الدعاة والمطامع الذاتية
كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، عُرضت عليه المغريات، من مال وملك وشرف وجاه ونساء، نظير أن يتنازل عن دعوته فأبى ذلك العرض، وازدراه ورفضه.
ومع انتشار الخير، وكثرة من يسلك طريق الاستقامة، ويعمل في حقل الدعوة، إلا أن البعض يروم الصواب ولا يجده، وينشد الجادة ويتيه عنها، تقطعت به السبل، وانبرى له الشيطان فاتخذه مطية له، ومركبًا سهلًا يسير به في لجج الرياء، والسمعة، والعجب والمباهاة، ظلمات بعضها فوق بعض.
إن طريق الدعوة طريق شاق وطويل، ومليء بالآفات والمعوقات التي تعترض طريق الداعية، وتعيق سيره إلى الله، ومن أهم هذه الأمراض، التي تعترض طريق الدعاة، الأمراض القلبية، التي تصيب النفوس والأرواح والقلوب والعزائم والإرادات، وهي أشد فتكًا وأعظم خطرًا من الأمراض البدنية، فأمراض البدن تظهر أعراضها، ويشعر المريض بآلامها، أما أمراض القلوب فتنمو وتستفحل يومًا بعد يوم، وصاحبها لا يشعر بها ولا يعاني من آلامها، أمراض الأبدان لها أطباء وحكماء وخبراء في كل باب، أما أمراض القلوب فأطباؤها قليلون، وخبراؤها نادرون(1).
وسيرة الرسول القائد صلى الله عليه وسلم، كبير الدعاة إلى الله، خير دليل على معنى القيادة المسئولة، فهذا علي رضي الله عنه صهره، وابن عمه، وألصق الناس به يصف الرسول القائد وقت الأزمات فيقول: كنا إذا احمرَّ البأس، ولقي القومُ القومَ، اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون منا أحد أدنى من العدو منه(2).
ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قِبَل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق الناسَ إلى الصوت، وهو يقول: «لن تراعوا، لن تراعوا»، وهو على فرس لأبي طلحة عُرْي، ما عليه سرج، وفي عنقه سيفه(3).
وكان في الأزمات يربط الناس على بطونهم حجرًا، ويربط الرسول صلى الله عليه وسلم الحجرين، وعندما يأتي الطعام أو الشراب يكون، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم آخر الطاعمين.
وهذه هي مسئولية القائد، وتبعات القيادة والرئاسة، التي يغفل عنها بعض الدعاة الذين يلهثون خلفها، ولا يبالون بمغبتها وتبعاتها.
عن محمد بن كعب القرظي، قال: حُدِّثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدًا، قال يومًا وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله أن يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟، وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه.
فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفَّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها.
قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قل يا أبا الوليد أسمع» قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد، بما جئت به من هذا الأمر، مالًا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه، لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الأطباء، وبذلنا فيها أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: «أفرغت يا أبا الوليد؟» قال: نعم، قال: «فاستمع مني»، قال: أفعل.
قال: «بسم الله الرحمن الرحيم: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)}» [فصلت:1-4]، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه، فلما سمع عتبة أنصت لها، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليهما، يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: «قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك»، فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به! فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي أني سمعت قولًا والله، ما سمعت مثله قط، والله، ما هو بالسحر، ولا بالشعر، ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وما هو فيه فاعتزلوه، فوالله، ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! قال: هذا رأيي فاصنعوا ما بدا لكم(4).
وهكذا كان حال الأنبياء جميعًا، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}: أَي يا قوم، إنني لا أُريد منكم مالًا على أَداء هذه الرسالة، فما أجري إلا على الله وحده، فما بالكم ترفضون ما دعوتكم إليه من الحق، وهذا الذي قاله نوح لقومه من الأُسس الهامة التي تقوم عليها دعوات المرسلين، وينبغي أن تكون قدوة لجميع الدعاة والمصلحين، فإن الدعوة للإصلاح إذا تجردت عن المطامع الذاتية، تكون أَدعى للاستجابة إليها، واستمالة القلوب نحوها، وفي ذلك يقول الله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21](5).
