدبرة.

قال الله تعالى: {أَفِي اللهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، في جمع بديع بين استثارة الفطرة والاستدلال بالكون المنظور.

فإن وجود الله سبحانه من أبين الأشياء وأظهرها، وكل شيء في الوجود معتمد على وجوده، فهو الدليل لكل شيء وهو المدلول.

فخلق الإنسان آية دالة على وجوده، وآيات الكون شاهدة على وجوده، وكل شيء في الوجود ينطق بأنّ له خالقًا وصانعًا حكيمًا (16).

الأسئلة الوجوديّة الكبرى:

تهجم على الإنسان فطريًّا أسئلة وجوديّة كبرى، لا أحد يستغني عنها، فتجد الطفل الصغير يسأل نفسه أو أبويه عن الإجابة عن هذه الأسئلة.

ونقصد بالأسئلة الوجوديّة الكبرى ثلاثة أسئلة خاصّةَ: من أنا؟ من أين أتيت؟ إلى أين سأذهب؟ وقد نضيف لها سؤال الغاية، لكن أفردنا الحديث عنه لأهمّيّته.

فهذه الأسئلة تحيّر الإنسان، وهو في أشدّ الحاجة إلى أجوبة لها، والعلم التجريبي لا يمكنه بأيّ حال الخوض في هذه الأسئلة وليست من اختصاصه. فيبقى دور الفلسفة، مع النسبيّة والتّضارب والافتراض دون استدلال الذي تشهده الفلسفة.

والإجابة على هذه الأسئلة –على الأقل الإجابة من وجهة النظر الشخصيّة للفرد- هي التي تشكّل الرؤية الكونية للإنسان، كما أنّ راحة الإنسان وانسجامه مع ذاته يستدعي التناسق بين الرؤية الكونية للإنسان وتوجّهه الفكري في الأسئلة الوجودية وبين أفعاله.

الإرادة الحرة:

يشعر الإنسان بشكل فطري ضروري بإرادته الحرّة في الاختيار والتصرّف، كما يُفرّق بشكل فطري أيضًا بين ما له إرادة فيه، وما هو من صميم القدر أو الاضطرار.

ومعلوم الجدل الفلسفي حول الحرية والحتمية، وخلاصة ما في الأمر أنّ الشعور بالإرادة الحرّة فطري ضروري في الإنسان، لكن بعض الفلاسفة ضخّموا من حجم الحتميّات –حسب تياراتهم– فمنهم من جعل الإرادة الحرّة وهما واعتبر الإنسان خاضعا لحتميات بيولوجية كما نيتشه، أو حتميات اجتماعية؛ لكن الإنسان رغم وجود مؤثرات على سلوكه فإن له إرادة وحريّة في أن ينساق وراء هذه المؤثرات أو يتغلّب عليها، وهو يفرّق بشكل بدهيّ بين ما له حريّة فيه وبين ما لا تسري عليه إرادته كردود الأفعال اللاإراديّة والأمور القدريّة.

يقول الشيخ المهندس عبد الله العجيري: من الجوانب الفطرية التي يجدها الإنسان في نفسه ضرورة، ذلك التفريق الضروري بين أفعاله الاختياريّة وما يصدُر عنه اضطرارًا؛ فحين يرفع الإنسان كأس ماء لفمه، أو يحمل حقيبته، أو يركب السيارة؛ فإنّه يستطيع أن يميّز بسهولة هائلة الفرق بين جنس هذه الأفعال وبين نبضات قلبه وجريان الدم في عروقه، أو ما يُصيبُه من رعشة لبرد شديد، يلحظ الإنسان أن بإمكانه أن يتوقّف عن التنفّس مدّة باختياره، لكنه يعجز عن الاستمرار في هذا الفعل؛ لردّة فعل لاإرادية تستدعي النفس (17).

الإحساس بالجمال:

الإحساس بالجمال هو حركة عاطفية في الروح وشعور بالفرح والطمأنينة، وهزّة انفعالية وحلم ولذة خالصة، وهو ينتشر في الموضوع دون أن نعرف السبب في ذلك.

وهذا المعنى يجده الإنسان بشكل فطري ضروري في نفسه، فيحسّ بالجمال وتتحرّك نفسه له، ويفرّق بينه وبين القُبح.

المسلّمات والبدهيات العقلية الأوّلية:

والاسم الشائع للمبادئ العقلية الأولية هو الحقائق العامة، وهي مبادئ عقلية عليها تقوم كل المعارف الأخرى، ولا يمكن الاستدلال عليها، بل هي دليل في حد ذاتها.