وقال جل شأنه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الفرقان:57]؛ أَي: قل أَيها الرسول واعظًا لهؤلاء المشركين، ودافعًا عن نفسك مظنة الانتفاع: ما أَسأَلكم على ما أَدعوكم إِليه من توحيده وعبادته أَجرًا، ولا أَطلب منكم في سبيل القيام بتبليغه جزاءً، إلا اهتداء من شاء أَن يتخذ إلى ربه سبيلًا، فهذا أَعظم أَجر يناله الداعية إلى الحق وإلى طريق مستقيم(6).
وهكذا كان أصحابه البررة، وأتباعه الصادقون، دعاة الحق وأئمة الهدى رضي الله تعالى عنهم، يعلنون في كل مكان أن طلبهم ليس الدنيا؛ بل إنهم يريدون إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأن من دخل في الإسلام فماله له، وملكه له، وما أكثر الشواهد الدالة على ذلك.
فمن ذلك أن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه لما ذهب إلى رستم، بناءً على طلبه قبل بدء القتال في معركة القادسية، قال له رستم: إنكم جيراننا، وكنا نحسن إليكم، ونكف الأذى عنكم، فارجعوا إلى بلادكم، ولا نمنع تجارتكم من الدخول إلى بلادنا، فقال له المغيرة رضي الله عنه: إنا ليس طلبنا الدنيا، وإنما همنا وطلبنا الآخرة، وقد بعث الله إلينا رسولًا، قال له: إني قد سلطت هذه الطائفة على من لم يدن بديني، فأنا منتقم بهم منهم، وأجعل لهم الغلبة ما داموا مقرين به، وهو دين الحق، لا يرغب عنه أحد إلا ذل، ولا يعتصم به إلا عز، فقال له رستم: فما هو؟، فقال: أما عموده، الذي لا يصلح شيء منه إلا به، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، والإقرار بما جاء من عند الله، فقال: ما أحسن هذا! وأي شيء أيضًا؟، قال: وإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله.
قال: وحسن أيضًا، وأي شيء أيضًا؟ قال: والناس بنو آدم، فهم إخوة لأب وأم، قال: وحسن أيضًا، ثم قال رستم: أرأيت إن دخلنا في دينكم أترجعون عن بلادنا؟، قال: إي والله، ثم لا نقرب بلادكم إلا في تجارة أو حاجة، ولما خرج المغيرة رضي الله عنه من عنده ذاكر رستم قومه في الإسلام، فأنفوا من ذلك، وأبوا أن يدخلوا فيه(7).
فالسالك طريق الدعوة هو السالك سبيل الأنبياء والمرسلين، وسبيل سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، وأصحابه البررة رضي الله عنهم، وعليه أن يخلص نيته كما أخلصوا.
وهذا الحسن البصري رحمه الله قيل له: هذا لك بكذا، فقال: إنما جئت أشتري بدرهمي لا بديني.
فهذا إذا قبل المحاباة طمعًا فيه من أجل دينه، فأما إذا عرف له حقه من غير طمع، فلا بأس به، ولم يزل أهل الدين يعرف لهم، ويؤثرون على غيرهم من الناس، وكان عليه السلام يؤثر، ويفضل، ويعرف له على نبوته ومكانه من الله تعالى(8).
فقد تكفَّل الله لمن لا يجعل الدنيا أكبر همه بالسعادة في الدنيا والآخرة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلمكما في حديث أنس بن مالك: «من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له»(9).