وهذه البدهيّات فطريّة في الإنسان لا تحتاج للتلقين، ويجد الإنسان في نفسه مدافعة فطريّة للتشكيك فيها.

يقول الإمام ابن حزم: ما كان مُدركًا بأوّل العقل وبالحواس فليس عليه استدلال أصلًا، بل من قبل هذه الجهات يبتدئ كل أحد بالاستدلال، وبالرّد إلى ذلك، فيصحّ استدلاله أو يبطُل (18).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: البرهان الذي يُنال بالنظر فيه العلمُ، لا بد أن ينتهي إلى مقدمات ضرورية فطرية (19).

ومن أمثلة هذه الحقائق البدهية: الجزء من الشيء أصغر من الكل، لكل حادث سبب، استحالة اجتماع النقيضين، استحالة تواجد جسم واحد في أكثر من مكان، تحديد الأحداث والحوادث بالزمان والمكان، انقسام الأخبار لصدق وكذب.

وكل هذه البدهيّات هي فطرية أساسيّة في الإنسان، لا يختلف عليها العقلاء، بل إليها مَرَدُّ الحقائق والمعارف الأخرى، وبها يتم الاستدلال على صحّة أو خطأ المعرفة المكتسبة التي تتحصّل بالنظر.

النّزعات:

من المكونات الفطرية لدى الإنسان كذلك: النّزوع إلى بعض المعاني والحاجات الكامنة في النّفس، من أبرز هذه النزعات: النزعة الأخلاقية، النزعة الغائيّة، نزعة التّديّن.

النزعة الغائية:

يمتلك الإنسان شعورًا فطريًا بوجود غاية من الحياة والوجود ككل، ومن الأحداث والوقائع، يدفعه هذا الشعور للتساؤل عن الحكمة والقيمة والهدف، سعيًا منه إلى المعرفة.

هذه النّزعة الغائية في الإنسان تتمظهر خاصّة في السّؤال الدّائم لماذا؟ خاصّة في القضايا الوجودية الكبرى، في سعي حثيث لمعرفة الغاية والمعنى من الوجود: لماذا نحن هنا؟ فالإنسان لا يمكن أن يتصوّر حياة بدون غاية وهدف ومعنى.

نزعة التّديّن:

نقصد بنزعة التّديّن شعور الإنسان بالحاجة والافتقار إلى إله، والشعور بالنّقص، وبالحاجة للعبادة. وهذا المكوّن فطري في الإنسان متجذّر فيه، ومعروف كلام الفيلسوف ديكارت عن النقص واستدلاله به على وجود إله واتصافه بالكمال، وهذا الشعور بالنقص والحاجة هو السبب في انتشار التدين تاريخيا في الحضارات المختلفة، سواء تعلق الأمر بالإسلام (التوحيد)، أو بالديانات المخترعة الباطلة، ويتجلى ذلك في كون ظاهرة الإلحاد واللادينية عبر التاريخ البشري تظل ظاهرة استثنائية نادرة.

النزعة الأخلاقية:

يفرّق الإنسان فطريًا بين الحسن والقبيح من الأخلاق، كما يُقرّ بالقيم الأخلاقية وبموضوعيتها وكونها مطلقة.

ومن الأهمية بمكان أن نذكر هنا بأن الإنسان فطريًا وبعيدًا عن الدين لا يمكن أن تكون له منظومة أخلاقية متكاملة، كما أنه لا يمكن أن يستمدّ مشروعية هذه الأخلاق وإلزاميّتها وموضوعيّتها إلا من الدين، لكن ما يتوصّل إليه الإنسان فطريًا هو إدراك الحسن والقبيح والتّمييز بين الأخلاق وكذلك إدراك أنّ لهذه الأخلاق بُعدًا موضوعيًّا يتجاوز الذوق الشخصي والبعد الذاتي والمصلحة وما تقتضيه البراغماتية النفعيّة.

كما أنّ هذه الأخلاق التي يدركها الإنسان فطريًا قد نقول إنها ما يصطلح عليه بالقيم العالمية الكونية، التي منها قيمة العدل والصدق والأمانة، والتمييز بينها وبين الظلم والكذب والخيانة مثلًا.