ومن صور تلك الأطماع المهلكة:
أولًا: محبة المدح والثناء، فتراه يطل برأسه، وترتفع هامته، وتشرف نفسه إلى صوت مادح، أو ثناء في مجلس، قال الفضيل بن عياض: «لا يترك الشيطان الإنسان حتى يحتال له بكل وجه، فيستخرج منه ما يُخبر عن عمله، لعله يكون كثير الطواف، فيقول: ما كان أحلى الطواف الليلة، أو يكون صائمًا فيقول: ما أثقل السحور، وما أشد العطش، فإن استطعت أن لا تكون محدثًا ولا متكلمًا ولا قارئًا، إن كنت بليغًا قالوا: ما أبلغه، وأحسن حديثه، وأحسن صوته، فيعجبك ذلك فتنتفخ، وإن لم تكن بليغًا قالوا: ليس يُحسن يُحدث، وليس صوته بحسن، أحزنك وشق عليك، فتكون مرائيًا، إذا جلست فتكلمت، ولم تبال مَن ذمَّك ومَن مدحك فتكلم».
ثانيًا: كثرة الحديث عن أعماله، وما لاقاه من كد وتعب ونصب، وهذه قد يكون ظاهرها محبة هذا الدين، وبث الحماس؛ لكنها في قرارة النفس إبراز أعمال الشخص، وما يلاقيه في سبيل الدعوة؛ رغبة في رفع مقامه لدى الناس، وتصيد قلوبهم، وكسب ثنائهم.
قال القرطبي رحمه الله: «حقيقة الرياء طلب ما في الدنيا بالعبادة، وأصله طلب المنزلة في قلوب الناس»(10).
ثالثًا: نسبة عمل الجماعة إليه، فتراه يُحب أن يظهر أمام الرؤساء والمديرين على أنه الرجل الذي قام بالعمل، وهو صاحب الفكرة، وهو الذي أشار بالأمر! وقد يستمر به مسلسل الادعاء حتى يقع في خطر أعظم، وهو نسبه أعمال إليه لم يقم بها، وينطبق عليه قول الله تعالى: {لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:188].
قال سعد بن عبد الله: «نظر الأكياس في تفسير الإخلاص، فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركته وسكونه في سره وعلانيته لله تعالى، لا يمازجه شيء، لا نفس، ولا هوى، ولا دنيا»(11).
رابعًا: العجب بالنفس وأعمالها، وتفانيها في خدمة الناس، وأنه قدّم وقدّم، وفكر وقدر، ومساء البارحة لم تكتحل عينه بالنوم همًا وغمًا لحال المسلمين، فرحم الله حصين بن عبد الرحمن عندما قال: «أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت»، قال مسروق: «كفى بالمرء علمًا أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلًا أن يعجب بعمله».
وقال ابن القيم في الفوائد: «لا شيء أفسد للأعمال من العجب ورؤية النفس، ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منّة الله وتوفيقه، والاستعانة به، والافتقار إليه، وإخلاص العمل له.
وتأمل في حال من أعجبته نفسه في حلة لبسها، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل يتبختر، يمشي في برديه قد أعجبته نفسه، فخسف الله به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»(12).
خامسًا: استغلال الفرص لإبراز الأعمال، فإن ذكرت آسيا فهو الخبير بها، وإن ذكرت أفريقيا قال: لي عشر سنوات وأنا أذهب إليها سنويًا مرة أو مرتين، وإن كان الحديث عن أوروبا فإنه هو الذي دفع بالشباب ليذهبوا هناك، حيث الدعوة والإغاثة، وأنهم وافقوا بعد جهد وعناء بذله!
وإن تحدثوا عن الفقراء، فهو العليم بأحوالهم، المتابع لأخبارهم، ثم يسرد لك ما يعرف وما لا يعرف.
سادسًا: ذكر تقدير العلماء والمشايخ له، وأن فلانًا، من طلبة العلم، خصني بحديث لا يعرفه أحد، وأن فلانًا من العلماء سألني عن كذا وكذا، وقام وودعني بنفسه! وسلسلة الخرز هذه طويلة إذا انقطعت!
قال محمد بن واسع: «إن كان الرجل ليبكي عشرين سنة وامرأته معه لا تعلم به».
قال بعض العلماء: «آفة العبد رضاه عن نفسه، ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها، ومن لم يتهم نفسه على دوام الأوقات فهو مغرور».
وفي وسط هذه المهلكات تبرز صور مشرقة لأهل الإيمان ممن قتلوا حظوظ النفس، فما أجمل صورة ذلك المؤمن، الذي يعمل ويكره أن ينسب إليه شيء، وما أعظم من يجد ويجتهد، ولا يرى نفسه إلا أنها حقيرة في جنب الله؛ بل ما أعظم من كتم حسناته كما يكتم سيئاته!
ولأهل الدعوة يقول ابن الجوزي: «ما أقل من يعمل لله تعالى خالصًا؛ لأن أكثر الناس يحبون ظهور عبادتهم، اعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه من قلوبهم بالعمل، وإخلاص القصد، وستر الحال هو الذي رفع من رفع»(13).
وكان الحسن يقول: «روي أنه من قَبِلَ الله تعالى من عمله حسنة واحدة أدخله بها الجنة»، قيل: يا أبا سعيد: فأين تذهب حسنات العباد؟ فقال: «إن الله عز وجل إنما يقبل الخالص الطيب، المجانب للعجب والرياء، فمن سلمت له حسنة واحدة فهو من المفلحين».
سابعًا: هناك من تستشرف نفسه لدرع يقدم له، أو شهادة شكر تصل باسمه! ويصغي بسمعه أن يُثنى عليه وعلى جهده! ويتحدث ويكتب عن سيرته ماذا قدم وفعل.
كل عملك الذي تقدمه فهو قليل في جنب الله، وإن ظهر لك مثل الجبال، فاجمع على قلبك الخوف والرجاء، وتذكر قول ابن عوف: «لا تثق بكثرة العمل فإنك لا تدري أيقبل عنك أم لا» إن عملك مغيب عنك كله، واحفظ عملك بالإخلاص، واكتم حسناتك كما تكتم سيئاتك، وأبشر بخير عظيم إذا قصدت وجه الله عز وجل(14).
يقول ابن تيمية في هذا الشأن: «والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله، فيغفر الله به كبائر الذنوب، كما في حديث البطاقة، فهذه حال من قالها بإخلاص وصدق، كما قالها هذا الشخص، وإلا فأهل الكبائر الذين دخلوا النار كلهم يقولون التوحيد، ولم يترجح قولهم على سيئاتهم كما ترجح قول صاحب البطاقة»(15).
ثم ذكر رحمه الله حديث المرأة البغي التي سقت كلبًا فغفر الله لها، والرجل الذي أماط الأذى عن الطريق فغفر الله له، ثم قال: «فهذه سقت الكلب بإيمان خالص كان في قلبها فغفر لها، وإلا فليس كل بغي سقت كلبًا يغفر لها، فالأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإجلال»(16).
خطورة المال، والجاه، والنساء على الدعاة:
فكم سقط من الدعاة على الطريق تحت بريق المال، وكم عرضت الآلاف من الأموال على الدعاة ليكفوا عن دعوتهم، والذين ثبتوا أمام إغراء المال هم المقتدون بالنبي صلى الله عليه وسلم، وخطورة الجاه واضحة؛ لأن الشيطان في هذا المجال يزين ويغوي بطرق أكبر وأمكر وأفجر.
والداعية الرباني هو الذي يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في حركته وأقواله وأفعاله, ولا ينسى الهدف الذي عاش له ويموت من أجله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام:162-163].
وأما النساء فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما تركت فتنة على أمتي أضر على الرجال من النساء»(17)، سواء كانت زوجة تثبط الهمة عن الدعوة والجهاد، أو تسليط بعض الفاجرات عليه ليسقطنه في شباكهن، أو في تهيئة أجواء البغي والإثم والمجون ليرتادها خطوة بعد خطوة، أيًّا كانت, فإنها فتنة عظيمة في الدين, فها هي قريش تعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءها، يختار عشرًا منهن، أجملهن وأحسنهن يكن زوجات له, إن كان عاجزًا عن الزواج من أكثر من واحدة، إن خطر المرأة حين لا تستقيم على منهج الله أشد من خطر السيف المصلت على الرقاب, فعلى الدعاة أن يقتدوا بسيد الخلق, ويتذكروا دائمًا قول يوسف عليه السلام: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} [يوسف:33-34].