وفي معرض حديثه عن مستويات الدلالة الفطرية على وجود الله، يقول المهندس عبد الله العجيري:

من المعاني الفطرية أيضًا، التي يجدها الإنسان من نفسه: نزعة أخلاقية متجذرة، يدرك من خلالها ليس فقط الأخلاق حسنها من رديئها، بل ويجد من نفسه إدراكًا ضروريًا بأن لهذه القيم الأخلاقية معانٍ موضوعية، تعطي لهذه الأخلاق قيمتها الحقيقية بعيدًا عن اعتبارات النسبية والإضافة، فهي حقائق موضوعية متجاوزة للوجود الإنساني، بل وللوجود المادي، فسواء وُجد الإنسان أو لم يوجد، وسواء وُجد الكون أو لم يوجد فستظل مثل هذه القيم الأخلاقية محافظة على قيمتها الموضوعية (20).

الغرائز:

الغرائز هي مجموع النشاطات النّفسية والأنماط السُّلوكيّة لدى الكائنات، والتي تؤمّن استمرارها وتكاثرها وحياتها؛ وهي إمّا مميّزة لنوع معين من الكائنات كالطريقة الخاصّة بالنّحل في إنتاج العسل وتنظيم الخلية، أو مشتركة بين مجموعة من الكائنات مثل خاصية الحيوانات العاشبة أو اللاحمة، أو مشتركة بين جميع الكائنات الحية كخاصّية الزّوجية.

ومن هذه الغرائر على سبيل المثال غريزة التملّك، وغريزة حب البقاء، وغريزة التزاوج.

ومن الغرائز البديعة والمعقّدة لدى الحيوانات:

- انشاءات هندسية معقّدة في بناء البيوت والسدود والجسور، كما عند العنكبوت وكلب الماء.

- الادخار، وتأمين قوت المستقبل، كما عند النملة والنحلة والسنجاب..

- العطف على الأبناء، كما عند الدب والقندس والفيل..

- مهارة في التمثيل والحيلة كما عند الضفدع الأقرن..

- دقة في التخفي والتمويه كما عند الكوكو والسرطان الناسك..

- قدرة على صنع الماء في داخل الجسم دون جهاز كيمياوي أو شرارة كهربائية..

- معرفة الحيوان للقوانين الفيزيائية، كدامغة (أو دافعة) أرخميدس أو ضغط الهواء (21).

هناك نظم ذهنية معيّنة تنمو باكرًا وتؤسس للإيمان الديني في مرحلة الطفولة، والنظام العقلي الذي يقسم الأشياء في العالم إلى قسمين؛ أشياء فاعلة وأشياء منفعلة، يُشكّل أحد الأسس لولادة الإنسان مؤمنًا بالفطرة (22).

فإنّ هذا التطابق من إعجاز القرآن والسنة النبوية، وهو دليل على صحّة رسالة الإسلام.

إن وجود هذه الحُزمة من المكونات الفطرية في الإنسان ليس له تفسير سوى وجود إله حكيم عليم أودعها في نفسه، لتكون شاهدة على وجوده، ويُعملها الإنسان في حياته لتحصيل المعرفة العلمية (بالنّسبة للبدهيات) ولحفظ بقائه (الغرائز والنزعات) وليكون واسع الأفق ولا يحصر نفسه في زاوية المادّية الضيّقة، فيعي معنى الجمال، ويعرف القيمة والأخلاق، ويهتدي إلى حقائق الإيمان (23).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) في ظلال القرآن (3/ 1391).

(2) أخرجه البخاري (1385)، ومسلم (2658).

(3) درء تعارض العقل والنقل (8/ 383).

(4) مجموع الفتاوى (16/ 328).

(5) أخرجه مسلم (2865).

(6) في ظلال القرآن (3/ 1394- 1395).

(7) في ظلال القرآن (3/ 1505).

(8) التحرير والتنوير (21/ 90).

(9) نفس المصدر.

(10) في ظلال القرآن (3/ 1749).

(11) في ظلال القرآن (2/ 1146).

(12) في ظلال القرآن (4/ 2240).

(13) في ظلال القرآن (3/ 1773- 1774).

(14) التوحيد لابن خزيمة (1/ 278).

(15) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته (ص: 1).

(16) منهج القرآن الكريم في دحض شبهات الملحدين (ص: 29).

(17) شموع النهار (ص: 79).

(18) الفصل في الملل والأهواء والنحل (5/242).

(19) درء تعارض العقل والنقل (3/309).

(20) شموع النهار (ص: 57).

(21) غريزة أم تقدير إلهي (ص: 9).

(22) فطرية الإيمان (ص: 32).

(23) دلالات الفطرة على وجود الله/ مركز يقين.