فالدعاة إلى الله تعالى يبرءون من جميع المصالح والحظوظ الشخصية؛ بل هم يتنازلون عن حقوقهم الخاصة من أعمال أو أموال أو وظائف، فإنهم لا يطالبون بها، ولا يرون أنها، بالنسبة لهم، قضية تستحق أن يثار حولها كلام طويل، وليس يضيرهم ولا يزعجهم هذا، وليست قضيتهم أن يوجد من يعتدي عليهم، أو من يؤذيهم، أو يسجنهم، أو يتجسس عليهم، أو يطاردهم، هذه أيضًا ليست هي قضية الدعاة أبدًا(18).
من أراد أن يدعو إلى الله فليعلم أن هذا الدين لله، وليس لأحدٍ سواه، لا يدعو للدنيا، ولا يدعو رياءً، لا يدعو ليمدح أو يثنى عليه، ولكن لله جل جلاله، فلا يقف أمام الناس إلا وقلبه معمورٌ بالله، فطوبى لقلوبٍ آمنت وأسلمت وأخلصت، فنظر الله إليها، يوم تكلمت ووعظت، وقالت أنها تريد وجهه، وتريد أجره ورضوانه ورحمته، وما ضرتنا إلا حظوظ من الدنيا ساقتنا عن سبيل الله إلى سبيل من سواه.
مما ابتلي به الدين الإسلامي أن بعض الأشقياء من البشر، من مختلف الفئات الاجتماعية، يغويهم الشيطان المريد، فيطلبون بهذا الدين عرض الدنيا الزائل، ويكون ذلك دليل على فساد وخبث طويتهم، بالرغم مما يتظاهرون به من صلاح، وطلب عرض الدنيا الزائل بالدين تجارة وبيع فاسدين، فالأصل في من صح إيمانه أنه يطلب الدين بالدنيا، أي يحسن البيع والشراء، فيجنب نفسه الخسارة من خلال طلب ما له قيمة دائمة مقابل ما له قيمة زائلة أو لا قيمة له.
وأكبر من خسارة مقايضة الكفر بالإيمان، أو الضلالة بالهدى، وأفدح منها خسارة بعد إيمان تسوي المؤمن بالكافر في المصير والمآل، وهذه الخسارة سببها استغلال الدين طلبًا لعرض الدنيا الزائل، وهو ما عبر عنه الوحي بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187]، فأصحاب هذه الصفقة الخاسرة ليست خسارتهم ناتجة عن مقايضة الكفر بالإيمان؛ بل خسارتهم ناتجة عن مقايضة الثمن القليل، وهو عرض الدنيا الزائل بالكتاب.
وقد يسكت العلماء عن ظلم الحكام للمحكومين، فيكون ذلك عبارة عن صفقة مشبوهة يحصل بموجبها هؤلاء العلماء على رشوة، أو ثمن قليل، سواء كان الثمن مالًا أم جاهًا دنيويًا، من أجل السكوت عن تعطيل شرع الله عز وجل المتعلق بالعدل.
وقد تُعقد مثل هذه الصفقات بين العلماء وبين الأثرياء، فيسكت العلماء عن فضائح الأثرياء، سواء تعلق الأمر بفضائح أخلاقية أم اقتصادية، وأشهرها فضائح الربا، وفضائح استغلال الناس، فيكون ذلك مقابل عرض الدنيا الزائل، أو الثمن القليل، وقد يقايض بعض العلماء علمهم، الذي من المفروض أن يكون لخدمة كتاب الله عز وجل، بعرض الدنيا الزائل، فينخرطون في مشاريع الأثرياء، ومقاولاتهم، وهم يعلمون، علم اليقين، أنها مشاريع ومقاولات أصولها فاسدة وباطلة بسبب غش، أو تدليس، أو مضاربة، أو احتكار، أو استغلال غير مشروع، أو متاجرة في محرم.
وإذا كان ظلم الأثرياء الذين يجمعون الثروة بإحدى هذه الطرق المحرمة ظلمًا واحدًا، فظلم العلماء الذين يجارونهم في ذلك ظلم مضاعف؛ لأنهم يقدمون عليه، وهم أعلم به من الأثرياء وأفقه، ولقد توعد الله عز وجل هؤلاء بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)} [البقرة:174-175]، ومن كتمان ما أنزل الله عز وجل تعطيله مع وجود الداعي لتفعيله، فالعلماء الذين يعطلون النصوص المُحرِّمة للربا، والاحتكار، والغش، والاتجار في المحرم، والغبن في البيوع، والتحايل فيها في الحقيقة يكتمون ما أنزل الله عز وجل.
وأقبح من ذلك أن يستغلوا علمهم للانخراط في هذه المحرمات والممنوعات؛ طلبًا لعرض الدنيا الزائل، فما أفدح خسارة صفقاتهم حين يقايضون علمهم بالنار، وبغضب الله عز وجل، ومقايضة الدين بالدنيا لا يقتصر على العلماء؛ بل هو دأب كثير من الناس، وما ذكرنا نموذج العلماء إلا لقدرهم عند الناس، ولكونهم قدوة، فإذا قايض العلماء الدنيا بالدين، فماذا يُنتظَر من عامة الناس؟، وهم يرون قدوتهم من العلماء متورطين في الصفقات الخاسرة، وربما اعتقد العامة أن هذه الصفقات لها ما يبررها شرعًا؛ إذ لو كانت غير صحيحة لما أقدم عليها العلماء، وهم أعلم بالحلال والحرام، وقد يفضح الله عز وجل الطوية الفاسدة من خلال هذه الصفقات الخاسرة(19).
إن الإخلاص أهم أعمال القلوب المندرجة في تعريف الإيمان، وأعظمها قدرًا وشأنًا؛ بل إن أعمال القلوب عمومًا أكبر وأهم من أعمال الجوارح، ولا يغتر المسلم، فإن أداء الطاعة بدون إخلاص وصدق مع الله لا قيمة له ولا ثواب؛ بل صاحبها متعرض للوعيد الشديد، وإن كانت هذه الطاعة من الأعمال العظام؛ كالإنفاق في وجوه الخير، وقتال الكفار، وغيرها.
وحتى هذا العلم، الذي ينفع الله به البلاد والعباد، إذا لم يكن صاحبه صادق الإخلاص لله عز وجل في طلبه، ثم في بذله فإنه متوعد يوم القيامة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنةيوم القيامة»(20).
وعرف الجنة: ريحها.
__________________
(1) سلسلة أمراض على طريق الدعوة، التصدر وطلب الرئاسة، شريف عبد العزيز، موقع: ملتقى الخطباء.
(2)أخرجه مسلم (1776).
(3) أخرجه البخاري (6033).
(4) السيرة النبوية، لابن هشام (1/294).
(5) التفسير الوسيط للقرآن الكريم (4/185).
(6) المصدر السابق (7/1531).
(7) البداية والنهاية، لابن كثير (7/46).
(8) المنهيات، للحكيم الترمذي، ص115.
(9) رواه الترمذي (2465).
(10) تفسير القرطبي (20/212).
(11) بستان العارفين، للنووي، ص28.
(12) رواه مسلم (2088).
(13) صيد الخاطر، لابن الجوزي، ص264.
(14) جامع العلوم والحكم، لابن رجب، ص438.
(15) مجموع الفتاوى، لابن تيمية (7/488).
(16) حظوظ النفس، عبد الملك القاسم، موقع: صيد الفوائد.
(17) رواه البخاري (5069)، ومسلم (2740).
(18) رسالة من وراء القضبان، للشيخ سلمان العودة.
(19) استغلال الدين لأسباب دنيوية دليل على فساد الطوية، محمد شركي.
(20) رواه أبو داود (3664).